انتقل إلى المحتوى

المعتصم بالله

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أمير المؤمنين
مُحمَّد المُعْتَصِم بالله
مُحمَّد بن هارون بن مُحمَّد بن عبد الله بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله القُرَشيُّ الهاشِميُّ العبَّاسيُّ
تخطيط اسم الخليفة المعتصم بالله بخط الثلث
معلومات شخصية
الميلاد 10 شعبان 180هـ
(18 أكتوبر 796م)
بغداد، الخلافة العبَّاسيَّة
الوفاة 18 ربيع الأول 227هـ
(5 يناير 842م)
(بالهجري: 46 سنة و7 أشهر و8 أيام)
(بالميلادي: 45 سنة وشهران و18 يومًا)

سامراء، الخلافة العبَّاسيَّة
سبب الوفاة مرض
مكان الدفن قصر الجوسق، سامراء، العراق
الكنية أبو إسحاق
اللقب المُعتصم بالله
المُثَمَّن السَّبَّاع البيطار
العرق عربي
الديانة مُسلمٌ سُنِّي مُعتزليِّ
الزوجة المحظيات: شجاع الخوارزمية قرة العين المعتصمية قيم الهاشمية (للمزيد)
الأولاد هارون الواثق باللهجعفر المتوكل على الله (للمزيد)
الأب هارون الرشيد
الأم ماردة التركية
إخوة وأخوات عبد الله المأمونمحمد الأمينالقاسم المؤتمن (للمزيد)
عائلة بنو العباس  تعديل قيمة خاصية (P53) في ويكي بيانات
منصب
الخليفة العبَّاسي الثامن
الحياة العملية
معلومات عامة
الفترة 18 رجب 218 – 18 ربيع الأول 227هـ
(9 أغسطس 833 – 5 يناير 842م)
(8 سنوات و8 أشهر)
عبد الله المأمون
هارون الواثق بالله
ولي العهد العباسي
العباس بن المأمون (مختلف فيه)
هارون الواثق بالله
السلالة بنو العبَّاس
المهنة خليفة المسلمين  تعديل قيمة خاصية (P106) في ويكي بيانات
اللغات العربية  تعديل قيمة خاصية (P1412) في ويكي بيانات

المعتصم بالله (استمع) (180- 227 هـ / 796- 842 م) هو أميرُ المُؤمِنين وخَليفةُ المُسْلِمين المُثمَّن المُجاهد الإمام أبو إسحاق المُعْتَصِم بالله مُحمَّد بن هارون الرَّشيد بن مُحمَّد المَهْدي بن عبد الله المَنْصُور بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله القُرَشيُّ الهاشِميُّ العبَّاسيُّ، المعروف بلقبه الكامل المُعْتَصِم بالله أو اختصارًا المُعْتَصِم. وثامن خُلفاء بني العبَّاس، والخليفة السَّابع والعشرون في ترتيب الخُلَفاء بعد النبي مُحمَّد . حكم الدَّولة العبَّاسية ثماني سنين وثمانية أشهر من 218 إلى 227هـ/ 833 إلى 842م.

وُلد المعتصم في قصر الخُلد ببغداد لأمٍّ تركية هي ماردة بنت شبيب. ونشأ على النقيض من أخويه المثقفين الأمين والمأمون، إذ كان قليلَ الإقبال على العلم والأدب، منصرفًا منذ صباه إلى الفروسيَّة وشؤون الحرب، حتى قيل إنه كان شِبه أُمِّي. لم يُعِدَّه والده الرشيد للخلافة، وأبقاه بعيدًا عن ترتيب ولاية العهد، فظلَّ على هامش الأحداث السياسية الكبرى في خلافة أبيه، وفي الحرب الأهلية التي نشِبَت بين أخويه.

بدأ نجمه بالصعود في خلافة أخيه المأمون، الذي رأى فيه الكفاءة العسكرية والولاء، فأسند إليه مسؤوليات أكثر أهمية. ففي سنة 200هـ/ 815م قاد قافلة الحج. وحين ثار عمُّه إبراهيم بن المهدي وعموم العبَّاسيين في بغداد سنة 202هـ/ 817م، انضمَّ المعتصم إلى عمه، قبل أن يتفرَّق أتباعه بعد سنتين وتستقيم الأمور للمأمون، فعفى الأخير عن عمِّه وعن أخيه. كُلِّف إخمادَ تمرُّد في تيماء الشام بنفسه، فقتل أكثر الثائرين سنة 204هـ/ 819م. بلغ ذروةَ نفوذه قبل الخلافة حين ولَّاه المأمون على مصر والشام سنة 213هـ/ 828م، وأظهر حزمًا وقدرة عسكرية فائقة في القضاء على ثورة الحوف بنفسه سنة 214هـ/ 829م، معتمدًا اعتمادًا كبيرًا على جنده الأتراك الذين بدأ بجمعهم حوله. شارك المعتصم أخاه المأمون في حمَلاته الجهادية الأخيرة على الرُّوم، وأصبح ذراعَه اليُمنى والمساعدَ الأقرب إليه، حتى حضر وفاته على ثغور الروم سنة 218هـ/ 833م.

تولَّى المعتصم الخلافة بوصيةٍ من أخيه المأمون، ولُقِّب بالمُعتصم بالله، إلا أن بداية عهده شهدت تحدِّيًا فوريًّا حين طالب بعض الجند بالخلافة لابن أخيه العبَّاس، لكنه حسم الموقف بذكاء حين بادر العباس نفسه بمبايعته. واجه المعتصم تحديات داخلية خطيرة ورثها عن سلفه، أولها ثورة علوية في خراسان بقيادة محمد بن القاسم العلوي في سنة 219هـ/ 834م، غير أنها أُخمدت سريعًا. ثم أنهى تمرُّد الزط الذي شلَّ الحركة التجارية في جنوبي العراق، فقضى على ثورتهم وأجلى الآلاف منهم عن الأهوار في سنة 220هـ/ 835م. وجَّه المعتصم كل قوة الدولة نحو الخطر الأكبر، وهو ثورة بابك الخُرَّمي في أذربيجان التي انطلقت قبل عشرين عامًا، فعيَّن قائده الداهية الأفشين الذي تمكن بعد حرب استنزاف طويلة من القضاء على بابك وإعدامه سنة 223هـ/ 838م.

بلغت قوة المعتصم العسكرية ذروتها في حملته الشهيرة على الروم ردًّا على اعتدائهم على مدينة زبطرة، فجهَّز جيشًا جرارًا لم تشهد له الخلافة مثيلًا، وهزم الإمبراطور توفيل في معركة أنزن، وأحرق أنقرة ثم زحف نحو أمنع حصون الروم عمورية، ففتحها ودمَّرها سنة 223هـ/ 838م في وقعة شهيرة خلَّدها الشاعر أبو تمام في قصيدته (السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتب). لم يتمكَّن المعتصم من مواصلة زحفه نحو القسطنطينية بسبب كشفه لمؤامرة خطيرة دبَّرها ابن أخيه العباس وعدد من القادة العرب والخُراسانية عليه، فانتقم منهم وقتلهم. واجه المعتصم في أواخر خلافته تمرُّد مازيار في طبرستان سنة 224هـ/ 839م، وكشف مؤامرة الأفشين فحاكمه وأعدمه عطشًا سنة 226هـ/ 841م، وتمرُّد المبرقع اليماني في فلسطين سنة 227هـ/ 841م، فقضى عليهم جميعًا.

أحدث المعتصم على الصعيد الداخلي، تغييرًا جذريًا في بنية الدولة بسياسته في تتريك قسم كبير من الجيش، فقد استكثر من شراء الغلمان الأتراك وجعلهم القوة العسكرية الأساسية للدولة، مما أضعف نفوذ العرب والخراسانية والفرس، وسياسة التوازن بين الفِرَق منذ خلافة أبي العباس، غير أنه أنشأ تشكيلًا جديدًا عُرف باسم المغاربة. أدى هذا التغيير إلى صِدام حادٍّ بين الأتراك وأهل بغداد، دافعة المعتصم لاتخاذ قراره التاريخي ببناء عاصمة إدارية وعسكرية جديدة، هي سامراء، سنة 221هـ/ 836م، التي أصبحت مركزًا للخلافة لنصف قرن. استمر المعتصم في سياسة أخيه المأمون في فرض القول بخلق القرآن على الفقهاء والعلماء في اجتهاد ديني يُفضي لتوحيد الرأي، لكن تميز أسلوبه بالقسوة، وتجلَّى ذلك في تعذيبه للإمام أحمد بن حنبل لرفضه الإقرارَ بخلق القرآن، ثم أطلق سراحه.

عُرف المعتصم بقوته الجسدية الكبيرة، وبشجاعته التي ضُربت بها الأمثال، وهيبته التي ملأت قلوب أعدائه رعبًا، لكنه في الوقت نفسه كان كريمًا وفكِهًا في مجالسه الخاصَّة. ومع أنه لم يكن عالمًا كان حازمَ الرأي، يقدِّر الكفاية، ويؤمن بالعمران والتنمية أساسًا لقوة الدولة. اشتهر بلقب المُثَمَّن لارتباط الرقم ثمانية بالعديد من محطات حياته المهمة.

توفي المعتصم في سامراء بعد علة أصابته، ودُفن في قصر الجوسق سنة 227هـ/ 842م، تاركًا وراءه دولةً قوية عسكريًّا ومستقرة سياسيًّا، لكن سياسته في الاعتماد على الأتراك حملت في طياتها بذور الضعف، فقد ازداد نفوذهم في خلافة ابنه ووليِّ عهده هارون الواثق بالله، ثم ظهر لاحقًا في خلافة ابنه الآخر جعفر المتوكل على الله الذي حاول تقليص نفوذهم غيرَ أنهم قتلوه، لتبدأ لاحقًا سيطرةُ الجند على الخلفاء في حقبة عصيبة مرت بها الدولة العباسية لعشرة أعوام، عُرفت بفوضى سامراء. يُعَد المعتصم الجدَّ الجامع لجميع خلفاء بني العباس الذين أتَوا من بعده حتى نهاية الخلافة العباسية في العراق على يد المغول سنة 656هـ/ 1258م، ونهاية الخلافة العباسية في القاهرة برعاية الدولة المملوكية سنة 923هـ/ 1517م نتيجة لانهزام المماليك ونهايتهم على يد العثمانيين.

نشأته

[عدل]

نسبه

[عدل]

هو محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

والده هو الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد (حكم 170 – 193هـ / 786 – 809م) الذي يعد عهده ذروة العصر الذهبي وقوة الدولة العباسية.

والدته هي ماردة بنت شبيب، أم ولد تركية وُلدت في الكوفة، ينحدر والدها من البندنيجين، من أعمال بغداد، ونشأ في السواد.[1] والدتها من منطقة السُّغد في بلاد ما وراء النهر، وعُدت من محظيات الرشيد. شهدت خلافة ابنها المعتصم حتى توفيت في عهده، ودُفنت داخل قصر الخلافة في سر من رأى سنة 225هـ / 839م.[2] وقيل أنها لم تدرك خلافته.[3]

ولادته

[عدل]

وُلد مُحمَّد بن هارون الرَّشيد بقصر الخُلد في بغداد من يوم الاثنين 10 شعبان سنة 180هـ / 18 أكتوبر 796م في معظم الأقوال،[4] وقيل سنة 179هـ / 795م.[5] وقيل بولادته في مدينة الرافقة من الجزيرة.[6]

تعليمه

[عدل]
رسمٌ تخيُّلي للخليفة هارون الرشيد (حكم 170 – 193هـ / 786 – 809م)

اختلف محمد المعتصم بالله عن سائر خلفاء بني العباس، خاصة عن أخويه الأمين والمأمون، في مسألة ثقافته وتعليمه، إذ تُشير العديد من المصادر إلى أنه كان قليل البضاعة في العلم والأدب، بل ذهب بعض المؤرخين إلى القول بأنه نشأ أُميًا أو ضعيف القراءة والكتابة، وذلك لانصرافه في صباه إلى اللعب والفروسية وشؤون الحرب دون الإقبال على الدرس والتحصيل.[7]

تُروى في سبب ذلك حكاية مفادها أن غلامًا يتعلم مع محمد في الكُتَّاب قد مات، فقال محمد لوالده الرشيد: «نعم يا سيدي، واستراح من الكُتّاب!»، فاستغرب الرشيد من قوله ورد عليه: «وإن الكُتّاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟ دعوه إلى حيث انتهى، لا تعلموه شيئًا». وتذكر رواية أخرى أن الرشيد سمعه وهو يتمنى أن يكون مكان ميت في جنازة ليستريح من عناء التعليم، فقال الرشيد: «والله لا عذبتك بشيء تختار عليه الموت»، ومنعه عن الكُتّاب منذ ذلك اليوم. ولعل تساهل الرشيد في تعليم ابنه محمد يعود إلى أنه لم يُعدّه للخلافة أساسًا، فقد أخرجه من ترتيب ولاية العهد الذي حصرها في أبنائه الثلاثة: الأمين، فالمأمون، فالمؤتمن. لم يرَ الرشيد حاجة ماسة لثقافته ما دام بعيدًا عن سدة الحكم، خاصة مع صغر سنه مقارنة بإخوته.[8]

لم تكن قلة علم محمد بن الرشيد مانعة له من حضور مجالس الأدب والشعر في خلافة أخيه المأمون (حكم 198 – 218هـ / 813 – 833م)، ومما يُروى حضوره مرة مناظرة بين أحمد بن أبي دؤاد ورجل يُدعى عبد العزيز المكي، وكان الأخير ذا مظهر غير جاذب، فضحك منه محمد، فرد عليه المكي بحجة قوية، قائلًا للمأمون الحاضر في المجلس: «مم يضحك هذا؟ والله ما اصطفى الله يوسف لجماله، إنما اصطفاه لبيانه.. فبياني أحسن من وجه هذا». فأُعجب المأمون بكلامه. ويُعلل الباحث زياد اذويب أن محمد بن الرشيد لم يحب العلم ربما لطبعٍ فيه ناتج عن خؤولته التُّركية، إذ أن الأتراك حينئذ قوم ليسوا أهل علم، بل أهل حرب بخلاف الفرس (أخوال المأمون) وهم أهل مُلك، وليس من الغريب تفوق المأمون في الجانب السياسي والعلمي وتفوق المُعتصم في الجانب العسكري لاحقًا.[9]

ومما يُروى عن ضعف علم المُعتصم طلبه من وزيره أحمد بن عمار الخُراساني يذكر له معنى كلمة "الكلأ" فأجابه الوزير: «لا أدري»، فقال المعتصم: «خليفة أمي ووزير عامي»، وطلب إحضار من يمكنه معرفة المعنى، فجيء له بمحمد بن عبد الملك الزيات، وذكر أنه العشب وشرح المعنى وأكثر من توضيحه، فعرف المعتصم فضله وقرر استوزاره.[10] ويُعلق المُؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري على ثقافة المُعتصم، قائلًا: «ويظهر أنه كان قليل الثقافة... ومما ذكر أن المعتصم كان جندياً شجاعاً مدرباً في الحرب، يعتز بقوته الجسمية إلا أن ثقافته كانت محدودة».[11] وعلى أية حال، فكان يكتب كتابًا ضعيفًا ويقرأ قراءة ضعيفة.[12]

حياته قبل الخلافة

[عدل]
مخطوطة تظهر الخليفة هارون الرشيد مرتديًا زيّ الخلفاء العباسيين.

لم يكن لأبي إسحاق بن الرشيد دور سياسي بارز أو مكانة مرشحة للحكم في خلافة أبيه الرشيد أو في فترة الصراع التي تلت وفاته. فقد وضع الرشيد خطة معقدة لولاية العهد حصرها في أبنائه الثلاثة: الأمين ثم المأمون ثم القاسم المؤتمن، وأخذ عليهم العهود والمواثيق المؤكدة في مكة، مما أبقى أبا إسحاق بعيدًا عن دائرة السلطة أو الإعداد لتوليها، وهو ما يفسر قلة الاهتمام بتعليمه السياسي مقارنة بإخوته.[13] رغم أن المأمون بايع الأمين من خُراسان على الطاعة بعد وفاة والدهما الرشيد سنة 193هـ / 809م،[14] إلا أن الترتيبات سرعان ما انهارت بعد سنتين حين بايع الأمين ابنه موسى وليًّا للعهد من بعده رسميًّا، خالعًا أخويه المأمون والمؤتمن بالقوة من ولاية العهد التي أوصى الرشيد باتباعها قبل وفاته،[15] لتندلع حرب أهلية طاحنة بين أخويه الأمين والمأمون.[16] ظل أبو إسحاق طوال سنوات الصراع على الهامش، فلم يكن له دور يُذكر في أحداث الفتنة التي استمرت نحو ثلاث سنوات حتى انتهت بمقتل الأمين واستقرار الخلافة للمأمون سنة 198هـ / 813م، وعمر أبي إسحاق حينئذ 17 عامًا.[17]

بداية ظهوره السياسي

[عدل]
مُنمنمة فارسيَّة تظهر نهاية الفتنة الخامسة بمقتل الخليفة الأمين. (1573-1574)

بدأ نجم أبي إسحاق يظهر على مسرح الأحداث بعد نهاية الفتنة الرابعة، وتحديدًا في عام 200هـ / 815م حين أصبح في العشرين من عمره، فكُلّف من المأمون بقيادة قافلة الحج ومعه عدد من القادة، ليواجه ثورة تابعة لإبراهيم بن موسى الكاظم، المُلقَّب بإبراهيم الجزَّار، بعد قيام عامله، وهو من ولد عقيل بن أبي طالب، بالتعدي على قافلة حُجَّاج ونهبهم مع كسوة الكعبة. استشار أبي إسحاق القادة من حوله، فانتدب الوالي عيسى بن يزيد الجلودي رجاله للقضاء على العقيلي، فانهزم الأخير، واسترد العبَّاسيُّون كسوة الكعبة وأموال التجار المنهوبة، وأمَّنوا مكة.[18] ثار أهل بغداد على المأمون في سنة 202هـ / 817م، ونصبوا عمه إبراهيم بن المهدي خليفة عليهم، ردًا على قيام المأمون بتولية الحسن بن سهل واليًا على العراق، ومن ثم تعيينه علي الرضا من البيت العلوي وليًّا للعهد من بعده، مما أثار غضب أهل بغداد عمومًا وبني العبَّاس خصوصًا على حكم المأمون المُقيم في خُراسان.[19] مال أبي إسحاق إلى عمه إبراهيم، ثم كُلف أبي إسحاق بمحاربة الخوارج الذين تزعمهم مهدي بن علوان الحروري. تمكن أحد الخوارج من طعن أبي إسحاق، فحامى عنه غلام تركي يُدعى أشناس التركي، ليهزم مهدي بن علوان ويُشرِّدهُ إلى حَوْلايا. أعجب أبي إسحاق بشجاعة أشناس، فقربه منه.[20]

بعد قرار المأمون بترك خُراسان والعودة إلى بغداد، وفي أثناء مسيره، خُلع إبراهيم بن المهدي من أهالي بغداد ثم اختفى سنة 203هـ / 818م. وصل المأمون إلى بغداد في العام التالي، لينضم أبا إسحاق إلى أخيه المأمون مظهرًا له الولاء، وسرعان ما أسند إليه المأمون مهمة للقضاء على تمرد في تيماء من أطراف الشام، فمضى إليهم وقتل أكثر الثائرين سنة 204هـ / 819م.[21] أخذت مكانة أبي إسحاق ترتفع تدريجيًا عند أخيه المأمون، حتى أصبح يُذكر اسمه إلى جانب اسم الخليفة في المراسلات الدولية سنة 210هـ / 825م، حين أرسل إمبراطور الروم كتابًا إلى أمير الأندلس عبد الرحمن الأوسط يخبره عن الخلافات بين إمبراطوريته مع الخلافة العبَّاسية، فأجابه عبد الرحمن الأوسط بكتاب انتقد فيه "المأمون والمعتصم" معًا.[22] بعد القبض على عمهما إبراهيم بن المهدي في سنة 210هـ / 825م، أمر المأمون بحجز إبراهيم في دار أبي إسحاق، مما يدل على مدى الثقة التي أصبح يوليها لأخيه.[23] بات أبو إسحاق من حاشية الخليفة المقربة، فكان يحضر بعض مجالسه العلمية والفكرية.[24]

موقفه من عبد الله بن طاهر

[عدل]
تمكن الوالي والقائد العباسي المخضرم عبد الله بن طاهر بن الحسين من إجلاء الأندلسيين الذين سيطروا على الإسكندرية لسنوات طويلة.

بعد تمكن القائد العباسي البارز عبد الله بن طاهر من إخماد تمرد عبيد الله بن السري في مصر، ثم وتغلب على الأندلسيين الذين سيطروا على الإسكندرية وأجلاهم عنها إلى إقريطش بحلول سنة 211هـ / 826م، استقر له أمر مصر والشام والجزيرة، وعظم شأنه في الدولة. أثار هذا النفوذ المتزايد حفيظة أبي إسحاق بن الرشيد الذي كان في حضرة أخيه الخليفة المأمون. كان أبو إسحاق منحرفًا عن عبد الله بن طاهر، فأقبل على المأمون وقال له إن عبد الله يميل إلى ولد علي بن أبي طالب، وأن أباه طاهرًا كان على نفس المذهب قبله. أنكر المأمون ذلك في البداية، لكن مع معاودة أبي إسحاق للقول وتأكيده، قرر المأمون أن يمتحن ولاء قائده عبد الله بن طاهر ليتيقن من الأمر بنفسه. أرسل المأمون رجلاً من ثقاته إلى مصر، متخفيًا في هيئة الفقهاء والنُسّاك. أمره بأن يدعو جماعة من كبار رجال عبد الله بن طاهر وأعيان ولايته إلى مبايعة القاسم بن إبراهيم طباطبا سرًا، ثم بعد ذلك يدخل على عبد الله بن طاهر نفسه ويدعوه للأمر ويبحث عن باطنه. فعل الرجل ما أُمر به، فاستجاب له بعض أعيان مصر، ثم دخل على عبد الله بن طاهر وعرض عليه دعوته سرًا بعد أخذ الأمان منه.[25]

سمع عبد الله بن طاهر دعوة الرجل إلى خلع المأمون ومبايعة غيره، فرد عليه ردًا حازمًا وقويًا عكس ولاؤه المطلق للخليفة، فقال له: «فتجيء إليّ وأنا في هذه الحال لي خاتم في المشرق جائز، وخاتم في المغرب جائز، وفيما بينهما أمري مطاع، ثم ما ألتفتُّ عن يميني ولا شمالي، وورائي وأمامي إلّا رأيتُ نعمةً لرجل أنعمها عليّ، ومنّة ختم بها رقبتي، ويدًا لائحةً بيضاء ابتدأني بها تفضلًا وكرمًا، تدعوني إلى أن أكفر بهذه النعم، وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولى لهذا وأحرى، واسعَ في إزالة خيط عنقه، وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانًا أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه، وأنكث بيعته؟» فسكت الرجل. ثم حذر عبد الله بن طاهر الرجل من عاقبة فعله، وقال له: «ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإنّ السلطان الأعظم إن بلغه ذلك كنتَ الجاني على نفسك ونفس غيرك». فلما أيس الرجل منه، عاد إلى المأمون فأخبره بما جرى وبما قاله عبد الله بن طاهر حرفيًا. استبشر المأمون بذلك وطابت نفسه، وقال معبرًا عن فخره بقائده: «ذلك غرس يدي، وألف أدبي، وترب تلقيحي». وتذكر المصادر بأن ابن طاهر لم يعلم بالقصة إلا بعد وفاة المأمون، وأن المحرك الأول لهذه الحادثة كان أبو إسحاق بن الرشيد بسبب انحرافه عن عبد الله بن طاهر.[26] وذكرت الرواية لدى الطبري (توفي 310هـ / 923م) عن أحد أخوة المأمون دون تحديد اسمه.[27] ويظهر أن العلاقة بين أبي إسحاق وابن طاهر تحسنت بعد هذا الموقف، فقد كان أبي إسحاق والعباس بن المأمون في طليعة أهالي بغداد المُرحبين لعبد الله بن طاهر (والي مصر والشام والجزيرة) حين قدم إلى مدينة السلام سنة 212هـ / 827م.[28]

ولايته على مصر والشام

[عدل]
مخطوطة تظهر الخليفة عبد الله المأمون مرتديًا السواد، لباس الخلفاء العباسيين.

بلغ أبي إسحاق ذروة نفوذه قبل الخلافة حين ولاه المأمون على الشام ومصر سنة 213هـ / 828م. وولَّى المأمون في نفس اليوم ابنه العبَّاس على الجزيرة والثغور والعواصم، وأمر لكل واحد منهما وللقائد عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف درهم، حتى قيل إنه لم يُفرَّق في يوم واحد مثل هذا القدر من المال. لم تنتهي اضطرابات مصر بنهاية ابن السري، وإجلاء الأندلسيين من الإسكندرية، إذ بعد تولي أبي إسحاق ولايتها بعام، اندلعت ثورة بقيادة زعيمين لها هما: عبد السلام الجُذامي وعبد الله بن جليس، مدعومين من قبائل القيسية واليمانية. هاجم الثوار عامل أبي إسحاق على مصر، وهو عُمير بن الوليد الباذغيسي، فقتلوه في ربيع الأول سنة 214هـ / مايو 829م، حين كان أبو إسحاق خارج مصر.[29]

رسمٌ لمدينة الفسطاط، عاصمة ولاية مصر العباسية.

خرج أبو إسحاق بنفسه على رأس جيش قوامه أربعة آلاف من جنده الأتراك لإخماد الثورة وتثبيت سلطته. لم يشعر أهل الحوف إلا بنزوله بينهم، فدعاهم إلى الطاعة فامتنعوا، فقاتلهم حتى قضى عليهم يوم السبت 20 شعبان سنة 214هـ / 23 أكتوبر 829م. دخل أبو إسحاق الفسطاط في رمضان من نفس السنة، وقبض على زعماء الثورة، هُما: ابن جليس والجُذامي، فضرب أعناقهما وصلبهما في ذي القعدة 214هـ / يناير 830م.[30] استقامت مصر بعد دخوله إليها، فأعاد تنظيمها وعين عماله عليها، ومستشيرًا أحمد بن أبي دؤاد الذي كان من المقربين إليه، مثبتًا بذلك كفاءته العسكرية وقدرته على حسم الاضطرابات.[31] امتدح الشاعر مُعلَّى الطائي الوالي أبي إسحاق بعد قضائه على ثورة الحوف قائلًا:[32]

كسا أبو إسحاق أوداجه
أبيض لا يعتبُ من أغضبا
وقد سقى عبد السلام الرَّدى
فكيف بالله إذا جرَّبا

شارك أبو إسحاق أخاه الخليفة المأمون في حملاته على الروم، فخرج إليه من مصر والتقاه قرب الموصل سنة 215هـ / 830م، ثم قاد حملة جهاديَّة بنفسه سنة 216هـ / 831م افتتح فيها ثلاثين حصنًا على طول الثُّغور. عاد أبي إسحاق مع المأمون إلى مصر لمواجهة ثورة قبطيَّة كبيرة، ثم كلفه المأمون ببعض المسؤوليات مع القائد الأفشين حيدر بن كاوس سنة 217هـ / 832م، ليتمكن المأمون من القضاء على الثورة وقتل زعيمها عبدوس الفهري، منهيًا بذلك ثورات القبط نهائيًا في مصر منذ حدوثها من منتصف العصر الأموي، وعاد الخليفة وأخيه أبي إسحاق لقيادة حملات جهاديَّة على الرُّوم.[33] نفذ أبي إسحاق أوامر الخليفة المتعلقة بفرض امتحان خلق القرآن في ولاياته، فأمر عامله على مصر كيدُر بن عبد الله من جُمادى الآخرة سنة 218هـ / يوليو 833م، بامتحان القضاة والفقهاء والمحدثين والمؤذنين ليعلم رأيهم. بقي أبي إسحاق واليًا على كُلًا من الشام ومصر، يسير مع أخيه المأمون يخططان لحملة جهاديَّة رابعة على الرُّوم بعد نجاح الحملات الأولى والثانية والثالثة، غير أن الخليفة توفي قبل إتمامها في 18 رجب سنة 218هـ / 9 أغسطس 833م، وأبي إسحاق متواجدًا قربه مع جماعة من القادة.[34] عُدت هذه المهام العسكرية والسياسية الكبرى التي اضطلع بها أبي إسحاق، قد صقلت شخصيته وأهلته ليصبح الذراع اليمنى لأخيه المأمون، والوريث المنطقي لعرش الخلافة من بعده.[35]

خلافة المعتصم

[عدل]

وفاة المأمون وجدلية الخلافة من بعده

[عدل]
رسمٌ تتخيُّلي للخليفة عبد الله المأمون (حكم 198 – 218هـ / 813 – 833م)

أشرف المأمون (المُقيم في طرسوس) في أواخر خلافته بنفسه على تجهيز حملته الجهاديَّة الرابعة على الرُّوم في سنة 218هـ / 833م، ذكر المؤرخون أنه جلس مستريحًا على جانب نهر البذندون، وإلى يمينه أخوه أبو إسحاق، وكانا دليا أقدامهما في الماء. اشتهى المأمون في تلك الأثناء نوعًا نادرًا من الرطب يُدعى "الأزاذ"، وما هي إلا فترة وجيزة حتى جيء به إليهم وكأنه قُطف في تلك الساعة. أكل الخليفة وأخوه أبو إسحاق ومن معهما من الرطب، فما أن قاموا من مجلسهم حتى أصابتهم جميعًا حُمى شديدة، إلا أنها كانت أشد على المأمون، حتى أيقن بدنو أجله، فقرر كتابة وصيته.[36]

تضاربت الروايات التاريخية حول وصية المأمون ومن اختاره وليًا للعهد، ففي حين تذكر المصادر التي يميل إليها ابن الأثير وابن كثير، أن المأمون وهو على فراش الموت، أوصى بالخلافة من بعده لأخيه أبي إسحاق، في حضور ابنه العباس وعدد من كبار قادة الجيش والفقهاء والقضاة. ووفقًا لهذه الرواية، فإن انتقال الخلافة للمعتصم حدثت بوصية شرعية مباشرة من الخليفة الراحل.[37] ترفض مصادر أخرى في المقابل هي الأقدم والأقرب إلى الحدث أن الخلافة كانت من حق العباس بن المأمون، وأن المعتصم استولى عليها بقوة نفوذه في الجيش. يقول المؤرخ ابن قتيبة الدينوري (ت. 276هـ / 889م) في كتابه الأخبار الطوال: «وقد كان - المأمون - بايع لابنه العباس بن المأمون بولاية العهد من بعده... فلما مات هو على نهر البدندون جمع أخوه أبو إسحاق محمد بن هارون المعتصم بالله إليه وجوه القواد والأجناد فدعاهم إلى بيعته، فبايعوه فسار من طرسوس حتى وافى مدينة السلام، فدخلها وخلع العباس بن المأمون عنها وغلبه عليها وبايعه الناس بها».[38][إنج 1]

ويدعم الطبري هذا الاتجاه برواية أخرى تشير إلى أن الوصية للمعتصم كُتبت في حالة غشية أصابت المأمون، وأن الكاتب ربما تصرف من تلقاء نفسه أو بتوجيه من آخرين: «وقيل: إن ذلك لم يكتبه المأمون كذلك، وإنما كتب في حال إفاقة من غشية أصابته في مرضه بالبدندون... فالخليفة من بعده أبو إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد، فكتب بذلك محمد بن داود وختم الكتب وأنفذها».[39] يُعلق المؤرخ حسن خليفة على ذلك قائلًا: «فكان (أي المعتصم) أصغر من أخيه المأمون بتسع سنوات وقد شب شجاعا فأحبه المأمون وقدمه على ابنه وولاه عهده، ولم يخبرنا المؤرخون عن الأسباب الحقيقية التي حالت بين المأمون وبين وصايته بالخلافة لابنه العباس مع أنه كان محبوبا من الجند ومن القبائل العربية حبا جما. وكل ما قيل في هذا الصدد أن المأمون رأى أخاه المعتصم خير وسيط لاتباع السياسة التي رسمها للخلافة العربية لما اشتهر به من الحزم وبعد النظر في تصريف الأمور».[40] في حين استنتج المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري هذه الأخبار المتضاربة، قائلًا: «وكل ما نستنتجه هو أن العباس كان لديه بعض الطموح، وأن الجيش ظهرت منه بادرة التدخل في أمر البيعة لأول مرة وكان قسم منه يميل للعباس، ولكن المعتصم أخمد المقاومة وتمت له البيعة».[41] وبغض النظر عن الرواية الأصح، فإن هذا الالتباس في انتقال السلطة كان السبب المباشر الذي أدى إلى ظهور مؤامرة لاحقًا قادها ابن أخيه العباس.[42]

بداية خلافته وتثبيت ملكه

[عدل]
التقسيمات الإداريَّة للخِلافة العبَّاسية في سنة 233هـ / 848م.

