مستخدم:ادريس بلمختار

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

العلامة :  المكان الذي طبع الزمان

( الجزء الثاني )

في هذا الجزء الثاني من ذاكرة هذه المعلمة التاريخية ذات الصرح المكين ، أقف إجلالا وتعظيما لهذا المكان المهيب ، وأستحضر بكل حميمية سلطته وإفضاله علي وعلى من سبقوني إليه ، وعلى الذين نشأوا ببراءتهم وترعرعوا على كبرهم في أكنافه فأصبحوا رجالا ، رغم الضعف والفقر ونقص الموارد كصعوبة الحصول على الماء لولا وجود سقايات بعيدة المنال ، أو مثبتة على متن صهاريج وفي مراحيض يعود تاريخها كما لوأنشئت إبان القرون الوسطى (صهريج فران ماما ، صهريج طاحونة حمادي ، صهريج على مقربة من متجرالأخوين المحفوظ والسي سعيد ، صهريج قبالة حانوت عبد القادر الوجدي وأخيه يحيى المشهوران بالزريعة والحمص الطري )  ، وبرغم المعاناة بسبب الأمراض والأوبئة الفتاكة كحمى المستنقعات والجربة التي أصابت جيل الستينات وأنا منهم وكانوا يسمونها أمل حياتي لأنها تزامنت مع صدور أغنية سيدة الطرب العربي ، ومن عاش تلك الفترة يتذكر بطرافة وإبداع تلك اللازمة الشهيرة ( أمل حياتي ..حك حك بلاتي .. حتى يجيوا وليداتي ) وكان المصابون بالحكة يتوجهون صحبة أوليائهم إلى  la fourrière  المحجزالبلدي حيث يعرونهم هناك ويرشونهم بسائل من الكبريت كريه الرائحة . 

كما لا ننسى وما ينبغي لنا أن ننسى تلك الأمطار القوية والغزيرة ببرقها المشع ورعدها المدوي والقاتل الذي أتى ذات مساء على عجل سمين فتركه  أشلاء متفرقة وكانت الوزيعة من نصيب الفقراء الذين اشتروها بثمن بخس دراهم معدودة ولم يكونوا فيها من الزاهدين ، و كذا  تلك الرياح العاتية والزلازل الفجائية التي كانت تأتي على القوم وهم في غفلة نائمون ، فمن نجا  منهم ازداد قوة وقساوة وعاش حينا من الدهر وأصبح شيئا مذكورا ..  

  فكان من بين هؤلاء أطرا كبارا وموظفين سامين وفنانين وكتابا مشهورين كصاحب بيضة الديك وصاحب ديوان سيدة التطريز بالياقوت ، ورياضيين مرموقين أبطالا للعالم في ألعاب القوى وسباق المسافات الطويلة

وغيرهم كثير ...

هذه هي العلامة / المعلمة التي تشكلت بتراكم مجموعة من البراريك ( مفرد براكة : بيت أوبيوت من الخشب يحيط بها سور أو أسوار من قصدير قديم أغلبه مستورد كعلب الزيت المهداة من صندوق دعم البلدان الفقيرة في الولايات المتحدة الأميريكية ، والتي تحمل شارة التضامن باليدين المضمومتين ، أومن قصدير براميل قديمة تسمى في الهندسة بعملية نشر الأشكال الأسطوانية ) ، تتراءى للناظر من بعيد كفسيفساء بعضها متماثل وبعضها يحتاج إلى عمليات إزاحة بسيطة لتحقيق التماثل ، وقد تفنن في صناعة هذه الأسوار التاريخية حرفيون كبار منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وأذكر منهم على سبيل المثال من المعلمين بوعينين و با الكبير و التيجاني وغيرهم من التلاميذ .  

   تمتد هذه البراريك  كتضاريس جغرافية  على طول الطريق الرابطة بين ديور عشرة آلاف وديور المخزن ، هي طريق طويلة شيئا ما ولكن طولها سرعان ما يتحول إلى متعة  وفائدة  يجنيها السائح عندما يجد ما يلبي فضوله وما يفي بقضاء حاجاته وأغراضه ، هذه الطريق هي التي ستسمى فيما بعد بشارع العلامة  .. على مقربة من ديور عشرة آلاف وبالضبط في مفترق الطرق بينها وبين البراريك وفي المنعطف الذي يؤدي إلى لابيطا كانت توجد ساحة فسيحة  لسوق النعناع  أو رحبة النعناع  .. هناك أكوام مختلفة من النعناع منه النعناع  العبدي نسبة إلى عبدة والفليوي المعطر برائحة افليو والنعناع الرميلي نسبة إلى الأرض التي يزرع بها ( خميس الرميلة ) وهو أجود أنواع النعناع .  

