مستخدم:السيف ذو الوشاح/ملعب2
النظافة والتجميل
[عدل]ينبني إيمان المسلم على الطهارة والنظافة، سواء أكانت جسدية أم روحية، ويتوجب على المسلمين أن يغسلوا أيديهم قبل الطعام وبعده، كما أمروا بالوضوء قبل أن يقيموا صلواتهم اليومية الخمس، وفرض عليهم الاغتسال من الجنابة، ويستحب للمسلم أن يغتسل قبل صلاة الجمعة الجامعة. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [1].[2]
وقد وصف الجزري في كتابه "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" بعض المبتكرات الميكانيكية بما فيها آلات الوضوء، إذ كانت آلة الوضوء تلك متحركة تشبه طاووساً على صينية، يؤتى بها إلى الضيف وتوضع أمامه، وعندما ينقر الضيف رأس الطاووس يخرج الماء على ثماني دفعات قصيرة تكفي للوضوء، وهذا الأسلوب يحفظ الماء ويقتصد فيه.[2]
لقد كان المسلمون يرغبون أن يكونوا نظيفين حقاً، ولا يكتفون بمجرد رش أنفسهم بالماء، لذلك صنعوا الصابون الصلب بمزج زيت الزيتون غالباً بمادة قلوية (مادة تشبه الملح)، ثم غلي المزيج حتى يبلغ الخلطة الصحيحة، ويترك بعدئذ ليجف كي يستخدم في الحمامات.[2]
اكتشفت حديثاً مخطوطة من القرن الثالث عشر تحتوي على تفصيلات لمزيد من الطرائق في صناعة الصابون. جاء فيها مثلاً: «خذ شيئاً من زيت السمسم، ورشة من البوتاس والقلي، وقليلاً من الكلس، واغْلِ المزيج معاً، ثم عندما ينضج اسكبه في قوالب واتركه حتى يجف، تحصل على صابون جامد».[2]
وصل الصابون الصلب إلى أوروبا مع عودة الصليبيين إلى ديارهم، ولكنه لم يكن شائع الاستعمال. وبحلول القرن الثامن عشر أصبح الصابون من الصناعات المهمة، وخصوصاً في سوريا. وأنتج صابون ملون معطر للحمام، بالإضافة إلى الصابون الطبي.[2]
لقد بذل المسلمون في العصور الوسطى كل جهد للعناية بمظهرهم، فضلاً عن ذلك أجسامهم بما ينظفها جيداً، حتى لقد خصص أطباؤهم كتباً للجمال، وكان بينهم الزهراوي، الطبيب الجراح الشهير في قرطبة، فقد استوحى الزهراوي أحاديث النبي محمد في ما يتصل بالنظافة، وتدبير الملابس والعناية بالشعر والجسم، واشتمل كتابه الطبي "التصريف" فصلاً كاملاً عن مستحضرات التجميل، أوردها في المجلد التاسع عشر، فكان أول كتاب إسلامي بحث منذ ألف سنة في علم التجميل، حيث عَدَّ الزهراوي دراسة مستحضرات التجميل فرعاً من فروع الطب، أطلق عليه اسم "طب الجمال".[2]
وصف الزهراوي العناية بالشعر والجلد والفم وغيرها من أجزاء البدن، وبحث في كيفية تجميلها ضمن حدود شرع الإسلام. كما شرح طرق تقوية اللثة وتبييض الأسنان، حيث كان طب الأسنان شائعاً. وتضمن الكتاب كذلك مستحضرات متنوعة مثل بخاخات الأنف ومضامض الفم ومراهم الأيدي، وهو الذي اقترح حفظ الثياب في مكان مليء بالبخور كي تفوح راءحة زكية عند ارتدائها.[2]
وتوسع الزهراوي في وصف العطور، وتحدث عن حاويات صغيرة معطرة مبرومة ومضغوطة في قوالب خاصة أشبه بقوارير مزيل الروائح ذات رأس دوار، مثلما خو معروف في أيامنا هذه. كما ذكر أسماء مستحضرات تجميلية كاللواصق المزيلة للشعر، وأصباغه التي تحوّل لونه الأشقر إلى أسود، ومحاليل لتسبيل الشعر الأجعد. كما وصف أيضاً مراهم لحماية البشرة من لفح الشمس ومكوناتها بالتفصيل.[2]
وكذلك ألف الكندي المولود في القرن التاسع بالكوفة في العراق كتاباً في العطور بعنوان "كتاب كيمياء العطر والتصعيدات". اشتهر الكندي بالفلسفة، وكان كذلك طبيباً وصيدلانياً وكحالاً (طبيب عيون) وفيزيائياً وكيميائياً وجغرافياً وعالم رياضيات، وكان يهتم بلغات الشيفرة (التعمية) وفكِّها، ويعنى بالموسيقى، إضافة إلى اهتمامه بصناعة السيوف، حتى إنه بحث في فن الطبخ.[2]
تضمن كتاب الكندي أكثر من مئة وصفة للزيوت العطرية والمراهم والمياه المعطرة، وبدائل أو تقليدات الأدوية المكلفة. وكان الناس الأكثر ثراءً في المجتمع يستخدمون هذه المنتجات إلى أن أصبحت متوافرة للجميع. كما ذكر في كتابه عن كيمياء العطر الذي ألفه في القرن التاسع، طرائق ووصفات لصناعة العطور بلغت مائة وسبعاً، كما ذكر الأجهزة اللازمة لتصنيعها، مثل الإمبيق (بالإنجليزية: Alembic) الذي ما زال يحمل اسمه العربي.[2]
وصلت مناهج المسلمين وأفكارهم إلى أوروبا بطرق عدة، فقد حملها التجار والرحالة، وجاءت على هيئة هدايا، وكذلك عن طريق الصليبيين، فقد وصلت أفكار المسلمين إلى إقليم هاوت (Haute Province) في جنوب فرنسا حيث المناخ المثالي والتربة المناسبة، وحيث صناعة العطور ما زالت تزدهر بعد نحو سبعة قرون.[2]
وكان من مستحضرات التجميل في الإسلام الحناء المعروف بزخارفه المتنوعة، وقد وصل الحناء إلى أجزاء مختلفة من بلاد العالم بفضل انتشار الإسلام، وأصبح مستحضراً تجميلياً أساسياً. وكان النبي محمد وصحابته يصبغون لحاهم بالحناء، في حين كانت النساء يزيّنّ به أيديهن وأقدامهن، ويصبغن شعورهن كذلك، كما تفعل مثلهن نساء اليوم.[2]