حين اشتد المرض على المأمون، ذكرت رواية وصيته لأخيه أبي إسحاق وقال له: «يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته»، ورسم له خطوط سياسته العريضة، وأوصاه بالعلويين خيرًا، وبالاستمرار في سياسة القول بخلق القرآن، والاعتماد على مستشاره أحمد بن أبي دؤاد.[43] بُويع أبي إسحاق بالخلافة في اليوم نفسه الذي توفي فيه المأمون، يوم الخميس 18 رجب سنة 218هـ / 9 أغسطس 833م، وعمر أبي إسحاق 37 سنة و11 شهر هجرية (36 سنة و9 شهور ميلادية). لم تكد البيعة تتم في المعسكر القريب من طرسوس، حتى واجه المعتصم أول تحدٍ لسلطته، فقد "شغب الجند" ورفضوا بيعته، ونادوا باسم ابن أخيه العباس بن المأمون خليفة. عكس هذا التمرد استقطابًا داخل الجيش، إذ كان الجند العرب يميلون إلى العباس، بينما تكمن قاعدة قوة أبي إسحاق في جنوده الأتراك الذين اعتمد عليهم منذ سنة 214هـ / 829م.[44] حسم أبي إسحاق الموقف بسرعة وذكاء، فأرسل في طلب ابن أخيه العباس، الذي كان حاضرًا في المعسكر، فما أن حضر حتى بادر وبايع عمه بالخلافة، وخرج العباس بنفسه إلى الجند الثائرين وقال لهم: «ما هذا الحب البارد؟ قد بايعت عمي وسلمت الخلافة إليه»، فسكن الجند وبايع الناس، وخمدت بذلك فتنة كادت تشتعل بين الجند العرب والجند الترك. يرجع بعض المؤرخين موقف العباس هذا إلى التزامه بوصية أبيه التي تمت بحضوره، ورغبته في درء الفتنة عن جيش المسلمين وهو على أراضي الروم.[45]

كان أول عمل قام به المعتصم بعد استقرار ملكه، هو هدم حصن طُوانة العسكري، والذي بناهُ العباس بأوامر أبيه المأمون ليكون قاعدة متقدمة لغزو الروم. ورغم أن القرار بدا للبعض قصر نظر عسكري، إلا أن المعتصم أراد تحقيق هدفين: الأول، هدم القاعدة العسكرية التي تمثل مركز قوة لابن أخيه العباس وأنصاره من الجند، وتفريقهم في البلاد. والثاني، إيصال رسالة بأنه لا يثق بهذا الحصن الذي قد يصبح منطلقًا لتمرد نحوه، فكان قراره تكتيكًا عسكريًا لخدمة هدف سياسي أعمق، وهو ضمان عدم وجود أي نواة معارضة مسلحة تهدد حكمه.[46] بعد انتهاء المعتصم من هدم الحصن، لم يعد مباشرة إلى بغداد، بل اتخذ خطوة أخرى لتجريد العباس من أي نفوذ متبقٍ، فعزله عن ولاية الجزيرة وقنسرين والعواصم التي كان أبوه ولاه عليها، وعين عليها غسان بن عباد. اصطحب المعتصم ابن أخيه العباس معه إلى بغداد ليظل تحت رقابته المباشرة، ويقطع الطريق على أي محاولة تمرد مستقبلية. دخل المعتصم بغداد في موكب مهيب في مستهل شهر رمضان من عام 218هـ / 20 سبتمبر 833م، ليعلن بداية عهد جديد تمكن من تثبيت أركانه بالقوة والحزم منذ اليوم الأول.[47]

ثورة محمد بن القاسم في خراسان

[عدل]
خريطة تُظهر إقليم خُراسان التَّاريخي بناءً على الحُدود السياسيَّة المُعاصرة.

واجه الخليفة المعتصم بالله أولى التحديات في خلافته، تمثل في ظهور ثورة علوية في المشرق الإسلامي، قادها محمد بن القاسم بن عمر العلوي، من أحفاد الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يدعو للقول بالعدل والتوحيد ويعتقد بأفكار الزيدية الجارودية. بدأ محمد بن القاسم دعوته في مدينة الطالقان بولاية خراسان في سنة 219هـ / 834م، رافعًا شعار «الرضا من آل محمد»، وهو الشعار المعتاد للثورات العلوية الداعية لخلافة من سلالة فاطمة الزهراء. جمع ابن القاسم حوله عددًا كبيرًا من الأتباع في تلك المناطق الجبلية، وخاض معارك عدة مع والي خراسان العبَّاسي القوي، عبد الله بن طاهر. انتهت المواجهات بهزيمة محمد بن القاسم وأصحابه، فاضطر إلى الفرار محاولًا الوصول إلى منطقة أخرى من خراسان كان أهلها كاتبوه ووعدوه بالنصرة. وصل محمد بن القاسم إلى مدينة نسا في طريقه، وهناك تعرض للخيانة على يد والد أحد مرافقيه، حين أفشى الرجل سر وجود ابن القاسم ومكان وجهته لعامل المدينة طمعًا في مكافأة مالية قدرها عشرة آلاف درهم.[48]

تمكن عامل نسا من القبض على محمد بن القاسم بناءً على هذه الوشاية، فأرسله موثقًا إلى الوالي عبد الله بن طاهر، الذي أرسله بدوره إلى عاصمة الخلافة بغداد. وصل ابن القاسم إلى بغداد في يوم الاثنين 14 ربيع الآخر سنة 219هـ / 28 أبريل 834م، وأمر الخليفة المعتصم بحبسه في سجن ضيق جدًا تحت حراسة مسرور الخادم الكبير، ثم نُقل إلى سجن أوسع بعد ثلاثة أيام مع منحه الطعام وحراسًا لحفظه، وظل محبوسًا حتى ليلة عيد الفطر من السنة نفسها. بينما كان الناس منشغلين بالاستعداد للعيد، تمكن محمد بن القاسم من الهرب من محبسه بطريقة غامضة، ويُعتقد أنه تدلى بحبل من كوة صغيرة في أعلى السجن. عندما افتُقد في الصباح، ضجت بغداد بالخبر، وأمر المعتصم فورًا برصد جائزة ضخمة قدرها مائة ألف درهم لمن يأتي به أو يدل على مكانه. ورغم البحث المكثف، لم يُعثر على محمد بن القاسم بعد ذلك واختفى تمامًا، لتنتهي ثورته وتبقى قصته وهروبه لغزًا من ألغاز ذلك العصر.[49] تكونت فرقة زيدية خاصة تعتقد بإمامته وُثق وجودها سنة 332هـ / 943 أو 944م،[50] ولخص المؤرخ حسن خليفة آراء الفرقة، قائلًا: «وقد انقاد إلى إمامته كثيرون من الزيدية ومنهم خلق كثير يزعمون أنه لم يمت، وأنه حي يرزق، وأنه يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وأنه مهدي هذه الأمة».[51]

حرب الزط في أهوار العراق

[عدل]
صورة تظهر رجال فلَّاحون من الزط (1873)

ورث الخليفة المعتصم عن عهد أخيه المأمون مشكلة خطيرة ومستعصية في جنوب العراق، وهي ثورة الزط. يرجع أصل الزط من السند (في باكستان المعاصرة)، غير أنه وقع غلاء في مناطقهم، وانتشرت المجاعة بينهم، فخرجوا من ديارهم نحو كرمان وفارس والأهواز في أيام العصر الأموي. استدعاهم والي العراق الأموي، الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي 95هـ / 714م)، بهدف حفظ الأمن في منطقة البطائح، فاستقروا في أهوار العراق بين البصرة وواسط، واشتهروا بتربية الجواميس فيها. بدأت أعمال اللُّصوصية تنتشر بين الزط بسبب سوء أحوالهم المعيشية وقساوتها، فكانوا يسألون الشيء الطفيف، ثم بدأوا بالاختلاس من السُّفُن العابرة، لتزداد خطورتهم تدريجيًا. شكل الزط تهديدًا اقتصاديًا وأمنيًا كبيرًا للدولة في أعقاب صراع الأمين والمأمون، حين بات الزط يقطعون الطرق التجارية المؤدية إلى البصرة، فنهبوا الغلات من بيادر الفلاحين، وأخافوا عابرو السبيل، مما تسبب في أضرار أمنية ومعيشية وتجارية للدولة، خصوصًا بعد انقطاع العاصمة بغداد عن مجيء السُّفُن التجارية من البصرة.[52]

قرر المعتصم حسم مسألة الزط بشكل نهائي، فأرسل إليهم حملة بقيادة أحمد بن سعيد، حفيد سالم بن قتيبة الباهلي، غير أنه هُزم، ثم أوكل المعتصم بأحد أبرز قادته، عُجيف بن عنبسة، وأرسله على رأس حملةٍ إليهم في جمادى الآخرة سنة 219هـ / يونيو 834م. جهز الخليفة الحملة بكل ما تحتاجه من عدة وعتاد، وأنشأ نظامًا بريديًا سريعًا بين معسكر عُجيف وبغداد ليصل الخبر إليه في اليوم نفسه، مما يعكس الأهمية القصوى التي أولاها لهذه الحرب.[53] أدرك عُجيف أن قتال الزط في بيئتهم المائية والأهوار أمرٌ شبه مستحيل بالطرق العسكرية التقليدية، فلجأ إلى خطة إستراتيجية تعتمد على الهندسة العسكرية. نصّب عجيف معسكره الرئيسي بالقرب من واسط، ثم شرع في عمل ضخم يهدف إلى شل حركة الزط عن طريق سد الأنهار والجداول المائية التي كانوا يستخدمونها للتنقل والإغارة والهرب، مثل نهر بردودا ونهر العروس. تمكن عجيف بهذه الخطة، من محاصرتهم في مناطقهم وعزلهم عن محيطهم، وحرمانهم من قدرتهم على الكر والفر. بدأ عجيف في مهاجمتهم بشكل منهجي بعد تمكنه من إحكام الحصار عليهم. وفي إحدى أولى المعارك، تمكن من قتل 300 من مقاتليهم، وأسر 500 آخرين ثم أمر بضرب أعناقهم جميعًا، وأرسل برؤوسهم إلى بغداد لرفع معنويات أهلها وإظهار جدية الحملة. استمر القتال والحصار الشديد لمدة ستة أشهر، قاوم فيها الزط بقيادة زعيمهم محمد بن عثمان وقائدهم العسكري سليمان، غير أن خطة عجيف أثبتت فعاليتها، ومع تضييق الخناق عليهم، لم يجد الزط مفرًا من طلب الأمان.[54]

رسمٌ لجاموس مع نساء من الزط في إحدى القرى. (ق. 1816)

استسلم الزط أخيرًا للقائد عجيف في ذي الحجة سنة 219هـ / ديسمبر 835م، بعد منحهم الأمان على دمائهم وأموالهم مقابل إجلائهم عن المنطقة. بلغ عدد الزط حينها حسب التقديرات، نحو سبعة وعشرين ألف إنسان، بين رجل وامرأة وطفل، ومن بينهم اثنا عشر ألف مقاتل، ثم جمعهم عجيف في السفن، وأبحر بهم نحو بغداد في مشهد استعراضي ضخم. دخل عجيف بهم إلى بغداد في يوم عاشوراء سنة 220هـ / 14 يناير 835م، وأمرهم بارتداء هيئتهم الحربية والنفخ في أبواقهم، ومر بهم في استعراض مهيب أمام الخليفة المعتصم الذي شاهدهم من سفينة تدعى «الزو» في الشّمَّاسيَّة. اتخذ المعتصم قراره بشأن مصيرهم بعد عرضهم في بغداد لثلاثة أيام، حيث أمر بنقلهم أولاً إلى خانقين، ثم تقرر نفيهم بشكل نهائي إلى منطقة عين زربة، وهي إحدى الثغور الإسلامية على الحدود المباشرة مع الروم. بعد استقرار الزط في موطنهم الجديد، أغارت عليهم جيوش الرُّوم فاجتاحتهم عن بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم أحد حسب بعض الروايات.[55]

ورغم الروايات القائلة بإفنائهم في هجوم الرُّوم، فقد ذكر المؤرخ اليعقوبي أن المعتصم أسكنهم خانقين في أمان، ولم يرد شيئًا عن وضعهم على ثغور الرُّوم.[53] وذكر بحث معاصر بوضع بعض الزط في خانقين، ووضع معظمهم في عين زربة وغيرها من مناطق الثُّغور، بهدف تفريقهم وتشتيتهم لإضعافهم والتخلص من خطر قيامهم بالتمرُّد مجددًا.[56] ذكر بعض المؤرخين بهروب بعض من هؤلاء الزط إلى الأناضول وجبال البلقان ومنها تفرقوا إلى أوروبا ليعرفوا في العصر الحديث باسم الغجر،[57] ومنهم حسن خليفة، قائلًا: «وقد هاجمها البيزنطيون في خلافة المتوكل سنة 241هـ (856م) وذبحوا أفرادها وشتتوا شمل من بقي حيا، فتفرقوا في أنحاء أوروبا ومنهم تناسلت طوائف الأغجار التي تتجول في سهول وممالك أوروبا في الوقت الحاضر ويعرفون بالنورة».[58] وحمّل المُؤرخ المصري محمد إلهامي الخليفة المعتصم مسؤولية ما جرى للزط، قائلًا: «وهكذا انتهت قصة بدأت فصولها من مأساة الجوع الذي نَقلَهم من السند إلى العراق، واستمرت فصول المأساة فيها حتى انتهت بحرب نقلتهم من العراق إلى الثغور في مذابح شنيعة حصدتهم جميعاً، وهي مذابح تتحمل الخلافة مسؤوليتها الكاملة، وهي نقطة سوداء وعار كبير في عهد المعتصم».[59]

محنة خلق القرآن

[عدل]

شهدت خلافة المعتصم بالله تصعيدًا عنيفًا لقضية فكرية وعقائدية بدأت في أواخر عهد أخيه المأمون، وهي ما عُرف في التاريخ بمحنة خلق القرآن. ورغم أن المعتصم لم يكن المؤسس لهذه السياسة، إلا أن تنفيذه لها جاءت التزامًا بوصية أخيه، واستخدامه للقوة والبطش بدلاً من جعلها جدالًا فكريًا بين العلماء والفقهاء المسلمين، ما جعل من عهده الفصل الأكثر دموية وقسوة في تاريخ هذه المحنة.

الجذور التاريخية لخلق القرآن

[عدل]
صحيفة من العصر العباسي فيها قسم من سورة الفتح: ﴿مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ۝٢٧ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى. (القرن 8 أو 9 الميلادي)

تعود جذور القول بأن القرآن مخلوق وليس كلام الله الأزلي إلى أواخر العهد الأموي، وكان أول المُنادين لها هو الجعد بن درهم، والذي قتله والي العراق خالد بن عبد الله القسري في يوم عيد الأضحى سنة 118هـ / 19 ديسمبر 736م. ثم تبنى هذه الفكرة من بعده الجهم بن صفوان، والذي قُتل بدوره في خراسان سنة 128هـ / 745م.[60] ظلت فكرة خلق القرآن هامشية ومرفوضة في بداية العهد العباسي، فقد نهى الخليفة هارون الرشيد (حكم 170 – 193هـ / 786 – 809م) عن الخوض والجدل في هذه المسائل، بل هدد بشر المريسي، أحد أبرز القائلين بخلق القرآن، بالقتل، مما اضطره إلى التواري طوال عهد الرشيد.[61] حدث التحول الجذري في خلافة المأمون (حكم 198 – 218هـ / 813 – 833م)، والذي تأثر تأثرًا عميقًا بالفلسفة اليونانية المترجمة وبعض آراء المعتزلة، وعلى رأسهم قاضيه ومستشاره أحمد بن أبي دؤاد. أعلن المأمون تبنيه الرسمي لمذهب المعتزلة القائل بخلق القرآن في سنة 212هـ / 827م، لاعتقاده واجتهاده بأن القول بقِدم القرآن يمس بمبدأ التوحيد ويجعل من القرآن شريكًا لله في صفة الأزلية.[62]

لم يكتفِ المأمون بالتبني الفكري، بل حوّلها إلى سياسة دولة فعلية في آخر سنة من حياته، 218هـ / 833م. فبينما كان يشرف على حملته الجهاديَّة الرابعة والأخيرة على الرُّوم، أرسل سلسلة من الكتب إلى نائبه في بغداد، إسحاق بن إبراهيم الخزاعي، يأمره بامتحان القضاة والفقهاء والمحدثين في هذه المسألة. استجاب معظمهم للمأمون تحت التهديد والترهيب، إلا أربعة منهم صمدوا في البداية، ثم تراجع اثنان، وبقي الإمام أحمد بن حنبل ومعه محمد بن نوح الجنديسابوري على موقفهما الرافض. أمر المأمون بإرسالهما إليه مكبلين بالحديد إلى طرسوس حيث يقيم لينظر في أمرهما ويناظرهما، غير أن وفاة المأمون قبل وصولهما إليه، أدى لإعادتهم إلى بغداد.[63] بين المؤرخ العراقي فاروق عمر فوزي رأيه حول سياسة المحنة وفرضها، قائلًا: «وحين نتكلم عن سياسة المحنة يجب ألا نعممها على كل المعتزلة ونعتبر المعتزلة كلهم مسؤولين عن سياسة إجبار الناس على قبول آراء المعتزلة. فقد كان فريق من المعتزلة يرى أن الدولة يجب ألا تتدخل في أذواق الناس وأفكارهم وعلى رأس هذا الفريق يحيى بن أكثم الذي عزل عن القضاء سنة 217هـ (832م) وتولى مكانه ابن أبي دؤاد، فحسن للخليفة (أي المأمون) جعل مذهب المعتزلة مذهبًا رسميًا للدولة سنة 218هـ (833م)».[64]

المعتصم وفرض القول بخلق القرآن

[عدل]
تخطيط اسم الإمام أحمد بن حنبل كما هو منقوش في المسجد النبوي.

لم تنتهِ المحنة بوفاة المأمون، بل كانت من أهم وصاياه لأخيه المعتصم وهو على فراش الموت، حيث قال له: «وخذ بسيرة أخيك في القرآن». أخذ المعتصم بوصية أخيه بجدية مطلقة، لكنه اختلف عنه في الأسلوب. فبينما اعتمد المأمون على الجدال الفكري والمناظرة لإقناع خصومه، لجأ المعتصم بصفته رجلاً عسكريًا، ومفتقرًا لثقافة أخيه الواسعة، إلى القوة المباشرة والتعذيب لفرض عقيدة الدولة. اعتمد المعتصم بشكل كامل على مشورة قاضي قضاته أحمد بن أبي دؤاد، الذي أصبح المحرك الفعلي للمحنة في عهده. تجلى ذروة هذا المنهج في التعامل مع الإمام أحمد بن حنبل.[65]

أُعيد ابن حنبل إلى بغداد وحُبس بعد وفاة المأمون، ومكث في السجن ثمانية وعشرين شهرًا.[66] بدأت فصول محاكمته الشهيرة أمام المعتصم في شهر رمضان سنة 219هـ / سبتمبر 834م. نُقل ابن حنبل من السجن مثقلاً بقيوده إلى قصر الخليفة، وهناك حذره والي بغداد قائلاً: «يا أحمد إنها – والله – نفسك، وليس بينك وبين السيف إلا ألاَّ تجيبه». أُدخل ابن حنبل على المعتصم، الذي بدا في البداية متأثرًا بهيبة ابن حنبل وموقفه، حتى قال المعتصم له: «لولا أني وجدتك في يدي من كان قبلي ما عرضت لك». بل إن الخليفة هم برفع المحنة كلها حين قال: «يا عبد الرحمن، ألم آمرك أن ترفع المحنة؟». لكن حاشيته من المعتزلة، وعلى رأسهم ابن أبي دؤاد، تدخلوا بقوة وأقنعوه بالاستمرار، وقال ابن أبي دؤاد عن ابن حنبل: «يا أمير المؤمنين – هو والله – ضال مبتدع مضل».[67]

أمضى ابن حنبل في السجن نحو ثمانية وعشرين شهرًا حتى أُفرج عنه في رمضان سنة 221هـ / سبتمبر 836م

استمرت المناظرات لعدة أيام، وابن حنبل يرد على حججهم جميعًا بطلب واحد: «يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به». سئم المعتصم من إطالة الجدال وثبات ابن حنبل على رأيه ومرور أيام دون نتيجة، قائلًا: «لئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلق عنه بيدي، ولأوطئن عقبه، ولأركبن إليه بجندي»، وقال المعتصم أيضًا: «إني مشفق عليك كشفقي على ابني هارون»، غير أن ابن حنبل ثبت على موقفه دون أدنى تنازل. ضجر المعتصم أخيرًا منه وقال: «طمعت فيك، خذوه، اخلعوه، اسحبوه».[68] أُقيم ابن حنبل بين خشبتين، وبدأ الجلادون يتناوبون على ضربه بالسياط، والمعتصم يحثهم ويقول له بين كل فترة وأخرى: «ويحك يا أحمد إني أسأل الله أن لا يبتليني بك، ما تقول في القرآن؟»، وقال أيضًا: «ويحك يا أحمد، علام تقتل نفسك، أجبني حتى أطلق عنك بيدي». لكن ابن حنبل يصر على موقفه. استمر التعذيب بقسوة بالغة على ابن حنبل حتى فقد وعيه وسالت دماؤه حتى اختلف بعدد السياط التي تعرض لها ما بين 18 إلى 80 سوطًا[69] وقيل 38 سوطًا[70]، وحين علم بفقدان ابن حنبل لوعيه، أمر المعتصم بإطلاق سراحه في 25 رمضان سنة 221هـ / 11 سبتمبر 836م، وعُرض عليه الماء وهو في شدة التعب فرفض وأكمل صومه.[71]

ويُعلق المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري على تعامل المعتصم في قضية خلق القرآن، قائلًا: «ويظهر لي أن تأييده للمعتزلة كان تقليدًا لسياسة أخيه لا نتيجة لثقافة عالية، ولذلك كان أقل تسامحًا في معاملته لأهل السنة حتى أمر بضرب أحمد بن حنبل بالسياط وسجنه لأنه "امتنع أن يقول أن القرآن مخلوق" ولعله كان عسكريًا بطبعه..».[11] ويتفق الباحث زياد اذويب، قائلًا: «وهذا يبرهن على أن المعتصم لم يكن مقتنعاً بالمسألة بقدر ما كان مقلداً ومتبعاً لوصيه أخيه، وتأثير المعتزلة عليه».[72] ويؤكد ذلك المؤرخ المصري محمد إلهامي، قائلًا: «وما هو بأهل (أي المعتصم) لأن يتفهم أمرا دقيقا في مسألة فلسفية كلامية كانت جدالا بين أهل السنة والمعتزلة فترة طويلة، تنقدح فيها القرائح وتشتبك فيها العقول وتأتي بالدقائق والنوادر والردود والحجج!».[73]

الآثار اللاحقة لسياسة خلق القرآن

[عدل]
درهم فضي عبَّاسي سُك في خلافة المعتصم بالله العبَّاسي في مدينة الريِّ من ولاية الجبال سنة 221هـ / 836/7م.

ندم المعتصم على ما كان منه ندمًا كثيرًا، وكان يسأل عن حال ابن حنبل يوميًا، حتى ذكر بشفائه، ففرح المعتصم.[74] عفا ابن حنبل عن المعتصم لقرابته من النبي رغم ما قاساه وعذره في أمره، قائلًا: «ماذا ينفعك أن يُعذَّب أخوك المسلم بسببك؟»، لكنه لم يعفُ عن ابن أبي دؤاد الذي اعتبره رأس البدعة. استمرت المحنة بعد ذلك في بغداد وبقية أمصار الدولة مثل مصر، لكن دون تعرض ابن حنبل للأذى المباشر. بعد وفاة المعتصم وتولي ابنه هارون الواثق بالله (حكم 227 – 232هـ / 842 – 847م) للخلافة، استمر الواثق على نهج أبيه وعمه في فرض هذه العقيدة بالقوة، حتى ألغاها ابن المعتصم الآخر رسميًا، الخليفة جعفر المتوكل على الله (حكم 232 – 247هـ / 847 – 861م) بعد أربعة عشر عامًا على السياسة، وأكرم ابن حنبل واحتفى به عدة مرات في أوقات مختلفة، غير أن ابن حنبل حافظ على تواضعه ورفضه المؤدب للأعطيات من الخليفة المتوكل.[75]

ثورة بابك الخرمي في أذربيجان

[عدل]

خلفية الثورة البابكية

[عدل]
تمثال منصوب لبابك الخُرَّمي في مدينة بابك، في إقليم نخجوان الذاتية الأذربيجانية. (2008)
طقوس مجوسيَّة (زرادشتية) احتفالية في إيران، والتي استلهمت منها الخُرَّمية وتفرّعت منها البابكيَّة.

ورث المعتصم عن سلفه المأمون تمردًا خطيرًا استعصى على الخلافة العبَّاسية لأكثر من عشرين عامًا، عُرفت بثورة الخُرَّمية في أذربيجان بقيادة بابك الخُرَّمي. بدأ بابك ثورته سنة 201هـ / 816م، متخذًا من حصنه البَذّ منطلقًا لعملياته، والواقعة في قمم جبال شاهقة. تمكن الخُرَّميُّون على مدار عقدين من الزمن من هزيمة عدة جيوش للخلافة وقتل عدد من كبار قادتها، مما شكل تهديدًا وجوديًا لسلطة الدولة في أذربيجان ونواحيها.[76] بين المؤرخ العراقي الدوري على أحد أسباب ظهور البابكيَّة، قائلًا: «وللبابكية غاية سياسية رئيسية وهي ضرب السلطان العربي والدين الإسلامي.. وكان عداء الخرمية للإسلام عداء سياسيًا لأنه الدين الذي أذهب سلطانهم ونقل الملك إلى العرب».[77]

ظهر بابك الخرمي في بداية خلافة المأمون، مُتزعمًا طائفة الخُرَّمِيَّة، والمُؤمنة بأفكار مستلهمة وخليطة من الديانات الفارسيَّة مثل المجوسية والمزدكية، فدعت إلى تناسخ الأرواح، وأباحت المحرمات، وأسقطت فرائض الإسلام.[78] استغل بابك ضعف الخلافة الناتج عن صراع الأمين والمأمون، وأعلن ثورته مستفيدًا من الطبيعة الجبلية الوعرة لأذربيجان، ومكنته من استخدام تكتيكات الكر والفر ونصب الكمائن وقطع خطوط إمداد الجيوش العباسية بفاعلية.[79] فشلت كل الحملات التي أرسلها المأمون في القضاء على بابك على مدار عشرين عامًا، بل إن شوكته قويت بعد هزيمته عددًا من أبرز القادة العباسيين، ومن أبرز ضحاياه القائد الشهير محمد بن حميد الطوسي الذي قُتل في معركة ضارية سنة 214هـ / 829م، وشكل مقتله ضربة معنوية كبيرة للخلافة.[80] حاول بابك عقد تحالفات مع أعداء الخلافة العبَّاسية، فسعى لاستمالة الرُّوم لدعمه في حربه على أعدائهم الدائمين على حدودهم الشرقيَّة في آسيا الصُّغرى. ظلت ثورة بابك الخرمي الشوكة الأكثر إيلامًا في خاصرة الدولة حتى وفاة المأمون، بسبب اضطراب الوضع وعدم ولاء الولاة، فانشغل المأمون بإخماد ثورات قريبة ومستنزفة مثل ثورة البشموريين في مصر وثورات في العراق ثم قاد حملات على الرُّوم بنفسه ووضع حد لهم.[81] أدرك المأمون أن القضاء على ثورة بابك يتطلب حزمًا وقوة استثنائية، فكانت من أهم وصاياه لأخيه ووريثه المعتصم، وهو على فراش الموت، توليته هذه الحرب أهمية قصوى، قائلًا له: «والخُرَّميَّة، فاغزهم ذا جزامة وصرامة وجلد، واكنفهُ بالأموال والسلاح والجنود من الفُرسان والرجال، فإن طالت مدتهم فتجرَّد لهم بمن معك، من أنصارك، وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مُقدِّم النيَّة فيه، راجياً ثواب الله عليه». أصبحت مهمة القضاء على بابك أول وأعظم اختبار واجهه المعتصم لتثبيت أركان دولته وتنفيذ وصية أخيه.[82]

إستراتيجية المعتصم لمحاربة بابك

[عدل]
مخطوطة تظهر سير المفاوضات والحرب بين قائد الجيش العباسي الأفشين حيدر بن كاوس مع الثائر بابك الخرمي.