وعلى طول جنبات شارع العلامة تمتد عشرات وعشرات الحوانيت والمتاجر مثل حانوت با العربي وبات محماد وصالح مول البوطات الذي اشتهر بهذا الاسم بعد حادثة انفجار قنينات الغاز عليه داخل الحانوت حتى كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة في أول مرة ، لولا لطف الله وطول عمره ، ومن شجاعته أنه هرع مسرعا إلى سقاية الماء المتواجدة أمام حانوته ، إلا أنه في الانفجار الثاني لم يجد بدا من إسلام روحه العنيدة لخالقه ..  

  كما يتميزهذا الشارع بوجود سوق صغيرة للخضر والفواكه موضوعة على طاولات عريضة أمام المحلات التجارية و صناديق من الأسماك الطري ، وعدد من الحرفيين من النجارين والحلاقين أمثال بوجمعة وبا مسعود الرجل القزم الذي كان يقف شامخا أمام زبنائه من غير ضعف أو نقص ، وبعض من الجزارين أمثال الهمبري بائع اللحوم الحمراء المنشورة أمام طاولته  أكواما أكواما من عينات وكميات مختلفة  لا ضابط لها بالوزن سوى ثمنها الذي يحدد قيمتها، يومها لم يكن لما يسمى اليوم باللحوم البيضاء أي أثر يذكر ..  

لن أغادرهذا المكان الذي ظل يشغلني منذ سنين طويلة ، ويفرض علي طقوسه وأيامه ولياليه  دون أن أتذكر أهله وناسه وجيرانه وساكنته بصفة عامة ، كانوا يشكلون طبقة واحدة  حتى لا تكاد تميز بينهم في القريب من البعيد ،  فإذا غاب أهلك تجدهم يحضنونك كآبائك   أو أشد من ذلك ..يحضرون معك في المناسبات في السراء  و في الضراء وينوبون عنك في غيابك كما ينوب المفعول عن الفاعل أو كما تنوب الحركات عن الحركات في مواضع الإعراب بالنيابة ..

أتذكر اليوم موسم ركراكة الذي ينظمه شرفاء الصويرة ( الشياظمة ) والتي تبدأ الاستعدادات له انطلاقا من العلامة حيث يقطن أغلب رجالاته بالمنطقة ، إذ لا يمكنك إلا أن تحضر في الوقت المناسب لتشهد انطلاقته الكرنفالية على يد فرقة من الرماة التي تتفنن في الألعاب بالبنادق المعبأة بالرصاص ثم الاستعراض الكبير الذي يبتديء من هناك عبر شارع المسيرة ( طريق عين السبع سابقا ) لينعطف إلى اليسار على طول شارع محـمد الخامس في اتجاه مقبرة الشهداء حيث يدفن جدهم الولي الصالح سيدي العربي بوجمعة .. وتكون هذه المسيرة  إيذانا بأول يوم للموسم ويسمونها التقدام وتكون يوم الخميس من شهر أبريل ، وتحضرني اللحظة الدفوعات وهي عملية لا دخل فيها للرجال حيث تتهيأ النساء وتتفنن كل حسب إمكانياتها ومستواها في إعداد قصعات الطعام المزوق والمزركش بما لذ وطاب من الدجاج واللحم والبيض المسلوق وما استطعن إليه سبيلا ..  

هذه يا سادة يا كرام نبذة موجزة ومختصرة عن العلامة المكان الذي طبع الزمان .. الزمان الذي سيظل راسخا في الأذهان مهما طال الزمان .. أشكر جميع من شاركني إياه من بعيد أومن قريب كما أتقدم بجزيل الشكر وخالص المحبة والود إلى كل من عبر لي عبر الكتابة بجمال تعبيره وصدق أحاسيسه عن هذا الزمان الذي يسكننا ونسكنه  ويعيشنا ونعيشه ..  

  . تحياتي لكم جميعا وإلى لقاء قادم بحول الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته