انتقل إلى المحتوى

نقاش المستخدم:Hussein metwalley: الفرق بين النسختين

محتويات الصفحة غير مدعومة بلغات أخرى.
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أحدث تعليق: قبل 8 سنوات من Hussein2016 في الموضوع شرح خمسين حديث من 31 حتى 50
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
سطر 8٬551: سطر 8٬551:
الحاشية رقم: 1
الحاشية رقم: 1
وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله .
وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله .

== شرح خمسين حديث من 31 حتى 50 ==

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ .
الحاشية رقم: 1
وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . --[[مستخدم:Hussein2016|Hussein2016]] ([[نقاش المستخدم:Hussein2016|نقاش]]) 06:10، 25 مايو 2016 (ت ع م)

نسخة 06:10، 25 مايو 2016

مرحبًا ، وأهلًا وسهلًا بك في موسوعة ويكيبيديا. ويكيبيديا هي موسوعة حرة، يمكن للجميع تحريرها. كي تستطيع تحرير الموسوعة بشكل أفضل؛ هذه بعض الإرشادات لبداية جيدة:

لاحظ أنه يجب إضافة المصادر ما أمكن للمعلومات التي تُضيفها إلى الموسوعة، كما ينبغي تجنب خرق حقوق النشر. إذا ما أردت إنشاء مقالة جديدة، يُفضل أن تبدأها في الملعب أولًا، ثم نقلها إلى الموسوعة. أخيرًا، لا تتردد في طلب المساعدة إذا ما واجهتك أي مشكلة، وذلك بطرح سؤالك على فريق المساعدة. بالتوفيق.

-- Dr-Taher (نقاش) 18:45، 13 أكتوبر 2015 (ت ع م)ردّ

وثيقة توثيق الأمم المتحدة بملكية مصر لجزيرتى تيران وصنافير

Skip to content www.Islamic Religion.com By Hussein Metwalley 26 أبريل,2016تحرير وثائق الأمم المتحدة تحسم الجدل حول تبعية جزيرتي تيران وسنافر ثار الكثير من الجدل في الفترة الماضية حول تبعية جزيرتي تيران وسنافر الواقعتين في مدخل خليج العقبة بالبحر الأحمر، بعد أن وقعت الحكومة المصرية مع نظيرتها السعودية اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية، تنتقل بموجبها الجزيرتان إلى سلطة المملكة العربية السعودية❓⁉

ونشرت الحكومة المصرية عدة وثائق تزعم إثباتها الملكية التاريخية للمملكة العربية السعودية، من بينها مقال بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية وقرار لرئيس الجمهورية الأسبق محمد حسني مبارك بترسيم الحدود البحرية عام 1990،⁉

لكن هذه الوثائق لم تقنع الفريق المدافع عن مصرية الجزيرتين وظل الفريقان يبحثان عن أدلة أكثر وضوحا وقطعية.

ومن خلال البحث المستمر توصل الصحفي المصري آدم ياسين إلى نص محضر جلسة الأمم المتحدة المنعقدة في 15 فبراير عام 1954،

حول جزيرتي تيران وصنافير وأحقية مصر في التحكم في خليج العقبة.

وحسمت وثيقة الأمم المتحدة هذا الجدل الدائر وأكدت بما لا يدع مجال للشك مصرية الجزيرتين،

على لسان سفير مصر لدى الأمم المتحدة، الذي فند الادعاءات الإسرائيلية بعدم ملكية مصر للجزيرتين،

وأكد سيطرة مصر على الجزيرتين منذ عام 1841 مرورا باتفاقية سايكس بيكو ثم الحرب العالمية الثانية وحرب 1948 إلى وقت الجلسة عام 1954.

البند 60 من وثيقة الأمم المتحدة حول جزيرتي تيران وصنافير UN.ORG البند 60 من وثيقة الأمم المتحدة حول جزيرتي تيران وصنافير وأكدت المذكرة المصرية المقدمة للأمم المتحدة عام 1954 في البند 60 أن السجلات الرسمية للحرب العالمية الثانية تثبت وجود القوات المصرية على الجزيرتين كجزء من النظام الدفاعي المصري خلال تلك الحرب، وقد تعاونت تلك الوحدات المصرية مع القوات الجوية والوحدات البحرية بمهمة حماية النقل البحري في البحر الأحمر ضد هجمات الغواصات.

وفند السفير المصري الإدعاء الإسرائيلي باحتلال مصر المفاجئ للجزيرتين عام 1950، وأكد أن الجزيرتين تقعان تحت السيادة المصرية منذ عام 1906.

البند 132 من وثيقة الأمم المتحدة حول تيران وصنافير UN.ORG البند 132 من وثيقة الأمم المتحدة حول تيران وصنافير وأشار البند 132 من المذكرة المصرية إلى أنه في عام 1906 تم ترسيم الحدود بين مصر والإمبراطورية العثمانية، ولأسباب “تقنية” شرعت مصر في احتلال الجزيرتين، وذكر البند أن هذا الاحتلال كان مثار لتبادل الآراء والرسائل بين الإمبراطورية العثمانية والحكومة المصرية الخديوية، وأصبح الأمر حقيقة واقعة ثابتة منذ ذلك الوقت بالسيادة المصرية على الجزيرتين.

البند 133 من وثيقة الأمم المتحدة UN.ORG البند 133 من وثيقة الأمم المتحدة وأكد البند 133 على أن مصر اتفقت مع السعودية على احتلال الجزيرتين وأنهما يمثلان جزء لا يتجزأ من الأراضي المصرية، وقال السفير المصري “أبرمت اتفاقية بين مصر والسعودية أكدت ما أسميه، ليس ضم وإنما احتلال الجزيرتين، والأهم من ذلك الاعتراف بأن الجزيرتين تمثلان جزء “لا يتجزأ من الأراضي المصرية.

ويمكن مراجعة نص الوثيقة من خلال الموقع الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة على الإنترنت من خلال الرابط التالي:

نص مذكرة مصر للأمم المتحدة عام 1954 حول تبعية جزيرتي تيران وصنافير لمصر UN.ORG نص مذكرة مصر للأمم المتحدة عام 1954 حول تبعية جزيرتي تيران وصنافير لمصر UNITED NATIONS / NATIONS UNIES TABLE DES MATIERES SilCURITY COUReiL OFFICIAL RECORDS ùOCUMf ‘N1S Hussein metwalley (نقاش)j~ST( ER iNDEX UNIT JU\’i l ô 1954 Provisional agenda (S/Agenda/659) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 1 Adoption of the agenda. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 1 The Palestine question: ( a) Complaint by Israel against Egypt concerning: (i) enforcement by Egypt of restrictions on the passage of ships trading with Israel through the Suez Canal; (ii) interference by Egypt with shi’Pping proceed.ing to the Ieraeli port of Elath on the Gulf of Aqaba (5/3168 and Add.l, 5/3179) (continued). . . . . . . . . . . . 1 NEUVIEME ANNEE TABLE OF CONTENTS CONSEIL DE SECURITE PROCES-VERBAUX OFFICIELS NEW YORK Ordre du jour provisoire (S/Agenda/659) o ••••••••• ••••••••••• 1 Adoption de l’ordre du jour ‘. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 1 La question de Palestine: a) Plainte d’Israël contre :l’Egypte, au sujet de: i) l’imposition par l’Egypte de restrictions au passage par le canal àe Suez des navires faisant commerce avec Israël; ii) l’application par tEgypte d’en- traves à la navigation des navires se rendant au port israélien d~Elath, dans le golfe d’Akaba (5/3168 et Add.l, 5/3179) [suite] 1 2.- p. 659th MEETING: 15 FEBRUARY 1954 ème SEANCE: 15 FEVRIER 1954 _ …—-i’II!I!!!!lI-IlIII’!!!I–!I!!IIII’!I!l!!!IIlI!!I!!!I!!IlI!I!!~—–~— ..’-lI ↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

Relevant documents not reproduted in full in the texts of the meetings of the Security Council are published in quarterly supplements to the Official _”‘?ecords. Symbols of Ut~ited Nations documents are composed of capitalletters combined with figures. Metztion of such a symbol indicates a reference ta a United Nations doctl1nent.