أدرك المعتصم أن القضاء على بابك يتطلب إستراتيجية مختلفة تعتمد على التخطيط الطويل النفس، والإعداد اللوجستي المحكم، وليس مجرد إرسال حملات عسكرية متفرقة. ومما زاد من عزمه، هي وصية أخيه المأمون في القضاء على بابك مهما كلَّف الأمر. اتخذ المعتصم قراره الحاسم بتعيين قائده الأبرز والأكثر دهاءً، الأفشين حيدر بن كاوس، قائدًا عامًا للحرب على بابك، ووضع تحت إمرته كل الموارد اللازمة في سنة 219هـ / 834م.[83]

شرع الأفشين أولًا، في تنفيذ خطة منهجية تهدف إلى عزل بابك وتجفيف منابع قوته قبل بدأ أي هجوم عليه، حيث كُلِّف القائد أبا سعيد محمد بن يوسف بإعادة بناء الحصون التي دمرها بابك على الطرق بين زنجان وأردبيل، وتأمينها بالجند لحماية قوافل الإمدادات. عمل الأفشين ثانيًا، على كسب ولاء القوى المحلية، مثل محمد بن البعيث، الذي يسيطر على قلاع حصينة في أذربيجان وتحالف مع بابك. تمكن ابن البعيث من استدراج أحد أبرز قادة بابك، ويُدعى "عصمة"، إلى قلعته بحجة الضيافة، ثم غدر به وبأصحابه، وأرسل عصمة أسيرًا إلى المعتصم، ليكشف عن أسرار بلاد بابك وطرقها وأساليب القتال فيها، مما شكل كنزًا استخباراتيًا ثمينًا. اتبع الأفشين ثالثًا، سياسة الأرض المحروقة اللوجستية، حين نزل بجيشه في برزند، قام بضبط كل الطرق والحصون بينه وبين أردبيل، وأنشأ نظام تتابع محكمًا لنقل الإمدادات والمؤن، فكانت كل حامية تسلم القافلة للحامية التي تليها في منتصف الطريق، مما ضمن وصول الإمدادات بأمان ومنع قوات بابك من قطعها. اتبع الأفشين سياسة استخباراتية حكيمة، فكان إذا قبض على جواسيس بابك، يحسن إليهم ويضاعف لهم العطاء ويحولهم إلى جواسيس له، مما مكنه من اختراق شبكة بابك الاستخباراتية.[76]

صورة جوية حديثة تظهر حصن بابك الخُرَّمي في أذربيجان الإيرانية. (2018)

أحكم الأفشين خططه اللوجستية بعد دراستها جيدًا، لتبدأ المواجهات العسكرية الكبرى بين الطرفين، ففي سنة 220هـ / 835م، دبر الأفشين كمينًا ناجحًا لبابك، بعد علمه بتخطيط بابك لمهاجمة قافلة أموال يقودها القائد بغا الكبير، فأمر الأفشين بغا بالتظاهر بنقل الأموال ثم يعود بها سرًا إلى أردبيل، بينما خرج الأفشين بجيشه بشكل سري وسريع. ظن بابك أن القافلة بلا حماية فهاجمها، ليجد جيش الأفشين يطبق عليه من حيث لا يحتسب. دارت معركة عنيفة انتهت بهزيمة منكرة لقوات بابك، وفر هو بنفسه بصعوبة بالغة في نفر قليل من فرسانه.[84] كانت الحرب بين الطرفين كرًا وفرًا، إذ تمكن رجال بابك بعد فترة، من مهاجمة قافلة إمدادات ضخمة كانت في طريقها لجيش الأفشين، واستولوا عليها، مما تسبب في ضائقة شديدة ومجاعة في معسكر الجيش العبَّاسي، اضطر معها الأفشين إلى طلب إمدادات عاجلة من مناطق أخرى. وفي سنة 221هـ / 836م، وقعت كارثة عسكرية أخرى بسبب تهور القائد بغا الكبير الذي قرر مهاجمة معاقل الخرمية في جبل هشتادسر دون إذن من الأفشين. حاصرت قوات بابك قوات بغا في الجبال، وساعدهم على ذلك سوء الأحوال الجوية وهطول الثلوج والضباب الكثيف. كمن لهم بابك وهزمهم هزيمة ساحقة، وقُتل عدد من القادة، ونجا بغا بصعوبة، بينما استولى الخرمية على أموال الحملة وأسلحتها بالكامل.[85]

سقوط البذ وإعدام بابك

[عدل]
صورة تظهر أحد الممرات الضيقة نحو قلعة بابك التي خاض بها الجيش العباسي معارك شرسة خلال حملات عديدة على مدار عشرين عامًا. (2009)
تمثال يمثل بابك الخُرَّمي في متحف أذربيجاني. (2020)

بعد انقضاء الشتاء، ومع وصول إمدادات جديدة من المعتصم بقيادة جعفر الخياط وإيتاخ الخزري، بدأ الأفشين بتنفيذ المرحلة الأخيرة والحاسمة من حملته بالزحف نحو البذ نفسها. تقدم الأفشين ببطء وحذر شديدين، وأمر ببناء خنادق وحصون في كل موقع يتقدم إليه، مثيرًا سخط المتطوعة المتعطشين للقتال السريع. أدرك الأفشين باعتماد بابك على الكمائن في الوديان والجبال المحيطة بالبذ، فهدف لكشف هذه الكمائن قبل الهجوم النهائي. تهور القائد جعفر الخياط وبعض المتطوعة في إحدى المناوشات، وهاجموا أسوار البذ دون أمر، وكادوا يخترقوها، لكن الأفشين رفض إرسال المدد لهم وأمرهم بالانسحاب، لاعتقاده بسرية وخطورة كمائن بابك، والتي لم تنكشف بعد مما يؤدي بالتقدم إلى كارثة مُحققة. أدى هذا الهجوم المتهور إلى خروج بعض كمائن الخمن مخابئها، فتمكن الأفشين من تحديد مواقعهم. أرسل الأفشين بعد تخطيط دقيق، قوة خاصة للالتفاف حول جبال العدو ليلًا، وفي اليوم التالي شن هجومًا منسقًا من عدة جهات. حوصرت قوات بابك بين كماشة الجيش الرئيسي من الأمام والقوة التي نزلت عليهم من قمم الجبال من الخلف.[86]

مخطوطة تُصوِّر قدوم الأفشين حيدر بن كاوس منتصرًا من حرب الخُرَّمية، ثم جلبه بابك الخرمي أسيرًا فوق جمل إلى العاصمة العبَّاسية سامراء. (القرن 16م)

اشتبكت الجيوش في معركة حاسمة، وحين رأى بابك أن هزيمته وشيكة، طلب الأمان من الأفشين بحجة تجهيز أولاده للمغادرة، غير أنها كانت خديعة منه للهروب. تمكن الجيش العبَّاسي في خضم الفوضى الحاصلة، من اقتحام قلعة البذ، ففر بابك من أحد الوديان، لتدخل جيوش الخلافة إلى عاصمة الخُرَّمية في 20 رمضان 222هـ / 26 أغسطس 837م، بعد عشرين عامًا من التمرُّد على دولة الخلافة. أمر الأفشين بهدم قصور بابك وحصونه وإحراقها، وبذلك سقطت عاصمة الخُرَّمية المنيعة.[86] لم تنتهِ الحرب بسقوط البذ تمامًا، فقد ظل بابك طليقًا، وهرب مع أخيه عبد الله وبعض أتباعه إلى أرمينية، محاولاً اللجوء إلى بلاد الرُّوم. كتب الأفشين إلى جميع أمراء وبطارقة أرمينية، يعدهم ويمنيهم إن هم قبضوا على بابك. لجأ بابك إلى أحد البطارقة ويُدعى سهل بن سنباط، الذي استقبله وتظاهر بحمايته. وبينما كانا في رحلة صيد، غدر ابن سنباط ببابك وسلمه إلى القوات العبَّاسية التي انتظرت في كمين قريب في 10 شوال 222هـ / 15 سبتمبر 837م. وقُبض على أخيه عبد الله الذي لجأ إلى بطريق آخر.[87] وصل الأفشين إلى سامراء ومعه بابك وأخوه أسيرين في صفر سنة 223هـ / يناير 838م. استُقبل الأفشين والقوات العبَّاسية استقبال الفاتحين، وخرج الأمير هارون بن المعتصم وكبار رجال الدولة للترحيب بهم. أمر المعتصم بالتشهير ببابك في العاصمة، فأُركب على فيل ضخم وطاف به في شوارع سامراء ليكون عبرة للناس وتطيب نفسهم.[88]

أُدخل بابك على مجلس الخليفة المعتصم مُقيدًا، والذي أمر الخليفة بإحضار جلاد بابك نفسه ليقوم بتنفيذ القصاص بحق زعيمه السابق. وبأمر من الخليفة وحضوره، قُطعت يدا بابك ورجلاه وهو لم يتأوه محاولًا تمالك نفسه، ثم أمر بذبحه وشق بطنه. أُرسل رأسه ليُطاف به في مدن خُراسان، وصُلب جسده على خشبة في سامراء. أما أخوه عبد الله، فقد أُرسل إلى بغداد ليلقى المصير نفسه على يد الوالي إسحاق بن إبراهيم الخُزاعي.[88] كافأ المعتصم قائده الأفشين مكافأة عظيمة، فأغدق عليه الأموال والألقاب، وقلده ولاية السند، وخلّده الشعراء في قصائدهم كأحد أعظم أبطال عصرهم. قُدّر عدد من قتلهم بابك خلال عشرين عامًا بأكثر من ربع مليون إنسان، بينما استنقذ الأفشين من أسره آلاف المسلمين. وبمقتل بابك ونهاية ثورة الخُرَّمية في أذربيجان، انتهى أخطر تمرُّد ديني وسياسي واجهته الخلافة العباسية في عصرها الذَّهبيِّ.[89]

الحملة المعتصمية على الروم

[عدل]

أسباب الحملة ونخوة المعتصم

[عدل]
الإمبراطور الرومي، توفيل بن ميخائيل (حكم 829 – 842م) مع حاشيته.

بعد قضاء الخليفة المعتصم على ثورة بابك الخُرَّمي في سنة 223هـ / 838م، وجه كل قوة الدولة العباسية نحو عدوها التقليدي في الشمال الغربي منها، والمعروفة باسم الإمبراطورية البيزنطيَّة أو مملكة الرُّوم، في حملة عسكرية عُدت من أضخم الحملات وأكثرها تنظيمًا في تاريخ الخلافة، والتي استهدفت بشكلٍ خاص مدينة عمُّورية، أمنع الحصون الرُّومية وأكثرها قدسية لديهم جنبًا إلى جنب مع القسطنطينية، فضلًا عن أن الإمبراطور توفيل من مواليد عمُّورية حسب بعض المصادر.[90] مثّل الغدر الذي أقدم عليه الإمبراطور توفيل بن ميخائيل، السبب المباشر لهذه الحملة، ففي أواخر أيام ثورة بابك الخرمي، وحين أوشك على الهلاك، كتب بابك إلى توفيل يستنجد به ويحرضه على مهاجمة ديار الإسلام، موهمًا إياه أن الخليفة أرسل جميع جيوشه إلى أذربيجان ما أفرغ الثغور من الجند. استجاب توفيل لهذا التحريض، فخرج على رأس جيش ضخم، بلغ تعداده حسب بعض المؤرخين مائة ألف مقاتل، ويسانده جموع من المحمرة البابكيَّة، وهاجم مدينة زِبَطْرة على الثُّغور، فأعمل فيها القتل والتدمير، وسبى أكثر من ألف امرأة مسلمة، ومثَّل بالأسرى من المسلمين فجدع أنوفهم وسمل أعينهم، في فعلة أثارت غضبًا عارمًا في العالم الإسلامي.[91]

وصلت أصداء هذه المأساة إلى عاصمة الخلافة سامراء، واستعظم المعتصم الأمر وغضب غضبًا لم يُرَ مثله. ذكر في روايات مسكويه وابن العمراني وابن الطقطقي بأن امرأة مسلمة (ذكر بعضهم أنها هاشمية) من السبي وقعت في الأسر صرخت صرختها الشهيرة: «وا مُعتصماه!»، فوصل خبرها من خلال كتاب إلى الخليفة المعتصم، فما كان منه إلا النهوض من مجلسه وقال: "لبيكِ، لبيكِ!" ثم صاح في قصره بالنفير وركب دابته غير عائب ما تساقط منها لتجهيز الجيش لغزو الرُّوم.[92] غير أن هذه الرواية لم تذكر في كتب مؤرخين من أمثال الطبري، والمسعودي، واليعقوبي.[وب 1] إلا أن روايات المؤرخين اتفقت على أنه حين علم بنبأ الهجوم على زِبَطْرة وما فعله توفيل بالمسلمين فيها، استعظم المعتصم الخبر واشتد عليه وصاح في قصره بالنفير.[93]

أمر الخليفة بتعبئة عامة لم يسبق لها مثيل، وتعمم بعمامة الغزاة، وعسكر غربي دجلة، ونُصبت الأعلام على الجسر، وتحرك العساكر المتطوعة من سائر بلاد الإسلام، وكان في مقدمته إيتاخ الخزري على رأس أربعين ألف فارس كأولى نتائج التعبئة في سامراء. جمع المعتصم مئات القضاة والعدول في يوم الاثنين 2 جمادى الأولى سنة 223هـ / 1 أبريل 838م، وأشهدهم على أوقافه وأمواله الخاصة، فجعل ثلثًا لله، وثلثًا لولده، وثلثًا لمواليه، في دلالة على عزمه خوض حرب طويلة ونهائية. تحرك المعتصم من سامراء يوم الخميس 6 جمادى الأولى / 5 أبريل على رأس جيشٍ ضخم فذكر أقلهم أنه 200 ألف، وأكثرهم بأنه 500 ألف من الجند.[94] أراد المعتصم تحقيق إنجاز عسكري ضخم على الرُّوم، فسأل حاشيته: «أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟»، فذكر له عمُّورية، وقيل له: «لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية».[91]

هزيمة توفيل وإحراق أنقرة

[عدل]

وضع المعتصم خطة عسكرية دقيقة تعتمد على الزحف بجيشين جرارين من محورين مختلفين، ليلتقيا في قلب بلاد الرُّوم عند مدينة أنقرة.[95]

تمكنت استطلاعات جيش أشناس من أسر بعض الروم في بداية الزحف، ليكشفوا عن خطة الإمبراطور توفيل، بعد علم الأخير بخطة المعتصم، وقرر ترك الجيش العباسي الرئيسي يتقدم، بينما يتجه هو بكل قوته لمباغتة جيش الأفشين الأصغر عددًا وسحقه قبل لقائه بجيش المعتصم. أرسل المعتصم رسلًا بخيول سريعة ومكافآت ضخمة ليحذروا الأفشين على الفور، لكنهم لم يتمكنوا من اللحاق به لتوغله السريع في أراضي الروم. التقى جيش الإمبراطور توفيل بجيش الأفشين في موضع يُعرف باسم أنزن، ودارت رحى معركة طاحنة في يوم الخميس 25 شعبان سنة 223هـ / 22 يوليو 838م، تمكن فيها الأفشين بفضل ثباته ودهائه العسكري من تحقيق نصر حاسم على جيش الروم الأكبر عددًا. هُزم توفيل هزيمة منكرة وفر هاربًا من ساحة المعركة، وتشتت جيشه. وصلت أخبار هذا النصر الكبير إلى المعتصم وهو في طريقه إلى أنقرة، فاستبشر خيرًا.[96]

صورة حديثة من أطلال قلعة أنقرة، التي دخلها الجيش العباسي ودمرها في أثناء طريقه نحو عمورية. (2021)

واصلت الجيوش العباسية زحفها حتى التقت حسب الخطة عند أسوار مدينة أنقرة، فدخلوها ووجدوها خالية من أهلها الرُّوم بعد ورود أنباء هزيمتهم في أنزن، ليأمر توفيل بتجميع القوات الرومية كافة في عمورية تحت قيادة خاله وحاكم ولاية أناطوليا، ياطس، في حين فر توفيل نحو القسطنطينية لسماعه بخبر مؤامرة عسكرية داخلية تتآمر عليه. أقام المعتصم في أنقرة لأيام، فأُحرقت ونُهبت، ثم قسم جيشه الجرار إلى ثلاث فرق رئيسية: الميمنة بقيادة الأفشين، والميسرة بقيادة أشناس، والقلب بقيادته هو، وجعل بين كل فرقة وأخرى مسافة فرسخين، وأمرهم بالتقدم نحو الهدف الأسمى: عمورية، وبإحراق وتخريب كل ما يمرون به في طريقهم.[97] وذكر في رواية أن المعتصم حين كان في الطريق بين أنقرة وعمورية، التقى براهب طاعن في السن، وسأله إن قرأ في كتب الملاحم شيء عن عمورية وفتحها من المسلمين، فقال الراهب: «حيث كتبت الملاحم ما كان أحد من المسلمين وإنما رأيت في كتب الملاحم أنه لا يفتحها إلا أولاد الزنا»، فاستأنس المعتصم واستبشر، قائلًا: «الله أكبر، عسكري كلهم الأغلب عليهم الأتراك والأتراك كلهم أولاد الزنا فإنه ليس بينهم شريعة ولا سياسة»، ثم أكمل سيره على رأس جيشه نحو عمورية.[98]

حصار عمورية وفتحها

[عدل]
آثار وأطلال ما تبقى من مدينة عمورية بعد خرابها اثر الحملة العباسية الإسلامية لها في سنة 223هـ / 838م، في تركيا المعاصرة.

سارع الإمبراطور الرومي توفيل بعد تدمير أنقرة لإرسال هدايا للخليفة المعتصم بالله، مع رسالة اعتذر فيها عن مذابح زبطرة مؤكدًا بأنها حصلت بعكس رغبته ووعد ببنائها وإعادة من سُبي من أهلها وإطلاق جميع الأسرى المسلمين لديه إن وافق على الصلح، غير أن المعتصم لم يكترث لرسالة توفيل، رافضًا مقابلة رسوله ومغلقًا أمام أي مفاوضات مع الروم من الأصل.[99]

رسم بيزنطي يُظهر الجيش العباسي بقيادة الخليفة المعتصم بالله وهو يحاصر عمورية من جميع جهاتها. (الرسمة من القرن 13/12م)
رسول بيزنطي يصل إلى الخليفة العبَّاسي المعتصم بالله بهدف التوصل على اتفاق. (رسمة من القرن 13/12م)

وصلت طلائع الجيش العباسي إلى أسوار عمورية المنيعة في يوم الجمعة 6 رمضان 223هـ / 1 أغسطس 838م، فضربوا حصارًا محكمًا حول المدينة. ورغم تحصن أهل عمورية جيدًا، لكن حدثًا غير متوقع قلب موازين الحصار، فقد خرج من المدينة رجل مسلم أُسر قديمًا وتنصّر وتزوج منهم، وجاء إلى المعتصم وأسلم وكشف له عن سر خطير، تمثل بوجود موضع ضعيف في السور هدمته سيول المطر سابقًا، وقام حاكم المدينة الرومي بترميمه على عجل وبشكل ظاهري فقط دون تدعيم حقيقي. أمر المعتصم بتركيز كل المجانيق وآلات الحصار على هذا الموضع الضعيف على الفور، لتبدأ القذائف الضخمة تضرب السور بلا هوادة ليلًا ونهارًا، حتى انصدع وانفرج. حاول قائد الحامية الرُّومية، ياطس، إرسال رسالة استغاثة إلى الإمبراطور، لكن جندًا عباسيين قبضوا على الرسول وكشفوا خطته. انهار الجزء الضعيف من السور محدثًا دويًا هائلاً بعد قصف متواصل، وفتحت ثغرة كبيرة في دفاعات المدينة.[100] 

تمكن الجيش العباسي من اقتحام عمورية بعد ثلاثة أيام من القتال العنيف على موضع السور المتهدم في 17 رمضان 223هـ / 12 أغسطس 838م، ثم انهارت المقاومة الرومية فيها ليتقدم الجيش العباسي ويقاتل في شوارع عمورية مع بقايا الجند الروم، حتى تحصنت مجموعة منهم في كنيسة كبيرة، فأمر المعتصم بإحراقها عليهم. استسلم قائد الحامية ياطس أخيرًا، وسقطت المدينة في أيدي المسلمين. كان الفتح عظيمًا، وامتلأ معسكر المسلمين بالغنائم والأسرى بأعداد هائلة تماثل عدد القتلى من الرُّوم البالغ 30 ألف حسب بعض التقديرات، ثم أمر المعتصم ببيع الغنائم وإحراق ما تبقى منها، ثم هدم عمورية وعفى آثارها، ثم خُلع بابًا عظيم الحجم من أبوابها يسمى باب الحديد، وأُحضر إلى بغداد وجعل على أحد أبواب دار الخلافة سُمي بباب العامة.[101] وادعت رواية لابن العمراني بأنه أخذ ملك الروم أسيرًا وطلب منه الهاشمية الأسيرة، فأُحضرت إليه في قيودها، فلما رآها المعتصم قام على قدمه وقال: «لبيك، لبيك يا بنت العم أجبت دعوتك في أربعين ألف أبلق».[98]

خطط المعتصم لمواصلة زحفه نحو القسطنطينية بعد نجاحه في فتح عمُّورية، والنزول على خليجها برًا وبحرًا، فاضطرب توفيل من استعدادات جيش المعتصم وعدم قبوله للمفاوضات، وأرسل طالبًا النجدة من بيتر ترادونيكو دوق البندقية، وملك الإفرنج لويس الأول، وأمير قرطبة عبد الرحمن الأوسط الأموي.[102] لم يتمكن المعتصم من تنفيذ خطته، إذ وصلته أخبار مقلقة عن مؤامرة خطيرة يدبرها ابن أخيه العباس بن المأمون في الجيش للإطاحة به، مما اضطره إلى إنهاء الحملة والعودة سريعًا. كانت رحلة العودة شاقة ومريرة، حيث سلك الجيش طريقًا قاحلاً عانى فيه من العطش الشديد، وأمر المعتصم بقتل آلاف الأسرى من الرجال خشية تمردهم في هذه الظروف الصعبة.[103] خلّد الشاعر الحسين بن الضحاك الباهلي هذا النصر العظيم مادحًا المعتصم والأفشين:[104]

أثبت المعصوم عزًا لأبي
حسنٍ أثبت من ركن إضم
كل مجد دون ما أثلّه
لبني كاوس أملاك العجم
إنما الأفشين سيف سله
قدر الله بكف المعتصم
لم يدع بالبذ من ساكنة
غير أمثال كأمثال إرم
ثم أهدى سلمًا بابكه
رهن حجلين نجيًّا للندم
وقرا توفيل طعنًا صادقًا
فض جمعيه جميعًا وهزم

أنشد الشاعر أبو تمام قصيدته الشهيرة الطويلة السيف أصدق أنباء من الكُتُب في مدح الخليفة المعتصم ونصره المؤزر في يوم عمُّورية، فهاجم أقوال المنجمين بقسوة بعد نصحهم للمعتصم بأن لا يحارب هذه السنة لأن خبر النجوم يشير إلى الهزيمة، ووصف فتح عمُّورية وما جرى فيه، وهجا توفيل ملك الرُّوم وهجماته على المدن الآمنة وفراره حين أتته الجيوش الإسلامية، قائلًا:[105][وب 2]

السيف أصدق أنباء من الكتب
السيف أصدق أنباءً من الكتبِ
في حده الحد بين الجد واللعبِ
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريبِ
والعلم في شهب الأرماح لامعةً
بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ
أين الرواية بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذبِ
تخرصًا وأحاديثًا ملفقةً
ليست بنبعٍ إذا عدت ولا غربِ
عجائبًا زعموا الأيام مجفلةً
عنهن في صفر الأصفار أو رجبِ
وخوفوا الناس من دهياء مظلمةٍ
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنبِ
وصيروا الأبرج العليا مرتبةً
ما كان منقلبًا أو غير منقلبِ
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ
ما دار في فلك منها وفي قطبِ
لو بينت قط أمرًا قبل موقعه
لم تخف ما حل بالأوثان والصلبِ
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
نظم من الشعر أو نثر من الخطبِ
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشبِ
يا يوم وقعة عمورية انصرفت
منك المنى حفلاً معسولة الحلبِ
أبقيت جد بني الإسلام في صعدٍ
والمشركين ودار الشرك في صببِ
أمٌ لهم لو رجوا أن تفتدى جعلوا
فداءها كل أم منهم وأبِ
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها
كسرى وصدت صدودًا عن أبي كربِ
بكرٌ فما افترعتها كف حادثةٍ
ولا ترقت إليها همة النوبِ
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد
شابت نواصي الليالي وهي لم تشبِ
حتى إذا مخض الله السنين لها
مخض البخيلة كانت زبدة الحقبِ
أتتهم الكربة السوداء سادرةً
منها وكان اسمها فراجة الكربِ
جرى لها الفأل برحًا يوم أنقرةٍ
إذ غودرت وحشة الساحات والرحبِ
لما رأت أختها بالأمس قد خربت
كان الخراب لها أعدى من الجربِ
كم بين حيطانها من فارس بطلٍ
قاني الذوائب من آني دمٍ سربِ
بسنة السيف والخطي من دمه
لا سنة الدين والإسلام مختضبِ
لقد تركت أمير المؤمنين بها
للنار يومًا ذليل الصخر والخشبِ
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحىً
يشله وسطها صبح من اللهبِ
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت
عن لونها وكأن الشمس لم تغبِ
ضوء من النار والظلماء عاكفةٌ
وظلمة من دخان في ضحى شحبِ
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت
والشمس واجبة من ذا ولم تجبِ
تصرح الدهر تصريح الغمام لها
عن يوم هيجاء منها طاهر جنبِ
لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على
بانٍ بأهل ولم تغرب على عزبِ
ما ربع مية معمورًا يطيف به
غيلان أبهى ربى من ربعها الخربِ
ولا الخدود وقد أدمين من خجلٍ
أشهى إلى ناظري من خدها التربِ
سماجة غنيت منا العيون بها
عن كل حسن بدا أو منظر عجبِ
وحسن منقلب تبقى عواقبه
جاءت بشاشته من سوء منقلبِ
لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت
له العواقب بين السمر والقضبِ
تدبير معتصم بالله منتقمٍ
لله مرتقب في الله مرتغبِ
ومطعم النصر لم تكهم أسنته
يومًا ولا حجبت عن روح محتجبِ
لم يغز قومًا ولم ينهض إلى بلدٍ
إلا تقدمه جيش من الرعبِ
لو لم يقد جحفلاً يوم الوغى لغدا
من نفسه وحدها في جحفل لجبِ
رمى بك الله برجيها فهدمها
ولو رمى بك غير الله لم يصبِ
من بعد ما أشبّوها واثقين بها
والله مفتاح باب المعقل الأشبِ
وقال ذو أمرهم لا مرتع صددٌ
للسارحين وليس الورد من كثبِ
أمانيًا سلبتهم نجح هاجسها
ظبى السيوف وأطراف القنا السلبِ
إن الحمامين من بيض ومن سمرٍ
دلو الحياة من ماء ومن عشبِ
لبيت صوتًا زبطريًا هرقت له
كأس الكرى ورضاب الخرد العربِ
عداك حر الثغور المستضامة عن
برد الثغور وعن سلسالها الحصبِ
أجبته معلنًا بالسيف منصلتًا
ولو أجبت بغير السيف لم تجبِ
حتى تركت عمود الشرك منعفرًا
ولم تعرج على الأوتاد والطنبِ
لما رأى الحرب رأي العين توفلسٌ
والحرب مشتقة المعنى من الحربِ
غدا يصرف بالأموال جريتها
فعزه البحر ذو التيار والحدبِ
هيهات زعزعت الأرض الوقور به
عن غزو محتسب لا غزو مكتسبِ
لم ينفق الذهب المربي بكثرته
على الحصى وبه فقر إلى الذهبِ
إن الأسود أسود الغيل همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلبِ
ولى وقد ألجم الخطي منطقه
بسكتة تحتها الأحشاء في صخبِ
أحذى قرابينه صرف الردى ومضى
يحتث أنجى مطاياه من الهربِ
موكلاً بيفاع الأرض يشرفه
من خفة الخوف لا من خفة الطربِ
إن يعد من حرها عدو الظليم فقد
أوسعت جاحمها من كترة الحطبِ
تسعون ألفًا كآساد الشرى نضجت
جلودهم قبل نضج التين والعنبِ
يا رب حوباء حين اجتث دابرهم
طابت ولو ضمخت بالمسك لم تطبِ
ومغضب رجعت بيض السيوف به
حي الرضا من رداهم ميت الغضبِ
والحرب قائمة في مأزق لجج
تجثو القيام به صغرًا على الركبِ
كم نيل تحت سناها من سنا قمر
وتحت عارضها من عارض شنبِ
كم كان في قطع أسباب الرقاب بها
إلى المخدرة العذراء من سببِ
كم أحرزت قضب الهندي مصلتةً
تهتز من قضب تهتز في كثبِ
بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت
أحق بالبيض أترابًا من الحجبِ
خليفة الله جازى الله سعيك عن
جرثومة الدين والإسلام والحسبِ
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعبِ
إن كان بين صروف الدهر من رحمٍ
موصولة أو ذمام غير منقضبِ
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
وبين أيام بدر أقرب النسبِ
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم
صفر الوجوه وجلت أوجه العربِ

أعجب المعتصم بقصيدة أبي تمام البالغ عدد بيتها ثلاثة وسبعون، فأعطاه جائزتها ثلاثة وسبعين ألف دينار على كل بيت ألف دينار.[106] وفي يوم عمورية قال الشاعر حبيب بن أوس الطائي: 

يا يوم وقعة عمّوريّة انصرفت
عنك المنى حفّلًا (مملوءة) معسولة الحلبِ
لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على
بان بأهل، ولم تغرب على عزبِ

وبات الطائي يكرر إنشادها ثلاثة أيام حتى قال له المعتصم: «إلى كم تجلو علينا عجوزك؟»، فأجابه الطائي: «حتى أستوفي مهرها يا أمير المؤمنين»، فأمر المعتصم له باثنين وسبعين ألف درهم نقرة، عن كل بيت ألف درهم.[107]

مؤامرة العباس بن المأمون

[عدل]

أسباب المؤامرة وتشكُّلها

[عدل]
تخطيط باسم الأمير العباس بن المأمون (قُتل في منبج سنة 223هـ / 838م).

خفت نجم العباس بن المأمون بعد تولي المعتصم الخلافة تمامًا، إذ لم يُسند إليه عمه أي مهام قيادية أو مسؤوليات كبرى، مما عزز شعوره بالتهميش. تزامن ذلك مع سياسة المعتصم الجديدة التي أثارت استياء واسعًا في صفوف القادة العرب والفرس، حين بدأ الخليفة بالاعتماد بشكل شبه كلي على القادة الأتراك الذين جلبهم من بلاد ما وراء النهر، ومنح الأتراك الامتيازات المالية والعسكرية.[108] أشعلت سياسة المعتصم نار الغضب في نفوس القادة العرب والفرس، وعلى رأسهم القائد الشهير عجيف بن عنبسة، الذي كان له فضل كبير في إخماد ثورة الزط. شعر عجيف بالإهانة حين منعه المعتصم من التصرف في نفقات حملة عسكرية، بينما أطلق يد القائد التركي المُقرَّب له، وهو الأفشين حيدر بن كاوس. توجه عجيف إلى العباس بن المأمون (والمقرب منه منذ خلافة أبيه) ووبخه لتنازله عن الخلافة، وحثه على تصويب الأمور بعد إفساد عمه لأحوال الدولة وتغيير تكوينها العسكري. لم يزل عجيف يُزين للعباس فكرة الثورة واستعادة حقه المسلوب حتى وافق العباس، وبدأ العمل سرًا على حشد الأنصار للانقلاب على المعتصم.[109]

يُعلق المُؤرخ المصري محمد إلهامي على المشهد قائلًا: «كان العباس عاقلا حين لم يستجب لتحريض بعض أمراء أبيه بأن يتولى الخلافة بعده عند موته منازعا لعمه المعتصم، غير أن تحريض الأمراء لم يتوقف، وما زال يزداد الإلحاح على العباس لا سيما من عُجيف بن عنبسة الذي كان من قواد المأمون الكبار... ولم يُعطه المعتصم مثل الصلاحيات التي أعطاها له المأمون أو التي أعطاها المعتصم للأفشين، فعمل عجيف على تحريض العباس بغية أن يعود إلى ما كان عليه».[110] بدأ التخطيط السري للمؤامرة أثناء حملة المعتصم الكبرى على عمُّورية سنة 223هـ / 838م، حين أثار تسليم الخليفة قيادة الحملة لثلاثة من القادة الأتراك: الأفشين، وأشناس، ووصيف، وإيتاخ، حفيظة العديد من القادة، وازداد سخطهم على المعتصم. تولى رجل يدعى الحارث السمرقندي مهمة التنسيق بين القادة الساخطين على المُعتصم بهدف أخذ البيعة للعباس سرًا. اقتضت الخطة باغتيال المعتصم وقادته الأتراك، مثل أشناس، أثناء توزيع غنائم فتح عمورية. إلا أن العباس تردد في لحظة حاسمة، وطلب تأجيل التنفيذ حتى لا يفسد على المسلمين فرحتهم بالفتح العظيم، وهو قرار أتاح للمعتصم كشف المؤامرة في الوقت المناسب.[111]

كشف المؤامرة وإفشالها

[عدل]
صورة جوية حديثة تظهر نهر الفرات ومنبج في شمال سوريا المعاصرة، والتي قُتل فيها العباس بن المأمون.

انكشفت المؤامرة من خلال سلسلة من التسريبات غير المقصودة. حين أشفق أحد القادة المتآمرين - وهو من الأتراك - يُدعى عمر الفرغاني، على غلام يخدم المعتصم، فنصحه بأن يلزم خيمته ولا يبرحها إذا سمع أي ضجة أو شغب. قرر قائد آخر يدعى أحمد بن الخليل في الوقت نفسه، وبعد إدراكه خطورة الأمر، كشف ما يعلمه للقائد التركي أشناس، الذي سارع بإبلاغ الخليفة وتحذيره من وجود مؤامرة تُدبر عليه. لم يصدق المعتصم الأمر في البداية لكثرة الأسماء الكبيرة المتورطة، لكنه أمر بالقبض على حلقة الوصل، وهو رجل يُدعى الحارث السمرقندي. انهار الحارث فورًا تحت التحقيق واعترف بكل شيء، وكشف أسماء جميع القادة الذين بايعوا العباس.[112][إنج 2] قرر المعتصم مواجهة ابن أخيه بحيلة ذكية، فبعد عودة الجيش العبَّاسي من حملة عمورية، استراح مؤقتًا في منبج من نواحي حلب. دعا المعتصم ابن أخيه العباس إلى جلسة شراب، وأعطاه الأمان وأظهر له أنه لا يعلم شيئًا، ثم أكثر من صب الشراب له حتى أذهب الخمر عقله. استدرجه المعتصم بالكلام مستغلًا حالته، فشرح له العباس تفاصيل المؤامرة كاملة وذكر له كل من كان معه. أمر المعتصم بالقبض عليه وحبسه عند قائده المخلص الأفشين فور انتهاء اعترافه.[113]

كانت نهاية المتآمرين قاسية وعنيفة، وعكست حزم المعتصم الشديد في تثبيت أركان حكمه. ظل العباس سجينًا حتى مات في سنة 223هـ / 838م، وتضاربت الروايات في كيفية موته جوعًا أو عطشًا. أما بقية القادة، فقد أمر المعتصم بقتل كل واحد منهم بطريقة مختلفة عن الآخر ليكونوا عبرة لغيرهم. من بين القتلى عجيف بن عنبسة، وعمر الفرغاني، وأحمد بن الخليل، وغيرهم من كبار القادة العرب والفرس والترك الذين لم يحظوا بتقدير المعتصم. قضى المعتصم على أخطر معارضة داخلية واجهته بهذه النهاية الدموية التي دبرها قادة عرب وفرس، وفتح الطريق لترسيخ حكمه القائم على القوة العسكرية، خاصة من جنده الأتراك، ومهد الطريق من بعده لخلافة ابنه هارون الواثق لاحقًا.[114][إنج 3] يعلق المستشرق الأسكتلندي وليم موير على نتائج الحادثة، قائلًا: «وهكذا، وبعقوبات شديدة ومؤلمة، قُضي على جميع المتآمرين الرئيسيين. غير أن هذه المؤامرة كان لها أثر كارثي آخر، وهو أنها جعلت الخليفة خاضعًا تمامًا لسيطرة القادة الأتراك، وبدأ تدريجيًا في إقصاء القادة العرب».[إنج 4]

ثورة مازيار في طبرستان

[عدل]

أسباب الثورة ومكيدة الأفشين

[عدل]
خريطة تقريبية لكلًا من نفوذ حاكم طبرستان، مازيار، باللون الأحمر. ومنطقة الثورة الخرمية بقيادة بابك الخرمي، باللون الأصفر. في شمال وشمال غرب إيران المعاصرة.

لم يكد المعتصم وجيشه يستريح من الانتصارات على بابك الخرمي، وفتح عمُّورية، حتى واجه تمردًا خطيرًا آخر في إقليم طبرستان الجبلي المنيع، بقيادة حاكمها المحلي القوي، مازيار بن قارن سنة 224هـ / 839م. لم يكن تمرد مازيار وليد لحظته، بل له جذور عميقة تتعلق بتاريخ عائلته وعلاقته الخاصة بالخلافة العباسية التي سبقت عهد المعتصم، فجد مازيار، ونداد هرمز، كان حاكمًا لطبرستان في خلافة هارون الرشيد (حكم 170 – 193هـ / 786 – 809م)، وأرسل ابنه قارن (والد مازيار) للإقامة في بغداد رهينة لضمان ولائه. خدم قارن لاحقًا الخليفة عبد الله المأمون (حكم 198 – 218هـ / 813 – 833م) بإخلاص في حروبه على الروم، مما كون علاقة خاصة ومباشرة بين الأسرتين. ورث مازيار هذه العلاقة، بل وعمقها، فحين فقد ملكه لصالح زعيم محلي آخر، لم يجد إلا المأمون في بغداد، فساعده على استعادة عرش آبائه. وبناءً على طلب المأمون وتشجيعه، أسلم مازيار وتسمى باسم محمد مولى أمير المؤمنين وتكنى بـأبي الحسن. وبسبب هذا القرب الشديد من شخص الخليفة، رأى مازيار نفسه ندًا لوالي المشرق القوي، عبد الله بن طاهر، ويرفض دفع خراج ولايته عبره، مصرًا على إرساله مباشرة إلى الخليفة، مما خلق عداوة شديدة مع الأسرة الطاهرية.[115]

خريطة تظهر بلاد الدَّيلم وطبرستان، تقع في شمال إيران المُعاصرة.

استغل القائد الأفشين حيدر بن كاوس صراع النفوذ بين مازيار وابن طاهر بعد وفاة المأمون وتولي المعتصم للخلافة، طامعًا في ولاية خراسان لنفسه. رأى الأفشين في مازيار أداة مثالية لإضعاف عبد الله بن طاهر، فبدأ بمراسلته سرًا، ويحرضه على العصيان، ويعده بالدعم في بلاط الخليفة. وبتحريض من الأفشين، وغرورًا بقوته وعلاقته السابقة بالخلافة، أعلن مازيار التمرد الشامل سنة 224هـ / 839م، فمنع الخراج عن الخلافة، وارتد عن الإسلام واعتنق المزدكية، وبدأ في بسط سيطرته المطلقة على جبال طبرستان وأطرافها.[116] أظهر مازيار وجهًا دمويًا وقاسيًا منذ إعلان تمرُّده، إذ أجبر الناس على مبايعته كرهًا، وأخذ الرهائن من كبار العائلات لضمان ولائهم. والأخطر من ذلك، حاول إشعال ثورة اجتماعية، فأمر فلاحي القرى بالوثوب على مُلّاك الأراضي من العرب والموالين للخلافة، ونهب أموالهم وممتلكاتهم. وقام بأعمال وحشية لترهيب خصومه، مثل صلبه لغلام بريء، ابن أحد أعيان مدينة سارية الذي هرب منه، وخرب أسوار المدن الكبرى مثل آمل وسارية لمنع الجيوش العباسية من التحصن بها. بلغت القسوة بمازيار محاصرته لعشرين ألفًا من أعيان آمل في جبل، وكبلهم بالحديد، وابتزهم لدفع خراج سنتين. وحينما أدرك ندم بعض جنوده على قتلهم لمجموعة من شباب الأعيان غدرًا، أمرهم بقتل آبائهم المحبوسين لديه ليتورطوا في الدماء بشكل كامل ولا يستطيعوا التراجع.[117]

الرد العباسي ونهاية مازيار

[عدل]
فارس من بلاد الدَّيلم (قرب طبرستان)

تحرك الخليفة المعتصم بحزم وسرعة أمام هذا التمرد الشامل، فأمر عبد الله بن طاهر في خراسان بتجهيز الجيوش، وفي نفس الوقت جهز جيوشًا مركزية من سامراء، في خطة تهدف إلى تطويق مازيار من كل الجهات. فأرسل عبد الله بن طاهر عمه، الحسن بن الحسين بن مصعب، بجيش كثيف لإغلاق حدود طبرستان من جهة جرجان، ثم أرسل حيان بن جبلة، ليعسكر في قومس ويغلق طريق جبال شروين. ومن جهته، أرسل المعتصم جيشًا كبيرًا من بغداد بقيادة محمد بن إبراهيم (أخو والي بغداد الشهير إسحاق بن إبراهيم الخزاعي)، وأمده بقادة من أهل طبرستان الموالين للخلافة، وجاء مددًا بقيادة أبو الساج لإغلاق المنافذ الجبلية الأخرى من جهة الري ودنباوند. وجد مازيار نفسه محاصرًا داخل إقليمه الجبلي، في مواجهة جيوش الخلافة العباسية تزحف عليه من كل حدب وصوب.[117]

تمثال عن مازيار بن قارن، حاكم طبرستان. (2017)

كانت الضربة القاصمة لمازيار هي انهيار جبهته الشرقية التي كان يقودها قائده أبو صالح سرخاستان، بعد تمكن القائد الطاهري الحسن بن الحسين من التواصل سرًا مع حراس السور الدفاعي الذي بناه سرخاستان، فخان حراس السور في ليلة غاب فيها ضوء القمر سيدهم وفتحوا أبواب السور لجيش الحسن بن الحسين، الذي تدفق إلى داخل معسكر سرخاستان على حين غفلة.[118] أصيب سرخاستان بالذعر حين سمع الصياح ورأى الأعلام العباسية ترفرف في قلبه معسكره، فلم تكن له همة إلا الهرب، ففر من الحمام في قميص نومه. لكن هروبه لم يدم طويلاً، فقد لحق به بعض جنوده الذين قرروا خيانته والتقرب به إلى السلطان، فقبضوا عليه وسلموه إلى الحسن بن الحسين، ليأمر بقتله فورًا.[119]

مثل مقتل سرخاستان وانهيار جيشه، انفتاح الطريق أمام الجيوش العباسية. أحس مازيار بنهاية وشيكة، فحاول الهرب والتحصن في قلاعه الجبلية، لكن الخيانة لاحقته من أقرب الناس إليه. فقد قام أخوه قوهيار، بالقبض عليه وتسليمه للقوات العباسية طمعًا في الأمان والمكافأة. أُرسل مازيار مكبلاً بالحديد إلى المعتصم، واعترف بكل شيء تحت سياط التعذيب، وكشف عن الرسائل السرية التي وصلته من الأفشين، ومُحرضًا إياه على التمرد، فكان اعترافه هو بداية النهاية للأفشين نفسه، والذي قبض عليه قبل يوم من مقتل مازيار. أمر المعتصم بجلد مازيار حتى قُتل في 5 ذي القعدة سنة 225هـ / 6 سبتمبر 840م، ثم صُلب جسده إلى جانب جسد بابك الخرمي سنة 225هـ / 840م، ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه الخروج على سلطة الخلافة.[120]

تمرد منكجور الأشروسني

[عدل]
الطبيعة الجبلية في منطقة أردبيل في إيران المعاصرة. (2011)

واجه المعتصم تمردًا جديدًا في أذربيجان سنة 224هـ / 839م في أعقاب انتصاره الكبير على بابك الخرمي، لكن هذه المرة من داخل الدائرة المقربة لأقوى قادته، الأفشين حيدر بن كاوس، مما زاد من خطورة الموقف وعمق شكوك الخليفة في رجاله. تزعم التمرد منكجور الأشروسني، أحد أقارب الأفشين، والذي عينه الأخير واليًا على أذربيجان بعد القضاء على بابك. بدأت الأزمة حين عثر منكجور على كنز ضخم من أموال بابك، فاستولى عليه لنفسه وأخفاه عن علم الأفشين والخليفة. كشف الأمر رئيس البريد في أذربيجان، وهو رجل يدعى عبد الله بن عبد الرحمن، وأرسل تقريرًا إلى المعتصم في سامراء، وحين علم بذلك منكجور كتب للمعتصم يكذب رئيس البريد عبد الله. دارت مناظرة بين منكجور وعبد الله، حتى هم منكجور خلالها بقتل عبد الله لإسكات صوته، فاستغاث الأخير بأهل أردبيل فتدخلوا وحموا الرجل.[121]

وصل خبر التمرُّد إلى المعتصم، فأمر الأفشين بصفته المسؤول المباشر عن منكجور، بعزله وإرسال جيشًا للقبض عليه. حين علم منكجور بقدوم الجيش العباسي، أعلن خلع طاعته للخليفة، وجمع حوله الصعاليك، وتحول من والٍ فاسد إلى ثائر مسلح. لجأ منكجور إلى أحد حصون بابك القديمة المنيعة في الجبال بعد مناوشات أولية هُزم فيها، فقام بترميم الحصن والتحصن فيه. لم يدم تمرده طويلًا، فبعد أقل من شهر، قام أصحابه المتحصنين معه بخيانته، فوثبوا عليه وقيدوه وسلموه إلى قائد الجيش العباسي الذي يحاصر الحصن. وفي رواية أخرى، فإن القائد بغا الكبير تمكن من محاصرته حتى طلب منكجور الأمان فاستسلم له، ليُرسل مكبلًا إلى سامراء.[121] رأى الخليفة في تمرد منكجور دليلاً آخر على أن قائده الأكبر، الأفشين، يدير مؤامرة أوسع لزعزعة استقرار الدولة وتقوية نفوذه الخاص في المشرق.[122]

انكشاف الأفشين ومقتله

[عدل]

لم يكد المعتصم ينتهي من الاحتفال بنصره على مازيار بن قارن، حتى ظهرت خيوط مؤامرة خطيرة تُحاك عليه في الخفاء، وبطلها هو نفسه مهندس ذلك النصر، القائد الأشروسني الأفشين حيدر بن كاوس. تُعد نهاية الأفشين مثالاً صارخًا على المصير الذي كان يلقاه القادة الذين يتعاظم نفوذهم إلى درجة تهدد سلطة الخليفة نفسه، على غرار أبو مسلم في خلافة المنصور، والبرامكة في خلافة الرشيد، والفضل بن سهل في خلافة المأمون، وهي قصة تكشف عن الوجه الآخر لعهد المعتصم القوي.[123]

بذور الشك والعداوات

[عدل]
خريطة تظهر ولاية أذربيجان العباسية.

بدأت بذور الشك تُزرع في قلب المعتصم تجاه قائده المفضل حتى قبل نهاية حرب بابك. فقد كان الأفشين، وهو أمير أشروسنة، يستغل الحرب لتعزيز ثروته ونفوذه في بلاده، فكان يرسل الأموال الطائلة والهدايا الثمينة التي تصله من أمراء أرمينية مباشرة إلى أشروسنة. وصل خبر ذلك إلى والي خراسان القوي عبد الله بن طاهر، الذي ينافس الأفشين على المكانة، فكتب إلى المعتصم بذلك. اعترض عبد الله بن طاهر إحدى هذه القوافل وبأمر من الخليفة، ليكتشف أموالاً ضخمة مخبأة في أحزمة الرسل، فصادرها ووزعها على جنده، وأرسل إلى الأفشين رسالة ساخرة يقول فيها إنه لا يصدق أن قائدًا يرسل كل هذه الثروة دون إعلام والي المنطقة لتأمينها، وإن كان هذا المال له فسيعوضه عنه لاحقًا. أثارت هذه الحادثة وحشة وعداوة شديدة بين القائدين، وجعلت المعتصم يبدأ في مراقبة تحركات الأفشين المالية عن كثب.[124]

زادت شكوك المعتصم على الأفشين إثر تمرد منكجور الفرغاني، وهو من أقارب الأفشين كان ولاه على أذربيجان، حين أشارت أصابع الاتهام إلى أن الأفشين متواطئًا معه.[123] حدثت الضربة القاصمة التي حولت شكوك الخليفة إلى يقين، حين جاءت من اعترافات مازيار حاكم طبرستان بعد القبض عليه سنة 225هـ / 840م، فقد كشف مازيار تحت التعذيب عن رسائل سرية وصلته من الأفشين، يحرضه فيها على التمرد على سلطة عبد الله بن طاهر، ويعده بالدعم في بلاط الخليفة. أراد الأفشين من ذلك إقناع المعتصم بعزل عبد الله بن طاهر وتوليته هو ولاية خراسان، وأن مازيار لم يكن ليخرج عليه لولاء سوء إدارة ابن طاهر. تأكد للمعتصم أن قائده الذي منحه ثقته الكاملة كان يلعب لعبة مزدوجة خطيرة، ويستخدم سياسة الدولة لتحقيق طموحاته الشخصية.[124]

الوشاية والقبض عليه

[عدل]
أطلال مدينة بنجيكات التاريخية عاصمة أشروسنة القديمة. (2014)

أحس الأفشين بتغير المعتصم نحوه، وأدرك بانكشاف مؤامراته، فعزم على تدبير خطة القيام بانقلاب دموي على الخلافة ومن ثم الهروب لبلاده. تذكر الروايات أنه خطط لقتل المعتصم وكبار قادته الأتراك المنافسين له، مثل أشناس التركي وإيتاخ الخزري، من خلال الدعوة إلى وليمة كبيرة وتقديم السم لهم، ثم يهرب إلى بلاده أشروسنة عبر أرمينية، ويستعين بالخزر والترك لإشعال ثورة كبرى على الخلافة العباسية مستغلين حالة الفوضى التي سيخلقها. كُشفت خطة الأفشين الجريئة على يد أحد قادته من أشروسنة، ويُدعى واجن الأشروسني، الذي خاف على نفسه وقرر كشف المؤامرة للخليفة، حيث تسلل واجن إلى قصر المعتصم في ليلة مشهودة، وأصر على مقابلة الخليفة لأمر عاجل يتعلق بحياته، فأدخله قائد الحرس إيتاخ. اعترف واجن بكل ما كان يدبره الأفشين في حضرة المعتصم. لم يتردد المعتصم لحظة، وفي صباح اليوم التالي، أرسل من يستدعي الأفشين إلى القصر، وما أن دخل حتى قُبض عليه وجُرِّد من سلاحه وحبسه في 4 ذي القعدة سنة 225هـ / 5 سبتمبر 840م، ووُضع في سجن خاص بُني له داخل قصر الجوسق، سُمي لؤلؤة، وهو أشبه بالمنارة، ليظل تحت مراقبة الخليفة المباشرة.[125]

محاكمة الأفشين

[عدل]
الخليفة العبَّاسي المعتصم بالله (رسم من القرن 13/12م)

لم تكن محاكمة الأفشين محاكمة سياسية بتهمة الخيانة العظمى فحسب، بل أخذت طابعًا دينيًا وثقافيًا، مما يشير إلى نية المعتصم تجريده من شرعيته الدينية وتصويره كزنديق ومعادٍ للإسلام لتسهيل إدانته. عُقدت المحاكمة بحضور كبار رجال الدولة، مثل الوزير ابن الزيات وقاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد ووالي بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي، وأُحضر شهود عليه، من أبرزهم مازيار نفسه، وكاهن مجوسي يدعى موبذ، وأحد ملوك الصُّغد يدعى المرزبان بن تركش.[126]

وُجهت للأفشين سلسلة من التهم التي عكست ميوله القومية الفارسية وضعف إسلامه:

  • جلد مؤذن وإمام مسجد: جلد الأفشين مؤذنًا وإمامًا بنيا في مسقط رأسه أشروسنة لأنهم حولا بيت أصنام إلى مسجد، وهذا ينافي الاتفاق مع ملوك الصُّغد بترك كل قوم ودينهم.
  • امتلاك كتاب مقدس للمجوس: وُجد لديه كتاب ديني فارسي مزين بالذهب والجواهر يحتوي على كفر بالله. دافع الأفشين عن نفسه بقوله إنه كتاب أدب ورثه عن أبيه، مثل كتاب كليلة ودمنة، وأنه يستمتع بأدبه فقط ويترك ما فيه من كفر.
  • عدم الاختتان: اتُهم بأنه لم يختتن. فأجاب بخوفه من موته جراء العملية، وأنه استعمل التقية التي يقرها الإسلام في ذلك.
  • أكل المخنوقة: شهد الكاهن المجوسي بأن الأفشين أجبره على أكل لحم الحيوانات المخنوقة ويقول إنها أطرى من المذبوحة، وهي عادة مجوسية، بينما تحرمها الشريعة الإسلامية. وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء يضرب وسطها بالسيف ثم يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال موبذ: «قال لي (الأفشين) يومًا: إني دخلت لهؤلاء القوم (المسلمين) في كل شيء أكرهه حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل ولبست النعل. غير أني إل هذه الغاية لم تسقط عني شعرة (يعني إنه لم يختتن)»
  • ألقاب إلهية: شهد ملك السغد بأن أهل أشروسنة كانوا يخاطبون الأفشين في رسائلهم بلقب "إله الآلهة" بلغتهم المحلية. دافع الأفشين بقوله إن هذا لقب ورثه عن آبائه وملوك المنطقة، وأنه أبقى عليه ليضمن طاعة أهل بلاده له.
  • التحريض على التمرد: أُحضر مازيار للمحاكمة وشهد بمراسلة الأفشين له وتحريضه على الثورة، ووصف العرب والمغاربة والأتراك بأوصاف مهينة وشنيعة. نفى الأفشين ذلك، وقال إنه لو فعل، لكان ذلك خدعة منه لكسب ثقة مازيار والقبض عليه.

كان الأفشين طوال المحاكمة ذكيًا وحاضر البديهة، ورد على التهم بسخرية، حتى وبخ إسحاق بن إبراهيم باتهامه بقبول الألوهية من أهل أشروسنة: «يا أبا الحسين، هذه سورة قرأها عجيف على علي بن هشام، وأنت تقرؤها علي، فانظر غدًا من يقرؤها عليك!».[127] ولعل محاكمة الأفشين العلنية لمنع تسرب النفرة والشك إلى القادة العسكريين لما يشكله الحدث من حساسية عالية لقرب الأفشين سابقًا من المعتصم.[128] ويلخص المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري في مجمل استنتاجه عن الأفشين، قائلًا: «يظهر من محاكمة الأفشين إنه كان شديد الكره للعرب.. وتتضح فارسيته من رسالته إلى المازيار وفيها يعتبر العرب والأتراك أعداءه.. وتدل المحاكمة أيضًا على أن إسلامه كان سطحيًا وإنه كان يتعصب للدين الأبيض (المجوسية) وأنه أراد مجد فارس والقضاء على سلطان الإسلام والعرب.. وأنا أرجح إنه كان يميل للخرمية».[129]

مقتل الأفشين

[عدل]

انتهت المحاكمة بأمر القاضي ابن أبي دؤاد، ووجه القائد بغا الكبير بالقبض على الأفشين، فقال الأخير: «قد كنت أتوقع هذا منكم قبل اليوم». أُعيد الأفشين إلى سجنه لؤلؤة، وتُرك ليموت جوعًا وعطشًا بأمر من المعتصم في شعبان سنة 226هـ / يونيو 841م. أُخرج جسده بعد موته، وصُلب على باب العامة في سامراء ليراه الجميع، ثم أُحرق ورُمي رماده في نهر دجلة، وصودرت ممتلكاته ووجدوا لديه تماثيل وكتب مجوسية. انتهت أسطورة القائد الذي فتح البَذّ، ليصبح عبرة لكل من يفكر في تحدي سلطة الخليفة.[130] يرى المؤرخ العراقي فاروق عمر فوزي أن سقوط الأفشين لم يكن مجرد عقاب على خيانة، بل خطوة استباقية من المعتصم تخوفًا من تعاظم نفوذ قائده، قائلًا: «أما قضية الأفشين، فيبدو لنا بأنها بدايات محاولة القادة الأتراك للتحكم والسيطرة على مقدرات الخلافة العباسية، وهذا ما يؤكده حين يعترف بتظاهره بالإسلام من أجل الوصول إلى الغايات التي يرجوها فيقول: «إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء، أكره حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة»، ولكن قوة الخليفة المعتصم وقابلياته العسكرية وتنافس القادة الأتراك بينهم فوت الفرصة على الأفشين، فلم تنجح محاولته، ولكن حين تغيرت الظروف نجح قادة عسكريون آخرون في الوصول إلى السلطة الفعلية، وهذا ما حدث بعد عهد المتوكل».[123]

ثورة المبرقع في فلسطين

[عدل]
خريطة ولاية الشام العباسية، وتظهر جند الأردن وجند فلسطين التي ثار فيها المبرقع اليماني

في أواخر عهد المعتصم، وحين لزم الأخير فراش المرض من علته الأخيرة، اندلعت في بلاد الأردن وفلسطين ثورة كبيرة سنة 226هـ / 841م، كان لها طابع شخصي وقبلي، وسرعان ما اكتسبت صبغة دينية وسياسية هددت استقرار المنطقة في فلسطين. تولى قيادة الثورة رجل غامض يُدعى أبو حرب، ولُقِّب بـالمُبَرْقَع لوضعه برقعًا على وجهه لإخفاء هويته. تذكر الروايات أن سبب خروجه كان ثأرًا للشرف، بعد اعتداء جندي من جند الخلافة على زوجته (أو أخته) بالضرب وجلدها بسوط في غيابه حين رفضت إدخاله الدار دون وجود زوجها. بعد عودة أبو حرب ورأى أثر السوط على ذراعها، استشاط غضبًا وأخذ سيفه وقتل الجندي، ثم هرب إلى جبال الأردن وأخفى وجهه خلف البرقع. بدأ أبو حرب يدعو الناس إلى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من مخبئه في الجبال، وانتقد سياسة الخليفة، ثم زعم انتسابه لبني أمية. وجدت دعوته صدى واسعًا بين فلاحي المنطقة والقبائل اليمانية الساخطة على الحكم العباسي، فالتفوا حوله وبايعوه على أنه السُّفياني المذكور في بعض أحاديث الملاحم، تمثلت بالشخصية الأسطورية التي يعتقد بعض المسلمين بظهوره في آخر الزمان لإعادة مجد الأمويين. تضخمت حركة المبرقع بسرعة، وانضم إليه زعماء قبليون بارزون مثل ابن بيهس من دمشق، حتى قيل ببلوغ جيشه عشرات الآلاف.[131]

مئذنة الجامع الأبيض في مدينة الرملة الفلسطينية المحتلة، والتي شُيدت في العصر الأموي. (2006)

وصلت أنباء هذه الثورة الخطيرة إلى المعتصم وهو في مرضه الأخير، فوجه لقتال المبرقع أحد قادته المحنكين، وهو رجاء بن أيوب الحضاري، على رأس الجيش العباسي بنحو ألف مقاتل. بعد وصول الحضاري إلى المنطقة، وجد أن جيش المبرقع يفوقه عددًا بشكل هائل، فأدرك بأن المواجهة ستكون انتحارًا. لجأ الحضاري إلى خطة تعتمد على الصبر والدهاء العسكري، فعوضًا عن الاشتباك، عسكر بجيشه مقابل جيش المبرقع، وبدأ في مطاولته وكأنه يخشى مواجهته. كان الحضاري يدرك بأن معظم جيش المبرقع يتكون من الفلاحين، فانتظر بصبر حتى يحين وقت الحراثة والزراعة. وبعد ابتداء الموسم الزراعي، بدأ جيش المبرقع بالتفرق، وعاد الفلاحون إلى أراضيهم، ولم يبق مع المبرقع إلا بضعة آلاف من المقاتلين المخلصين لحركته.[131]

حين رأى الحضاري قلة جيش عدوه إلى حجم يمكن مواجهته، قرر بدء المعركة. وتروي رواية أخرى أن الحضاري هاجم أولاً حلفاء المبرقع في دمشق بقيادة ابن بيهس وهزمهم، ثم توجه لملاقاة المبرقع نفسه في معركة حاسمة قرب الرملة. لاحظ الحضاري أن المبرقع نفسه هو الفارس الوحيد المحترف تقريبًا في جيشه في أرض المعركة، ورآه يندفع بشجاعة وتهور ليثير حماسة أتباعه. أمر الحضاري جنوده بفتح صفوفهم وترك المبرقع يمر في وسطهم، وحين يكر عائدًا يفتحون له الطريق مرة أخرى، في خدعة عسكرية بارعة. فعل المبرقع ذلك مرتين، فشعر بالزهو والغرور وظن أن لا أحد قادر على مواجهته، خصوصًا لما فيها من أثر على أتباعه لإثارة حماسهم. وحين حمل على العباسيين ومر من خلال صفوفهم في المرة الثالثة، أمر الحضاري جنوده بإغلاق الصفوف خلفه، فعزلوه عن جيشه وأحاطوا به من كل جانب، وقبضوا عليه أسيرًا دون عناء كبير. أُرسل المبرقع مع حليفه ابن بيهس مكبلين إلى حاضرة الخلافة سامراء، حيث أمر المعتصم بسجنهما في سجن المطبق، لتنتهي آخر ثورة كبيرة اندلعت في خلافة المعتصم، والذي توفي بعد هذه الحادثة بشهور قليلة، تاركًا وراؤه دولة قوية تمكنت من قمع كل التحديات بحزم وقوة.[131]

ولاية العهد لابنه هارون

[عدل]
دينار ذهبي عباسي سُك في خلافة هارون الواثق بالله (حكم 227 – 232هـ / 842 – 847م)

ظهرت بوادر اهتمام المعتصم لابنه هارون بن المعتصم منذ أواخر خلافة المأمون، إذ كان المأمون يجلس هارون وأبوه المعتصم واقف، ويقول للمعتصم: «يا أبا إسحاق لا تؤدّب هارون فإني أرضى أدبه»، وكانت أحوال هارون وتصرفاته شبيهة بأحوال المأمون وبلاغته وأدبه، فالمأمون ربَّاه وعلمه الأدب والخط وقراءة القرآن بنفسه، حتى عُرف بلقب المأمون الصغير. وبعد تولي المعتصم للخلافة بعدة سنوات، استُخلف هارون بن المعتصم على بغداد في سنة 220هـ / 835م، حين خرج المعتصم إلى القاطول (سامراء لاحقًا) لتشييد موضع آمن حذرًا من فتنة بين أهالي بغداد وجنده الأتراك، وعمر هارون آنذاك 19 عامًا ميلاديَّة.[132] كان البلاط العباسي يترقب الإشارات التي تؤكد هذه المكانة وتعززها، إذ كان هارون المرشح الأول في حاشية المعتصم ليكون وليُّ عهده على غرار عادة الخلفاء في تنصيب أولياء عهد من بعدهم. وتُعد القصة الشهيرة مع الموسيقي إسحاق الموصلي، من أشهر موسيقيي عصره، الذي أقسم يمينًا ألا يغني إلا لخليفة أو لولي عهد معترف به، خير توضيح على مسألة ولاية عهد المعتصم. ففي أحد الأيام الغير معروفة زمنيًا، والتي يقول يرويها إسحاق، قائلًا: «فإن المعتصم بقي مدة في الخلافة لم يعهد إلى أحد من أولاده»، ثم ذكر أن هارون بن المعتصم استدعاء وطلب منه الغناء له، فامتنع الموصلي بأدب، مذكرًا إياه بيمينه. أغضب هذا الرفض هارون، فشكاه إلى أبيه الخليفة. استدعى المعتصم الموصلي وعاتبه قائلاً: «ويلك يا إسحق! بلغ من أمرك أنك تتكبر على هارون؟». شرح الموصلي موقفه بذكاء، وقال: «يا أمير المؤمنين، إني حلفت أني لا أغني إلا لخليفة أو لولي عهد». أدرك المعتصم على الفور المقصد، وبدلًا من إعلانه ولاية العهد بشكل صريح في ذلك المجلس، استخدم دهاؤه السياسي وأعطى إجابة تحمل في طياتها القرار، قائلًا: «امضِ وغنّ له، فلا شيء عليك». كانت هذه الجملة بمثابة إعلان غير رسمي لكنه واضح للجميع، يكون المعتصم أقر ضمنًا بأن هارون هو ولي العهد، وأن الغناء له لا يكسر اليمين. فهم الحاضرون الإشارة على الفور. كان الموصلي يفتخر بأنه أول من بيّن للناس ولاية عهد الواثق من خلال هذا الموقف الذكي الذي كشف عن قرار الخليفة.[133]

وفاته في سامراء

[عدل]

مرضه

[عدل]
صورة حديثة تظهر شخص يتلقى أحد أنواع الحجامة الطبية، والتي تظهر في الروايات السبب الأكبر لعلة الخليفة المعتصم بالله لأشهر قبل وفاته. (2024)

بدأت علة الخليفة المعتصم بالله في يوم الجمعة من أول مُحرَّم سنة 227هـ / 21 أكتوبر 841م، وذلك إثر حجامة (طريقة طبية قديمة لعلاج بعض الأمراض) قام بها. استمر مرضه لعدة أشهر، وفي إحدى فترات إفاقته القصيرة، طلب تجهيز زورق ليركب في نهر دجلة التي تمر بعاصمته سامراء للمرة الأخيرة. يُروى أنه بينما الزورق يمر بمحاذاة قصوره الشاهقة في سامراء، التفت إلى مرافقه زنام الزامِر وطلب منه عزف أبياتًا شعرية تعبر عن حاله:[134]

يا منزلاً لم تبل أطلاله
حاشى لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنني
بكيت عيشي فيك إذ ولى

فشرب المعتصم قدحًا (النبيذ غير المسكر حسب اجتهاد بعض فقهاء العراق مثل أبو حنيفة وأبو يوسف[135][وب 3]) والزامِر يعيد ويكرر الأبيات بغنائه، ثم تناول المعتصم منديلًا بين يديه، وما زال يبكي ويمسح دموعه وينتحب، حتى عاد لمنزله. تدهورت صحة المعتصم بعد ذلك بسرعة، وتذكر الروايات ترديده كلمات في أيامه الأخيرة تعبر عن إحساسه بالنهاية واقتراب أجله، فيقول: «إني أُخذت من بين هذا الخلق»، وقال مرة: «ذهبت الحيل ليست حيلة»، وكأنه يعجب لاختيار الموت له دون غيره. ونُقل عنه ندمه على ما جنى وأحدث في حياته مع قصر عمره، قائلًا: «لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت الذي فعلت».[134]

وفاته

[عدل]
صورة حديثة تظهر جامع الملوية في مدينة سامراء، التي بُنيت في خلافة المتوكل على الله بن المعتصم بالله (حكم 232 – 247هـ / 847 – 861م). (2018)

توفي الخليفة المعتصم بالله ضحى يوم الخميس 18 ربيع الأول 227هـ / 5 يناير 842م، ودُفن في عاصمته التي بناها، سامراء، وتحديدًا في قصر الجوسق. واكتملت بوفاته أسطورة ارتباطه بالرقم ثمانية التي لازمته طوال حياته، فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر هجريَّة / ثماني سنين وأربعة أشهر وسبعة وعشرين يومًا ميلاديَّة. وعمره حين وفاته سبعة وأربعين سنة وسبعة أشهر وثمانية أيام هجريَّة / خمس وأربعين سنة وشهران وثمانية عشر يومًا ميلاديَّة.[136]

رثاه عدد من الشعراء، ومنهم وزيره محمد بن عبد الملك الزيات الذي قال فيه:[134]

قد قلت إذ غيبوك واصطفقت
عليك أيد بالترب والطين
اذهب فنعم الحفيظ كنت على
الدنيا ونعم الظهير للدين
لا جبر الله أمة فقدت
مثلك إلا بمثل هارون

بينما عبّر الشاعر مروان بن أبي الجنوب حفيد الشاعر مروان بن أبي حفصة، عن سرعة تحول ولائه من الخليفة المتوفي إلى الخليفة الحي، ابنه هارون الواثق بالله، فقال:[134]

أبو إسحاق مات ضحى فمتنا
وأمسينا بهارون حيينا
لئن جاء الخميس بما كرهنا
لقد جاء الخميس بما هوينا

النهضة المعتصمية

[عدل]

لم تقتصر إنجازات المعتصم على الميدان العسكري، بل امتدت لتشمل نهضة عمرانية ومعيشية واسعة هو نفسه من المؤمنين بها، وتجلت في أبهى صورها في بناء عاصمة جديدة للخلافة سُميت سُرَّ من رأى أو المعروفة اختصارًا سامراء.[137]

بناء سامراء

[عدل]
خارطة تظهر التقدم العمراني في مدينة سامرَّاء حاضرة الخلافة العبَّاسية (221 – 279هـ / 836 – 892م).

يُعد بناء سامراء ذروة إنجازات المعتصم المعماريَّة، إذ عاشت نصف قرن في قمة مجدها كعاصمة سياسية ومركز حضاري عالمي من بعده. كان قرار بنائها نتيجة حتمية لواحد من أكبر التغييرات التي أحدثها المعتصم في بنية الدولة لاعتماده على الجند الأتراك.

أسباب مغادرة بغداد

[عدل]

بعد استقطاب المعتصم لآلاف الجنود الأتراك وأسكنهم في بغداد، سرعان ما ظهرت ثلاثة أسباب رئيسية جعلت بقاءهم في عاصمة الرشيد أمرًا مستحيلاً:[138]

  1. الصدام الثقافي والاجتماعي: لم يتحمل أهل بغداد، الذين بلغوا ذروة التحضُّر والتمدُّن، طباع الجند الأتراك الذين وُصفوا بالغلظة والجفاف والبداوة، حتى كان الأتراك يركضون بجيادهم في شوارع بغداد المزدحمة بتهور، فيصدمون المارة من النساء والشيوخ والأطفال، مما أدى إلى اشتباكات يومية وسقوط قتلى من الطرفين.
  2. الاكتظاظ السكاني: ضاقت بغداد بالزيادة السكانية المفاجئة، وأصبح موكب الخليفة نفسه يشكل خطرًا على حياة الناس، فقيل إنه إذا ركب يموت جماعة من الصبيان والعميان والضعفاء لازدحام الخيل وضغطها.
  3. التوتر العسكري: شعر الجند القدامى في بغداد من فرق العرب والخراسانية والأبناء بالمرارة والتذمر، وهم يرون هؤلاء الأتراك الجدد يرثون مكانتهم ومناصبهم في الدولة، مما خلق خطرًا حقيقيًا من وقوع تمرد عسكري داخل العاصمة.

كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، هي الحادثة الشهيرة حين اعترض شيخ كبير موكب المعتصم وصاح به: «لا جزاك الله خيرًا عن الجوار! جئتنا بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت نساءنا والله لنقاتلنك بسهام السَّحَر»، ولما سأله المعتصم عن سهام السحر، أجابه الشيخ: «ندعو عليك»، فتأثر المعتصم بشدة وخجل منه، وعزم على الرحيل الفوري عن بغداد.[139] علّق المؤرخ العراقي فاروق عمر فوزي على ضرورة خطوة المعتصم في البحث عن عاصمة جديدة لجنده الجدد، قائلًا: «ومهما عدد المؤرخون من أسباب فإننا نؤكد على سبب واحد لعله العامل المهم الذي جعل أمر الانتقال من بغداد إلى سامراء أمرًا حتميًا ألا وهو التصادم بين كتلتين مسلحتين في العاصمة الأولى (أهل بغداد) والثانية الترك. فإذا كانت المؤسسة العسكرية قد تقبلت الأتراك كعنصر جديد فإن العاصمة نفسها لم تهضمهم أبدًا بسبب الفارق الكبير بين الكتلة القديمة والكتلة الجديدة في الطباع والثقافة والاتجاهات والميول، وهذا الأمر جعل المعتصم يدرك أكثر فأكثر بأن البحث عن مركز عسكري وإداري جديد لا بد منه إذا أريد للسلطة المركزية أن تثبت وتستقر».[140]

اختيار الموقع وبناء العاصمة الجديدة

[عدل]
خريطة تظهر مناطق وسط العراق وأجزاء من الجزيرة الفراتية في القرن التاسع الميلادي، وتظهر فيها مدينة سامراء.

بدأ المعتصم في البحث عن موقع مناسب لتشييد عاصمته العسكرية، وشارك بنفسه في عملية البحث، فنزل في البداية البراذان على أربعة فراسخ (ق. 20 كم) من بغداد، فلم يستطب هوائها، ولم يزل يتنقل ويتقرَّى المواضع إلى دجلة حتى انتهى بموضع يُعرف بالقاطول. كان للقاطول مزايا إستراتيجية وبيئية، فأرضه مرتفعة تحميه من فيضانات دجلة، وموقعه على النهر يسهل حركة التجارة والنقل فسمَّاها سُر من رأى لأنها سرَّته واستطابت له. لم يكن في المكان سوى دير قديم للنصارى من الجرامقة والنبط، فاشتراه منهم المعتصم بأربعة آلاف دينار، ثم بدأت أضخم عملية بناء في ذلك العصر سنة 221هـ / 836م. استجلب المعتصم المهندسين والصناع والعمال من كل أنحاء الخلافة، وجمعوا مواد البناء من الخشب والرخام والزجاج والحجارة. خُططت المدينة لتكون واسعة ومنظمة، فبُني في قلبها المسجد الجامع، وأُنشئت حوله الأسواق الضخمة المقسمة حسب أنواع التجارة، وخُصصت أفضل المواقع لبناء قصور الخليفة (مثل قصر الجوسق الخاقاني) وقادة الدولة والوزراء.[141] وانتقد بعض العيّارين خروج المعتصم من بغداد ببيت شعر:[142]

أيا ساكن القاطُولِ بين الجَرَامِقهْ
تركْت ببغداد الكِباشَ البَطارِقهْ

اهتم المعتصم بانضباط جيشه في العاصمة الجديدة، فقسمهم إلى وحدات تسكن كل منها في ناحية خاصة، وراعى في التقسيم مساكنهم الأصلية وعين قائد لكل وحدة عسكرية.[143]

ازدهار سامراء وإرثها

[عدل]
مئذنة جامع الملوية التي بنيت في خلافة المتوكل على الله (حكم 232 – 247هـ / 847 – 861م).

طبق المعتصم سياسة عزل اجتماعي وعسكري صارمة لتجنب تكرار مشاكل بغداد، فقد خصص منطقة معزولة ومنفردة للجنود الأتراك، ومنعهم من الاختلاط بعامة الناس، ومنعهم من بيع ممتلكاتهم لغيرهم، أو التزاوج من السكان المحليين، بل قام بشراء الجواري لهم ليكونوا مجتمعًا مغلقًا. يرى بعض المؤرخون أن هدف المعتصم من ذلك تأسيس جيش محترف، لا يرتبط بالمجتمع المدني بأي روابط تشغله عن مهمته العسكرية، وتضمن ولاءه المطلق لشخص الخليفة فقط. اتسعت سامراء بسرعة هائلة، وساهم موقعها على النهر في ازدهار تجارتها مع الموصل والجزيرة. لم يكتفِ المعتصم بالجانب الشرقي من النهر، بل مد العمران إلى الجانب الغربي، وحوله إلى منطقة زراعية خصبة مليئة بالبساتين والقصور الريفية، حتى بلغت إيراداتها الزراعية عشرة ملايين درهم في العام.[144] علّق المؤرخ المصري محمد الخضري بك على نهضة سامراء، قائلًا: «وما زال البنيان يتسع حتى صارت مدينة من أعظم الحواضر الإسلامية وكادت تضارع بغداد وأعظم اتساع وحضارة لها كان في عهد المتوكل بن المعتصم».[145] وهو أول خليفةٍ عبَّاسي ينتقل عن مدينة السلام التي بناها جده الثاني المنصور.[146]

منحوتات من قصر الجوسق الخاقاني.

بقيت سامراء حاضرة الخلافة العباسية لنحو 56 عامًا ميلاديَّة فقط (221 – 279هـ / 836 – 892م)، حيث جرت فيها وقائع دامية بدأت بقيام الجند الأتراك بقتل الخليفة المتوكل بن المعتصم سنة 247هـ / 861م، في فترة تاريخية حرجة عرفت بفوضى سامراء استمرت لعشر سنوات، حيث خُلع وقُتل بسامراء أربعة خلفاء آخرهم الخليفة المهتدي بن الواثق سنة 256هـ / 870م. استأنفت سامراء ازدهارها في خلافة المعتمد بن المتوكل (حكم 256 – 279هـ / 870 – 892م)، حتى تركها الخليفة المعتضد بن الأمير الموفق بن المتوكل (حكم 279 – 289هـ / 892 – 902م) نهائيًا وعاد إلى بغداد متخذًا إياها عاصمة الخلافة من جديد، مما أنهى ازدهار سامراء آنذاك حتى قيل بخرابها ووحشتها.[147]

رثى الأمير والشاعر العبَّاسي عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم حال سامراء التي ولد بها، وذلك بعد أفول نجمها ومتحسرًا على أيامها مقارنًا إياها ببغداد، قائلًا: «على أنها (سامراء) وإن جُفيت معشوقة السكنى... كوكبها يقظان، وجوها عريان (نقي)، وحصباؤها جوهر، ونسيمها معطر... لا كبلدتكم (بغداد) الوسخة السماء، الومدة الماء والهواء، جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين».[148] وصف المؤرخ القزويني حال سامراء بعد تركها، قائلًا: «فلم يبق بها إلا كرخ سامرا وموضع المشهد والباقي خراب بباب، يستوحش الناظر إليها، بعد أن لم يكن في الأرض أحسن ولا أجمل ولا أوسع ملكًا منها».[149]

قصور الخلافة في سامراء

[عدل]
صورة حديثة تُظهر ممرًا لقصر من العصر العبَّاسي يقع في بغداد، العراق. (2023)

لم تكن سامراء مجرد مدينة إدارية أو معسكر للجند، بل تحفة معمارية صُممت لتكون واجهة الخلافة، وقلبها النابض هو مجموعة القصور الفخمة التي أمر المعتصم بالله ببنائها لتكون مقرًا له ولرجالات دولته. استعان الخليفة بأمهر المهندسين لاختيار أفضل المواقع وأوكل مهمة الإشراف على البناء لكبار قادته ووزرائه. شكلت ثلاثة قصور رئيسية متجاورة النواة الأساسية لمجمع الخلافة في شمال سامراء، وهي: قصر الجوسق، وقصر الوزيري، وقصر الغمري.[150]

يُعد قصر الجوسق درة تاج سامراء، وأكبر قصور الخلافة وأشهرها، إذ أوكل المعتصم مهمة الإشراف على بنائه لقائده التركي خاقان عرطوج، ولذلك عُرف أحيانًا بالجوسق الخاقاني نُسبةً إليه. عد هذا القصر هو المقر الرسمي لإقامة الخليفة المعتصم ومن بعده عدد من الخلفاء. بدأ العمل في بناء القصر في شهر رجب سنة 221هـ / يوليو 836م، وسار العمل فيه بوتيرة متسارعة حتى اكتمل في زمن قياسي. أقام المعتصم مأدبة غداء عامة للناس في القصر الجديد في أول أيام عيد الفطر من السنة نفسها / 17 سبتمبر 836م، في لفتة للاحتفال بإنجازه. امتاز القصر بمساحته الشاسعة ومرافقه المتعددة، فقد ضم مقصورات خاصة، إحداها كانت مخصصة لإحدى جواري الخليفة، مما يدل على وجود جناح ضخم للحريم. اشتهر القصر بسعة صحنه (فناؤه الأوسط)، الذي قيل إنه اتسع لأربعة آلاف من الجند الأتراك أثناء تمردهم في خلافة المهتدي بالله (حكم 255 – 256هـ / 869 – 870م).[151]

أطلال قصر البركة التاريخي في مدينة سامرَّاء التي بنيت في خلافة جعفر المتوكل على الله (حكم 232–247هـ/847–861م). (2022)

بنى المعتصم إلى جانب الجوسق، قصرين آخرين ليكتمل مجمع الخلافة. أحدهما القصر الوزيري نسبة إلى الوزير الذي أشرف على بنائه، ورغم ندرة المعلومات عنه، إلا أنه ارتبط بأحداث هامة، فقد ذُكر أن القائد الأفشين أُخرج من "باب الوزيري" في دار العامة أثناء محاكمته الشهيرة.[152] أما قصر الغمري، فقد سُمي نسبة للمشرف على بنائه عمر بن فرج الرخجي، واشتهر بأنه كان مسرحًا لحفل زفاف الحسن بن الأفشين من أترجة ابنة القائد أشناس التركي سنة 225هـ / 840م. ويبدو أن هذين القصرين خُصص لكبار رجال الدولة ولإقامة المناسبات الرسمية والاستجمام.[153]

لم تقتصر أعمال البناء على مجمع الخلافة الرئيسي، بل أمر المعتصم ببناء قصور أخرى متفرقة كانت غالبًا مخصصة للنزهة والراحة، فذكر بأنه جعل في كل بستان قصرًا فيه مجالس وبرك وميادين. ومن هذه القصور قصر الحصن الذي شُيد على ضفة نهر الإسحاقي. وانفرد بعض الروايات بذكر قائمة من القصور التي بناها المعتصم، من أبرزها قصر عمورية، والذي من المرجح أن المعتصم بناه تخليدًا لذكرى فتحه العظيم لتلك المدينة، ليكون نصبًا تذكاريًا معماريًا لأكبر انتصاراته العسكرية.[154]

ازدهار الدولة وطيب العيش

[عدل]
صورة حديثة تظهر مدينة سامرَّاء التي بناها الخليفة المعتصم بالله. (2017)

إلى جانب صورته كقائد عسكري شجاع وصاحب بأس شديد، آمن المعتصم بالله بأهمية العمران والتنمية الاقتصادية كأساس لقوة الدولة ورفاهيتها، إذ رأى بأن مشاريع البناء والتطوير تحمل في طياتها خيرًا كبيرًا، مُلخصًا فلسفته بقوله: «إن فيها أمورًا محمودة، فأولها عمران الأرض التي يحيا بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش». انعكست هذه الفلسفة في سياسته الاقتصادية العملية والبراغماتية، والتي تجلت بوضوح في توجيهه الشهير لوزيره محمد بن عبد الملك الزيات: «إذا وجدت موضعًا متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهمًا فلا تؤامرني فيه». ورغم أنه لم يكن منشغلاً بالعلم والفلسفة كأخيه المأمون أو أبيه الرشيد، إلا أن تركيزه المطلق على تقوية الجيش كان مدعومًا بهذه النظرة الثاقبة للتنمية، والتي وفرت لدولته الموارد اللازمة لمشاريعها العسكرية الضخمة، وأدت إلى ازدهار اقتصادي ملحوظ خلال فترة حكمه.[145]

سياسته الداخلية

[عدل]

عسكرة الدولة واستكثار الترك

[عدل]

تعد خلافة المعتصم بالله نقطة تحول حاسمة في تاريخ الدولة العباسية، ليس فقط بانتصاراته العسكرية الكبرى، بل بسياسة جديدة غيّرت التركيبة العسكرية والاجتماعية للخلافة بشكل جذري، وهي سياسة الاعتماد الشامل والممنهج على الجند الأتراك كقوة ضاربة وركيزة أساسية للدولة. ورغم ترسيخ المعتصم لهذا النهج، إلا أن وجود الأتراك في الدولة الإسلامية له جذور تاريخية أقدم بكثير.[155]

الأتراك في العصر الراشدي والأموي والعباسي

[عدل]
خريطة تظهر خاقانية الترك الغربية، والتي تعد أحد المواطن القديمة للشعوب التركية في آسيا الوسطى.

بدأ اتصال المسلمين بالأمم التركية في وقت مبكر، منذ خلافة عثمان بن عفان خلال الفتوحات الأولى في خراسان. انخرط الأتراك في الجيوش الإسلامية في العهد الأموي بأعداد محدودة، وأول من استعان بهم والي خراسان سعيد بن عثمان بن عفان، واستخدمهم الخليفة عبد الملك بن مروان في قمع بعض الفتن الداخلية.[156]

شارك بعض الأتراك في الثورة دعمًا لأبي مسلم الخراساني في سيطرته الناجحة على المشرق الإسلامي من أيدي الأمويين. ومع قيام الخلافة العباسية، بدأ الخلفاء الأوائل في استخدامهم بشكل فردي في البلاط والجيش، ومن أوائل من استخدمهم في بلاطه هو الخليفة أبو جعفر المنصور، ومنهم حماد التركي، الذي أصبح من كبار حراسه وكلفه بمهام إدارية هامة، وكان أصبهبذ طبرستان يدفع جزءًا من الضريبة للمنصور على هيئة غلمان أتراك.[157] استمر هذا النهج مع خلافة كلًا من المهدي والهادي والرشيد، والذي برز في عهد الأخير قادة أتراك مثل أبي سليم فرج الخادم، الذي عمّر مدينة طرسوس، وخادمه الخاص مسرور الخادم.[158]

شهدت خلافة المأمون تصاعدًا ملحوظًا في استجلاب الأتراك، فقد أولى المأمون اهتمامًا خاصًا بشراء الغلمان الأتراك من بلاد ما وراء النهر، مثل سمرقند وأشروسنة، ودفع فيهم أموالاً طائلة، وأنشأ نظامًا لتسجيل أسمائهم وفرض العطاء لهم وتسهيل قدومهم إلى مركز الخلافة.[159] استخدمهم المأمون بفاعلية في صراعه ضد أخيه الأمين، ووصل عدد من استقدمهم إلى حوالي ثلاثة آلاف غلام، وبرز منهم قادة أصبح لهم شأن كبير، مثل طولون، والد أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية (868-905م) تحت التبعية الرمزيَّة للخلافة العباسية لاحقًا، والذي أعجب به المأمون لصلابته الجسدية ورقّاه حتى عينه رئيس حرسه.[159] لم يكن المعتصم أول من استخدم الأتراك، فقد سبقته أجيال من الخلفاء في ذلك، غير أن الفارق الجوهري هو أن استخدامهم قبله محدودًا وانتقائيًا، كأفراد أو وحدات صغيرة ضمن جيش متنوع الأعراق. أما المعتصم، فقد حول هذا الاستخدام المحدود إلى سياسة دولة شاملة، وجعل من الأتراك عنصرًا عسكريًا مهيمنًا، وأسس منهم جيشًا خاصًا به، في خطوة سيكون لها أعمق الأثر على مستقبل الخلافة العباسية.[155]

أسباب ودوافع استكثار الترك

[عدل]
صورة حديثة لرجل من قومية التوفا التركية يرتدي لباسًا توفيًّا تقليديًّا. (2019)

مثلت سياسة المعتصم في الاعتماد على الأتراك قطيعة شبه كاملة مع الأسس التي قامت عليها الخلافة العباسية منذ خلافة المنصور، والتي اعتمدت على خلق توازن دقيق بين العرب والخراسانية. لم يكن قرار المعتصم وليد صدفة، بل نتيجة لمجموعة معقدة من الدوافع الشخصية والسياسية والعسكرية. ولعل أولها الدافع الشخصي العميق لدى المعتصم، فالأخير نفسه ابنٌ لأم تركية، وهي ماردة بنت شبيب، لينشأ متأثرًا بأخواله، معجبًا بصلابتهم الجسدية وبأسهم العسكري، حتى قيل إنه بتشبهه بهم في مشيتهم.[160] هذه الرابطة الدموية والثقافية جعلته يميل إليهم ويرى فيهم انعكاسًا لطباعه الشخصية التي تقدس القوة العسكرية على الثقافة والمعرفة.[161]

فقد المعتصم الثقة بالعنصرين التقليديين اللذين شكلا جيش الخلافة: العرب والخراسانية. أما الفرس الخراسانيون، فقد ساءت العلاقة بهم منذ خلافة أخيه المأمون، وشعر المعتصم بأن ولاءهم أصبح مشوبًا بالطموحات السياسية والقومية، ورأى في تاريخهم المليء بالهيمنة، من أبي مسلم الخراساني إلى البرامكة وآل سهل، خطرًا دائمًا على سلطة الخليفة.[162] وأما العرب، فقد ضعف دورهم كثيرًا بعد هزيمة الأمين، وزاد الطين بلة وقوفهم وميلهم إلى جانب العباس بن المأمون عند توليه الخلافة. رأى المعتصم أن العرب أصبحوا كثيري الثورات والشغب، وفقدوا مقوماتهم العسكرية، فلم يعد يمكن الاعتماد عليهم.[163]

وجد المعتصم ضالته في الأتراك أمام هذا الفراغ، فقد كانوا في نظره العنصر المثالي: جنود أشداء، لا يملكون أي أجندة سياسية أو قومية داخل الدولة، ولاءهم مطلق لشخصه هو الذي جلبهم وأنعم عليهم، وليس للدولة أو لدعوة معينة.[162] اشتهر الأتراك بصفات عسكرية فائقة جعلتهم القوة الضاربة التي يحتاجها المعتصم لمواجهة التمردات الداخلية والخطر الرُّومي الخارجي؛ إذ وُصفوا بالشجاعة والجرأة والإقدام والبراعة الفائقة في الرمي بالسهام من على ظهور الخيل والصبر على قسوة المعارك.[164]

حجم الأتراك وامتيازاتهم

[عدل]
ضابط تركي غربي في القرن السابع الميلادي. (جداريات أفراسياب)

لم تكن سياسة المعتصم مجرد زيادة عددية، بل مشروعًا ضخمًا لبناء جيش جديد، فهو يُعد أول خليفة أدخل الأتراك بشكل رسمي في ديوان الجند ومنحهم رواتب ثابتة. بدأ المعتصم بجمعهم وشرائهم قبل خلافته، فقيل إنه امتلك من ثلاثة إلى أربعة آلاف غلام تركي وهو لا يزال أميرًا.[165] وبعد توليه الخلافة، أطلق حملة استجلاب واسعة النطاق، فبعث الوكلاء إلى سمرقند، وفرغانة، وأشروسنة والصُّغد، والشاش لشراء آلاف الغلمان، ودفع فيهم أموالاً طائلة، وكان واليه على خراسان، عبد الله بن طاهر، يرسل إليه ألفي غلام تركي سنويًا كجزء من خراج الولاية.[166] تضاربت الروايات في العدد النهائي لهذا الجيش، فقيل إن عددهم بلغ سبعين ألفًا، بحسب الشاعر علي بن الجهم في مدحه للمعتصم:[167]

ورافضةٍ تقولُ بشعبِ رَضوى
إمامٌ خاب ذلك من إمامِ
أمامي من له سبعون ألفًا
من الأتراك مسرعة السهامِ

وتذكر روايات أخرى تباهي المعتصم نفسه بأن في جيشه ثمانين ألف دارع.[168] تميز الجند الترك عن سائر بقية الفرق العسكرية في الجيش العباسي بميزات مختلفة، فألبسهم الخليفة أفخر أنواع الديباج والحلي المُذهبة، وجعل لهم زيًا خاصًا بهم، مما خلق طبقة عسكرية أرستقراطية جديدة، منفصلة عن بقية المجتمع.[169] برز قادة أصبحوا هم أعمدة الدولة وأصحاب النفوذ المطلق من هذا الجيش الجديد، واصطنعهم المعتصم ورفع من أقدارهم فوق كل القادة الآخرين، ومن أشهرهم:

  • الأفشين: أمير أشروسنة الذي قاد الحرب على بابك الخرمي.
  • أشناس: الذي بلغ من مكانته أن أمر المعتصم رجل الدولة الكبير الحسن بن سهل بالترجل والمشي أمامه تقديرًا له، وولاه على مصر واليمن.
  • إيتاخ: وكان طباخًا للمعتصم، فرقاه حتى أصبح قائد حرسه وحاجبه، وبلغ من نفوذه أنه كان يمارس سلطته حتى على ولي العهد الواثق.
  • وصيف وبغا الكبير: اللذان أصبحا من كبار القادة العسكريين وتوليا مناصب رفيعة.

أحاط المعتصم نفسه بهؤلاء القادة الجدد، وأبعد العرب والخراسانيين عن دائرة التأثير، وسلم مقاليد القوة العسكرية للعنصر التركي، في خطوة رغم نجاحها في تحقيق أهدافه العسكرية قصيرة المدى، إلا أنها حملت في طياتها بذور ضعف الدولة العباسية المستقبلي.[170] لم يكتف المعتصم بجلب الأتراك ومنحهم الرواتب فحسب، بل ذهب في سياسته إلى حد شراء جواري ليزوجهن من الأتراك ومنع الأتراك من التزاوج والمصاهرة إلى أحد من المولدين حتى ينشأ لهم الولد، فيتزوج التركي والتركية من بعضهما البعض، وأجرى لجواري الأتراك أرزاقًا قائمة وأثبت أسمائهن في الدواوين، ولم يكن أحد من الأتراك يقدر على طلاق امرأته أو مفارقتها.[171]

نتائج سياسة الاعتماد على الأتراك

[عدل]

لم تكن سياسة المعتصم في استكثار الأتراك مجرد تغيير في تركيبة الجيش، بل حدثًا جللًا ألقى بظلاله على مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية في مركز الخلافة، وأدت إلى نتائج حاسمة شكلت مستقبل الدولة العباسية لعقود طويلة، كان أولها وأكثرها مباشرة الصدام الحتمي مع أهل بغداد.

الصدام في بغداد وبناء سامراء
[عدل]
رسم يظهر مقاتل بشكيري، أحد القوميات التركية. (1812)

عانت بغداد حاضرة الخلافة من هذا التغيير الديموغرافي المفاجئ، فالأتراك الذين وصفهم الجاحظ ببدو العجم، لم يعتادوا على حياة المدن المزدحمة، إذ كانوا يركبون خيولهم ويتراكضون في شوارع بغداد وأسواقها بتهور، فيصدمون المارة ويدوسون على الأطفال والشيوخ والنساء، مما أدى إلى حوادث يومية وسقوط قتلى.[172] كان رد فعل أهل بغداد، وخاصة الأبناء عنيفًا، فكانوا إذا رأوا تركيًا صدم امرأة أو شيخًا، يثبون عليه ويقتلونه، وأحيانًا يختطفون بعضهم سرًا ويقتلونهم ثأرًا، فكان المعتصم يرى الواحد من غلمانه خلف الواحد قتيلًا.[173] اشتكى الطرفان إلى المعتصم، لكن المشكلة تفاقمت حتى وصل الأمر بأهل بغداد إلى تهديد الخليفة نفسه، قائلين له: «اخرج عنا وإلا حاربناك». استمر انزعاج الأهالي حتى ركب المعتصم في موكبه يوم عيد، فقام إليه شيخ بغدادي فناداه: «يا أبا إسحاق»، فأراد بعض الجند ضربه، فمنعهم المعتصم وسأل الشيخ عن أمره، فرد الأخير عليه بحدة وقهر، قائلًا: «لا جزاك الله عن الجوار خيرًا، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك، فأسكنتهم بيننا، فأيتمت صبياننا، وأرملت بهم نسواننا، وقتلت رجالنا»، والمعتصم يسمع ذلك حتى انتهى الشيخ من كلامه، فدخل منزله، ولم يُر راكبًا في موكب إلى مثل ذلك اليوم، فخرج، وصلى بالناس العيد، ولم يدخل بغداد، بل سار إلى ناحية القاطول، ولم يرجع إلى بغداد.[174] وأمام هذا الوضع المتفجر، وخوفًا على حياة جنده الأتراك من جهة، ومن تمرد جيش بغداد القديم عليه من جهة أخرى، اتخذ المعتصم قراره التاريخي بالخروج من بغداد وبناء عاصمة جديدة تكون معقلًا له ولجيشه الجديد. عد الصدام في بغداد هو السبب المباشر لميلاد مدينة سامراء سنة 221هـ / 836م.[175]

تذمر العرب ومؤامرة العباس
[عدل]

أدى ولاء الفرقة العربية نحو العباس بن المأمون إلى تقرب المعتصم نحو الأتراك والموالين إليه، وبدأت نار العداوة شيئًا فشيئًا، ولجأ الشعراء إلى الهجاء للتعبير عن سخطهم. بلغ هذا التذمر ذروته في أخطر مؤامرة داخلية واجهها المعتصم طوال فترة حكمه، وهي مؤامرة العباس بن المأمون سنة 223هـ / 838م. تزعم المؤامرة، القائد العربي عجيف بن عنبسة، تعبيرًا عن غضب العنصر العربي الذي رأى انهيار مكانته لصالح الأتراك، فحرض العباس على تنصيبه خليفة وقتل المعتصم وقادته الأتراك، وإعادة الاعتبار للعرب في قيادة الجيش والدولة. كشفت المؤامرة رغم فشلها، عن عمق الشرخ الذي أحدثته سياسة المعتصم العسكرية.[176] أمر المعتصم بإسقاط أسماء العرب من ديوان الجند وقطع أعطياتهم بسبب مؤامرة العباس ابن أخيه وشكه في ولائهم، ثم اعتمد بصورة كبيرة على الأتراك وبصورة أخف على المغاربة (وهم من أهل حوف مصر واليمن وقيس) والخراسانية (أهل خراسان من عرب وفرس وغيرهم).[177]

ندم المعتصم من آثار سياسته

[عدل]
صورة حديثة لنساء ترك يرتدين لباسهن التقليدي ضمن احتفال عيد النوروز، في مدينة ماري، تركمانستان. (2017)

نجح المعتصم بقوته وحزمه في السيطرة على جيشه الجديد، إلا أنه أدرك في أواخر أيامه حجم الخطأ الإستراتيجي الذي ارتكبه، ففي حوار صريح ونادر مع واليه المخلص إسحاق بن إبراهيم الخزاعي، تحسر المعتصم قائلاً إن أخاه المأمون اصطنع رجالاً أنجبوا مثل آل طاهر، بينما هو اصطنع رجالاً لم يفلحوا (مثل الأفشين وأشناس). فأجابه إسحاق بجوابه الشهير: «نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها، فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعًا لم تنجب إذ لا أصول لها». تأثر المعتصم بشدة لهذا الجواب، حتى قال: «لمقاساة ما مر بي طول هذه المدة أيسر عليَّ من هذا الجواب».[178] غير أن المعتصم وجه للأتراك ضربة من خلال قضائه على الأفشين بحسب أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة القاهرة، حسن أحمد محمود، قائلًا: «ولقد أحس المعتصم بخطورة مطامع الأتراك، وبدأ يدرك أن التوازن بين سلطة الخلافة وهذا العنصر الجديد بدأ يختل مما ينذر بخطر ضياع هيبة الخلافة وفعاليتها، ولهذا وجه إلى الأتراك ضربة شبيهة بالضربة التي وجهها أبو جعفر المنصور للخراسانيين بقتل أبي مسلم، فبطش المعتصم بالأفشين ليكون عبرة لغيره، وليوقف تيار هذا الطموح».[179]

رسم لجنود أتراك من كتاب مقامات الحريري. (القرن 13م)

انتقد العديد من المؤرخين سياسة المعتصم في تتريك الجيش العباسي، ومنهم الجنرال والمؤرخ البريطاني جون جلوب آثار سياسة المعتصم، قائلًا: «وجلب المعتصم إلى قلعة الإمبراطورية جيشًا كاملًا من الأجانب كان كثير منهم لا يتكلم العربية وكانوا إلى حد ما مسلمين.. وإلى يومنا هذا لم يتعاف العرب من الكوارث التي تلت ذلك».[180] لم يكن المؤرخين في أحكامهم واحدة حول المعتصم، إذ شرح المؤرخ المصري محمد إلهامي أبعاد تتريك الجيش من زوايا عديدة، تمثلت في ذكر المخاطر التي تحيط بالدولة، قائلًا: «لقد كان الوضع أم المعتصم كالآتي: ثورة بابك في أذربيجان تستفحل ولا يكاد ينفع معها قائدٌ فارسٌ ولا جيشٌ باسلٌ... كذلك ثورة الزط في البصرة وما حولها لا تزال قائمة ولئن استمرت فإن بغداد ستدخل في حالة ركود تجاري وأزمة اقتصادية مؤثرة.. هذا على مستوى الاضطرابات». وذكر أهمية دور الأتراك وحفاظهم على الخلافة رغم الانتقادات، قائلًا: «فعلى المستوى العسكري: أنقذوا الدولة العباسية عسكريًا، وحافظوا على بقائها، وحاربوا الثورات التي اشتعلت في الشرق والغرب والشمال والجنوب وأخدموها، وبهم ظلت الخلافة العباسية كيانا يحتفظ بالقوة والصلابة والوجود... ولربما لو أن المعتصم لم يهتد لاستخدام الجند الأتراك لكانت الخلافة العباسية نسخة أخرى من الخلافة الأموية التي ما أكملت المائة عام حتى انهارت بعد أن أنهكتها الثورات وحركات التمرد.. لقد أعطى الأتراك دولة العباسيين مائة عام على الأقل من الحياة!».[181]

عزى المؤرخ العراقي فاروق عمر فوزي اضطرار المعتصم لاستجلاب الأتراك والاعتماد عليهم لانشغال قبائل العراق وخراسان في حياة الحضارة والرفاهية ما جعلهم يبدلون أسلوب معيشتهم، فمالوا إلى الزراعة والتجارة وولعوا بالثقافة، بعكس الأتراك كانوا بدو متنقلين، وطبيعتهم لم تميل إلى الحضارة وتقاليدها بقدر ميلهم للحرب والقتال، وهذا ما يفضله المعتصم. وذكر فوزي أهمية الخطوات التي قام بها المعتصم ومن قبل سلفه المأمون، قائلًا: «وأخيرًا وليس آخرًا فإن عملية دخول المماليك الأتراك إلى المؤسسة العسكرية والمؤسسة الإدارية العباسية بصورة فعالة في عهد المعتصم يرتبط كذلك بالتدابير النشطة التي اتخذها المأمون وبعده المعتصم لإحكام السيطرة على بلاد ما وراء النهر والأقاليم المجاورة لها والعمل على نشر الإسلام فيها بهمة ونشاط».[182]

فصّل المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري وضع الدولة وضرورات الواقع والأزمات المتلاحقة أمام المعتصم، قائلًا: «فقد وجد المعتصم نفسه في وضع حرج، فقد خيب المأمون أمل الخراسانيين من جديد بنكبته لبني سهل وبتركه لمرو ورجوعه إلى بغداد، وكان العرب في وضع متضعضع بعد مقتل الأمين، وزاد الطين بلة التفاف قسم كبير من الخراسانيين وجندهم حول العباس بن المأمون ضد المعتصم.. وكانت الدولة مهددة بثورة بابك المستفحلة، وبخطر البيزنطيين على الحدود، وبتذمر أهل الشام ومصر، فكان المعتصم بحاجة إلى عنصر عسكري جديد يسند سلطانه، فالتجأ إلى عنصر بدأ يتوارد كرقيق إلى البلاد الإسلامية قبله، كما أخذ الإسلام ينتشر في بلاده بصورة بطيئة وذلك هو عنصر الترك»، وبين الفرق بين الفرس والأتراك وتأثيرهم على الدولة العباسية، قائلًا: «فقد كان الفرس أمة متحضرة لها أنظمة وتقاليد ساعدت على تقدم العباسيين في الحضارة، بينما كان الأتراك خلوًا في ذلك، فيسميهم الجاحظ "ببدو العجم" ويبين أنهم لا يميلون للزراعة أو الصناعة أو الثقافة.. كما أن تسلطهم على الخلافة كان ضربة لمؤسساتها ولهيبتها فيما بعد. ويجب ملاحظة فرق آخر هام وهو أن تعاون الفرس مع العباسيين كان نتيجة لدعاية طويلة كان الترك بعيدين عن تأثيرها، فلم يكن يربطهم بالخلفاء ولاء روحي أو تفاهم عقلي»، وشدد على أن آثار تقريب الأتراك لم تظهر آثارها بوضوح في خلافة المعتصم، وزاد قائلًا: «ومع ذلك فقد شعر الخليفة بشيء من الخيبة في مشروعه».[183] غير أن الدوري أكد بسوء نتائج تتريك الجيش على المدى البعيد، قائلًا: «وكانت خطوة المعتصم هذه بعيدة المدى بنتائجها، فالترك آنئذٍ شعب بدوي ميزته الوحيدة شجاعته العسكرية، فهو لا يفهم الأسس المعنوية للدولة العباسية، ولا خبرة له بالإدارة، ومجرد من كل ثقافة.. فلا غرابة إن كان تقديم الترك عاملًا مهمًا في زعزعة قواعد الخلافة العباسية».[184]

خريطة تظهر حدود الدولة العباسية في خلافة جعفر المقتدر بالله (حكم 295 – 320هـ / 908 – 932م)، وتظهر تقلص نفوذها ومساحتها لصالح دول عديدة، بعضها بايعت الخليفة محتفظة بحكمها الذاتي.

توفي المعتصم في سنة 217هـ / 842م، ليرث خلفاؤه من بعده جيشًا كبيرًا وقويًا يصعب التحكم فيه، وأول وارثيه خلفه وابنه الواثق بالله (حكم 227 – 232هـ / 842 – 847م) الذين ازداد نفوذهم في خلافته بدعم منه، ثم سرعان ما تحولوا إلى صناع للخلفاء حين بايعوا المتوكل بن المعتصم (حكم 232 – 247هـ / 847 – 861م) والذي حاول تقليص نفوذهم وتحجيمهم، غير أنهم فطنوا لأمره وقتلوه لتدخل الخلافة في عصر من الفوضى وهيمنة الجند لعشرة أعوام، إذ عزلوا وقتلوا أربعة خلفاء آخرهم الخليفة الزاهد المهتدي بن الواثق (حكم 255 – 256هـ / 869 – 870م)، حتى تخلصت الدولة من رؤوس المتآمرين الترك على الخلفاء في خلافة المعتمد بن المتوكل (حكم 256 – 279هـ / 870 – 892م) وأخيه قائد الجيش العباسي الموفق بن المتوكل، في نهاية لفترةٍ تاريخية صعبة تشابهت مع سيطرة الحرس البريتوري على الأباطرة في روما. ورغم تعافي الدولة من تسلط الجند الترك وتحقيقها ازدهارًا وقوة في خلافة كلًا من: المعتضد بن الموفق (حكم 279 – 289هـ / 892 – 902م)، ثم المكتفي بن المعتضد (حكم 289 – 295هـ / 902 – 908م)، غير أنها ضعفت لاحقًا في خلافة المقتدر بن المعتضد (حكم 295 – 320هـ / 908 – 932م) لصغر سنه وتحكم والدته السيدة شغب، ثم خُلع وقُتل على يد الجيش من قبل المغاربة والبربر بقيادة مؤنس الخادم، لتتدهور أحوال الخلافة سريعًا في خلافة كلًا من: القاهر بن المعتضد (حكم 320 – 322هـ/ 932 – 934م) والذي قُتل أيضًا، ثم الراضي بن المقتدر (حكم 322 – 329هـ / 934 – 940م) وتوفي لمرضه، ثم المتقي بن المقتدر (حكم 329 – 333هـ / 940 – 944م) الذين جاء البويهيُّون الفرس إلى بغداد في خلافته وسيطروا على مقاليد الحكم والدولة مع بقاء رمزية الخليفة العباسي لنحو مئة عام. ثم جاء السلاجقة الأتراك وسيطروا على مقاليد الحكم لنحو مئة عام. استقل الخليفة المقتفي لأمر الله (حكم 530 – 555هـ / 1136 – 1160م) بالعراق من السلاجقة وبقيت الخلافة العبَّاسية فعليًا حتى سقوط بغداد الدامي سنة 656هـ / 1258م، ثم استأنفت الخلافة العباسية رمزيًا في القاهرة بدعم وحكم فعلي من المماليك الترك حتى نهايتها سنة 923هـ / 1517م على يد العثمانيين الترك.[185]

فرق الجيش الأخرى

[عدل]

رغم أن الأتراك شكلوا نسبة كبيرة من جيشه وباتوا العماد الأساسي للعسكر، في حين حجّم بقية الفرق.كوّن المعتصم فرقة من المصريين أسماهم المغاربة، وهم من حوف مصر، وحوف اليمن، وحوف قيس.أبقى المعتصم على الفرقة الخراسانية رغم التفاف العديد منهم نحو العباس بن المأمون، والتي تشكلت أساسًا من الفرس والعرب المستوطنين في خراسان ومن أهل قم وأصبهان وقزوين والجبال وأذربيجان. ويقال بوجود فرقة من الخزر. تظهر جماعات المتطوعة التي تنضم إلى الجيش العباسي من أنحاء ديار الإسلام مدفوعة بالدرجة الأولى بدافع الحماس الديني وراغبة في الثواب، رغم أنهم لم يكونوا جندًا نظاميًا.[186]

الوزارة

[عدل]
رسمةٌ لوزير مُسلم بريشة كريستيان فيلهلم كيندلبن. (1783)

عكس اختيار المعتصم لوزرائه طبيعة حكمه التي كانت في طور التكوين، فقد بدأ برجال بسطاء يدينون له بالولاء الشخصي، ثم انتقل تدريجيًا إلى الاعتماد على رجال الدولة المحنكين الذين يمتلكون الأدوات الفكرية والإدارية اللازمة لإدارة إمبراطورية مترامية الأطراف، حتى وإن كان ذلك على حساب الشعبية والأخلاق أحيانًا. تولى الوزارة في عهده ثلاثة رجال متبايني الأحوال.

الفضل بن مروان

[عدل]

أول وزراء المعتصم هو الفضل بن مروان، كاتبه الخاص ومقرب منه قبل توليه الخلافة. وصفته المصادر بأنه رجلاً من عامة الناس، يفتقر إلى العلم والمعرفة بآداب السياسة وإدارة الدولة، وكان سيء السيرة. عكس شعراء العصر هذا الرأي فيه، فقال أحدهم ساخرًا من اسمه "الفضل" الذي حمله قبله وزراء كبار (من أمثال الفضل البرمكي من وزراء الرشيد، الفضل بن الربيع وزير الأمين، والفضل بن سهل وزير المأمون):[187]

تَفَرَّعَنْتَ يا فضلَ بنَ مروانَ فاعْتَبِرْ
فَقَبْلَكَ كانَ الفضلُ والفضلُ والفضلُ
ثلاثةُ أملاكٍ مَضَوْا لسَبيلِهِمْ
أبادَهُمُ التقييدُ والأسرُ والقتلُ

تمكن ابن مروان في بداية وزارته وحظي بمكانة رفيعة أثارت حسد الكثيرين، لكن جهله بأمور الدولة وسوء إدارته سرعان ما أدى إلى سقوطه، فقد نكبه المعتصم بعد فترة، وصادر جميع أمواله وثروته، لكنه عفا عن قتله. وعاش الفضل بن مروان بعد ذلك متقلبًا في وظائف صغيرة حتى وفاته في خلافة المستعين بالله (حكم 248 – 252هـ / 862 – 866م).[187]

أحمد بن عمار

[عدل]

لم يجد المعتصم بعد عزل الفضل بن مروان شخصًا يثق به سوى رجل كان ابن مروان نفسه وصفه له بالأمانة، وهو أحمد بن عمار بن شاذي. وهو رجل ثري من أهل البصرة، بدأ حياته طحانًا ثم انتقل إلى بغداد واتسعت تجارته، وعُرف بكرمه الشديد حتى قيل إنه يتصدق كل يوم بمئة دينار. ورغم أمانته وثروته، إلا أنه كان مثل سلفه، يجهل آداب الوزارة وقواعدها، مما جعله أيضًا مادة لسخرية أحد الشعراء، الذي قال فيه:[187]

سبحانَ ربِّ الخالقِ البارئِ
صِرْتَ وزيرًا يا ابنَ عمَّارِ
وكنتَ طحَّانًا على بَغْلَةٍ
بغيرِ دُكَّانٍ ولا دَارِ

كشفت حادثة بسيطة عن عمق جهله لتكون نهاية وزارة ابن عمار، إذ ورد كتاب من أحد العمال يصف فيه "كثرة الكلأ" في ناحيته، فسأل المعتصم وزيره عن معنى "الكلأ"، فلم يعرف ابن عمار الإجابة. فاستدعى الخليفة أحد كُتّابه النبغاء، وهو محمد بن عبد الملك الزيات، وطرح عليه نفس السؤال، فأجاب الزيات على الفور بتفصيل لغوي دقيق: «أول النبات يسمى بقلًا، فإذا طال قليلًا فهو الكلأ، فإذا يبس وجف فهو الحشيش». أُعجب المعتصم بفطنة الزيات وعلمه، وقرر صرف ابن عمار من الوزارة صرفًا جميلاً وعينه مشرفًا على الدواوين، ثم استوزر ابن الزيات مكانه.[188]

محمد بن عبد الملك الزيات

[عدل]
رسمٌ لشارعٍ في بغداد، العاصمة الأساسية للخلافة العباسية معظم تاريخها.

عد محمد بن عبد الملك الزيات نقيضًا تامًا لأسلافه، فقد نشأ ابنًا لتاجر ثري، وتلقى أفضل تعليم في عصره، وبرع في الكتابة والشعر والأدب، وامتلك ذكاءً حادًا وفهمًا عميقًا لقواعد الحكم وآداب الملوك. حين استوزره المعتصم، نهض بأعباء الوزارة بكفاءة منقطعة النظير لم يسبقه إليها أحد من معاصريه. لكن خلف هذه الكفاءة، كان ابن الزيات يخفي شخصية قاسية وجبارة، فقد وُصف بأنه كان جبارًا متكبرًا فظًا غليظ القلب، خشن الجانب، مبغضًا إلى الخلق. اصطدم ابن الزيات مع ولي العهد، هارون بن المعتصم، حين منعه من تسلم أموال كان أبوه المعتصم خصصها له، بل وأقنع الخليفة بالتراجع عن أمره. فامتلأ قلب الواثق حقدًا عليه، وكتب عهدًا على نفسه بخط يده أقسم فيه بأغلظ الأيمان أنه إن تولى الخلافة ليقتلن ابن الزيات شر قتلة.[188] ظل ابن الزيات وزيرًا للمعتصم حتى وفاته، ورثاه بقصيدة شهيرة مدح فيها أيضًا الخليفة الجديد الواثق، قائلاً:

اذهَبْ فَنِعْمَ المعين أنت على
الدُّنيا ونِعْمَ المعين للدِّينِ
لا يجبر اللهُ أُمَّةً فَقَدَتْ
مِثْلَكَ إلا بِمِثْلِ هارونِ

وعندما توفي المعتصم وجلس الواثق (حكم 227 – 232هـ / 842 – 847م) على كرسي الخلافة، كان أول ما فكر فيه هو الانتقام من ابن الزيات تنفيذًا ليمينه، لكنه حين اختبر كُتاب الدواوين ليجد من يحل محله، لم يجد فيهم من يملك كفاءته. فأمر بإحضار ابن الزيات، وناوله الكتاب الذي كتبه بيده، وقال له: «اقرأ». فلما قرأه الوزير وفهم مصيره، قال ببرود أعصاب: «يا أمير المؤمنين، أنا عبدك، إن عاقبت فأنت الحاكم، وإن كفرت عن يمينك واستبقيتني كان ذلك أشبه بكرمك». فأجابه الواثق: «والله ما أبقيت عليك إلا خوفًا من خلو الدولة من مثلك. سأكفر عن يميني، فإني أجد عن المال عوضًا، ولا أجد عن مثلك عوضًا». كفر الواثق عن يمينه وأبقاه وزيرًا له طوال فترة خلافته. لكن مصيره المحتوم لم يتأخر كثيرًا، فبعد وفاة الواثق وتولي المتوكل على الله (حكم 232 – 247هـ / 847 – 861م) الخلافة، قُبض عليه وقُتل.[189]

القضاء

[عدل]

أحمد بن أبي دؤاد

[عدل]
إمام وخطيب يوم الجمعة من على المنبر يعظ المُصلِّين ويختمها بالدُّعاء للخليفة العبَّاسي، كجزء من ثقافة العصر العبَّاسي. الرَّسمة من كتاب مقامات الحريري. (635هـ / 1237م)

لم يكن قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد الإيادي وزيرًا للمعتصم، غير أن مكانته لديه فاقت كل الوزراء، حتى قيل إن منزلته من المعتصم بمنزلة يحيى بن أكثم من المأمون. نشأ ابن أبي دؤاد (ولد سنة 160هـ / 776م) في البصرة وتأثر بفكر المعتزلة، ثم برز في بغداد حتى اختاره المأمون ليكون ضمن حلقة مستشاريه الفقهاء. أعجب المأمون بذكائه وفصاحته، وأوصى به أخاه المعتصم في وصيته قائلاً: «وأبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد لا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع لذلك منك».[190]

نفذ المعتصم الوصية بعد توليه الخلافة، فولى ابن أبي دؤاد منصب قاضي القضاة، وجعله مستشاره الأول وصاحب الكلمة العليا في الدولة، حتى قال أوزن بن إسماعيل: «ما رأيت أحدًا قط أطوع لأحد من المعتصم لابن أبي دؤاد». كان الخليفة يسترشد برأيه في كل صغيرة وكبيرة، من تعيين الولاة إلى حفر الأنهار في أقاصي خراسان، ومن شؤون الثغور إلى أمور الحرمين.[190] سار ابن أبي دؤاد في الفقه على مذاهب البصريين وتحديدًا طريقة الحسن البصري، وعبيد الله بن الحسن العنبري، وعثمان البتّيّ وغيرهم.[191] عُرف ابن أبي دؤاد بشخصيته القوية، وله شرف نفس وأخلاق عربية ومروءة، فقد كان له دور كبير في تعديل مزاج الخليفة الذي وُصف بالشجاعة والغضب أحيانًا، فكان ابن أبي دؤاد يهدئ من غضبه ويرشده إلى التريث والعفو. وتجلت هذه المكانة في مواقف كثيرة، أشهرها قصته مع القائد الأفشين الذي قبض على القائد أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي وهمّ بقتله، وحين بلغ الخبر ابن أبي دؤاد، أدرك أن طلب الإذن من المعتصم يأخذ وقتًا ينتهي بمقتل أبو دلف، فركب بنفسه ومعه شهود إلى مجلس الأفشين وقال له: «إني رسول أمير المؤمنين إليك، وقد أمرك ألا تحدث في القاسم بن عيسى حدثًا حتى تسلمه إلي». ثم أشهد الحاضرين على أنه بلغ الرسالة. وبهذه الجرأة أنقذ حياة أبي دلف، ثم ذهب للمعتصم وأخبره بما فعل، فصوّب الخليفة فعله وأقر قراره ثم أمر بإطلاقه ووصله حتى عنف الأفشين على ما كان عزم عليه.[192]

كان لابن أبي دؤاد عصبية عربية واضحة، ويُعتقد أن وجوده في هذا الموقع الحساس حفظ للعرب مكانتهم في دولة بدأ النفوذ التركي يتعاظم فيها بشكل كبير. ويتضح ذلك في استخدام شفاعته ومكانته بذكاء لإنقاذ القائد العربي خالد بن يزيد الشيباني الذي غضب عليه المعتصم وأمر بمعاقبته، إذ جلس ابن أبي دؤاد في مجلس الخليفة في مكان أدنى من مكانه المعتاد، فلما سأله المعتصم عن السبب، أجاب «لأن الناس يزعمون أنه ليس موضعي موضع من يُشفع في رجل فيُشفع»، حتى أجابه المعتصم على أن يعود لمكانته وله حق الشفاعة. لم يكتفِ ابن أبي دؤاد بالتشفع للشيباني، بل طلب له الخلع والعطايا، فخرج خالد مُكرَّمًا بعد أن جاء مُعاقبًا، فصاح رجل في الناس مهنئًا الشيباني على نجاته: «الحمد لله على خلاصك يا سيد العرب»، فزجره الشيباني، قائلًا: «اسكت، سيد العرب والله أحمد بن دؤاد».[192]

الخراج

[عدل]

امتاز عهد الخليفة المأمون بوجود ثبت (سجل) مالي دقيق لإيرادات الدولة من الخراج، وحافظ المعتصم بالله على هذا السجل ومقدار الجباية فيه دون تغييرات كبيرة، مما يعكس الاستقرار الإداري والاقتصادي الذي ساد فترة حكمه. يوضح الجدول التالي تفاصيل إيرادات الخلافة السنوية من مختلف الولايات في عهده، مقسمة بين الإيرادات بالدرهم الفضي والدينار الذهبي.[193]

إيرادات الخلافة السنوية في خلافة المعتصم
الولاية / الجهة مقدار الجباية
الإيرادات بالدرهم الفضي
سواد العراق 114,567,650 درهمًا
الأهواز 23,000,000 درهم
فارس 24,000,000 درهم
كرمان 6,000,000 درهم
مكران 1,000,000 درهم
سجستان 1,000,000 درهم
خراسان 37,000,000 درهم
أصبهان 10,500,000 درهم
حلوان 9,000,000 درهم
الماهين 9,800,000 درهم
همذان 1,700,000 درهم
ماسبذان 1,200,000 درهم
مهرجانقذق 1,100,000 درهم
الأيغارين 3,100,000 درهم
قم وقاشان 3,500,000 درهم
أذربيجان 4,000,000 درهم
الري ودماوند 20,800,000 درهم
قزوين وزنجان وأبهر 1,828,000 درهم
قومس 1,150,000 درهم
جرجان 4,000,000 درهم
طبرستان 4,280,700 درهم
تكريت والطبرهان 900,000 درهم
شهرزور والصامغان 2,750,000 درهم
الموصل وما إليها 6,000,000 درهم
قردي وبازبدي 3,300,000 درهم
ديار ربيعة 9,625,000 درهم
أرزن وميافارقين 4,200,000 درهم
آمد 1,000,000 درهم
ديار مضر 20,200,000 درهم
أعمال طريق الفرات 6,000,000 درهم
المجموع بالدرهم 314,271,350 درهمًا
الإيرادات بالدينار الذهبي
قنسرين والعواصم 360,000 دينار
جند حمص 218,000 دينار
جند دمشق 110,000 دينار
جند الأردن 109,000 دينار
جند فلسطين 295,000 دينار
مصر والإسكندرية 2,500,000 دينار
الحرمين 100,000 دينار
اليمن 600,000 دينار
اليمامة والبحرين 510,000 دينار
عمان 300,000 دينار
المجموع بالدينار 5,102,000 دينار

أسرته

[عدل]

إخوته

[عدل]
رسمٌ من حكايات ألف ليلة وليلة، ويظهر فيها الخليفة هارون الرَّشيد والد المعتصم بالله. بريشة ليون كاريه (1926)

المعتصم بالله هو ثالث أبناء هارون الرشيد، وله أحد عشر أخًا، واثنتا عشرة أُختًا من أُمَّهات أُخريات باستثناء شقيقته أم حبيب، وهم:[194]

الذكور:

الإناث:

  • أم حبيب، وأمها ماردة التركية
  • سكينة، وأمها قصف
  • أروى، وأمها حلوب
  • حمدونة
  • فاطمة، وأمها غصص
  • خديجة، وأمها شجر
  • ريطة، وأمها زينة
  • أم أبيها، وأمها سكر
  • أم سلمة، وأمها رحيق
  • أم القاسم، وأمها خزق
  • أم علي، وأمها أنيق
  • أم الغالية، وأمها سمندل
  • جواريه

    [عدل]
    رسمٌ لمحظية مُتزينة، بريشة غوستاف ريختر. (القرن 19م)

    حظي المعتصم بالله بعدد من الجواري والمحظيات اللاتي اشتهر بعضهن بأدبهن ومواهبهن ونلن مكانة خاصة لديه. من أبرزهن جاريته الرُّومية الأصل، قراطيس، التي أنجبت له ابنه ووريثه هارون، وتوفيت في خلافة ابنهما هارون سنة 230هـ / 844م.[195] ومن الجواري الأديبات، جاريته التركية قرة العين المعتصمية، التي اشتراها بعشرة آلاف درهم، وعُرفت كأديبة ماهرة في رواية القصص وإلقاء الشعر، ونالت مكانة رفيعة في قلبه، حتى توفيت لديه في سنة 222هـ / 836م، فجزع عليها المعتصم جزعًا شديدًا.[196] ومن جواريه أيضًا، سكنة التركية، التي أهداها له الشاعر محمود بن الحسن الوراق، وهي شاعرة ومغنية وعازفة موهوبة، وأصبحت من محظياته. أما قيمُ الهاشمية، فمن مُوَلَّدات البصرة، وكانت متزوجة سابقًا ولها أولاد ثم اشتراها المعتصم من سيدها مقابل ثلاثين ألف درهم لجمالها وأدبها، وتحظى لديه.[197]

    ذريته

    [عدل]

    خلَّف المعتصم بالله سبعة عشر ولدًا، تسعة ذكور، وثماني إناث، بحسَب العديد من المؤرِّخين، عُرف منهم:[198]

    وذكر المؤرخ الدمشقي شمس الدين الذهبي أن عدد بناته بلغ عشرًا، وذكر أسمائهن:[199]

    • فاطمة
    • عائشة
    • أم العباس
    • أم الفضل
    • أم القاسم
    • أم موسى
    • أم عيسى
    • أم عبد الله
    • أم محمد
    • أم أبيها

    يُعَد المعتصم بالله الجدَّ الثانيَ - بعد أبي جعفر المنصور - الجامعَ للخلفاء العبَّاسيين من بعده، واستمرَّت الخلافة في نسله حتى المتوكل على الله الثالث، الخليفة العباسي الأخير في القاهرة (حكم: حِقْبة أولى 1508- 1516، ثم في سنة 923هـ/ 1517م) وانتهت خلافته إثر زوال الدولة المملوكية في مصر التي احتضنت الخلفاء العباسيين منذ سقوط بغداد 656هـ/ 1258 حتى مجيء العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول (حكم 1512- 1520م) وسيطرتهم على مصر.[200]

    صفاته

    [عدل]

    صفته الخلقية

    [عدل]

    وُصف المعتصم ببياض البشرة مُشرّبًا بالحمرة، لديه لحية صهباء طويلة مربوعة لم تشب حتى وفاته، مربوع القامة، حسن الجسم، عريض الصدر، شديد البدن، وحسن العينين.[201]

    صفته الجسدية

    [عدل]
    تخطيط للقب الخليفة المعتصم بالله باللون الأسود.

    ضُربت الأمثال بقُوة المعتصم الجسديَّة، فذكر العديد من المؤرخون شدة بأسه إلى درجة إخراجه ساعده (أي ذراعه) يومًا إلى قاضي القضاة ونديمه أحمد بن أبي دؤاد، قائلًا له: «عضَّه بأكبر قوَّتك»، فيجيب ابن أبي دؤاد: «ما تطيبُ نفسي»، فأصر المعتصم عليه، فيقدم على ذلك ويقول ابن أبي دؤاد: «فأرومُ ذلك فإذا هو لا تعملُ فيه الأسنَّةُ فضلًا عن الأسنان».[202] وقيل أن المعتصم في خلافة أخيه المأمون، وبعد انصرافه من دار أخيه، سار في شارع ميدانه منتظمًا بالخيم وفيها الكثير من الجند، فإذا امرأة تبكي وتقول: «ابني ابني»، فاستفسر المعتصم عن السبب فعلم أن جندي قد أخذ ولدها، فأمر المعتصم بإحضاره وأمر برد ابنها إليه، فرفض الجندي، فغضب المعتصم ودنا منه ثم قبض عليه بيديه، حتى سُمع صوت عظام الجندي، ثم تركه ليخر الجندي قتيلًا، وأُخرج الصبي إلى أمه.[203] 

    ومن أخبار قوته الجسدية أنه رفع بابًا من حديد فيه سبعمائة وخمسون رطلًا (ق. 340 كغ) وفوقه عِكام (أكياس أو أحمال) فيه مئتان وخمسون رطلًا (ق. 115 كغ)، وخطا به خُطا كثيرة. وسُمي ما بين إصبعي المعتصم المِقطرة (وهي خشبة فيها خروق على قدر سعة رجل المحبوسين) لشدته.[204] وذكر المؤرخ الأربلي مدى بأسه، قائلًا: «قيل أنه لم يكن في بني العباس قلبهُ أشجع منهُ ولا أتم تيقظًا في الحرب ولا أشدُّ قوةً. قيل أنه اعتمد باصبعه السبَّابة والوسطى على ساعد إنسان فدقَّهُ وكان يلوي العمود الحديد حتى يصير طوقًا ويشد على الدينار باصبعه فيمحو كتابتهُ وكانت همتهُ في حروبه مناسبة لحيلتِه».[106] ونقش خاتمه: «الحمد لله الذي ليس كمثله شيء»،[205] وقيل: «الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن».[204]

    ألقابه

    [عدل]
    وعاء من الفخَّار مُزخرف على شكل طائر، من سامرَّاء في العصر العبَّاسي.

    لُقِّب المُعْتَصِم كغيره من خلفاء بني العباس بلقبه الرسمي المُعْتَصِم بالله، حين أطلق الوالي عبد الله بن طاهر عليه لقب المُعتصم حين بايعه على الخلافة،[206] وهو أول من أضاف اسم الخلافة إلى اسم الله ضمن ألقاب الخلفاء وتوارث ذلك.[207] ولُقِّب المعتصم أيضًا بلقبين آخرين في حياته يدلان على قوته الجسدية وبأسه وهما: السَّبَّاع، لكونه يصيد السباع بيده، والبيطار، لصيده حمر الوحش ومن ثم يضع الحديد في أرجلها ثم يطلقها.[208] ولُقِّب في مدح الشاعر مروان بن أبي حفصة الأموي بـ معصوم أُمَّته ولقب آخر معروف بـ خليفة الله (وهي من ألقاب الخُلفاء) قائلًا:[209]

    لمَّا دخَلتُ على مَعصُومِ أُمَّتِه
    خليفةِ الله أدناني وأغنانِي
    مثل العَطايا التي أعطَى أبوهُ أبي
    وجَدُّه المُصْطفى المَهديُّ أعطانِي

    ارتباطه بالرقم ثمانية

    [عدل]
    رقم ثمانية المرتبط بمراحل في حياة المعتصم بالله.

    اشتُهر المُعتصم بلقب فريد وخاص به هو المُثَمَّن، وذلك لكثرة ارتباط الرقم ثمانية بسيرته وحياته بشكل لافت، حتى تناقل المؤرخون هذه المصادفات وأفردوا لها ذكرًا خاصًا.[210] ومنها ما فصَّلهُ المُؤرخ ابن الجوزي حول ارتباطه بالرقم ثمانية، قائلًا: «المعتصم بالله أبو إسحاق محمد بن الرشيد، ولد بالخلد في سنة ثمانين ومائة، في الشهر الثامن، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وفتح ثمانية فتوح، وولد له ثمانية بنين، وثماني بنات، ومات بالخاقاني من سر من رأى، وكان عمره ثمانيًا وأربعين سنة، وخلافته ثماني سنين.. وخلف من العين ثمانية آلاف ألف دينار ومثلها ورقًا، وتوفي لثمان بقين من ربيع الأول.. وفتح ثمانية فتوح: بلاد بابك على يد الأفشين، وفتح عمورية بنفسه، والزط بعجيف، وبحر البصرة، وقلعة الأحراف، وأعراب ديار ربيعة، والشاري، وفتح مصر، وقتل ثمانية أعداء: بابك، ومازيار، وباطس، ورئيس الزنادقة، والأفشين، وعجيفًا، وقارن وقائد الرافضة»،[211] وأيد ذلك المؤرخ الأندلسي ابن دحية الكلبي.[212] فضلًا عن توليه الخلافة في سنة 218هـ / 833م.[204] وذكر بعضهم بقوله: «وخلف من الذھب ثمانیة آلاف ألف دینار، ومن الدراھم مثلھا وثمانین ألف فرس، وثمانین ألف جمل وبغل، وثمانیة آلاف عبد، وثمانیة آلاف جارية، ومن الممالیك ثمانیة عشر ألف مملوك وبنى ثمانیة قصور وثمانین ألف خیمة ومات عن ثمانمائة حظیة وكان طالعه العقرب، وھو ثامن برج».[213]

    أثارت هذه الروايات المتعلقة بالرقم ثمانية وتعدد وجوهها اهتمام بعض الباحثين والمؤرخين وتحفظ غيرهم، فبينما قبلها بعضهم على أنها من عجائب الاتفاق والمُسلَّمات الغريبة، شكك آخرون في صحتها، ورأوا كثرة المبالغة والتكلف في زيادتها. ومن بين عدم دقة بعض المذكورين هو أن أولاده الذكور تسعة وعمره عند وفاته 47 سنة و7 أشهر هجريَّة.[198] يعلق الباحث زياد اذويب على ذلك بقوله إن المؤرخين ربما تكلفوا عناء زيادة هذه الوجوه أو نقصانها للتدليل على لقب المُثَمَّن وترسيخه، فوصل بهم الأمر إلى حد المبالغة حتى تجاوزت الأوجه اثني عشر أو ثلاثة عشر وجهًا حسب بعض المتأخرين.[208] ومن المُشككين المؤرخ اليافعي مُعلقًا بعد سردها: «هكذا قيل في التواريخ، فإن صح هذا فهو من جملة العجائب».[214]

    أخلاقه

    [عدل]
    صورة من الفن والأدب والغناء في العُصور الإسلاميَّة الوسيطة. (القرن 13م)

    أظهرت المصادر التاريخية صورة متعددة الأوجه لشخصية الخليفة المعتصم بالله، فخلف صورة القائد العسكري الحازم والبطل الفاتح المنتشرة عنه، جمع المعتصم بين الكرم والتواضع الشديدين، وبين الشدة والغضب المهيب، بالإضافة إلى حكمة وعمق في التفكير أحيانًا حسب المواقف.

    كرمه وعدله

    [عدل]

    يُعد الكرم من أبرز صفات المعتصم، فقد ذكر قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد أن مجموع ما أنفقه المعتصم على يده في الصدقات والهبات بلغ مئة ألف ألف درهم. ولم يكن كرمه ماديًا فحسب، بل كان يحمل طابعًا شخصيًا وحنونًا. يروي ابن أبي دؤاد أنه حين صحب المعتصم في حصار عمُّورية، سأله الخليفة عن رأيه في البُسْر (التمر قبل نضجه)، فأجاب ابن أبي دؤاد بأنهم في بلاد الروم والبسر في العراق، فرد عليه المعتصم: «صدقت، قد وجهت إلى مدينة السلام، فجاءوا بكباستين (عذقين من التمر)، وعلمت أنك تشتهيه». ثم أمر بإحضار أحد العذقين، وقبض المعتصم عليه بيده ومد ذراعه قائلاً: «كُل بحياتي عليك من يدي». رفض ابن أبي دؤاد في البداية حرجًا من هيبة الخليفة ومقامه، قائلًا: «جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين بل تضعها فآكل كما أريد»، فأصر المعتصم وبقي حاسرًا عن ذراعه ومادًا يده حتى أكل ابن أبي دؤاد العذق بأكمله. ويتصل بكرمه حسه العالي بالمسؤولية تجاه جميع رعيته، فقد استجاب لطلب ابن أبي دؤاد وصرف ألفي ألف درهم لأهل الشاش (في ولاية بلاد ما وراء النهر) لإصلاح نهر لهم اندفن، فمازحه المعتصم قائلًا: «ما لي ولك، تأخذ مالي لأهل الشاش وفرغانة!» كناية عن بُعد المكان، ليجيبه ابن أبي دؤاد بأنهم جميعًا رعيته والأقصى والأدنى في نظر الإمام سواء، فسلم المعتصم بذلك. ولم يكن سخيًا في شيء قدر سخائه في الإنفاق على شؤون الحرب والجيش، فقد كانت القوة العسكرية هي الأولوية المطلقة لديه.[134] كان المعتصم إذا غضب يتحول إلى شخص آخر، حتى قيل أنه «إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل»، مما يدل على طبع حاد وناري يخشاه الجميع.[215]

    تواضعه وبساطته

    [عدل]
    أحد أبواب القصر العبَّاسي، ويُعد القصر من البقايا القليلة الشَّاهدة على حضارة العصر العبَّاسي.

    كان المعتصم يُعرف بتواضعه الشديد ولين جانبه مع المقربين منه رغم هيبته كخليفة. يروي والي بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي أن الخليفة دعاه يومًا للعب الصوالجة، وأصر على ارتداء إسحاق نفس لباسه الفاخر. فدخلا الميدان وضربا ساعة على فرس محلاة بحلية الذهب، ثم وبعد انتهائهما من الصوالجة، أسر المعتصم له بقصر نظره مقارنة بأخيه الراحل المأمون في اصطناع الرجال والقادة. عد هذا التصرف النادرعن رغبة المعتصم في كسر الحواجز الرسمية ومعاملة خاصته كأنداد له في مجالسه الخاصة. أشار ابن أبي دؤاد خلال مرافقته للخليفة في السفر، بمرافقة بعض قادته للتنويع والراحة، قائلًا: «يا أمير المؤمنين، لو زاملك بعض مواليك وبطانتك فاسترحت مني إليهم مرة، ومنهم إلى مرة أخرى، كان ذلك أنشط لقلبك، وأطيب لنفسك، وأشد لراحتك»، فوافق المعتصم لكنه اختار ركوب بغلة منفردًا، وظل يسير بمحاذاة بعير ابن أبي دؤاد ليتحدث معه. وحين وصلا إلى وادٍ لا يعرفان غوره، تقدم المعتصم بنفسه لاستكشاف عمق المياه وأكثر الأماكن أمانًا للعبور، وقال لابن أبي دؤاد: «اتبع أنت موضع سيري» فمرة ينحرف عن يمينه ومرة عن شماله وابن أبي دؤاد متبع لأثره، في تصرف يعكس تواضع المعتصم وشعوره بالمسؤولية كقائد ميداني وحماية خاصته وتقديمهم على حياته.[215] حُكي انقطاع المعتصم عن أصحابه في يومٍ ماطر بعد عبوره من سامراء إلى الجانب الغربي، وبينما يسير رأى شيخًا معه حمار عليه حمل شوك، وزلق الحمار وسقط، والشيخ قائم ينتظر من يمرُّ به فيعينه على حمله، فسأله المعتصم وأخبره الشيخ، فنزل المعتصم عن دابته ليخلص الحمار عن الوحل ويرفع عليه حمله، فقال له الشيخ بعدما رأى زينة لباسه ورائحته الطيبة: «بأبي أنت وأمي لا تلل ثيابك وطيبك!»، فأجابه المعتصم: «لا عليك»، ثم خلَّص الحمار وجعل الشوك عليه وغسل يديه ثم ركب، فقال الشيخ بالنبطية: «أشقل غرمي تاحوتكا»، وتفسيره بالعربية: «غفر الله لك يا شاب!» وهو لم يعلم أنه الخليفة المعتصم بالله، ولما التقى الأخير بأصحابه، أمر للشيخ بأربعة آلاف درهم، ووكّل به من يسير معه إلى بيته.[216]

    فكاهته ومزاحه

    [عدل]

    تكشف المصادر عن جانب المعتصم في الوفاء لأصحابه القدامى، وتحليه بروح الدعابة وتقدير الذكاء وسرعة البديهة، ويروى عن لقائه بأحد رفاقه القدامى، وهو علي بن الجنيد الإسكافي، حين لمحه المعتصم يومًا، فعاتبه ممازحًا على انقطاعه بعد أن نال الخلافة، وقال له: «يا علي، ما لي لا أراك ويلك!؟ أنسيت الصحبة وما حفظت المودة؟». فرد عليه الإسكافي وقال له: «بالغ الكلام الذي أريد أن أقوله قلته أنت، ما أنت إلا إبليس!»، فضحك المعتصم وسأله لم لا يأتي لزيارته، فأجابه الإسكافي: «آه، كم أجيء فلا أصل إليك، أنت اليوم نبيل، فكأنك من بني مارية وبنو مارية أناس من أهل السواد يضربُ بهم أهلُ السواد الأمثال لكبرهم في نفوسهم». نظر المعتصم إلى غلام قربه يُدعى سندان، وقال له: «يا سندان، إذا حضر علي فأعلمني، وإن أعطاك رقعة فأوصلها إلي، وإن حمّلك رسالة فأخبرني بها». حاول الإسكافي بعد أيام من الوصول للمعتصم عبر بوابته الجديدة سندان، لكن الأخير يمنعه في كل مرة بحجج مختلفة مثل انشغاله الشديد أو لنومه. تحايل الإسكافي حتى دخل على المعتصم من طريق آخر، فلما رآه الخليفة ضاحكه وسأله إن كانت له حاجة، فأجابه الإسكافي بذكاء لمّاح ليكشف له المشكلة دون شكوى مباشرة، وقال: «نعم يا أمير المؤمنين، إن رأيت سندان التركي فأقره مني السلام». فضحك المعتصم وسأله عن السبب للسلام على سندان، فأكمل الإسكافي: «حاله أنك جعلت بيني وبينك إنسانًا رأيتك قبل أن أراه، وقد اشتقت إليه فأسألك أن تبلغه مني السلام». لم يتمالك المعتصم نفسه من الضحك بعد أن فهم شكواه الذكية المُبطنة، فجمع بين سندان والإسكافي، وأكد عليه تسهيل الدخول له في أي وقت يشاء، فكان لا يُمنع بعد ذلك.[217]

    أدبه وشعره

    [عدل]
    رسم يظهر استقبال الخليفة العباسي لأحد الشعراء.

    لم يكن المعتصم عالمًا أو فيلسوفًا كأخيه المأمون، ورغم قلة تعليمه وثقافته، لكنه امتلك حسًا أدبيًا رفيعًا وتقديرًا كبيرًا للبلاغة، وصاحب حكمة وعمق في التفكير. يروي الموسيقي الشهير إسحاق الموصلي سؤال المعتصم عن رأيه في قينة (مغنية) كان المعتصم معجبًا به وتغني عنده في مجلس طربه، فأجابه إسحاق بوصف بليغ قال فيه: «يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق وتختله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور أحسن من نظم الدر على النحور». أُعجب المعتصم بوصف إسحاق أكثر من إعجابه بالقينة والغناء نفسه، قائلًا: «يا إسحاق، لصفتك لها أحسن منها ومن غنائها»، ثم التفت لابنه هارون وقال له: «اسمع هذا الكلام»، طلبًا في تعلمه لحسن الإلقاء والكلام.[218] كان المعتصم ينظم الشعر ولم يكن من فحولها، ويستشير فيه أهل الخبرة. ومن شعره المنظم في مدح غلام له أحسن القتال في إحدى المعارك:

    لقد رأيت عجيبًا
    يُحكى الغزال الرَّبيبا
    الوجه منه كبدرٍ
    والقد يحكي القضيبا

    ومن شعره أيضًا الذي يدل على ميله للفروسية والحرب:

    قرِّب النَّحَّام وأعجل يا غلام
    واطرح السرج عليه واللجام
    اعلم الأتراك أني خائضٌ
    لجة الموت فمن شاء أقام

    ومن شعره في حب جواريه، أنشد قائلًا:

    أيا منقذ الغرقى أجرني من التي
    بها نهلت روحي سقامًا وعلت

    ويُظهر هذا الجانب من شخصيته تأثره ببيئته العربية في حب الأدب وقول الشعر، وإن غلبت عليه ثقافته العسكرية المستمدة من أخواله الأتراك وتوجهاته الشخصية.[219]

    روايته للحديث

    [عدل]
    تخطيط اسم النبي مُحمَّد كما هو منقوش في المسجد النبوي.

    ذكر الإمام جلال الدين السيوطي نقلًا عن الصولي لحديث رواه المعتصم، قائلًا: حدثنا العلائي، حدثنا عبد الملك بن الضحاك، حدثني هشام بن محمد، حدثني المعتصم، قال: حدثني أبي الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي نظر إلى قوم من بني فلان يتبخترون في مشيهم، فعرف الغضبُ في وجهه، ثم قرأ: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرءان) [الإسراء: 60]، فقيل له: «أي شجرة هي يا رسول الله حتى نجتثها؟»، فقال: «ليست بشجرة نبات، إنما هم بنو أمية، إذا ملكوا جاروا، وإذا اؤتمنوا خانوا»، وضرب بيده على ظهر عمه العبَّاس، فقال: «يُخرج الله من ظهرك يا عم رجلًا يكون هلاكهم على يده». علَّق السيوطي على درجة الحديث قائلًا: «قلت: الحديث موضوع، وآفته العلائي».[220]

    وذكر السيوطي عن ابن عساكر: أنبأنا أبو القاسم علي بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن أحمد، حدثني علي بن الحسين الحافظ، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن طالب البغدادي، حدثنا ابن خلاد، حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الضبيعي، حدثنا إسحاق بن يحيى بن معاذ، قال: كنت عند المعتصم أعوده، فقلت: أنت في عافية، فقال: كيف وقد سمعت الرشيد يحدث عن أبيه المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس مرفوعًا: «من احتجم في يوم الخميس فمرض فيه، مات فيه». ونقل عن ابن عساكر تعليقه على رجال الحديث: «سقط منه رجلان بين ابن الضبيعي وإسحاق»، ثم أخرجه من طريق أخرى عن الضبيعي، عن أحمد بن محمد بن الليث، عن منصور بن النضر، عن إسحاق.[220]

    ذكر ابن الكازروني رواية مرفوعة من المعتصم إلى النبي ، قائلًا: «لا تحتجموا يوم الخميس فإنه من احتجم يوم الخميس مكروه فلا يلومنَّ إلا نفسه»، وذُكر أن علة المعتصم كانت على اثر حجامة ظهرت في يوم الجمعة من أول مُحرَّم سنة 227هـ / 21 أكتوبر 841م. وقال حمدون بن إسماعيل أنه دخل على المعتصم يوم الخميس وهو يحتجم، فلما رآه وقف واجمًا، فعرف المعتصم ذلك وتذكر الحديث فقال: «والله ما ذكرت ذلك حتى شرط الحجّام».[221]

    أقواله

    [عدل]
    • «إذا نُصر الهوى بطل الرأي».[1]
    • «عاقل عاقل مرّتين أحمق».[222]
    • «من طلب الحق بما لهُ وعليه أدركه».[223]
    • «اللهم إني أخافُك من قِبَلي، ولا أخافُك من قِبَلك، وأرجوك من قِبَلِك، ولا أرجوكَ من قِبَلي».[199]
    • «إذا شغلت الألباب بالآداب، والعقول بالتعليم، تنبهت النفوس على محمود أمرها، وأبرز التحريك حقائقها».[224]

    إرثه

    [عدل]
    رسمٌ تخيُّلي للعالم والمؤرخ المسعودي (~283 – 346هـ / ~896 – 957م)
    تخطيط باسم الإمام المؤرخ شمس الدين الذهبي (673 – 748هـ / 1273 – 1348م)
    المؤرخ والشيخ المصري محمد الخضري بك (1289 – 1345هـ / 1872 – 1927م)
    الكاتب والباحث المصري محمد إلهامي

    الآراء فيه

    [عدل]
    • قاضي قضاة الخلافة العباسية أحمد بن أبي دؤاد: ذكر المعتصم يومًا، فأسهب في ذكره، وأطنب في وصفه، وذكر من سعة أخلاقه ورضي أفعاله.[224]
    • والي بغداد العباسي إسحاق بن إبراهيم الخزاعي: «والله ما رأيت مثل المعتصم رجلًا، لقد رأيته يُملي كتابًا، ويقرأ كتابًا، ويعقدُ بيده، وإنه ليُنشدُ شعرًا يتمثَّلُ به».[199]
    • المؤرخ الجغرافي المسعودي: «وكان الرجل (أي المعتصم) الذي لا يقاس به الرجال قوَّة بدن وشدة بأس وشجاعة قلب وكرم أخلاق»،[146] وقال في كتاب آخر: «وللمعتصم أخبار حسان، وما كان من أمره في فتح عمُوريَّة، وما كان من حُرُوبه قبل الخلافة في السفارة نحو الشام ومصر، وغير ذلك، وما كان منه بعد الخلافة، وما حكى عنه من حُسن السيرة واستقامة الطريقة أحمدُ بن أبي دُؤاد القاضي، ويعقوب بن إسحاق الكندي».[225]
    • المؤرخ الموصلي ابن الطقطقي: «كان المعتصم سديد الرأي شديد المنة يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات.. وكان موصوفا بالشجاعة وسمى المثمن من أحد عشر وجهاً.. كانت أيام المعتصم أيام فتوح وحروب هو الذي فتح عمورية».[226]
    • المؤرخ الأندلسي ابن دحية الكلبي: «والعجيب أن أباه الرشيد كان أخرج المعتصم من الخلافة وولى الأمين والمأمون والمؤتمن فساق الله الخلافة إلى المعتصم وجعل الخلفاء إلى اليوم من ولده، ولم يكن من نسل أولئك خليفة إلى اليوم، فالله يفعل ما يريد». وقال عنه: «وحج المعتصم وغزا غزوات عظيمة، فأعظمها فتح عمورية، وهي أعظم مدن النصارى بعد القسطنطينية فإنه لما بويع بالخلافة أناخ عليها وحاصرها حصارًا شديدًا، ولم يكن في بني العباس مثله في القوة والشجاعة والإقدام».[227]
    • المؤرخ البغدادي ابن الكازروني: «ومن عجيب أحوال المعتصم الدالة على عناية الله تعالى به أن والده الرشيد رضي الله عنه جعل ولاية العهد في أولاده الثلاثة الأمين محمد والمأمون عبد الله والمؤتمن القاسم ولم يعينه معهم فلم يكن من نسلهم خليفة، وساق الله تعالى الخلافة إليه وإلى نسله إلى الآن، وله الآثار الحسنة والأبنية العظيمة بسُرَّ من رأى».[228]
    • المؤرخ الأربلي عبد الرحمن سنبط قنيتو الأربلي: «وكان من العظماء الموصوفين بالحزم ذوي المناقب الوافرة والفتوح الظاهرة والفضائل الجمة والهمة العالية جد في اعزاز الدين وحج قبل الخلافة». ويُعلق على وراثة ذرية المعتصم للخلافة من بعده، قائلًا: «ومن أعاجيب أحواله أن أباهُ الرشيد جعل ولاية العهد في أولاده الثلاثة محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم المؤتمن ولم يعيِّنهُ معهم فلم يكن من نسلهم خليفة. وساق الله تعالى الخلافة إليه وإلى عقبه ولهُ بسامرَّاء الآثار الحسنة والأبنية العظيمة».[229]
    • المُحدث الحافظ شمس الدين الذهبي: «قلت: كان من أهيب الخلفاء وأعظمهم، لولا ما شان سؤدده بامتحان العلماء بخلق القرآن، نسأل الله السلامة».[230] وذكر عن أدبه: «وللمعتصم شعرٌ لا بأس فيه، وكلمات فصيحة».[224]
    • المؤرخ الحافظ ابن كثير الدمشقي: «ولما ولي الخلافة كان شهمًا في أيامه وله همة عالية في العرب ومهابة عظيمة في القلوب».[231] 
    • المؤرخ المصري محمد الخضري بك: «كانت أظهر صفات المعتصم الشجاعة والإقدام وشدة البأس وكان يحب العمارة ويقول إن فيها أمورًا محمودة فأولها عمران الأرض التي يحياها العالم وعليها يزكو الخراج وتكثر الأموال ويعيش البهائم وترخص الأسعار ويكثر الكسب ويتسع المعاش»،[145] ثم انتقده لتتريك الجيش، قائلًا: «المعتصم وحده يتحمل تبعة أكثر ما حل بالعباسيين من بعده من اضطراب أمرهم وضعف سلطانهم وما حل بالأمة العربية من غلبة هذا العنصر الغريب على أمرها. لم يكن الرجل بعيد النظر في العواقب وإنما كان شجاعاً جسوراً يحب الشجعان ويعتز بهم مهما كان شأنهم سواء كانت لهم أحساب يحمونها أم ليست لهم أحساب وسواء كان يهمهم شأن الدولة وبقاؤها أم لا؟ وهذا خطأ عظيم يحط بقدر الدول وينزلها من عظمتها».[232]
    • المؤرخ اللبناني فيليب حتي: «ولم تتقدم جيوش الخلافة إلى ما وراء جبال طورس تقدمًا يذكر بعد سنة 806 إلا في عهد المعتصم سنة 838. ولئن كان المعتصم قد تجهز بما لم يتجهز به قبله خليفة قط من السلاح والعدد والآلة.. وآلة الحديد والنفط فأوغل في بلاد الروم حتى احتل عموريّة وهي مسقط رأس مؤسس الدولة البيزنطية القائمة يومئذ فإن حملته عمومًا لم تكن موفقة. فقد كانت القوات العربية مصممة على الزحف على القسطنطينية لكنها تراجعت عندما ترامت إليها أنباء الاضطرابات الداخلية في الجيش (مؤامرة العباس بن المأمون) أما إمبراطور الروم ثيوفيلوس (829-842) فقد دفعه الخوف على عاصمته من السقوط إلى أن يستنجد صاحب البندقية وملك الافرنج كما أنه استجار ببلاط الأمويين بالأندلس. وكان ثيوفيلوس قد هددته قبلًا جيوش المأمون ابن الرشيد حين شخص هذا إلى بلاد الروم غازيًا فعاجلته المنية (833) بالقرب من طرسوس. ولم يقم العرب بعد زمن المعتصم بهجوم ذي بال على الروم. فالذين قاموا بغارات من خلفاء المعتصم إنما أرادوا الغنائم لا الفتح».[233]
    • المؤرخ حسن خليفة: «ولقد امتاز بالشجاعة والإقدام، وشدة الناس، وكان رحيما، طيب القلب غيورا على الإسلام والمسلمين، ولكنه لم يكن بعيد النظر في العواقب، وعليه وحده تقع تبعة ما حل بالعباسيين بعده من اضطراب أمرهم وضعف سلاطينهم وما حل بالأمة العربية من تغلب العنصر التركي على أمورها».[234]
    • المؤرخ العراقي فاروق عمر فوزي: «كانت شخصية المعتصم على نقيض شخصية أخيه المأمون فبقدر ما كان المأمون سياسيًا مرنًا كان المعتصم رجل حرب شديدًا، وبقدر ما كان المأمون مثقفًا كان المعتصم عديم الاهتمام بالكتب والمعارف.. وبقدر ما كان المأمون عقائديًا ملتزمًا كان المعتصم عسكريًا محترفًا».[235] وذكر كثرة خروج الثورات الفارسية في خلافة المأمون والمعتصم، قائلًا: «استمرت الحركات في بلاد فارس وما حولها بعوامل عديدة متشابكة ومتفاعلة في الوقوف ضد العباسيين.. إن أبرز الحركات الإيرانية التي ظهرت في عهدي المأمون والمعتصم هي حركات الخرمية، وأهمها حركة باب الخرمي، ثم تمرد المازيار أصبهبذ طبرستان، ثم تمرد منكجور الفرغاني، وأخيرًا تمرد الأفشين»،[236] وبين أسباب ذلك، قائلًا: «ولا شك (البابكية وغيرهم) فإن عداءهم للإسلام لم يكن بالضرورة ناتجًا كونه دينًا فحسب لأنه كان يمثل سلطان العرب الذي كان يقيمه العباسيون في هذه المناطق، ذلك لأن الإسلام والعروبة كانا خلال هذه الفترة المبكرة صنوين لا يفترقان، فالعروبة تعني الإسلام والعكس.. وكلما زاد سلطان العرب والإسلام، زاد كره الخرمية للسيادة العباسية».[237]
    • المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري: «ويظهر أنه كان قليل الثقافة.. ومما ذكر (من أخبار المعتصم) يتضح أن المعتصم كان جنديًا شجاعًا مدربًا في الحرب، يعتز بقوته الجسمية إلا أن ثقافته كانت محدودة، ولعله لم يكن سياسيًا بارعًا».[11] وختم تقريره عن المعتصم، قائلًا: «قضى المعتصم على الثورات التي كانت تهدد الإمبراطورية، وأخطرها ثورة بابك، ووضع حدًا لفوضى الزط، وصدم الروم صدمة قوية. وبنى عاصمة جديدة، ولكن جل سكانها كانوا جندًا، فأصبح الخليفة شبه سجين بينهم فكان لذلك نتائج فظيعة في عهد أخلافه. وعجز عن إخضاع الطاهريين، فتركهم شبه مستقلين في خراسان. ولعله أراد تقوية ركن الدولة المتصدع بتقريب الترك فأهمل الفرس والعرب، وقرب أناسًا لا ولاء لهم ولا ثقافة ولا يهمهم إلا الكسب، وبذلك زاد في ضعف الرابطة بين الخلافة وإيران وبينها وبين العرب لدرجة خطرة. فكانت سياسته هذه إعلانًا لبدء انحلال مؤسسات الدولة وقوتها. والمتفحص لأعماله يرى فيه قائدًا عبقريًا إلا أنه ليس بسياسي قدير، ونحن لا نحمّله كل مسؤولية الأخطاء التي نجمت عن حكمه، فبعضها ناتج عن سياسة أسلافه ولكننا نحكم بخطأ سياسته إستنادًا إلى نتائجها المريعة فيما بعد».[238]
    • المؤرخ المصري محمد إلهامي: «وكان عريض الصدر ذا قوة جسدية خارقة وشجاعة بالغة، كان يحمل الأثقال التي لا يستطيع الأشداء حملها ويسر بها خطوات»، غير أنه تحفظ على علم المعتصم، قائلًا: «وكان من عيوب المعتصم أنه لم يتعلم، وكان أقرب إلى الأمية».[239] وتفهم سبب تتريك الجيش العبَّاسي بأوامر المعتصم وانحدار الدولة نحو فوضى سامراء والأحداث اللاحقة، قائلًا: «وقد تحمل المعتصم على هذا المستوى نقدًا كثيرًا من المؤرخين، غير أن أحدًا -فيما أعلم- لم يقدم بديلا كان على المعتصم اتخاذه في هذه الظروف العصيبة التي استلم فيها أمر الخلافة! وما من الإنصاف أن يتحمل المعتصم مسؤولية ضعف الخلفاء من بعده وتسلط الأتراك عليهم، فكم من مريد للخير لا يدركه».[240]

    في الثقافة المرئية

    [عدل]

    ظهرت شخصية المعتصم بالله في أعمالٍ فنية ومرئية، ومنها:

    مسلسلات

    [عدل]

    انظر أيضًا

    [عدل]

    المراجع

    [عدل]

    فهرس المراجع

    [عدل]
    المنشورات
    بالعربية
    1. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1878.
    2. ^ [أ] ابن الجوزي (1995)، ج. 11، ص. 25.
      [ب] ابن العمراني (1999)، ص. 104.
      [جـ] ابن الأثير (2005)، ص. 970.
      [د] المسعودي (2005)، ج. 4، ص. 39.
      [هـ] حسن (2013)، ص. 94.
    3. ^ الأربلي (1885)، ص. 161.
    4. ^ [أ] الأربلي (1885)، ص. 161.
      [ب] ابن الجوزي (1995)، ج. 11، ص. 25.
      [جـ] البغدادي (2001)، ج. 4، ص. 547.
      [د] ابن الأثير (2005)، ص. 969.
      [هـ] قباني (2006)، ص. 37.
    5. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 969.
    6. ^ ابن العمراني (1999)، ص. 104.
    7. ^ [أ] الخضري (2003)، ص. 216.
      [ب] الباز (2007)، ص. 565-566.
      [جـ] اذويب (2013)، ص. 17-21.
    8. ^ الباز (2007)، ص. 566.
    9. ^ اذويب (2013)، ص. 17.
    10. ^ الخضري (2003)، ص. 216.
    11. ^ ا ب ج الدوري (1997)، ص. 176-177.
    12. ^ ابن الجوزي (1995)، ج. 11، ص. 27.
    13. ^ [أ] ابن الأثير (2005)، ص. 876.
      [ب] الباز (2007)، ص. 566.
    14. ^ ابن الكازروني (1970)، ص. 130.
    15. ^ الطبري (2004)، ص. 1721-1722.
    16. ^ إلهامي (2013)، ص. 481-482.
    17. ^ [أ] ابن الأثير (2005)، ص. 935.
      [ب] اليعقوبي (2010)، ج. 2، ص. 394-395.
    18. ^ [أ] الأزدي (1967)، ص. 341.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 913-914.
    19. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 916-921.
    20. ^ [أ] الأزدي (1967)، ص. 352.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 922.
    21. ^ [أ] ابن الأثير (2005)، ص. 925-926.
      [ب] اذويب (2013)، ص. 34.
    22. ^ المغربي (1955)، ج. 1، ص. 48.
    23. ^ [أ] الكاتب (2002)، ص. 167.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 935.
    24. ^ النحاس (1990)، ص. 212.
    25. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1808-1810.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 936-937.
    26. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 937.
    27. ^ الطبري (2004)، ص. 1811.
    28. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1812.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 938.
    29. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1815.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 939.
    30. ^ الكندي (1908)، ص. 188.
    31. ^ [أ] الكندي (1908)، ص. 189-190.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 939.
    32. ^ الكندي (1908)، ص. 189.
    33. ^ نصار (2002)، ص. 69-70.
    34. ^ الكندي (1908)، ص. 193.
    35. ^ اذويب (2013)، ص. 36-37.
    36. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 944.
    37. ^ [أ] ابن كثير (2004)، ص. 1594.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 944.
    38. ^ [أ] الدينوري (1960)، ص. 401.
      [ب] زرازير (2022)، ص. 116.
    39. ^ الطبري (2004)، ص. 1825.
    40. ^ خليفة (1931)، ص. 133.
    41. ^ الدوري (1997)، ص. 175-176.
    42. ^ [أ] خليفة (1931)، ص. 136.
      [ب] طقوش (2009)، ص. 145.
    43. ^ اذويب (2013)، ص. 37.
    44. ^ اذويب (2013)، ص. 39.
    45. ^ [أ] اذويب (2013)، ص. 41.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1832.
    46. ^ [أ] ابن الأثير (2005)، ص. 947.
      [ب] اذويب (2013)، ص. 45.
    47. ^ [أ] ابن الأثير (2005)، ص. 947.
      [ب] اذويب (2013)، ص. 46.
    48. ^ [أ] الدوري (1997)، ص. 192-193.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1833.
      [جـ] ابن الأثير (2005)، ص. 947.
    49. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1833.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 947.
    50. ^ الدوري (1997)، ص. 193.
    51. ^ خليفة (1931)، ص. 135.
    52. ^ [أ] الدوري (1997)، ص. 187.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1834.
    53. ^ ا ب اليعقوبي (2010)، ج. 2، ص. 431.
    54. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1834.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 947-948.
    55. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1835.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 947-948.
      [جـ] إلهامي (2013)، ص. 565.
    56. ^ اذويب (2013)، ص. 91.
    57. ^ اذويب (2013)، ص. 92.
    58. ^ خليفة (1931)، ص. 134.
    59. ^ إلهامي (2013)، ص. 565.
    60. ^ اذويب (2013)، ص. 53.
    61. ^ اذويب (2013)، ص. 54.
    62. ^ اذويب (2013)، ص. 55.
    63. ^ اذويب (2013)، ص. 58.
    64. ^ فوزي (2009)، ص. 284.
    65. ^ اذويب (2013)، ص. 59.
    66. ^ اذويب (2013)، ص. 60.
    67. ^ [أ] اذويب (2013)، ص. 62.
      [ب] إلهامي (2013)، ص. 584.
    68. ^ اذويب (2013)، ص. 63.
    69. ^ اذويب (2013)، ص. 65.
    70. ^ المسعودي (2005)، ج. 4، ص. 43.
    71. ^ إلهامي (2013)، ص. 585.
    72. ^ اذويب (2013)، ص. 62.
    73. ^ إلهامي (2013)، ص. 584.
    74. ^ [أ] ابن كثير (2004)، ص. 1619.
      [ب] إلهامي (2013)، ص. 585.
    75. ^ [أ] الذهبي (1996)، ج. 10، ص. 291.
      [ب] ابن كثير (2004)، ص. 1620-1621.
      [جـ] اذويب (2013)، ص. 67-68.
    76. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 948.
    77. ^ الدوري (1997)، ص. 181.
    78. ^ طقوش (2009)، ص. 132.
    79. ^ طقوش (2009)، ص. 133.
    80. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 940.
    81. ^ الدوري (1997)، ص. 183-184.
    82. ^ الخضري (2003)، ص. 186.
    83. ^ [أ] الخضري (2003)، ص. 186.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 948.
    84. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 949.
    85. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 951.
    86. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 953.
    87. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 955.
    88. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 956.
    89. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 957.
    90. ^ [أ] الخضري (2003)، ص. 227-228.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1852-1853.
    91. ^ ا ب [أ] الخضري (2003)، ص. 227-228.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1852.
    92. ^ [أ] ابن الطقطقي (1899)، ص. 209-210.
      [ب] ابن العمراني (1999)، ص. 105-106.
      [جـ] مسكويه (2000)، ج. 4، ص. 221.
    93. ^ [أ] ابن الطقطقي (1899)، ص. 209-210.
      [ب] الدوري (1997)، ص. 195.
      [جـ] الخضري (2003)، ص. 227.
      [د] اليعقوبي (2010)، ج. 2، ص. 436.
    94. ^ [أ] الدوري (1997)، ص. 195.
      [ب] ابن العمراني (1999)، ص. 106.
      [جـ] الطبري (2004)، ص. 1852.
    95. ^ [أ] خليفة (1931)، ص. 138-139.
      [ب] الخضري (2003)، ص. 228.
    96. ^ [أ] الخضري (2003)، ص. 228.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1853-1854.
    97. ^ [أ] الدوري (1997)، ص. 196.
      [ب] ابن العمراني (1999)، ص. 106.
      [جـ] الخضري (2003)، ص. 228.
      [د] الطبري (2004)، ص. 1853-1854.
    98. ^ ا ب ابن العمراني (1999)، ص. 106.
    99. ^ الدوري (1997)، ص. 196.
    100. ^ [أ] الخضري (2003)، ص. 228.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1855-1856.
    101. ^ [أ] ابن الطقطقي (1899)، ص. 209-210.
      [ب] الخضري (2003)، ص. 228.
      [جـ] الطبري (2004)، ص. 1855-1856.
    102. ^ الدوري (1997)، ص. 196-197.
    103. ^ الطبري (2004)، ص. 1856.
    104. ^ الطبري (2004)، ص. 1857.
    105. ^ [أ] الخضري (2003)، ص. 229-230.
      [ب] إلهامي (2013)، ص. 571-572.
    106. ^ ا ب الأربلي (1885)، ص. 162.
    107. ^ الأندلسي (1946)، ص. 63-64.
    108. ^ طقوش (2009)، ص. 145.
    109. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1858.
      [ب] زرازير (2022)، ص. 124.
    110. ^ إلهامي (2013)، ص. 573.
    111. ^ [أ] خليفة (1931)، ص. 136.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 960.
      [جـ] إلهامي (2013)، ص. 573.
    112. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 960.
    113. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1860.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 961.
    114. ^ [أ] ابن خلدون (2001)، ج. 3، ص. 331.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 961.
    115. ^ إلهامي (2013)، ص. 574.
    116. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1862.
      [ب] إلهامي (2013)، ص. 574.
    117. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1863.
    118. ^ الطبري (2004)، ص. 1864.
    119. ^ الطبري (2004)، ص. 1865.
    120. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1871.
      [ب] إلهامي (2013)، ص. 576.
    121. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1870.
    122. ^ [أ] الطبري (2004)، ص. 1870.
      [ب] فوزي (2009)، ص. 277.
    123. ^ ا ب ج فوزي (2009)، ص. 277.
    124. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1871.
    125. ^ [أ] الدوري (1997)، ص. 190.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1871.
    126. ^ الطبري (2004)، ص. 1872.
    127. ^ الطبري (2004)، ص. 1872-1873.
    128. ^ الدوري (1997)، ص. 191.
    129. ^ الدوري (1997)، ص. 192.
    130. ^ الطبري (2004)، ص. 1873-1875.
    131. ^ ا ب ج الطبري (2004)، ص. 1876.
    132. ^ [أ] ابن العمراني (1999)، ص. 111.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1836.
    133. ^ ابن العمراني (1999)، ص. 104-105.
    134. ^ ا ب ج د ه الطبري (2004)، ص. 1877.
    135. ^ ضيف (1966)، ص. 65-66.
    136. ^ [أ] ابن كثير (2004)، ص. 1601.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1877.
    137. ^ إلهامي (2013)، ص. 579.
    138. ^ إلهامي (2013)، ص. 579-580.
    139. ^ إلهامي (2013)، ص. 580.
    140. ^ فوزي (2009)، ص. 262.
    141. ^ [أ] إلهامي (2013)، ص. 581.
      [ب] الخضري (2003)، ص. 230.
      [جـ] المسعودي (2005)، ج. 4، ص. 44-45.
    142. ^ المسعودي (2005)، ج. 4، ص. 45.
    143. ^ فوزي (2009)، ص. 263.
    144. ^ إلهامي (2013)، ص. 581-582.
    145. ^ ا ب ج الخضري (2003)، ص. 230.
    146. ^ ا ب المسعودي (1893)، ص. 354.
    147. ^ [أ] القزويني (1960)، ص. 386.
      [ب] إلهامي (2013)، ص. 583.
    148. ^ إلهامي (2013)، ص. 583.
    149. ^ القزويني (1960)، ص. 386.
    150. ^ الخضر (2023)، ص. 165.
    151. ^ الخضر (2023)، ص. 166.
    152. ^ الخضر (2023)، ص. 167.
    153. ^ الخضر (2023)، ص. 168.
    154. ^ الخضر (2023)، ص. 168-169.
    155. ^ ا ب اذويب (2013)، ص. 97-98.
    156. ^ اذويب (2013)، ص. 93.
    157. ^ اذويب (2013)، ص. 94.
    158. ^ اذويب (2013)، ص. 96.
    159. ^ ا ب اذويب (2013)، ص. 97.
    160. ^ اذويب (2013)، ص. 99.
    161. ^ اذويب (2013)، ص. 101.
    162. ^ ا ب الدوري (1997)، ص. 177.
    163. ^ اذويب (2013)، ص. 102.
    164. ^ اذويب (2013)، ص. 103.
    165. ^ اذويب (2013)، ص. 98.
    166. ^ الدوري (1997)، ص. 179.
    167. ^ [أ] الأربلي (1885)، ص. 162.
      [ب] اذويب (2013)، ص. 99.
    168. ^ اذويب (2013)، ص. 100.
    169. ^ الخضري (2003)، ص. 220.
    170. ^ الخضري (2003)، ص. 223.
    171. ^ الدوري (1997)، ص. 199.
    172. ^ اذويب (2013)، ص. 106.
    173. ^ اذويب (2013)، ص. 108.
    174. ^ [أ] ابن الطقطقي (1899)، ص. 211.
      [ب] ابن الأثير (2005)، ص. 950.
      [جـ] اذويب (2013)، ص. 107.
    175. ^ [أ] ابن الطقطقي (1899)، ص. 211.
      [ب] اذويب (2013)، ص. 108.
    176. ^ اذويب (2013)، ص. 102، 114.
    177. ^ [أ] الدوري (1997)، ص. 199-200.
      [ب] الخضري (2003)، ص. 220-225.
      [جـ] اذويب (2013)، ص. 112.
    178. ^ اذويب (2013)، ص. 123.
    179. ^ محمود (1980)، ص. 328.
    180. ^ جلوب (2014)، ص. 504.
    181. ^ إلهامي (2013)، ص. 556-558.
    182. ^ فوزي (2009)، ص. 260-261.
    183. ^ الدوري (1997)، ص. 178.
    184. ^ الدوري (2011)، ص. 13-14.
    185. ^ الخضري (2003)، ص. 251-451.
    186. ^ الدوري (1997)، ص. 199-200.
    187. ^ ا ب ج ابن الطقطقي (1899)، ص. 212.
    188. ^ ا ب ابن الطقطقي (1899)، ص. 213.
    189. ^ ابن الطقطقي (1899)، ص. 214.
    190. ^ ا ب الخضري (2003)، ص. 217.
    191. ^ المسعودي (1893)، ص. 356.
    192. ^ ا ب [أ] خليفة (1931)، ص. 140.
      [ب] الخضري (2003)، ص. 218.
    193. ^ الخضري (2003)، ص. 225-227.
    194. ^ الطبري (2004)، ص. 1711.
    195. ^ [أ] ابن العمراني (1999)، ص. 111.
      [ب] حسن (2013)، ص. 97.
    196. ^ حسن (2013)، ص. 94.
    197. ^ حسن (2013)، ص. 95.
    198. ^ ا ب [أ] ابن حزم (1983)، ص. 24-25.
      [ب] اذويب (2013)، ص. 33.
    199. ^ ا ب ج الذهبي (1996)، ج. 10، ص. 306.
    200. ^ [أ] الديار بكري (1884)، ج. 2، ص. 375.
      [ب] العباسي (2000)، ص. 111-112.
    201. ^ [أ] المسعودي (1893)، ص. 354.
      [ب] الأندلسي (1983)، ج. 5، ص. 377.
      [جـ] الذهبي (1996)، ج. 10، ص. 291.
      [د] الطبري (2004)، ص. 1877.
    202. ^ [أ] المسعودي (1893)، ص. 354.
      [ب] الذهبي (1996)، ج. 10، ص. 304-305.
    203. ^ الذهبي (2003)، ج. 5، ص. 694-695.
    204. ^ ا ب ج الأندلسي (1983)، ج. 5، ص. 377.
    205. ^ [أ] الأربلي (1885)، ص. 161.
      [ب] السيوطي (2003)، ص. 267.
    206. ^ ابن البطريق (1905)، ص. 60.
    207. ^ ابن العمراني (1999)، ص. 104.
    208. ^ ا ب اذويب (2013)، ص. 7.
    209. ^ [أ] الثعالبي (1867)، ص. 49.
      [ب] فوزي (1977)، ص. 226-233.
    210. ^ اذويب (2013)، ص. 5.
    211. ^ ابن الجوزي (1995)، ج. 11، ص. 25-26.
    212. ^ الأندلسي (1946)، ص. 72-73.
    213. ^ [أ] الذهبي (1996)، ج. 10، ص. 302-303.
      [ب] اذويب (2013)، ص. 5.
    214. ^ اليافعي (1997)، ج. 2، ص. 71.
    215. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1877-1878.
    216. ^ [أ] ابن الأثير (2005)، ص. 970.
      [ب] المسعودي (2005)، ج. 4، ص. 43.
    217. ^ المسعودي (2005)، ج. 4، ص. 43.
    218. ^ الطبري (2004)، ص. 1878.
    219. ^ اذويب (2013)، ص. 20-21.
    220. ^ ا ب السيوطي (2003)، ص. 269.
    221. ^ [أ] ابن الكازروني (1970)، ص. 140.
      [ب] الطبري (2004)، ص. 1877.
    222. ^ الذهبي (1996)، ج. 10، ص. 305.
    223. ^ السيوطي (2003)، ص. 267.
    224. ^ ا ب ج الذهبي (2003)، ج. 5، ص. 695.
    225. ^ المسعودي (2005)، ج. 4، ص. 53.
    226. ^ ابن الطقطقي (1899)، ص. 209.
    227. ^ الأندلسي (1946)، ص. 63.
    228. ^ ابن الكازروني (1970)، ص. 138-137.
    229. ^ الأربلي (1885)، ص. 161-162.
    230. ^ الذهبي (2003)، ج. 5، ص. 693.
    231. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1601.
    232. ^ الخضري (2003)، ص. 224.
    233. ^ حتي (1950)، ج. 2، ص. 373.
    234. ^ خليفة (1931)، ص. 140.
    235. ^ فوزي (2009)، ص. 259.
    236. ^ فوزي (2009)، ص. 266.
    237. ^ فوزي (2009)، ص. 271.
    238. ^ الدوري (1997)، ص. 202.
    239. ^ إلهامي (2013)، ص. 555.
    240. ^ إلهامي (2013)، ص. 560.
    بالإنجليزية
    1. ^ Muir (1892), p. 508.
    2. ^ Muir (1892), p. 512.
    3. ^ Muir (1892), p. 512-513.
    4. ^ Muir (1892), p. 513.
    مواقع الشابكة
    1. ^ محمد حسين الشيخ (11 سبتمبر 2022). "أسطورة «وامعتصماه»: غزو عمورية لم يقع بسبب صرخة امرأة مظلومة". إضاءات. مؤرشف من الأصل في 2025-05-17. اطلع عليه بتاريخ 2025-07-28.
    2. ^ "السيف أصدق أنباء من الكتب". الديوان. مؤرشف من الأصل في 2024-12-08. اطلع عليه بتاريخ 2025-07-27.
    3. ^ "رأي الأحناف في النبيذ والقول المفتى به عندهم". إسلام ويب. 27 يوليو 2011. مؤرشف من الأصل في 2024-05-04. اطلع عليه بتاريخ 2025-10-09.
    4. ^ "طاقم العمل: مسلسل - وا معتصماه - 1986". السينما.كوم. اطلع عليه بتاريخ 2025-09-13.
    5. ^ "طاقم العمل: مسلسل - عصر الأئمة - 1997". السينما.كوم. مؤرشف من الأصل في 2023-03-23. اطلع عليه بتاريخ 2025-09-13.
    6. ^ "طاقم العمل: مسلسل - باب المراد - 2014". السينما.كوم. مؤرشف من الأصل في 2017-10-26. اطلع عليه بتاريخ 2025-09-13.
    7. ^ "طاقم العمل: مسلسل - الإمام - 2017". السينما.كوم. مؤرشف من الأصل في 2023-01-25. اطلع عليه بتاريخ 2025-09-13.

    بيانات المراجع (مرتبة حسب تاريخ النشر)

    [عدل]
    الكتب
    بالعربية
    بالإنجليزية
    المقالات المحكمة
    • السيد أحمد الباز (2007). "المعتصم بالله آخر الخلفاء العظام من بني العباس: (218 - 227هـ / 833 - 841م)". مجلة کلیة اللغة العربیة بالمنصورة. ج. 5 ع. 26: 561–594. ISSN:2636-3097. QID:Q135222027.
    • محمود زرازير (2022)، دور المسكوكات في توثيق الصراع بين العباس بن المأمون والمعتصم، محمود زرازير (جامعة الفيوم، العدد 5، 2022)، جامعة الفيوم، QID:Q123990834
    • زكريا هاشم أحمد الخضر (2023). "قصور الخليفة المعتصم بالله في مدينة سامراء العباسية في ضوء المصادر التاريخية". كلية الآداب جامعة سامراء. ج. 10 ع. 34: 157–178. QID:Q135222088.
    الأطروحات
    مُحمَّد المُعتصم بالله
    ولد: 10 شعبان 180هـ / 18 أكتوبر 796م توفي: 18 ربيع الأوَّل 227هـ / 5 يناير 842م

    ألقاب سُنيَّة
    سبقه
    عبد الله المأمون
    أمير المؤمنين

    18 رجب 218 – 18 ربيع الأوَّل 227هـ
    9 أغسطس 833 – 5 يناير 842م

    تبعه
    هارون الواثق بالله