البصريات
[عدل]الكندي
[عدل]أول من وضع أسس علم البصريات الحديث هو الكِندي، العالم الموسوعي الذي شكّ في نظريات الرؤية لدى الإغريق، فقال: إن مخروط الرؤية لا يتعلق بأشعة غير مرئية كما قال إقليدس (Euclid) بل يبدو ككتلة ذات ثلاثة أبعاد من الشعاعات المستمرة.[3]
وفي القرن السادس عشر قال عالم الفيزياء والرياضيات الإيطالي جيرونيمو كاردانو (Geronimo Cardano): إن الكندي يعد واحداً من اثني عشر عقلاً عملاقاً في التاريخ، لأنه بحث كيفية سير أشعة الضوء على خط مستقيم، وتحدث عن الإبصار بمرآة ومن دون مرآة، وعن أثر المسافة والزاوية في الإبصار وفي الخداع البصري.[3]
كتب الكندي مقالتين في علم البصريات الهندسية والفيسيولوجية، اطلع عليهما واستخدمهما فيما بعد العالم الإنجليزي روجر بيكون من القرن الثالث عشر، وكذلك العالم الفيزيائي الألماني وايتلو (Witelo)، وجاء في مقالة العالم الدنماركي سباستيان فوغل (Sebastian Vogl) من القرن العشرين: «إن روجر بيكون لا يَعد الكندي واحداً من سادة الرسم المنظوري فحسب، بل كان هو وأمثاله في المنظور الخاص به، يرجعون إلى الكندي ويأخذون من علمه في البصريات».[3]
ابن الهيثم
[عدل]انطلق الحسن بن الهيثم في القرن العاشر من التساؤلات التي طرحها الكندي الذي قال إن الرؤية تحصل بسبب انكسار أشعة الضوء. قال جورج سارتون مؤرخ العلوم البارز في القرن العشرين، إن القفزة التي حصلت في علم البصريات تعزى إلى عمل هذا الرجل الذي قدم التفسير العلمي لكثير مما نعرفه اليوم عن علم البصريات.[3]
والواقع أن ابن سهل البغدادي، العالم الفيزيائي من القرن العاشر، هو الذي اشتغل في حقل انكسار الضوء باستعمال العدسات قبل ابن الهيثم، ولا ندري إن كان ابن الهيثم يعرف ما قام به ابن سهل. إن ابن الهيثم المعروف عند الغربيين باسم (Alhazen) قد أجرى تجارب دقيقة جداً قبل ألف سنة مكّنته من تقديم تفسير علمي، يقول: إن الإبصار يتم بانعكاس الضوء على الأشياء ومن ثم بدخوله إلى العين، وكان أول من رفض نظرية الإغريق في جملتها.[3]
انتقل ابن الهيثم المولود في البصرة بالعراق إلى مصر بدعوة من حاكمها ليساعد في تخفيف أضرار فيضانات نهر النيل، وكان أول من جمع بين طريقة إقليدس وبطليموس الرياضية وبين المبدأ الفيزيائي المفضل عند فلاسفة الطبيعة، وأعلن بهذا الصدد أن دراسة الإبصار (البصريات) تتطلب الجمع بين الفيزياء والرياضيات.[3]
«كل جسم مضيء بأي ضوء كان فإن الضوء الذي فيه يَصدر منه ضوء إلى كل جهة تقابله، فإذا قابل البصر مبصَراً من المبصَرات وكان المبصَر مضيئاً بأي ضوء كان فإن الضوء الذي في المبصَر يرِد منه ضوء إلى سطح البصر». |
—من "كتاب المناظر" لابن الهيثم (المقالة الأولى، بداية الفصل السادس، "كيفية الإبصار") |
كان ابن الهيثم عالم رياضيات وفلك وفيزياء وكيمياء، بيد أن كتابه في البصريات "كتاب المناظر" أسس لهذا العلم، واشتهر باسم "الكتاب الكبير" (Magnum Opus). وقد بحث في طبيعة الضوء، وفيسيولوجيا الإبصار وآليته، وبنية العين وتشريحها، وفي الانعكاس والانكسار، وأجرى دراسات انعكاس الضوء. كما درس العدسات بتجريب المرايا المختلفة، المسطحة والدائرية وذات القطع المكافئ والأسطوانية والمقعرة والمحدبة. ورأى العين تعتمد على نظام انكسار ضوئي، فطبق هندسة الانكسار عليها. واكتشف ببراعة ظاهرة الانكسار الجوي، واستخدم الرياضيات بكثافة لدراسة الظواهر الضوئية.[3]
استخدم ابن الهيثم البرهان التجريبي لفحص نظرياته، وهو أمر لم يكن مألوفاً في زمانه، لأن علم الفيزياء قبله كان أشبه بالفلسفة، ولا يعتمد على التجربة، فكان هو أول من أدخل البرهان التجريبي كشرط أساسي لقبول النظرية. وكان كتابه "المناظر" نقداً فعلياً لأعمال بطليموس وغيره من القدماء، وما زال الباحثون يستشهدون بكتابه هذا بعد ألف سنة ليدربوا طلابهم على المنهجية العلمية، واكتساب الحس العملي لئلا ينساقوا خلف الآراء المسبقة والأفكار المتحيزة. يعد ابن الهيثم ومن غير مبالغة أبا العلم التجريبي ويعادل تأثيره في علم البصريات تأثير نيوتن في العلم ذاته للقرون التي تلته. لكن يعتقد بعض مؤرخي العلوم أن قانون سنيل (Snell's Law) في البصريات يعتمد على أعمال ابن سهل.[3]
الساعات
[عدل]اهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بصناعة الساعات، إذ أدرك المسلمون أهمية معرفة الوقت وحسن استخدامه، فالمسلمون بحاجة إلى معرفة أوقات الصلاة، فكان لا بد للمساجد أن تعرف التوقيت لرفع الأذان في حينه، كذلك لإقامة الشعائر الدينية السنوية المهمة كصيام رمضان، والاحتفال بالأعياد، وأداء فريضة الحج، فقد كان لا بد من معرفة أوقاتها سلفاً.[4]
ويُعد العالِمُ المسلم إسماعيل بن الرزّاز الجزري (المتوفى عام 1206م) من أشهر المتخصصين بصناعة الساعات المائية المعقدة في العصور الوسطى، فقد صمم وصنع ساعات كثيرة من مختلف الأشكال والأحجام عندما كان يعمل عند آل أرتق حكام ديار بكر، وقد أوصاه السلطان ناصر الدين محمود بن أرتق قائلاً: «لقد صنعتَ أشكالاً عديمة المثال، وأخرجتَها من القوة إلى الفعل، فلا تُضيّع ما تعبت فيه وشيدت مبانيه، وأُحبُّ أن تصنف كتاباً ينتظم وصفَ ما تفرّدت بتمثيله وانفردت بوصف تصويره وتشكيله». وكانت نتيجةُ هذا الطلب السلطاني ظهورَ سِفْر رائع في الهندسة الميكانيكية، عنوانه "كتاب في معرفة الحيل الهندسية"، والمعروف أيضاً بكتاب "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، وقد غدا مصدراً لا مثيل له للمهندسين والصُناع على خلفيات هندسية متنوعة، إذ ورد فيه وصف لخمسين جهازاً آلياً موزعة على ست فئات، بما فيها الساعات المائية.[4]
لقد كان من نتيجة هذا التوجيه الملكي أن الجزري أبدع ساعة الفيل ضمن ما أبدعه من الأجهزة الرائعة الأخرى التي أشار إليها السلطان ناصر الدين محمود. وكانت هذه الساعة الفخمة، فضلاً عن دلالتها على الزمن، رمزاً للهيبة والجلال والثروة، كما كانت تجمع بين الرجال الآليين (الروبوتات) وبين الأشكال المتحركة الدالة على الزمن.[4]
الشطرنج
[عدل]إن ما يحيط بالشطرنج من حكايات وشخصيات وأفراد يعطيها بعداً غامضاً، ويظل أصلها الحقيقي مجهولاً، فربما جاءت من الهند القديمة أو من بلاد فارس. وقد ربط ابن خلدون في القرن الرابع عشر الشطرنج بهندي اسمه صصه بن داهر، وهو رجل حكيم علّامة.[5]
جاء في إحدى المخطوطات الفارسية التي تعود إلى القرن الرابع عشر أن سفيراً هندياً أحضر شطرنجاً إلى البلاط الفارسي، ومن هناك نقله العرب الذاهبون إلى إسبانيا ومن ثم إلى أوروبا. وقبل أن يصل إلى أوروبا أدخل عليه الفرس تعديلاً فأسموه "شاترانج"، واستخدموه في ألعابهم الحربية. عرف العرب هذه اللعبة، واستوعبوها في حضارتهم. والكلمة الإنجليزية "Checkmate" فارسية الأصل وهي صيغة محرفة لعبارة "مات الشاه".[5]
كان الشطرنج لعبة مألوفة جداً عند العامة والنبلاء على حد سواء، وأحبها الخلفاء بوجه خاص، وكان من سادة هذه اللعبة المتفوقين الصولي والرازي والعدني وابن النديم. وحين لعب الروسي المحترف يوري أفيرباك (Yuri Averbak) حركة مدهشة في إحدى بطولاته التي فاز فيها وظن الكثيرون أنها فكرة عبقرية ديدة، اتضح أن الصولي هو مبتكرها قبل أكثر من ألف سنة.[5]
ويُذكر أن زرياب الموسيقار الشهير هو الذي حمل الشطرنج إلى الأندلس في مطلع القرن التاسع، ثم انتشرت لعبة الشطرنج بين مسيحيي إسبانيا والمستعربين (Mozarabs) ووصلت إلى شمالي إسبانيا عبر جبال البرانس (Pyrenees)، لتعبر الحدود إلى جنوبي فرنسا.[5]
وتذكر المصادر أن لعبة الشطرنج انتقلت عبر الطرق التجارية من آسيا الوسطى إلى السهوب الجنوبية لروسيا القديمة، ووجدت قطع الشطرنج الفارسية التي تعود إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين، في سمرقند وفرغانة. وبحلول عام 1000 وصل إلى طرق التجارة المعهودة للفايكنج الذين حملوا معهم الشطرنج والنقود العربية، بالإضافة إلى تماثيل بوذا، إلى الأراضي الإسكندنافية. وبحلول القرن الحادي عشر كان الشطرنج قد شق طريقه مباشرة إلى أيسلندا.[5]
وفي عام 1769، أهدى المجري وولفغانغ دي كمبيلين (Wolfgang de Kempelen) لملكته الإمبراطورة ماريا تيريزا التي كانت مهووسة بالشطرنج، أهداها آلة (روبوت) تسمى "المسلم الحديدي" (Iron Muslim)، وسميت فيما بعد "التركي العثماني" (Ottoman Turk)، وأخذت الآلة تلعب الشطرنج بمهارة فائقة وتهزم لاعبين من المستوى الرفيع آنذاك، ثم تبين أنها مجرد خدعة ذكية، وقد كانت هذه الآلة أول مزيج من الهندسة الميكانيكية والحيل العجيبة، إذ كان يختبئ لاعب شطرنج بارع داخل خزانة ويلعب الشطرنج بمهارة فائقة موهماً المشاهدين أن الرجل الآلي هو الذي يلعب، وكان الناس يسافرون أميالاً ليشاهدوا أعجوبة الروبوت اللاعب الذي يلبس العمامة والزي العثماني مدة دامت خمساً وثمانين سنة.[5]
الموسيقى
[عدل]طوّر المسلمون بعض الآلات الموسيقية، فقد اقترح الكندي (المتوفى عام ) بالتفصيل عملية صقل العود في الوقت الذي كان يناقش الدلالات الكونية للموسيقى.وباستخدامه الحاشية الألفبائية للثُمن الواحد يكون قد أضاف جديداً إلى ما عند الموسيقيين الإغريق وطور إنجازاتهم.[6]
بعد الكندي بنحو سبعين سنة جاء الفارابي فطور الربابة، سلف عائلة الكمان، واخترع طاولة القانون الموسيقي، وألف خمسة كتب في الموسيقى، وفي القرن الثاني عشر تُرجم كتابه "كتاب الموسيقى الكبير" عن نظرية الموسيقى إلى العبرية ومنها إلى اللاتينية، وقد استمر تأثير الفارابي وكتابه هذا حتى القرن السادس عشر.[6]
زرياب
[عدل]لعب أفراد عديدون دوراً في نشر الموسيقى في أوروبا، غير أن واحداً كان له نفوذ أسطوري، هو زرياب، الذي يعني "الطائر الأسود"، وقد لقب بذلك لصوته الشجي ولون بشرته الشديدة السمرة، وكان تلميذاً موهوباً لموسيقيّ بغدادي مشهور، ولكن موهبته وتفوقه أخذا يبرزان أستاذه رويداً رويداً، ولهذا استدعاه الخليفة الأموي إلى الأندلس.[6]
استقر زرياب في بلاط قرطبة عام 822م عند الخليفة عبد الرحمن الثاني، ابن الخليفة الأموي عبد الرحمن الداخل. وقد وصل في الوقت المناسب، حيث كان الخليفة ينفق على الفنون بسخاء فازدهر فن زرياب هناك واعترف به، وغدا مغني البلاط وعين له في كل شهر مئتي دينار ذهبي، إضافة إلى امتيازات عديدة أخرى، وقد دفعه ذلك التشجيع إلى تطوير موهبته وإبداعه.[6]
أما إنجازاته فكانت كثيرة، أنشأ بقرطبة أول معهد موسيقي في العالم يعلم الإيقاع والتأليف الموسيقي، كما أدخل إلى أوروبا آلة العود وأضاف إليه وتراً خامساً، واستبدل بريشة العزف الخشبية ريشةً من قوادم جناح النسر. وأعاد تنظيم النظرية الموسيقية كلها فوضع معايير إيقاعية ووزنية حرة، وبذلك أوجد طرقاً جديدة للتعبير (الموشح، الزجل، النوبة، اللحن الأوركستري). يقول كثيرون مثل المؤرخ الموسيقي الإيطالي جوليان ريبيرا (Julian Ribera): إن الطباق وفن مزج الألحان وتفريع النغمات قد نشأت وتطورت أول مرة في معهد قرطبة الموسيقي نحو عام 1000م.[6]
وفي القرن العشرين قال هنري تيريس (Henry Terrace) المؤرخ الفرنسي: «بعد وصول هذا المشرقي (زرياب) هبت ريح المسرة والرفاهية على الحياة في قرطبة كلها، حيث أحاط به جو من الشعر والبهجة الرائعة؛ إذ كان يؤلف أغنياته ليلاً بصحبة خادمين يعزفان على العود، فمنح فنه نقلة غير مسبوقة...».[6]
السجاد
[عدل]تعود صناعة السجاد إلى ما قبل الإسلام؛ إذ كانت معروفة منذ بواكير الحضارة المصرية، كما كانت شائعة لدى أفراد القبائل العربية البدوية، والقبائل الفارسية، وقبائل الأناضول الذين كانوا قد جعلوه خياماً تؤويهم من العواصف الرملية، وغطاءً للأرض يوفر لهم الراحة، وستائر جدران لخلواتهم الخاصة، ولغايات أخرى مثل الدثر والحقائب والسروج.[7]
كان السجاد يحظى عند المسلمين بتقدير خاص وإعجاب، بوصفه جزءاً من فرش الجنة. وبوحي من ذلك طوروا تقنيات التصميم والحياكة فزينوا سجادهم بألوان وزخارف مدهشة. ويعود الفضل في ذلك أيضاً إلى تطور علم الكيمياء عند المسلمين، إذ كانوا ينتجون أصباغاً جديدة تستعمل في الأنسجة ودباغة الجلود. ومن الأمثلة على ذلك ما أبدعه العالم المعز بن باديس التميمي الصنهاجي في القرن الحادي عشر عندما ابتكر أنواعاً من الحبر والأصبغة الملونة والمزائج التلوينية عرضها في كتابه "عمدة الكتاب وعدة ذوي الألباب" وفيه صفة الخط والأقلام والمداد والليق والحبر والأصباغ وآلة التجليد.[7]
وكما اشتهر السجاد الإسلامي بألوانه، كذلك ذاعت شهرته لأنواعه النفيسة وأشكاله الهندسية التي تتضمن النجمة الخماسية، والثمانية، والمثلثة، والوردية، تتوضع كلها حول رصيعة مركزية كبيرة. وكانت المساحات حول هذه الأشكال تملأ بالزخرفة العربية والأشكال النباتية التي تشد بعضها إلى البعض بحس من التوحد والتناسق. ويمكن أن يكون السجاد كبيراً جداً فيغطي أرضاً واسعة لقاعة استقبال بأكملها، أو أن يكون صغيراً جداً يوفر للأفراد مكاناً نظيفاً يصلح للصلاة أو الجلوس، فحيث يضع المرء سجادته على بقعة أرض يدرك أنها طاهرة.[7]
وإلى جانب السجاد التركي (العثماني) لم يرقَ أي سجاد آخر إلى جودة وانتشار شعبي واسع سوى السجاد العجمي (الفارسي) الذي أصبح استثماراً ترعاه الدولة في العهد الصفوي، فقد طور الصفويون العلاقات التجارية مع أوروبا في عهد الشاه عباس الأول (1587-1629)، حتى باتت صادراتهم وتجارتهم من الحرير هي المصدر الرئيس لمدخولات الدولة وثرواتها. ثم صارت تلك المنتجات هدايا ثمينة تتبادلها البعثات الدبلوماسية إلى أوروبا.[7]
كانت صناعة السجاد ضخمة وغدت فنّاً مهنياً يتطلب مصممين لرسم نماذج على الورق قبل تحويلها إلى تصاميم منسوجة، وكان ذلك يتم على نطاق واسع نظراً للطلبات الكثيفة من المستهلكين الأوروبيين. أنتج الحرفيون في تبريز وكاشان وأصفهان وكيرمان تصاميم تبهر العيون وتأخذ بالألباب، منسوجة بدقة، بدءاً بالرصيعة في مركز السجادة، مروراً بسجادات المحاريب وسجادات المزهريات، وانتهاءً بالسجاد الذي يحمل صور الأشخاص وشعارات النبالة للعديد من الحكام الأوروبيين. وكان لكثير من السجادات مركز مربع تحيط به رصيعة وحاشية يمكن أن تضم عدة أشرطة باتساعات مختلفة.[7]
بيت الحكمة
[عدل]«طلب العلم فريضة على كل مسلم». |
—حديث شريف.[8] |
اهتم بعض الخلفاء العباسيين بجمع الأعمال الإبداعية والمبتكرات العلمية، وجلبوا الكتب، واستقطبوا علماء مسلمين وغير مسلمين ليُنشئوا واحدة من أعظم الأكاديميات الفكرية في التاريخ، سمّوها "بيت الحكمة"، هذا المنبع الفكري المقرون ببراعة النسيج الشعبي المتنوع جعل من عاصمة العباسيين بغداد مقراً للفنون والعلوم والآداب، وكان الدور الذي لعبته في نشر المعرفة والفنون والعلوم وتطويرها وتنميتها دوراً عظيماً. وقد عُرفت أكاديمية "بيت الحكمة" باسمين حسب مراحل تطورها؛ فعندما كانت قاعة واحدة في عهد هارون الرشيد أطلق عليها اسم "خزانة الحكمة"، ثم نمت حتى غدت معهداً كبيراً في عهد المأمون فأُطلق عليها اسم "بيت الحكمة"، وكانت تضم مكتبة كبيرة عرفت باسم "مكتبة الحكمة" أو "خزانة الحكمة" تشتمل على مجموعة هائلة من الموضوعات العلمية بلغات عديدة، الأمر الذي جعلها أكاديمية علمية بكل معنى الكلمة.[9]
وقد كتب برايان ويتيكير في صحيفة الجارديان الإنجليزية:
إن بيت الحكمة كان مركزاً لا يُضاهى لدراسة العلوم الإنسانية والعلوم، بما في ذلك الرياضيات والفلك والطب والكيمياء وعلم الحيوان والجغرافيا. ودُرست هذه العلوم اعتماداً على النصوص الهندية والفارسية والإغريقية، في أعمال أرسطو وأفلاطون وأبقراط وإقليدس وفيثاغورس وغيرهم، وجَمعَ العلماءُ أكبرَ كمية من الكتب في العالم ثم بنوا عليها بفضل اكتشافاتهم الخاصة بهم.[10] |
شرع الخليفة محمد المهدي بجمع المخطوطات عندما عثر عليها في أثناء حملاته الحربية، وتابع ابنه الخليفة الهادي مهمة أبيه، حتى جاء ولده الخليفة هارون الرشيد (حكم بين عامي 786 و809) الذي أسس النواة الأولى لبيت الحكمة. أما الخليفة المأمون الذي حكم عشرين سنة بدءاً بعام 813، فقد وسّع البيت وصمم جناحاً لكل فرع من فروع العلم، فغص المكان بالعلماء والمتخصصين بالفنون وبالمترجمين المشهورين وبالمؤلفين والأدباء والشعراء والمهنيين في الفنون والحِرَف المتنوعة.[9]
كان أصحاب هذه العقول والمهارات يلتقون يومياً من أجل ترجمة المؤلفات القديمة والقراءة والكتابة والحديث والمناقشة، فكان المكان بوتقة عالمية تنصهر فيها الثقافات. أما اللغات التي كانت تستخدم في الكلام والكتابة فشملت العربية، وهي لغة العلم والمعرفة التي كان الجميع يشترك فيها، إضافة إلى الفارسية والعبرية والسريانية والآرامية والإغريقية واللاتينية والسنسكريتية، وهذه الأخيرة هي التي كتبت بها مخطوطات الرياضيات والفلك الهندية القديمة.[9]
ومن بين المترجمين المشهورين في تلك الفترة برز نجم الترجمان يوحنا بن البطريق، الذي كتب في الفلسفة أكثر مما كتب في الطب، وترجم من اللاتينية "كتاب الحيوانات" (The Book of Animals) لأرسطو في تسعة عشر فصلاً. وكان حنين بن إسحاق مترجماً معروفاً أيضاً، ترجم كتب الطب الإغريقي وخاصة مؤلفات أبقراط وجالينوس. وقد اختار الخليفة المأمون الكنديَّ، وهو طبيب فيلسوف جغرافي كيميائي منطقي، ليكون واحداً ممن درسوا مؤلفات أرسطو وغيره من القدماء، وكان للكندي مكتبته الخاصة، يشار إليها لسعتها باسم "الكِنْديّة".[9]
لم يكن الخليفة المأمون يدير مؤسسة بيت الحكمة ويوجهها فحسب، بل كان يشارك العلماء والأساتذة في أحاديثهم ومناقشاتهم، كما بنى مركزاً فلكياً سمي "المرصد الفلكي"، يشرف عليه عدد من الفلكيين المحترفين من أمثال يحيى بن أبي منصور، وكان فيهم عالم يهودي يدعى سند بن علي قيل إنه اعتنق الإسلام على يد المأمون. ومن العلماء اللامعين في بيت الحكمة ذلك الزمان: الإخوة محمد وأحمد والحسن أولاد موسى بن شاكر، الذين عُرفوا بعلم الرياضيات واخترعوا أجهزة ميكانيكية، وظهر الخوارزمي أبو علم الجبر، والكندي مخترع علم فك الشيفرة ومؤلف النظرية الموسيقية، والجاحظ الأديب العالم صاحب كتاب الحيوان، وحنين بن إسحاق العبادي الطبيب المترجم وابنه إسحاق بن حنين.[9]
المدارس
[عدل]بدأ اهتمام المسلمين بالمدارس في عصر النبوة، إذ جعل النبي محمد المسجد مكاناً للتعلم والعبادة، وحيثما يُؤسس مسجد يبدأ فيه التعليم. وكان النبي محمد يبعث إلى القبائل من يُقرئهم القرآن، فانتشر التعليم في كل مكان وعاش المعلمون المتجولون حياة ملؤها الرضا والقناعة. فلا غرابة أن يذكر ابن حوقل، الجغرافي التاجر الرحالة، في القرن العاشر أنه أحصى في باليرمو (Palermo) بصقلية الإسلامية نحو ثلاثمئة معلم.[11]
كان في المدينة المنورة في عهد النبي محمد تسعة مساجد، وقامت أول مدرسة فيها عام 622م، ولقد انتشرت فكرة دخول المدارس والتعلم فيها كالنار في الهشيم، فكان بقرطبة في القرن الثامن مئات المدارس، وبحلول أواخر القرن التاسع كان في كل مسجد تقريباً مدرسة ابتدائية لتعليم الذكور والإناث. وكان الأولاد يبدؤون دراستهم الابتدائية في نحو سن السادسة، وكذلك بعض البنات وأولاد العبيد (ما خلا الأغنياء الذين كان لهم معلمون خاصون). وكان التعليم مجانياً أو قليل الكلفة جداً، ليتاح للجميع، وفي الدروس الأولى يكتب التلاميذ أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، وآيات من قصار السور، ويدرسون القرآن بعناية، ويُضاف إلى ذلك الحساب.[11]
وبحلول القرن العاشر امتد التعليم إلى بيت المعلم، الأمر الذي يعني أن المدارس قد أخذت تتطور بالتدريج، وحصل هذا التطور في بلاد فارس أولاً. وفي عام 1066م أقام السلاجقة "المدرسة النظامية" على اسم مؤسسها الوزير نظام الملك البغدادي، وكانت هذه أول مدرسة خاصة لها بناء تعليمي منفصل ملحق بها. وعلى العموم فقد أنشئت المدارس منذ الأيام الأولى للإسلام، وخصصت للمدرسين رواتب. وكانت المدارس تُبنى بكثرة، ويهتم مُنشئوها بجمال المبنى، وكان لكل مدرسة باحة وإيوانات متعددة تُستخدم للدروس أو قاعات للاجتماع أو للصلاة، إضافة إلى غرف إقامة فردية وموضّآت. ومارست الدولة أو الخليفة الحاكم نوعاً من المراقبة على التعليم، وكان على المدرس أن يحصل على إذن مسبق لممارسة مهنته.[11]
وفي القرن الرابع عشر الميلادي، قال ابن الحاج، المربي المسلم، يوصي بشأن المدارس: «يجب أن تكون المدارس في السوق أو في شارع مزدحم، وليس في مكان معزول، لأنها أمكنة للتعليم وليست موضعاً للطعام، لذلك لا ينبغي أن يحضر الطلبة معهم زاداً أو نقوداً. ويجب أن يكون للمعلم وكيل أو مساعد يهيئ الصف ليجلس كل طالب في مكانه، ويستقبل الزوار ويُنزل كلاً منهم حيث يستدعي مقامه وتتطلب مرتبته، وعليه أن يوقظ النائمين، وينذر الذين يتصرفون بما لا ينبغي أو يهملون ما يترتب عليهم فعله، ويأمرهم بالإصغاء إلى التعليمات، ويمنع الكلام والضحك والمزاح داخل الصف». وبحلول القرن الخامس عشر أحدث العثمانيون ثورة في المدارس حين أقاموا مجمعات تعليمية في المدن كتلك التي أنشؤوها في بورصة وأدرنة بتركيا. وكانوا يسمون نظامهم المدرسي "كلية" (Külliye)؛ يتعلمون فيها على نحو أشبه بالجامعات، وفيها مسجد ومستشفى ومدرسة ومطبخ عام وقاعة طعام. وكان ذلك التعليم ميسراً لجمهور واسع، في حين كانت المدارس تقدم وجبات طعام مجانية، ورعاية صحية، وتقدم سكناً في بعض الأحيان. وكانت "كلية الفاتح" (Fatih Külliye) في إسطنبول مجمّعاً يضم ست عشرة مدرسة للعلوم والدين.[11]
وقد يتساءل المرء كيف كانت تلك المؤسسات تُموَّل؟ لقد كان يأتيها قليل من الضرائب، ولكنّ معظم الأموال كانت تصلها من الهِبات والصدقات ومن الأوقاف. وكان أي فرد يُمنح ترخيصاً لإنشاء مدرسة طالما التزم بالقوانين. وكان التمويل يغطي الصيانة ورواتب المعلمين وإسكان الطلبة وإطعامهم، وتوفر منحاً للمحتاجين منهم. ونظراً لما للتعليم من تقدير عالٍ فقد كانت الأموال تُدفع بسخاء لدعمه، فازدهر في طبقات المجتمع كلها. وقد وصف الرحالة ابن بطوطة في القرن الرابع عشر الطلبة الذين كانوا يُدعَمون دعماً كاملاً، فقال: كان كل من يرغب في متابعة الدراسة أو يكرس نفسه للحياة العلمية يتلقى كل عون حتى يحقق غايته.[11]
الجامعات
[عدل]هناك شيء من التشابك بين التعليم المدرسي والتعليم الجامعي؛ فكلاهما ابتدأ في المسجد، كما أن كلمة جامعة مؤنث كلمة جامع، لذلك كان مكان الدين ومكان التعليم العالي مرتبطين تمام الارتباط. وليس لهذا مثيل في الثقافات أو اللغات الأخرى. وتُعد بعض المساجد من أقدم الجامعات في العالم، فما زالت الجامعات التابعة للمساجد بما فيها القرويين والأزهر قائمة حتى اليوم بعد أكثر من ألف سنة من تأسيسها. ويُعد الأزهر مركزاً محورياً للتعلم العالي في مصر، منذ جذب زبدة المفكرين، وجاءت شهرته من عراقته وخريجيه اللامعين؛ فابن الهيثم الذي غير تاريخ الفيزياء أقام هناك زمناً طويلاً، وابن خلدون عالم الاجتماع في القرن الرابع عشر كان مدرّساً فيه.[12]
لم تكن الجامعات التابعة للمساجد تستقبل الطلبة المحليين فحسب، بل يرد إليها طلاب من مختلف أنحاء العالم. وهكذا كانت الجامعات العباسية في بغداد تعلم الطب وعلم الأدوية والهندسة والفلط وغيرها من المواد. استقبلت بغداد طلاباً من الشام وبلاد فارس والهند، كما كان من بين طلبة الأزهر أعداد كبيرة من خارج القاهرة. وقد خُصص للطلبة أجنحة سكنية مجانية تشتمل كل ردهة فيها على مكتبة ومطبخ وحمامات.[12]
وكان في هذه الجامعات، كغيرها من الجامعات المرموقة، مكتبات استثنائية غير عادية، فيها كتب كثيرة، معظمها من هبات شخصية. كان بجامع الزيتونة في تونس، مثلاً، مخطوطات القواعد والمنطق والتجريح والتعديل وأصول البحث وعلم الكون والحساب والهندسة والمعادن والتدريب المهني. وكان في مكتبة عاتكة في القيروان التونسية ترجمة عربية لتاريخ الأمم القديمة الذي ألفه القديس جيروم (St. Jerome) قبيل 420م.[12]
كان التدريس على شكل حلقات، حيث يجلس الطلبة أمام المدرس على شكل نصف دائرة، ويُتاح للأساتذة الضيوف الجلوس إلى جانب المدرس دلالة على الاحترام. وعلى سبيل المثال كانت تعقد في مسجد عمرو جنوبي القاهرة أكثر من أربعين حلقة في بعض الأوقات، وفي الأزهر مئة وعشرون حلقة. وكانت المقررات الدراسية صعبة، والطب بوجه خاص يرقه الطلاب، كما هي الحال في جامعات اليوم، إذ كانت امتحاناته صعبة. ولا يُسمح للطالب بممارسة مهنة الطب إذا حصل على درجة أدنى من المقبول، ويعد حينئذ غير مؤهل لذلك. وبهذا النظام أسس المسلمون التعليم العالي: وضعوا نظام امتحانات القبول، والامتحانات النهائية، والشهادات العلمية، وحلقات الدراسة، والمنح الدراسية، وقبلوا طلبة من مختلف البلدان. والواقع أنه كان هناك تطابق ملحوظ مع الإجراءات التدريسية في جامعات اليوم.[12]
جامعة القرويين
[عدل]ومن المجمّعات الجامعية الفخمة في المساجد مجمع جامعة القرويين في مدينة فاس بالمغرب. بَنَت فاطمة الفهري هذه الجامعة في أثناء حكم الأدارسة عام 859م، فبعد أن ورثت الكثير عن أبيها الثري قررت أن تنفق ميراثها كله على بناء مسجد وجامعة تناسب مجتمع فاس. اشترطت أن تكون مواد البناء كلها من أرض الموقع، وعند البدء بالعمل شرعت بالصوم حتى أنجز البناء الجامعي. لم تكتفِ بتمويل المشروع فحسب لكنها أشرفت على تشييده بنفسها. والجدير بالذكر أن أختها شيدت مسجداً كسائر المساجد بالقرب منه.[12]
أرادت فاطمة الفهري أن تقدم لمجتمع فاس مركزاً للتعليم، فسرعان ما تطور مسجد القرويين، كغيره من المساجد الفخمة، إلى مكان للتعليم الديني والمناظرات العلمية، وتوسّع تدريجياً في الموضوعات التي يتناولها طلابه، وخاصة موضوعات العلوم الطبيعية، فاكتسب شهرة بوصفه أول جامعة في التاريخ. وكانت الجامعة حسنة التجهيز وخصوصاً بالأدوات الفلكية، وكان في غرفة التوقيت إسطرلابات وساعات وأدوات أخرى لحساب الزمن.[12]
كان الطلبة يدرسون فيها القرآن وعلوم الدين والقانون والبلاغة وفنون النثر والشعر والكتابة والمنطق والحساب والجغرافيا والطب إلى جانب الفلك، وكان في برنامجها مقررات قواعد اللغة والتاريخ الإسلامي ومبادئ الكيمياء والرياضيات، ولذا كن تنوع الموضوعات وجودة تدريسها يجتذب العلماء والطلبة من أنحاء العالم كلها، فكثر المتقدمون إليها بحيث اذطرت الجامعة لإدخال نظام اختيار صارم، مثلما تفعل جامعات اليوم، وكانت شروط القبول حينذاك تشمل حفظ القرآن كله، وإتقان العربية، وإحاطة حسنة بالمعارف العامة. ولم يكن الطلبة في جامعة القرويين يدفعون رسوماً، بل كانوا يمنحون إعانات نقدية للطعام والسكن، كان ذلك بفضل الهبات التي تقدمها الأوقاف وعائلات الأثرياء. وكان الطلبة يقيمون ضمن مبان من طابقين أو ثلاثة يسع كل منها ما بين ستين طالباً ومائة وخمسين طالباً.[12]
المكتبات
[عدل]شرع المسلمون منذ القرن الثامن بإنتاج كميات هائلة من الكتب لأنهم طوروا صناعة الورق التي تعلموها من الصين، فغدت الكتب والمخطوطات والمقالات تغطي حقول العلوم الإسلامية، والتكنولوجيا والفنون، كما انتشرت حركة الترجمة على نحو مضطرد، ولقيت تشجيعاً واسعاً، فقد رُوي أن الخليفة المأمون كان يدفع مكافأة المترجم وزن الكتاب الذي يترجمه إلى العربية ذهباً، مما أدى إلى وجود أكداس من الكتب جذبت انتباه الأجيال اللاحقة وحازت احترامهم، من مسلمين وغير مسلمين. كما افتُتحت في عهد العباسيين مئات من المكتبات العامة والخاصة، الأمر الذي أمدَّ القراء بآلاف الكتب.[13]
إن الارتباط القوي بالكِتاب لدى المسلمين يعني أنهم كانوا يحبون اقتناء الكتب وإنشاء المكتبات، فوُجدت مكتبات خاصة، وأخرى عامة، إضافة إلى شبكة ضخمة من مكتبات المساجد في المدن الكبرى، فضلاً عن المجموعات الضخمة الخاصة التي اجتذبت العلماء من أنحاء العالم الإسلامي، وكانت مخطوطاتها وكتبها بحجم كتب اليوم، ورقها فاخر يُكتب على وجهيه، وأغلفتها الجلدية تحافظ على متانتها. وكانت مجموعات الكتب العامة واسعة الانتشار فلم يقم مسجد إلا وكان في الوقت نفسه معهد تعليم، يحتوي على مجموعة من الكتب، ففي بغداد مثلاً، قبل أن يدمرها المغول عام 1258م، وُجدت ست وثلاثون مكتبة وأكثر من مائة كُتْبي، بعضهم ناشرون يعتمدون على مؤسسات للنسخ، ووجدت في القاهرة وحلب والمدن الكبرى في إيران، وآسيا الوسطى، وحوض البحر المتوسط مكتبات مماثلة. وقد سُميت مكتبة المسجد "دار الكتب" أو "بيت الكتب" أو "كتب خانة" بحيث أصبح كل منها مركز إشعاع ونشاط فكري، وفي هذه المكتبات كان العلماء والكُتاب يُمْلون نتائج دراساتهم على جماعات من المستمعين الشباب وعلماء في علوم الدين أو غيرها من العلوم لتُنسخ المحاضرات على أوراق وتُحوّل إلى كتب، وتظل تنشر بالطريقة ذاتها حتى عند اعتمادها، وكان النقاش مفتوحاً لكل إنسان.[13]
في المسجد الأموي الكبير في حلب، كانت مكتبة من أكبر المكتبات وأقدمها تسمى "السيفية" وتضم عشرة آلاف مجلد، وقيل إن الأمير سيف الدولة هو الذي قدَّمها. لكن مسجد الزيتونة الجامعي في تونس كان أكثر غنى؛ إذ احتوى عشرات الآلاف من الكتب، وقيل إن غالبية الحكام الحفصيين، أو بني حفص الذين حكموا تونس ما بين عامي 1220 و1574م كانوا يتنافسون على المهابة والأُبهة المقترنة بتقوية المكتبات وصيانتها، فزاد عدد الكتب فيها ذات يوم عن مائة ألف مجلد. وكان في مكتبة قرطبة لزمن حكامها الأمويين ستمائة ألف مجلد، وكان الحَكَم الثاني الذي تولى حكم الأندلس من عام 961م حتى عام 978م يَعد «صحبة الكتاب أحب إليه من عرشه» على ما يُروى.[13]
«الكتاب صامت ماأسكته! وبليغ ما أنطقه! ومن لك بمُسامر لا يبتديك في حال شغلك، ويدعوك في أوقات نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له والتذمم منه، وإن شئت لزمك لزوم ظلك، وكان منك مكان بعضك». |
—الجاحظ |
ولم تكن المكتبات العامة هي الضخمة وحدها، بل كان للأفراد مكتبات لا تقل عنها ضخامة، فمثلاً، ذكر المؤرخ إدوارد جيبون (Edward Gibbon) حكاية عن طبيب مسلم رفض دعوة سلطان بخارى لزيارته لأنه يحتاج إلى 400 جمل لحمل كتبه التي لم يكن يغادر مكانه من غيرها. كما ألّف الجاحظ، وهو من علماء القرن الثامن، نحو مائتي كتاب منها "كتاب الحيوان" في سبعة مجلدات جمع فيه أشياء شتى عن الحيوان ضمت ملاحظات ومشاهدات، فذكر مثلاً عادات النمل الاجتماعية، وطبيعة التواصل بين الحيوانات، وأثر الغذاء والبيئة في المخلوقات، ومن مؤلفاته الأخرى: كتاب "البيان والتبيين"، و"البخلاء". وقد قيل إنه مات في مكتبته عام 868م عن عمر ناهز الثانية والتسعين حين سقطت عليه كتبه.[13]
لقد أحب المسلمون الكتب كثيراً، وكان من تقاليدهم أن يُهدوا مجموعات منها إلى مكتبات المساجد لينتفع بها الناس، وأهدى العلماء الرحالة إليها كذلك ما معهم من كتب تعبيراً عن امتنانهم وشكرهم للمساجد التي كانت تقدم لهم السكن والطعام والقرطاسية بالمجان. كان للمكتبات شأن جليل، وقد وصف المقدسي الجغرافي مجمعات القرن العاشر في شيراز بإيران فقال إنها «مبان محاطة بالحدائق والبحيرات والقنوات المائية... تعلوها قباب، وتتألف من طابق سفلي وآخر علوي فيهما 360 غرفة... في كل قسم بيانات مفهرسة موضوعة على رفوف... والغرف مفروشة بالسجاد...».[13]
لقد احتلت بعض مكتبات في شيراز وقرطبة والقاهرة مباني فسيحة منفصلة عن المسجد، فيها غرف عديدة لأغراض متنوعة: فمنها ما هو للقراءة أو لنسخ المخطوطات أو للندوات الأدبية، وفيها لتخزين الكتب على الرفوف، وكلها مضاءة مريحة ومفروشة بالسجاد والوسائد. وكان أمناء المكتبات يُعيَّنون بأجر معلوم، وكان يُشرِّفهم ذلك المنصب الذي لا يصل إليه إلا أكثرهم علماً، والذين يحوزونه يُعدون أوصياء على المكتبات دون غيرهم، ويُعدون كذلك حراس المعرفة وحُماتها، فقد كانت إدارة المكتبات في عهد الموحدين بشمال إفريقيا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مثلاً، من أهم المناصب وأعلاها امتيازاً في الدولة.[13]
المراجع
[عدل]- ^ سورة المائدة، الآية: 6
- ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ي يا يب يج سليم الحسني، الفصل الأول: البيت - النظافة، ص20-23
- ^ ا ب ج د ه و ز ح سليم الحسني، الفصل الأول: البيت - الرؤية وآلات التصوير، ص26-29
- ^ ا ب ج د سليم الحسني، الفصل الأول: البيت - الساعات، ص14-17
- ^ ا ب ج د ه و سليم الحسني، الفصل الأول: البيت - الشطرنج، ص18-19
- ^ ا ب ج د ه و سليم الحسني،الفصل الأول:البيت - نظام الصوت، ص34-37
- ^ ا ب ج د ه علي الحسني، الفصل الأول: البيت - السجاد، ص40-43
- ^ رواه ابن ماجه (224).
- ^ ا ب ج د ه سليم الحسني، الفصل الثاني: المدرسة - بيت الحكمة، ص46-49
- ^ Brian Whitaker - The Guardian: September 2004
- ^ ا ب ج د ه سليم الحسني، الفصل الثاني: المدرسة - المدارس، ص50-53
- ^ ا ب ج د ه و ز ح ط سليم الحسني، الفصل الثاني: المدرسة - الجامعات، ص54-57
- ^ ا ب ج د ه و سليم الحسني، الفصل الثاني: المدرسة - المكتبات، ص60-63
المصادر
[عدل]- ألف اختراع واختراع: التراث الإسلامي في عالمنا. المحرر المسؤول: البروفيسور سليم الحَسَني. الناشر: Foundation for Science Technology and Civilisation. الشركاء الاستراتيجيون: National Geographic العربية، عبد اللطيف جميل المبادرات الاجتماعية. ISBN 978-0-9552426-4-9