ويليام جيمس ديورانت (1885-1991) كاتب ومؤرخ أمريكي، حاصل على دكتوراه في الفلسفة، وعمل أستاذاً في جامعة كولومبيا عاماً واحداً، ثم اتجه الى إلقاء المحاضرات الحرة في الفلسفة والادب في الكنيسة، وكتب بعد هذه المحاضرات أشهر كتبه (قصة الفلسفة) و(قصة الحضارة). كان أغلب جمهوره من الطبقة العاملة التي إستوجب توصيل المعلومات لها إستخدام أسلوب بسيط وربط التاريخ بالحاضر، ويظهر أسلوبه المبسط واضحا ً في كتاب (قصة الفلسفة) الذي يعتمد على السرد القصصي لحياة الفلاسفة، وشرح مبسط لفلسفاتهم، وقد نجح ويل في جذب القارئ حيث ذُكر أن مبيعات كتابه الطائلة مكنته من التفرغ باقي حياته لمشروعه الكبير كتاب (قصة الحضارة).
في كتاب (قصة الفلسفة) تحدث (ويل) عن (سقراط) أشهر الفلاسفة الذين شكلوا الفلسفة الاوربية، كان (سقراط) معلما ً محبوبا ً ومؤثرا ً في تلاميذه، يجمع الشباب من مختلف الخلفيات والتوجهات السياسية، ويحفزهم على التساؤل ومناقشة أفكارهم.
كانوا الشبان يلتفون حوله في جماعات كثيرة، ساعدته في خلق فلسفة أوربية. وكان بينهم رجال أغنياء مثل (أفلاطون) و(السبيادس)، وكانوا يستمتعون بتحليله وهجومه وقدحه للنظام الديمقراطي في أثينا وكان من بين الشباب بعض الاشتراكيين مثل (انتيثيناس) الذي أحب في سقراط عدم إهتمامه بفقره، وواحد أو إثنين من الفوضويين مثل (اريستيبوس) الذي تاقت نفسه الى عالم لاوجود فيه للأسياد أو العبيد، بحيث يكون سكان هذا العالم جميعهم احراراً بعيدين عن القلق مثل (سقراط)، إن جميع المشاكل التي تثير المجتمع الإنساني اليوم، وتقدم مادة لنقاش الشباب الذي لا ينتهي ؛أثارت وهيجت أيضا تلك الجماعات اليونانية الصغيرة من المفكرين والمحدثين، الذين شعروا مع معلمهم , أن الحياة بغير بحث وحديث، ليست جديرة بأن يعيش فيها الإنسان. لقد مثلت تلك الحلقات جميع الإتجاهات الفكرية والاجتماعية، وربما كانت هذه الاجتماعات أصل هذه الإتجاهات الفكرية الاجتماعية.
كان (سقراط) يقول: “لا أعرف سوى شيء واحد وهو أني لا أعرف شيئا”. فالفلسفة لا تتقدم إلا عن طريق تبني منهج الشك والبحث الدائم.
إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الانسان يتعلم الشك-خصوصا ً الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها. ومن يعرف كيف أصبحت هذه المعتقدات العزيزة علينا حقائق يقينية بيننا، وفيما إذا كانت لم تلدها خلسة رغبة سرية، ملبسة الرغبة ثوب الفكرة؟ لا وجود للسياسة الحقة مالم يتجه العقل الى فحص نفسه، لقد قال سقراط “اعرف نفسك“.
كان الفلاسفة مثل (طاليس) و(هرقليطس) قبل مجيء (سقراط) يبحثون في الكون وقوانين العالم المادي وأصل الأشياء، اما (سقراط) فقد اتجه في فلسفته الى بحث مسائل متعلقة بالأخلاق وعقل الانسان
إتجه الى سبر غور الروح الإنسانية، يستطلع الافتراضات ويستجوب اليقينيات وإذا تحدث الناس عن العدالة المتعارفة كان يسألهم بـهدوء، ما هي هذه العدالة؟ وماذا تعنون بهذه الكلمات المجردة التي تحلون بها بمثل هذه السهولة مشاكل الحياة والموت؟ وماذا تعنون بكلمة الشرف؟ والفضيلة؟ والأخلاق؟ والوطنية؟ وماذا تعني بنفسك؟
على الرغم من إعتراض البعض على أسلوبه الجدلي وأسئلته التي يرون أنها تثير إضطراب الرجال، إلا أن (سقراط) قدم جوابين لسؤالين مهمين وهما ما معنى الفضيلة؟ وماهي أفضل دولة؟ من خلال بحث إجابات هذه الأسئلة، حاول (سقراط) إصلاح الاخلاق العامة في أثينا، وإيجاد نظام حكم أفضل للدولة.
لقد أضعفت روح الفردية الخلق الأثيني، وتركت المدينة أخيرا ً فريسة أمام الأسبارطة الأشداء بطبعهم. أما بالنسبة الى الدولة أي شيء أشد سخرية من هذه الديمقراطية التي تقودها وتتزعمها الجماهير التي تسوقها العاطفة، هذه الحكومة التي تقوم على النقاش الشعبي، عزل القواد وتنفيذ الإعدام فيهم، هذا الاختيار -الذي لا اختيار فيه- للبسطاء من التجار والمزارعين في تناوب وتعاقب أبجدي كأعضاء للمحكمة العليا للبلاد، وكيف السبيل إلى إيجاد قيم أخلاقية جديدة في أثينا؟ وكيف يمكن إنقاذ الدولة؟
رأى (سقراط) بأن الفضيلة هي المعرفة، حيث أن معرفة الانسان بنفسه وبما ينفعها سيقوده الى التصرف وفقا ً لذلك، وما يصدر من الناس من شر إنما هو نتيجة لجهلهم بأنفسهم وبما ينفعها.
أدرك أن هناك شريعة أخلاقية أبدية لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف كالدين الذي آمنت به أثينا في ذلك الوقت. وإذا كان الانسان يقدر على بناء نظام من الأخلاق مستقل تماماً عن المبادئ الدينية، ويطبق على الملحد والقسيس على السواء، عندئذ قد تأتي الديانة وتروح من غير أن تحل الاسمنت الأخلاقي الذي يجعل من الأفراد مواطنين مسالمين في المجتمع. ويرى سقراط أن الدولة يجب أن توعي الناس بما هو في مصلحتهم وتعلمهم أن ينظروا الى النتائج البعيدة لتصرفاتهم الحالية، موافقة وبذلك يكون العقل والحكمة هو أساس المجتمع.
لذلك يجب تقديم المعرفة في اتخاذ القرارات التي هي في صالح الدولة، ولا يجب ان تؤخذ القرارات بناء على رأي الاغلبية فقط كما كان الحال في أثينا
إن الحاجة تقتضي بصيرة واضحة لضمان السلم والنظام والنية الطيبة. ولكن إذا كانت الحكومة نفسها حكومة تسودها الفوضى والسخافة، تحكم ولا تساعد، وتأمر ولا تقود، كيف تستطيع أن تقنع الفرد في مثل هذه الدولة على أن يطيع القوانين، ويحصر بحثه الذاتي داخل دائرة الخير العام؟ فلا غرابة أن تعم الفوضى في البلاد التي يسودها الجهل، حيث تقوم الجماهير بوضع القرارات في سرعة وجهل. أليس من الجهل أن يحل مجرد العدد محل الحكمة؟ وعلى العكس، ألا نرى الناس مجتمعين في جماعات، أكثر سخافة وعنفاً وقسوة منهم وهم منفصلون منفردون؟
وتَقَرر الحكم على سقراط بالموت لأنه استجوب المعتقدات الدينية وانتقد نظام الحكم الأثيني
تصور رد فعل الحزب الشعبي الديمقراطي في أثينا على هذا الإنجيل الأرستقراطي الذي كان يدعو له سقراط، في وقت استدعت في الحرب ضرورة اسكات كل نقد ولوم لسياسة الحكومة. وتصور شعور انايتس الزعيم الديمقراطي الذي رأى ابنه يصبح تلميذاً لسقراط ويتحول عن عبادة آلهة والده ويسخر منه في وجهه. تقرر مصير (سقراط) وأصبح واضحا. فقد كان الزعيم العقلي للحزب الثائر، مهما كان مسالما هو نفسه. فقد كان مصدر الفلسفة الأرستقراطية البغيضة ومفسد الشباب الذي أسكرهم النقاش، ورأى (انايتس) و(مليتس) زعماء الديمقراطية، ان من الأفضل ان يموت (سقراط).
سجل (أفلاطون) نهاية (سقراط) بنثر حزين يصف فيه كيف تم إعدامه بالسم. وذكر (أفلاطون) في نثره بأن (سقراط) رفض أن يطلب الرحمة، وأَثًر أن يموت شهيد الفلسفة دفاعا ًعن حق حرية الأفكار، كما أنه كان مؤمنا ً بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، ولذلك قال لأصدقائه الحزينين “أفرحوا وقولوا إنكم توارون في التراب جسدي فقط“. كتب (أفلاطون) في نثره:
نهض (سقراط) ودخل غرفة الحمام مع (كريتو) الذي طلب منا ان ننتظر، وانتظرنا نفكر ونتحدث. في حزننا الكبير، فقد كان لنا بمثابة الأب الذي سنفقده بعد قليل ونعيش بقية حياتنا يتامى، لقد اقتربت ساعة غروب الشمس، وعندما خرج علينا جلس معنا مرة ثانية، ودخل السجّان ووقف بجانبه قائلا: “اليك يا (سقراط) يا أنبل من جاءوا الى هذا المكان، سوف لا أتهم او أستذنب شعور الرجال الآخرين الذين يثورون ويشتموك عندما أقدم لهم السم واطلب منهم ان يشربوه اطاعة لأوامر السلطة. انت تعرف مأموريتي”، وبعدئذ انفجرت دموعه وخرج.قال السجان لـ(سقراط):
“عليك ان تمشي فقط الى ان تشعر بثقل قدميك فتستلقي وبهذا يسري السم في جسدك”. وفي الوقت ذاته، قدّم الكأس الى (سقراط) الذي اخذه بأسهل وألطف طريقة، وبدون وجل أو تغيّر في لونه او قسمات وجهه ناظرا إلى الرجل بملء عينيه كعادته دائما. ورفع الكأس الى شفتيه في هدوء تام وإبتهاج.لقد تمالك معظمنا شعوره حتى ذلك الوقت، ولكن عندما شاهدناه يشرب ورأيناه ايضا ينتهي من شربه لم نعد نقدر على تمالك شعورنا، وانهمرت دموعي على الرغم مني فغطيت وجهي وبكيت على نفسي لمجرد تفكيري في مصيبتي لفقدي مثل هذا الصديق.
واستمر (سقراط) في المشي هنا وهناك الى ان بدأت ساقاه تخونانه فاستلقى على ظهره. وكان الرجل الذي قدم له السم ينظر الى ساقيه وقدميه، وبعد فترة جس قدميه بشدة وسأله فيما إذا كان يشعر، فأجاب (سقراط) بالنفي، فجس ساقه واستمر يضغط على جسمه اعلى فأعلى وقال لنا انه أصبح باردا وجامدا، وشعر (سقراط) بذلك وقال: “ستكون النهاية عندما يصل السم الى القلب” وبدأ البرود يصل الى فخذيه فكشف وجهه (لأنه كان قد غطى نفسه) وقال، وكانت كلماته الاخيرة: “يا (كريتو)، انا مدين الى اسكيبيوس. ارجوك ان لا تنسى دفع هذا الدين“. وقال (كريتو): “سأدفع الدين، هل هناك شيء اخر؟“. ولم يسمع جوابا لهذا السؤال، وبعد دقيقة او اثنتين سمعنا حركة وقام الخادم بتغطيته وقام كريتو بإغلاق عينيه وفمه.
هكذا كانت نهاية صديقنا الذي أسميه بحق أحكم وأعدل وأفضل جميع الرجال الذين عرفتهم في حياتي