• • Les documents pertinents qui ne sont pas reproduits in estenso dans le te.xte des séances du Conseil de sécurité sont publiés dans des suppléments trimestriels aux Procès-ver-bau.’r officiels. Les cotes des dOC1mtp.nts de l’Organisation des Nations Unies se composent de lettres majusc’ltIes et de chiffres. La simple men.tion d’mie cote dans un teste signifie qu’il s’agit d’un document de l’Organisation.

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔ Held in New York, on l\fonday, 15 February J.954, at 3 p.m. SIX CENT CINQUANTE.NEUVIEME SEANCE Tenue à New-York, le lundi 15 février 1954, à 15 heures. Presi-dent: Mr. L. K. MUNRO (New Zealand). Present: The representatives of the following coun- tries: BraziI, China, Colombia, Denmark, France, Lebanon, New Zealand, Turkey, Union of Soviet Socialist Republics, United Kingdom of Great Britain and Northern Ireland, United States, of America. Provisional agenda (S/Agenda/659) 1. Adoption of the agenda. 2. The Palestine question: (a) Complaint by Israel against Egypt concerning (i) Enforcement by ~oypt of restrictions on the passage of ships tl”‘d.ding with Israel through the Suez Canal; (ii) Interference by Egypt with shipping proceeding to the Israeli port of Elath on on the Gulf of Aqaba; (b) Complaint by Egypt against Israel con- ceming violations by Israel of the Egyptian- Isrcleli General Armistice Agreement at the demilitarized zone of El Auja. Adoption of the agenda The agewia was adopted. The Palestine question (0) Complaint by Israel against Egypt concerning: (i) enforcement by Egypt of restrictions on the passage of ships trading with Israel through the Suez Canal; (li) interference by Egypt with shipping pi”oceeding to the Israeli port of Elath on the Gulf of Aqaba (S/3168 and Add.l, 8/3179) (continued) 1. The PRESIDENT: The Council will continue with the discussion of that part of the item appearing under (a), “Complaint by Israel against Egypt con- cerning (i) enforcement by Egypt of restrictions on the passage of ships trading with Israel through the Suez Canal, (ii) interference by Egypt with shipping proceeding to the Israeli port of Elath on the Gulf of Aqaba”. At the invitation of the President, Mr. Ghaleb and Mr. Azmï, representatives of Egypt, and Mr. Ebaml, representative of Israel, took places at the CO’uncil table. 2. :Mr. GHALEB (Egypt): The Egyptian delegation proved by facts and figures, in its preliminary inter- vention in this debate, the lack of seriousness in the Israel complaint. If at that time we refrained from embarking upon all the judicial issues concerning the 1 Président: M. L. K. MUNRO (Nouvelle-Zélande). Présents: Les représentants des pays suivants: Brésil, Chine, Colombie, Danemark, France, Liban, Nouvelle-Zélande, Turquie, Union des Républiques socialistes soviétiques, Royaume-Uni de Grande-Bre- tagne et d’Irlande du NOïd, Etats-Unis d’Amérique. Ordre du jour provisoÎrp. (S/Agenda/659) 1. Adoption de l’ordre du jour. 2. La question de Palestine: a) P:ainte d’Israël contre l’Egypte, au sujet de: i) L’imposition par l’Egypte de restrictions au passage par le canal de Suez des navires faisant conunerce a.vec Israël; ii) L’application par l’Egypte d’entraves à la navigation des navires se rendant au port israélien d.’Elath, dans le golfe d’Akaba; b) Plainte de l’Egypte contre Israël, pour viola- tions par Israël de la Convention d’annistice général égypto-israélienne dans la zone démi- litarîsée d’El Auja. Adoption de l’ordre du jOill’ L’ordre du jour est adopté. La question de Palestine a) Plainte d’Israël contre l’Egypte, au sujet de: i) l’imposition par l’Egypte de restrictions au passage par le canal de Suez des navires fai· sant commerce avec Israël; li) l’application par l’Egypte d’entraves à la navigation des navires se rendant au port israélien d’Elath, dans le golfe d’Akaba (S/3168 et Add.l, S/3179) [sltite] 1. Le PRESIDENT (traduit de lJ(Ml'{Jlais): Le Con- seil va continuer l’examen du point 2, a, de l’ordre du jour, intitulé “Plainte d’Israël contre l’Egypte, au sujet de: .i) l’imposition par l’Egypte de restrictions au passage par le canal de Suez des navires faIsant commerce avec Israël; ii) l’application par l’Egypte d’entraves à la navigation des navires se rendant au port israélien d’Elath, dans le golfe d’Akaba”. Sur l’invitation du Président, M. Ghaleb et M. Az-mi, représenltants de l’Egypte, et M. Eban, représenfalJtt d’Israël, prennent place à la table du Conseil. 2. M. GHALEB (Egypte) (traduit de l’anglais): Au cours de son intervention préliminaire dans ce débat, la délégation égyptienne a démontré par des faits et des chiffres que la plainte d’Israël n’est pas fondée. S’il est vrai que nous nous sonunes abstenus

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

eceivabiHty of tbe Israel complaint and the legal foundations on which our rights are solid1y based, it was not due to any doubt on our part regardiugo those issues; it was only to show our g-ood will and our spirit of oo-operation and conciliation. 3. No one who had followed the debates in th~ Security Council on the question now before’ it could have failed to notice that the representative of Israel, at the last meeting of the Council, repeated almost exactly the ‘same set of arguments he had made in July 1951. His reputation in the sphere of polemics and his command of the Engolish language could not, however, serve to camouflage Israel’s motive in reacti- vating a case which is more than two years old. We are not in any manner denying the right of a Member State to bring a legitim;J.te complaint to the Security CoundI; but we maintain t..~~ c Israel should not have attempted to utilize the tir. . of the Council for pro- paganda purposes. 4. Ta avoid a further discussion about the definition of “abnormnl” or “unusual”, pt-nnit me to observe that it is unrealistic for the Government of Israel to come back to the table of this Council to seek the immediate cessatîon by Egypt of visiting or searching less than two of every thousand ships passing through the Suez Canal. It is unrealistic, if not fantastic, to require Egypt to stop confisc~ting what it has not ~onfiscated. Undoubtedly it is no compliment to the intelligence of all org-ans of the Unhed Nations to cause an “s” document œferring to a “Gulf of Eilat” to he circu- lated. 5. \Ve a;~ not denying the very reasonable measures pràctised il! our own territorial waters under established mIes of international law; but we most œrtainly and vigorously deny Israe~’s right ta challenge the legal basis of these measures, or ta dispute the inhercnt right of self-preservation. 6. The Israel armed forces having âdvanced to the Gulf of Aqaba only two weeks after the signing of the Egyptian-Israe1 General Armistice Agreement 1; having thereby, according ta an official Israel state- ment, “completed the control of the Negeb”; having established a beachhead that deve10ped into a military a..’l.d naval base; having enveloped the Egyptian right flank – now, which unsurpassed audacity, the Israel representative cornes to the Security Council to enlist the co-operation of Egypt in maintaining, consolidating and victualling the Israel armed forces that advanced to the Red Sea a few days after the signature of the Armis- tice Agreement with Egypt. 7. Such an imposition could he made under the law of the jungle, but certainly not under international Ïaw or under the law of the United Nations. 1 See Official Records of the Security COltncil, Fourth Year, Special S1tpplement No. 3. alors d’examiner si la plainte d’Israël juridiquement est recevable, et que nous nous sommes également abstenus d’énoncer les solides fondements juridiques de nos droits, ce n’est pas parce que nous avions le moindre doute sur ces deux points, mais parce que nous avons voulu témoigner de notre bonne volonté et de notre esprit de coopération et de conciliation. 3. Tous ceux qui ont suivi les débats que le Conseil de sécurité a consacrés à la question dont nous sommes saisis n’ont pu manquer d’observer que le représen- _tant d’Israël, à la dernière séance du Conseil, a repris presque exactement les arguments qu’il avait déjà présentés en juillel: 1951. Sa réputation de polémiste et sa maîtrise de la langue anglaise ne SUlTIsent pas cependant à camoufler les raisons pour lesquelles Israël remet sur le tapis une question vieille déjà de plus de deux ans. Nous n’entendons nier en aucune façon le droit d’un Etat Membre de saisir le Conseil de sécurité d’une plainte légitime, mais nous estimons qu’Israël n’aurait pas dû tenter de prendre le temps du Conseil à des fins de propagande. 4. Afin d’évirer une nouvelle- discussioû au sujet de l’acception du terme “anormal” ou “inhabituel”, per- mettez-moi de faire remarquer que le Gouvernement israélien pèche par manque de réalisme lorsqu’il se présente à nouveau devant le Conseil dans l’espoir d’obtenir que l’Egypte cesse i!11médiatement des Of é- rations de visite ou de fouille qui portent Sl1r moins de deux navires pour mille qui traversent le canal de Suez. C’est manquer de réalisme, c’est même faire preuve d’aberration que de demander à l’Egypte de cesser de confisquer ce qu’elle n’a pas confisqué. Et c’est insulter à l’intelligence des organes des Nations Unies que de faire distribuer un document de la série “S” qui mentionne un “golfe d’Elath”. 5. Nous ne cherchons pas à dissimuler les lnesures très raisonnables que nous prenons dans nos propres eaux territoriales en vertu des règles recoIl11JUes du droit international, mais nous dénions assurément, et de la façon la plus ~nergique, le droit d’Israël de contester le bien-fondé juridique de ces mesures ou de nous empêcher à exercer notre <irait de défense légitime. 6. Alors que les troupes israéliennes ont avancé jusqu’au golfe d’Akaba deux semaines seulement après la signature de la Convention d’armistice général par l’Egypte et Israel l , alol”S qu’elles ont de ce fait, et aux termes mêmes d’une déclaration officielle israé- lienne, “placé sous leur contrôle la région du Négeb”, et que, après avoir établi une tête de pont- qu’elles ont ensuite développée en une base navale et militaire – elles ont enveloppé l’aile droite égyptienne, le porte- parole israélien, avec une audace sans pareille, ose venir devant le Conseil de sécurité pour obtenir de l’Egypte qu’elle aide Israël à maintenir, à renforcer et à ravitailler les troupes israéliennes qui ont avancé j11Squ’à la mer Rouge quelques jouri seulement après la conclusion de la Convention d’armistice avec l’Egypte. 7. Il se peut qu’une telle prétention soit autorisée par la loi de la jungle; elle est certainerrrent inadmissible aux termes du droit inœrnational et au regard des principes qui régissent l’Organisation des Nations Unies. 1 Voir Procès-verbaux officiels du Conseil de sécurité, ql«1- trième année, Supplément spécial No· 3. 1 8. In 1 Augu sentativ HA. sentat staten cingly ment law.” Aftcr applies. 9. To the righ band, r national certain incontes torial w waters, iegally measure appropri 10. An is that t agreeme visit, se itself cl 11. No can a p the ado large ar establish 12. Fo a iU’St ta darif 14. W Security of war t lutions s tmce in tion in gerents, Chapter been no no armi ]5. At restrietiv when th wars, at 2 Ibid., S/SOI.

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

8. In his statement before the Security Council on 1 August 1951 [550th ‘meeting, para. 18], the repre- sentative of Egypt declared: “As for ‘international law’, whatever the repre- sentative of Israel means by it, there is not in the statement of Israel a single thing ta show convin- cingly or even plausibly which acts of the Govern- ment of Egypt in this connexion contravene which law.” Aftc:r more than two years, the same remarks still applies. It will for years to come. 9. To judge whether Egypt is entitled ta practise the right of visit, search and confiscation of war contra- band, reference must be made to the rules of inter- national law. A state of war gives the belligerents certain rights. Foremost amonsgt these rights is tHe incontestable right of visit and search of tihips in terri·· torial wathers, in ports, in mid-ocean and in en~my waters, with a view to the confiscation of what is legally considered war ccntraband. Such preventive measures are practised under the judicial control of appropriate courts. 10. Another incontestable iule of internatioùal law is that the conclusion of a partial or general annistice agreement does not in any way diminish the right of vi’Sit, search and confiscation, unless the agreement itself clearly provides for such restriction. 11. Nowhere in the Charter of the United N~iions can a provision be found modifying these rules. Sinœ the adoption of the Charter, international practice in large areas has gone a long way to confinn these established rules. 12. For the Security Council to consider the case in a iU’S~ and equitable manner, it might perhaps be useful, to clarify the various issues, to find just and equitable answers to a few relevant questions. 13. The first question that cornes to mind is whether there has been an armed conflict or struggle between the anned forces of Egypt and Israel. The obviousness of this fact renders any controversy about it mere sophistry, with no relevance whatsoever to the clarity of the issue or to its hard facts. World public opinion has not been unaware of the stark realities of the war in Palestine. 14. \Vhen dealing with the situation in 1948, the Security Council addressed its resolutions to the sté’.te of war that had existed. The Security Council’s reso- lutions since that of 29 May 1948 2, establishing the tmce in Palestine, have always considered the situa- tion in Palestine as an al.-med conflict between belli- gerents, and, consequently, action was taken under Chapter VII of the Charter. Furthermore, if there had been no state of war, naturally there could have been no armistice. 15. At a time when a departure from the orthodox, restrietive definition of war bas been made, at a time when the world has come to know of hot and cold wars, at a tii1;e when even the temperature is regulated 2 Ibid., Third Year, Supplement for May 1948, document S/801. 3 8. Le 1er août 1951, le représentant de l’Egypte a fait la déclaration suivante devant le Conseil de sécurité [550èmc séance, par. 18] : “Qu:mt au “droit international”, quel que ‘Soit le sens que le représentant d’Israël attache à ce tenne, rien dans la déclaration d’Israël ne montre de façon convaincante ou même plausible quels actes du Gouvemement égyptien auraient violé le droit inter- national, ni à quelles règles de ce droit ces actes auraient contrevenu.” Deux ans plus tard, cette observation reste valable. Elle le iiemeurera encore pendant de nombreuses années à venir. 9. Pour déterminer si l’Egypte peut faire usage du droit de visite, de fouille et de confiscation en matière de contrebande de guerre, il convient de se référer aux règles du droit intemationa1. L’état de guerre con- fère certains droits aux be1ligétants. Parmi les tout premiers de ces droits figure le droit incontestable de visiter et de fouiller les navires qui se trouvent dans les eaux territoriales, daP..s les ports, en haute mer et dans les eaux ennemies, afin de confisquer tout article légalement considéré comme article de contre- bande. L’exécution de ces mesures préventives est soumise au contrôle judiciaire de tribunaux. compé- tents. 10. Une autre de ces règles incontestables du droit international est que, sauf di’5positions expresses de la convention elle-même, la conclusion d’une conven- tion d’amnstice partid ou général ne porte nullement préjudice au droit de visite, de fouille et de confiscation. Il. La Charte des Nations Unies ne contient aucune disposition qui soit de nature à modifier ces règles. Depuis que la Charte a été adoptée, l’usage inter- national a, dans plus d’une région, amplement con- firmé ces règles établies. 12. Pour que le Conseil de sécurité soit en mesure d’examiner cette affaire de façon juste et équitable, il serait peut-être utile, s’il veut faire la lumière sur les divers points, de chercher une réponse juste et équitable à quelques questions qui s’y rapportent. 13. La première question qui vient à l’espcit est celle de savoir si, oui ou non, il y a eu un conflit entre les troupes égyptiennes et les troupes israéliennes. Une réponse affinnative s’impose avec une évidence qui montre que toute controverse sur ce point serait oiseuse et dépourvue du moindre rapport avec l’intelli- gence de la question comme avec les simples faits. L’opinion publique mondiale n’a pas ignoré les réalités brutales de la guerre en Palestine. 14. Lorsque le Conseil de sécurité a examiné la situa- tion en 1948, les résolutions qu’il a adoptées avaient trait à un état de guerre qui avait réellement existé. Dans ses résolutions postérieures à celle du 29 mai 1948 2 institttant la trêve en Palestine, il a toujours con- sidéré la situation en Palestine comme un conflit armé entre belligérants et, en conséquence, des mesures ont été prises conformément au Chapitre VII de la Charte. D’ailleurs, en l’absence d’état de guerre, il n’y aurait évidemment pas eu d’annistice. 15. A un moment oÙ l’un s’est écarté de la définition orthodoxe et restrictive de la guerre, à un moment où le monde connaît à la fois la “guerre chaude” et la “guerre froide”, où même la température de la guerre 2 Ibid., troisième année, Supplément de mai 1948, document

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

from day to clay, it certainly seems strange that the right of helligerency, emanating from an armed struggle affecting the very existence of millions of Arabs, is 50 placidly pushed aside. It certainly seems strange that a \Var which has resulted in the expulsion of one million people cannot be caUed by its proper name. 16. This might be the second question: Has the Egyptian-Israel General Annistice Agreement put an end to the legal state of war between the two parties? 17. In his statement [658th meeting] before the Security Council the representative of Israel, in an effort to p!’ove .that the Agreement established a con- dition tat’ltamount to peace, alleged that Egypt was building its theory of the existence of a legal state of war on the basis of the occurrence, somewhere in the Agreement, of the word “armistice”. Did he expect anyone at this table to he that credulous? Was he unaware of the fact that he was referring to an official United Nations document, available to the Council. to the Press and to the public? If the Egyptian- Israel Armistice Agreement differed from any other known armistice, it might be due to the fact that the nature and intent of that Agreement are repeated so many times in its articles and clauses. The Agree- ment persistently repe:J.ted that it was only a step from truce to peace; that it was not peace. 18. l should like ta refresh the Israel representative’s memory, which must now be overcrcwded with many matœrs, such as that involving the recent shouting of certain crowds. l should like ta refer ta the Agree- ment which, the Israel representative alIeges, has the word “armistice” unwittingly scribbled somewhere on the’ paper on which it is written. 19. In article l, the Agreement speaks of itself as “an indispensahle step toward the liquidation of. armet!. conflict and the restoration of peace in Palestine”. Paragraph 3 of article IV further clarifies the nature and intent of the Agreement as folIows: “The pro- visions of this Agreement are dictated exc1usively by military considerations … “. If that does not mean at least that astate other than peace lega1ly exists, l beg ta ask: What is the reason for the repetition in the Agreement that it is only a step to peace, that it is dictated only by military considerations? 20. In this respect, l find that it is also incumbent on me ta invite the Council’s attention to its own discussions on the purposes of the armistice. 21. At the Council’s 380th meeting on 15 November 1948, during the debate that immediately preceded the adoption of its resolution calling for an annistice, a very important and significant discussion took place on the question of what the Council should caU for: should it caU for ..ln armistice, or should it calI for peace? 22. In introducing the draft resolution, General Mc- Naughton of Canada said that it was an advance from the conception of a truce to that of an armistice. 23. In explaining the meaning of the armistice [380th meeting], Mr. Bunche held the sound view that the est réglée de jour en jour, il doit certainement paraître étrange que le droit de belligérance, issu d’un conflit armé qui intéresse l’existence même de millions d’Arabes, soit négligé avec tant de désinvolture. Il doit paraître étrange que l’on n’ose appeler par son vrai nom une guerre qui a provoqué l’expulsion d’un million de personn~. 16. Et voici ce que pourrait être la deuxième ques- tion: la Convention d’armistice gén~ral égypto-israé- Henne a-t-elle mis fin en droit à l’état de guerre entre les deux parties? 17. Dans la déclaration qu’il a faîte au Conseil de sécurité [658ème séat:ce], le représentant d’Israël, s’efforçant de démontrer que la convention établissait une situation équivalente à la paix, a affirmé que l’Egypte étayait sa théorie – savoir l’existence en droit d’un état de guerre – sur le fait que le mot “annis- tice” figure quelque part dans la convention. Le repré- sentant d’Israël s’imaginait-il que quelqu’un à cette table fût assez crédule? Ignorait-il qu’il s’agit d’un document officiel des Nations Unies que les membres du Conseil, la presse et le public peuvent consulter? S’il est vrai que la Convention d’armistice égypto- israélienne se distingue des dispositions régissant n’importe quel autre armistice connu, cela pourrait être dû au fait que les articles et les clauses de cette convention insistent si souvent sur la nature et le but de l’instmment. La convention ne cesse de répéter qu’elle n’est qu’une étape entre la trêve et la paL'{ et qu’elle n’est pas encore l::t paix. 18. J’aimerais rafraîchir la mémoire du représentant d’Israël, qui doit être actuellement encombrée de bien des affaires – les récentes clamf’urs de certaines foules, par exemple. Aussi citerai-je la convention même, dans laquelle -le représentant d’Israël nous l’a affinné -le mot “armistice” a été griffonné d’une façon irré- fléchie sur le papier. 19. L’article premier dispose que la convention est “une indispensable étape vers la fin du conflit armé et du rétablissement de la paix en Palestine”. Le paragraphe 3 de l’article IV précise comme suit la nature et le but de la convention: “Les dispositions de la présente Convention ne sont dictées que par des considérations militaires.” Si cela ne signifie pas, polIr le moins, qu’il existe juridiquement un état autre que la paix, je suis amené à poser la question suivante: pour quelle raison la conve!ttion insiste-t-elle sur le fait qu’elle n’est autre chose qu’une étape vers la paix, dictée exc1usiven1ent par des considérations militaires? 20. A ce propos, j’estime qu’il est de mon devoir de rappeler au Conseil de sécurité les discussions qu~il a eues lui-mêm~ au sujet des buts de l’armistice. 21. A la 380ème séance du Conseil, tenue le lS no- vembre 1948, au cours des échanges de vues qui ont eu lieu à la veille m~me de l’adoption de la résolution relative à l’am1istice, une discussion très importante s’est déroulée sur la question de savoir ce que le Conseil devait faire: devait-il inviter les parties à conclure un armistice, ou devait-il leur enjoindre de signer la paix? 22. En présentant le projet de résolution, le général McNaughton, représentant du Canada, a dit qu’on avait fait un pas en avant en dépassant la notion de trêve pour adopter l’idée d’un armistice. 23. En expliquant la portée du terme “annistice”, M. Bunche a déclaré [380ème séance] à très just”

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

paraître

in conflit millions Ilture. Il par son ion d’un ne ques· >to-israé·

Te entre

Inseil de d’Israël, tablissait mé que en droit “annis- .e repré- à cette git d’un nembr-es Insulter? égypto- ‘égissant pourrait de cette

t le but

répéter la paL”‘{ ésentant de bien , foules, même, affirmé on irré- lion est it armé le”. Le suit la

ions de

par des tS, polIr .tre que tivante: sur le la paix, litaires? voir de qu’il a 15 no- ont eu ,olution K>rtante que le rties à ldre de général lU avait e trêve tistice”, s just” armistice differed from a truce in that it provided “for a separation of the forces … and their withdrawal and reduction to peace-time status”. 24. More significant, perhaps, was the opposition of Mr. Philip J essup, the United States representative, ta a move in the Council to caU for the establishment of a state of peace, and not of an armistice. Mr. J essup, the eminent and well-known juri’St, had this to say on hehalf of the United States [380th meeti11’!J, p. 27] : “For our part, we do not feel that it is practicable ta move immediately into that state … ” l\1r. Jessup added [380th meeting, p. 27]: ” … we do think that the intermediate state of armistice is a feasible and necessary step on the way towards the final goal.” 25. The Security Couneil resolution of 16 November 1948 3 establishing the armistice coulel not, therefore, have been hastily written. It was the specifie result of a specifie discussion. Rence, it meant exactly what it said when it dec1ared: ” … in orde….. to . .. facilitate the transition from the present truce to permanent peacc in Palestine, an armistice shaH be established in all sectors of Palestine”. 26. With the provisions of the Armistice Agree1I1ent as they stand, and with the records of the Security Cauneil as they are, can it be denied that a legal state of war doe.<; exist between Egypt and Israel? The provisions of the Arn1istice Agreement and the Security Couneil’s records would have to be scrapped if the assertion were to be made that a state of peace exists today between the two parties. 27. The representative of Israel described the Armis- tice Agreement as a unique instrument. Re quoted sorne sources which predicted that volumes would be written on such a unique armistice. Pending the publication of that material and the termination of the extravagant studies by the Israel authorities, I wish to make a few observations on the unique character of the armistice. This is perhaps the first time that we find ourselves in agreement with the represe!i~ative of Israel– at least as regards a certain adjective. 28. The Egyptian-Israel General Armistice Agree- ment is indeed unique. It is unique in that it allotted an entire, independent paragraph – to what? To the right ta freedom from fear. It could not have listed all the freedoms; it could not have specified freedom from want; but it ·specifically insisted on freedom from fear. 29. Paragraph 3 of article I – which everyone can look up, right here and now – says: “The right of each Party to its security and freedom from fear of attack by the armed forces of the other shall be fully respected.” 3 Ibid., Supplement for N ovember 1948, document Sj1080, titre qu’un armistice était différent d’une trêve en ce qu’il envisageait “la séparation des forees almées … leur retrait et leur réduction à un effectif du temps de paix”. ‘ 24. Ce qui est plus important encore, c’est que M. Philip Jessup, représentant des Etats-Unis, s’est opposé à ce que le Conseil de sécurité invitât les parties à signer la paix au lieu de conclure un simple annis- tice. M. Jessup, juriste éminent et qui fait autorité, a déclaré ce qui suit au nom des Etats-Unis d’Amé- rique [380ème séa.nce, p. 27] : “Il ne nous semble pas que cela [c’est-à-dire le passage sur-le-champ à l’état de paix permanent] soit réalisable”. Et M. Jessup a ajouté [380ème séance, p. 27] : “Nous estimons que le ‘stade intermédiaire de l’armistice peut et doit constituer une étape qui nous f;)pproche du but final.” 25. Par conséquent, la résolution du 16 novembre 1948 8, par laquelle le Conseil {h.: sécurité instituait un armistice, n’a certainement pas été rédigée en toute hâte. Elle était le l”ésuItat précis d’une discussion bien déterminée. Aussi la signification de ce texte ne prête- t-elle à aucune équivoque: ” … afin . .. de faciliter le passa.g-e de la trêve actuel’e à une paix permanente en Paiestine, il sera. conclu un rrmistice dans tous tes secteurs de la Palestine.” 26. Comment le texte des dispositions de la Conven- tion d’armistice ei des documents officiels du Conseil de sécurité permettrait-il de nier qu’en droit un état de guerre existe entre l’Egypte et Israël? Pour affinner qu’à l’heure actuelle l’état de paix règne entre les deux parties, il faudrait ne tenir nul compte des dispo- sitions de la Convention d’armistice et des documents du Conseil. 27. Selon le représentant d’Israël, la Convention d’armistice est un instrument “unique”. M. Eban a même cité certains auteurs qui ont prédit que des volumes seraient consacrés à cet armistice unique. En attendant que ces ouvrages soient publiés et que les autorités israéliennes aient terminé leurs études extra- vagantes, je tiens à formuIer quelques observations au sujet du caractère “unique” J.e la Convention d’armistice. C’est, je crois, la première fois que le représentant d’Israël et moi-même nous trouvons d’accord, du moins en ce qui concerne un adjectif particulier. 28. Il est exact que la Convention d’armistice général égypto-israélienne est un instrument unique. Elle est unique en ce sens qu’un de ses paragraphes est tout entier consacré à la notion que voici: le droit de vivre à l’abri de la crainte. La convention ne pouvait énu- mérer tous les droits – elle ne pouvait stipuler le droit de vivre à l’abri du besoin – mais elle insiste expressément sur le droit dè vivre à l’abri de la crainte. 29. Le pat~”Taphe 3 de l’article premier, auquel chacun peut se reporter, ,prévoit: “Le droit de chacune des parties à être assurée de sa sécurité et à ne pas craindre d’attaques de la part des forces armées de l’autre partie sera pleine- ment respecté.” 3 Ibid., Supplément de 1wvembre 1948, document Sjl080. 5

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

The Council could not pa’Ss lightly over this most funda.-nental principle established by the Armisticp. Agreement. The .Agreement was not signed 11nti] every article, every paragraph and every sentence had been carefully weighed. 30. On 4 Augt<st 1949 [433rd meeting], following the establishment of all the Armistice Agreements, Mr. Bunche declared: “The Armistice Agreements are not the final peace settlement, but the on1y possible interpretation of their very specifie provisiofls is that they signal the end of the military phase of the Palestine situa- tion.” 31. If the very specifie provision concerning the right to “securitv and freedom from fear of attack” does not entitle· Egypt to exercise the absolute minimum of its inherent rights on its own land, in its own terri- torial waters, why, in the name of aU the principles of the Charter, was ‘Such a provision included in the Agreement? C:ould the Copncil deny us a specific freedom specifically provided for in the Armistice Agreement? Coulà the Council deny us our right to security and freedom from fear? Could Egypt he denied such freedom in the light of the record of Israel violations as it stands? Could we be denied the right to freedom from fear when fcarlul aggressions and fearful atrocities are committed by Israel every day? Could the Councii contemplate anything tantamount to issuing a… order to Egypt to place itself at the disposaI of the Israel armed Înrces, to service their lines of communications, to assist in supplying them with arms and equipment in order for them to advance into more zones, to march into more areas, to kill more Arabs? Could such a course of action enhance the prospects of peace and stabiHty in the Middle East? 32. l have so far been addressing myself to the intent of the provisions of the Egyptian-Israel General Armistice Agreement, to the clear eut statements made in the Security Cound by the authors of the resolut::m establishing that armistice, and irtdeed to the resolution itseli. 33. Let me now turn to ISr”cœl’s real interpretation of the scope and intent of a1l the Armistice Agreements signed between it and other Arab States. 34. Let me quote the words of Mr. Shabtai Rosenne, legal adviser to the Israel Ministry for Foreign Affairs and the legal brain of the Israel delegation during its negotiations with the Egyptian delegation at Rhodes. 35. In his book entitled Israet’s Armistice Agreemen.ts with the Arab States 4, MT. Rosenne had this to say about the Security Council’s debate preceding its resolution of 16 November 1948 establishing the Armistice: “What the Security Coun-:il was anxious to do, and what it did do, was to replace its peremptory truce by a regulation to which the parties had speci- fically agreed, as the next and indispensable step in the restoration of pennanent peace in Palestine.” 4 Shabtai Rosenne, Israel’s Armistice Agreements with the Arab States, Tel-Aviv, International Law Association, 1951, p.26. 6 Le Conseil ne pouvait traiter à la légère ce principe capital de la Convention d’armistice. La convention n’a été signée que lorsque chaque article, chaque para- graphe et chaque membre de phrase eurent été exa· minés avec soin. 30. Le 4 août 1949, à la suite de la conclusion de toutes les conventions d’armistice, M. Bunche a déclaré [433ème séa1u:e] : “Les conventions d’annistice ne constituent pas un règlement pacifique définitif, mais la seule inter- prétation possible de leurs dispoEitions extrême- ment précises est que ces conventions marquent la fin de la phase militaire du conflit en Palestine.” 31. Si la disposition extrêmement précise qui con- cerne le “droit … à être assurée de sa sécurité et à ne pas craindre d’attaques” n’autorise pas l’Egypte à exercei le strict minimum de ses droits légitimes sur son propre territoire et sur ses propres eaux terri- toriales, pourquoi donc, je vous le demande au nom de tous les principes énoncés dans la Charte, une telle disposition a-t-elle été introduite dans la convention? Le Conseil pouvait-il nous refuser un droit qui est expressément prévu dans la convention? Le Conseil pouvait-il nous refuser notre droit à être assurés de notre sécurité et à vivre à l’abri de la crainte? Ce droit pouvait-il être refusé à l’Egypte compte tenu du nombre de violations commises par Israël? Pouvait- on nous refuser le droit de vivre à l’abri de la crainte, alors qu’Israël se livre chaque jour à des actes d’agres- sion et à des atrocités terribles? Se pouvait··il que le Conseil envisage d’enjoindre à l’Egypte de se placer à la disposition des troupes israéliennes, d’assurer leuI”S lignes de communication, de les aider en leur fournissant des armes et du matériel pour qu’ils s’em- parent de zones supplémentaires, envahissent de nou- velles régions, tuent davantage d’Arabes? Est-ce là des mesures qui étaient de nature à augmenter les chances de paix et de stabilité dans le Moyen-adent? 32. Je me suis borné jusqu’ici à rappeler l’esprit des dispositions de la Convention d’armistice général conclue entre l’Egypte et Israël et les déclarations claires et nettes que les auteurs de la résolution rela- tive à cet armistice ont faites au Conseil de sécurité, ainsi, bien entendu, que cette résolution elle-même. 33. Permettez-nni de passer maintenant à l’inter- prétation qu’Israël a donné de la portée et de l’esprit des conventions d’armistice qu’il a conclues avec les Etats arabes. 34. Permettez-moi de citer maintenant une déclara- tion cie M. Shabtai Rosenne, jurisconsulte du Minis- tère des affaires étrangères d’Israël, qui était le prin- cipal juri\Ste de la délégation israélienne lors des négo- ciations avec la délégation égyptienne à Rhodes. 35. Dans son livre intitulé Israel’s Armistice Agree- ments with the Arab States 4, M. Rosenne déclare ce qui suit au sujet du débat qui a eu lieu au Conseil de sécurité avant l’adoption de la résolution du 16 no- vembre 1948: “Ce que le Conseil de sécurité cherchait à faire, et ce qu’il a fait effectivement, c’était de remplacer la trêve qu’il avait imposée aux parties par un règle- ment accepté explicitement par les parties comme l’étape suivante, indispensable au rétablissement d’une paix durable en Palestine.” 4 Shabtai Rosenne, Israel’s Armistice Agreemmts ‘lIJitll the Arab States, Tel-Aviv, International Law Association, 1951, p.26. 36 ha Re or he 37. no 6L terpa Vol.

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

e principe

vention n’a ique para- lt été exa- lc1usion de e a déc1aré

ituent pas

leule inter- extrêtne- .arquent la tine.” qui COn- ité et à ne ‘Egypte à jtimes sur aux. ten-i- au nom de une telle lnventioll ? lit qui est ..e Conseil assures de ? Ce droit tenu du 1 Pouvait- la crainte, d’agres- t··il que le se placer d’assurer

r en leur

u’ils s’em- t de non- Est-ce là aenter les ~n-Odent? esprit des = général ~c1arationiS ltion rela- = sécurité,

-même.

à l’inter-

le l’esprit

avec les

déclara-

iu Minis- t le prin- des négo- des.

e Agree-

iéc1are ce

Onseil de

Il 16 no- t à faire, ~emplacer un règle- s comme ,liss,=ment

uoith the

tion, 1951, 36. MI”. Rosenne’s Prime Minister, MI”. Ben-Gurion, had other ideas an-1 other theones. His hook entitled Rebirth and Destiny of Israel 5, published only a few eks ago, had surely gone to the printers before the >Jibya massacre, and theref(\re was prior to any thought on the part of Israel of bringing the question of the Suez Canal back to the Security CounciI. On page 274, MI”. Ben-Gurion says, “The truce is no milestone on the way to race, nor even a tnte armistice.” He then proceeds to accuse the Arabs of all kinds of hostile aots in order to come to the following conclu- sion about a truce or an al’mistice. MI”. Ben-Gurion i:ays, “Even were it kept to the letter, and all the Arab States ‘Scrupulou:s in observance, we” (th~ Israelis) “still could not accept it indefinite1y”. He goes further still to declare: “This little land” (Israel) “will have to do what tl1e United Nations wiH not or cannot – and we” (meaning the IsraeHs) “must be sc prepared.” 37. Unique, indeed, is the Arrnistice Agreement, and no less unique is its interpretation by Israel. 38. The third question may he whether the. Armistice Agreement concluded between the tV/o parties and en- dorsed by the Security Council is so intended, or so worded, as ·to debar one or bath parties from exercising the r1ght of visit and search. . 39. Since it is established in international law that, unless an armistice agreement expressly provides for such a restriction, the rights of both parties in this regard must he fully respccted, l would ask members of the Council who have the text of the EgypJan- Israel General Armistice Agreement at their disposaI or in their brief-cases, kindly to go throug:l it. The text is so self-evident, so self~sufficient; and it has no acte préparatoire. The intent of the contracting parties was to leave aside the right of visit, search and confiscation of war contraband. The pUl-pose – the only purpose – was to put an end to the خfighting in Palestine. The members of the Council need not he referred to clauses inserted in different well-known armistice ‘agreements where the rights of visit, search 4lld confiscation are expressly dealt with. 40. In the light of such rules and practices in inter- national law, the Egyptian-Israel General Armistice Agreement cannot he considered as in any manner depriving the contracting parties of these rights. The measures of visit, search and confiscation were heing practised by Egypt hefore and during the negotiations at Rhodes. Israel and, indeed, the whole world were in possession of full kn0wledge of these measures. 41. Until astate of peace is established, and as long as our very existence is threatened by aggressive and hostile Zionism, we shall maintain the protection of the ruies and principles -long established by the civilized international community – expressed in Oppenheim’s worcls: 6 “Armistices or truces … are all agreements be- tween belligerent forces for a temporary cessation 5 David Ben-Gurion, Rebirth and Destiny of Israel, ed. and tr. M. Nurock. New York, Philosophica1 Library, 1954. 6 L. Oppenheim, International Law, a Treatise, ed. H. Lau- terpacht, 7th ed. London, Longmans, Green and Co., 1948, Vol. II, pp. 546-547. 36. M. Ben-Gurion, Premier Ministre d’Israël, avait toutefois des idées et des théories différentes. Son livre intitulé Reblrth .and Destiny of Isrœel 5, publié il y a quelques semaines, a été sans aucun doute mis sous presse avant le massacre de Qibya, et donc bien avant qu’Israël n’eût songé à soulever à nouveau la question du canal de Suez au Conseil de sécurit~. Or, à la page 274 de ‘son ouvrage, M. Ben-Gurion dLclare: “La trêve n’est pas un tournant dans la voie de la paix. Non plus même qu’un vrai armistice”. Il accuse ensuite les Atabes de toute une serie d’actes d’hosti- lité, pour en arriver en fin de compte à la conclusion ·suivante au sujet de la trêve ou de l’armistice: “Même si cet armistice était appliqué à la lettre et si tous les Arabes l’observaient scrupuleusement, nous [c’est-à- dire les Israéliens] ne pourrions l’accepter indéfini- ment”. Et M. Ben-Gurion d’ajouter: “Ce petit pays [Israël] devra faire ce que les Nations Unies ne veulent ou ne pe’lvent pas faire; il nous faut donc être prêts.” 37. La Convention d’armistice est vraiment un ins- trument unique, et l’interprétation qu’en donne Israël ne l’est pas moins. 38. Comme troisième question, on peut se demander si le texte de la Convention d’armistice conclue entre les deux parties et approuvé par le Co:t1seil de sécurité peut priver les parties d’exercer le droit de vi~!te et de fouille. 39. Selon le droit internatiomù, les droits des deux parties à cet égard doivent être pleinement respectés, à moins qu’une convention d’armistice ne les limite expressément, et je demanderai aux. membres du Con- seil qui oni; à leur disposition le texte de la Convention d’armistice général conclue entre l’Egypte et Israël de bien vouloir le lir~. Le texte de la convention s’explique de lui-même et se suffit à lui-même. Il n’est précédé d’aucun “acte préparatoire”, L’intention des parties cuntractantes était de laisser de côté la question du droit de visite, de fouille et de prise de la contrebande de guerre. Le but de la convention – son seul but- était de mettre fin aux hostilités en Pales- tine. Il semble inutile de renvoyer les membres du Conseil aux. clauses des différentes conventions d’ar- mistice qu’ils connaissent, où il est expressément question du droit de visite, de fouille et de confis- cation. 40. D’après ces règles et ces pratiques de droit inter- national, la Convention d’~'”!11Îstice général égyptO’- israélienne ne peut, en aucune manière, être considérée comme privant les .parties contractantes de l’exercice de ces droits. La visite, la fouille et la confiscation ont été pratiquées par l’Egypte avant et pendant les négo- ciations de Rhodes. Israël et, à vrai dire, le monde entier ont eu pleine connaissance de ces mesures. 41. Tant qu’un état de paix ne sera pas établi et tant que notre existence même sera menacée par un sionisme agressif et hostile, nous nous en tiendrons aux règles et aux principes – depuis longtemps reconnus par le monde civilisé – qu’Oppenheim a exprimés ainsi 6 : “Les armistices et les trêves sont des accords conclus entre des forces belligérantes en vue d’une 5 David Ben-Gurion, Rebirth and Destiny of Israel, édité et traduit par M. Nurock, New-York, Phi1osophical Library, 1954. 6 L. Oppenheim, International Law, a Treatise, édité par H. Lauterpacht, 7e éd., Londres, Longmans, Green and Co., 1 1948, vol. II, p. 546 et 547. 7 — 1

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

of hostilities. The)’ are in no wîse to he compared \Vith peace) and ought not to he called temporary peace) because the condition of war remains between the belligerents themselves) and between the belli~ gerents and neutrals) on a11 points be)’ond the mere cessation of hostilities. In spite of such cessation the right of visit and search over neutral merchant~ men therefore remains intaot) as does likewise the right to … seize contrabal1d of war.u 42. Our adherence to such rights of international law may also he viewed in the light of the following news item published on 28 January 1954 by the daily news bulletin of .the Jewish Telegraphie Agenc)’: “Tel Aviv, 27 January 1954. The newspaper H ooo-r asserted today that Israel-manufactured arms and ammunition to the value of one million dollars had been sold to a country in western Europe. The first shipment has already been delivered and found ta be satisfactory, the paper said.u 43. The fourth relevant question could be whether the Convention respecting the free navigation of the Suez Maritime Canal signed at Constantinople on 29 October 1888 7 deprives Egypt of the right of visit, search and confiscation of war contraband passing, in its own territory, through the Suez Canal. 44. The 1888 Convention is not made up only of one article assuring the free passage of all ‘ships in peace or war. It goes further, to make specifie reference ta the rights of Egypt. 45. It is true that article 1 safeguards the free use of the Canal in peace and war, without distinction of fiag, and declares that it should never be subjected ta the right of blockade. It is true that article IV of the Convention deals with the agreement of the con- tracting powers that no right of war, no act of hostility, nor any aet having for its object the obstruotion of the free navigation of the Canal should be committed in the Canal, its ports of access, or within three miles from these ports. It is also true that articles V, VU and VIn deal with the rights of passage of belligerents, with the presence of warships in the Canal and its ports, and with the measures to be taken, by the contracting Powers relative to the security of the Canal and the executioll of the Convention. 46. But it is equall.y true that articles IX and X of the same Convention reserve the full rights of Egypt vis-à-vis the provisions of articles IV, V, VII and VIII with regard ta the fol1ùwing: (1) To the measures which Egypt may find necessary for ensuring, by its own forces, the defence of its territory and the maintenance of public arder; (2) To the mea:sures which Egypt may take for ensuring the execution of the Convention. 7 Georg Friedrich von Martens, Nouveau recueil général de traités et autres actes relatifs au:ç rapports de droit interna- tional, G6ttingen, Librairie Dieteric·l. 1891, 2nd ser., Vol. XV, p. 557. For an Engii~h translation, Sèe Sir Edward Hertstet, ed., A Complete Collection of the Treaties and Convention·s… Between Great Britain and Foreign Powers…, London, Butterworths, 1893, Vol. XVIII, p. 369. 8 cessation temporaire des hostilités. La situation qu’ils créent ne saul”ait se comparer en aucune façon à l’état de paix et ne constitue pas un état de naix temporaire, car, sauf pour les hostilités, les côndi~ tions de guerre subsistent entre les belligérants eux~ mêmes et entre les belligérants et les neutres. En dépit de la ces…~tion des hostilités) !e droit de visite et de fouille des navires marchands neutres subsiste donc intégralement, comme subsiste le droit de saisir la cOl”t.rebande de guerre.n 42. On pourrait aussi, en jugeant de notre respect pour ces règles du droit international, tenir compte de l’i1l!ormation ci-après, que l’Agence télégraphique juive a publiée le 28 janvier 1954 dans son bulletin quotidien: “Tel-Aviv, le 27 janvier 1954. Le journal Hadar annonce aujourd’hui que des armes et des munitions de fabrication israélienne) d’une valeur d’un million de dollars, ont été vendues à un pays d’Europe occi- dentale. Le premier envoi serait déjà parvenu à destination et aurait été jugé satisfaisant.” 43. La quatrième question qui pourrait se poser est de savoir si la Convention destinée à garantir le libre usage du canal maritime de Suez, signée à Constan- tinople le 29 octobre 1888 7, prive l’Egypte du droit de visiter et de fouiller les navires qui traversent son propre territoire, par le canal de Suez) et de confisquer la contrebande de guerre qu’ils transporteraient. 44. La Convention de 1888 ne se compose pas d’un article unique garantissant le libre passage de tous les navires, en temps de guerre comme en temps de paix: ce traité mentionne expressément les droits de l’Egypte. 45. Il est vrai que l’article premier dispose que le canal sera toujours libre et ouvert, en temps de guerre comme en temps de paix, à tout navire sans distinction de pavillon, et qu’il ne sera jamais assujetti à l’exercice du droit de blocus. Il est vrai qu’aux termes de l’article IV de la convention, les Puissances signataires ont convenu qu’aucun droit de guerre, aucun acte d’hostilité ou aucun acte ayant pour but d’entraver la libre navigation du canal ne pourrait être exercé dans le canal et ses ports d’accès, ainsi que dans un rayon de trois milles marins de ces ports. Il est vrai, en outre, que les articles V, VII et VIII traitent du droit de passage des belligérants, de la présence de bâtiments de guerre dans le canal et ses ports, et des mesures à prendre par les Puissances signataires pour assurer la sécurité du canal et faire respecter l’exécution de la convention. 46. Mais il est également vrai que les articles IX et X de la même convention sauvegardent entièrement les droits de l’Egypte en stipulant que les prescrip- tions des articles IV, V, VII et VIII ne feront pas obstacle: 1) Aux mesures que l’Egypte serait dans la né- cessité de prendre }Jour assurer, par ses propres forces, la défense de son territoire et le maintien de l’ordre public; 2) Aux mesures que l’Egypte pourrait prendre pour faire respecter l’exécution de la convention. 7 Georg Friedrich von Martens, Nouveau recueil gé1~éral de traités et autres actes relatifs au:ç rapports de droit interna- tional, Gœttingue, Librairie Dieterich, 1891, 2e sér., t. XV, p. 557. 47. The Co Empire other to Egypt. 48. To dis to Egypt in t from article X paragraph rea “SimilarlJ and VIII s His Majest Khedive) in within the find it nece. forces the of public a 49. In view could in no wa Convention in now before th 50. Allow m attention has 1: its safety wh expansion gro daylight fact; ships through waters, could for the preser self-preservatio 51. The repr limitations, c the cloak of a Powers, and mankind. He in sorne quarte rights in the hand, serious a few other co 52. In what ment”, the Is picture Egypt nations as opp respect the ve United Nation 53. Apart fm was mischievot Canal, the rep English, went thereby implyin that the Egyp that the Canal where near the a fantastic and Israel ships th not but positiv our safety. 54. Our mis by the distorti of Aqaba, a dis insisted upon

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

47. The Convention also reserved for the Ottoman Empire other defensive rights that have since accrued to Egypt. 48. To dispel any doubts ab.>ut the rights reserved to Egypt in the 1888 Convention, a110w me to quote from article X, to wlùch I have just referred. The first paragraph reads: “Similarly, the provisions of articles IV, V, VII and VIII shall not interfere with the measures which His Majesty the Sultan and His Highness the Khedive, in the name of His Imperial Majesty, and within the limits of the Firmans granted, might find it necessary to take for securing by their O\”ln forces the defence of Egypt and the maiI”tenance of public order.” 49. In view of such .c1arity of e..”{pression, Egypt couId in no way he considered aS contravening the 1888 Convention in relation to any aspect of the question now before the Couneil. 50. Allow me here to observe that hItherto little attention has heen paid by the Couneil to the risks to its safety which Egypt is incurring. With Zionist expansion growing from a nightmare into an ugly daylight fact; with the threats of Israel to force its ships through the Suez Canal and Egyptian territorial waters, could the United Nations organ established for the preservation of peace deny Egypt its right to self-preservation? 51. The representative of Israel, overlooking certain limitations, came to ,the table of this Cauncil wearing the cloak of a self-appointed attorney for aIl maritime Powers, and of a defender of the interests of a11 mankind. He sought, on the one hand, to propagate in sorne quarters the misconception that Egypt has no rights in the Suez Canal, and to cause, on the other hand, serious injury to relations between Egypt and a few other countries. 52. In what could he termed “Operation Beguile- ment”, the Israel representative went so far as t.o picture Egypt as a colonial Power, and a11 the maritime nations as oppressed colonies, reluctantly compelled to respect the very restrictions to which they and the United Nations are totally opposed. 53. Apart from its timing, “Operation Beguilement” \Vas mischievously planned. In referring to the Suez Canal, the representative of Israel, who knows his EngIish, went so far as to use the ward “propinquity”, thereby implying before an organ of the United Nations that the Egyptians have no right in the Suez Canal, that the Canal just happened accidentally to run some- where near the Egyptian border. In the light of such a fantastic and audacious theory, the threat to force Israel ships through Egyptian territorial waters’ could not but positively confirm our legitimate concern for our safety. 54. Our misgivings were doubled in this respect by the distortion of the geographic name of the Gulf of Aqaba, a distortion that the representative of Israel insisted upon in his statement before the Couneil. 9 47. Enfin, la convention garantissait à l’Empire ottoman la jouissance de ~ertains autres droits de défense actuellement dévolus à l’Egypte. 48. Afin de ne laisser subsister aucun doute au sujet des droits garantis à l’Egypte par la Convention de 1888, permettez-moi de citer l’article X, que je viens de mentionner. Le pre11Ùer paragraphe en est ainsi conçu: “De même, les prescriptions des articles IV, V VII et VIII ne feront pas obstacle aux mesures que Sa Majesté le Sultan et Son Altesse le Khédive, au nom de Sa Majesté Impériale, et dans les limites des Firmans concédés, seraient dans la nécessité de prendre pour assurer, par leurs propres forces, la défense de l’Egypte et le maintien de l’ordre public.” 49. Des dispositions aussi claires interdIsent de dire l’Egypte a violé à aucun égard la Convention de 1888, quel que soit l’angle sous lequel on considère la question dont le Conseil se trouve saisi. 50. Permettez-moi de vous faire remarquer que, jusqu’à présent, le Conseil s’est fort peu occupé des risques auxquels la sécurité de l’Egypte se trouve exposée. Alors que l’expar.sion sioniste, naguère un simple cauchemar, devient une hideuse réalité, alors qu’Israël menace de faire passer de force ses navires par le canal de Suez et par les eaux territoriales égyptiennes, est-il possible que l’organe des Nations Unies qui a été créé pour maintenir la paix refuse à 1’2gypte le droit de veiller à sa propre conservation? 51. Le représentant d’Israël, qui a voulu ignorer certaines limitations, s’est présenté devant le Conseil en se faisant passer pour l’avocat de toutes les Puis- sances maritimes et pour 1.: défenseur des intérêts de l’humanité tout entière. D’une: part, il a cherché à pro- pager la fausse conception qui rè::,one dans certains milieux et ‘selon laquelle l’Egypte ne posséderait au- Ctl11 droit dans le canal de Suez; d’autre part, il s’est attaché à envenimer les relations existant entre l’Egypte et plusieurs autres pays. 52. Par une opération qu’on pourrait qualifier d’ “en- jôlement”, le représentant d’Israël est allé jusqu’à dépeindre l’Eg:rpte comn1le une Puissance COloniale et tous les pays maritimes comme des colonies opprimées qui seraient obligées, à leur corps défendant, de res- pecter les restrictions mêmes auxquelles ces pays, ainsi que l’Organisation des Nations Unies, seraient fer- mement opposés. 53. Non seulement le moment a été soigneusement choisi pour déclencher cette opération, mais encore elle a été préparée avec machiavéHsme. Parlant du canal de Suez, le représentant d’Israël, qui sait la. valeur d’un mot, est allé jusqu’à employer le mot “proximité”, par quoi il a laissé entendre, devant un organe des Nations Unies, que les Egyptiens n’auraient aucun droit au canal de Suez, que c’était par un pur hasard que le canal passait aux environs de la frontière égyp- tienne. Compte tenu d’une théorie aussi fantastique et aussi audacieuse, la menace d’Israël de faire .passer ses navires de force par les eaux territoriales égyptiennes ne saurait que justifier d’une façon éclatante l’intérêt légitime que nous portons à notre propre sécurité. 54. A cet égard, nos appréhensions ont été renforcées du fait que le nom géographique du golfe d’Akaba a été déformé et que le xeprésentant d’Israël, dans déclaration qu’il a faite au Conseil, a insisté sur .cette

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

61. Nothil and lawless tinue to gt 63. The overbearing every thous defiance of classified as fiscation of grounds pl the Securit Agreement) machineries fulfilment m.eeti1]/g] • 64. Does reminded of Council an machinery n acts of ag procedure Arabs? Is the one rnill Y01″k Time ragged, sull 65. We a Council ado VVe are eq that resoluti than the e records of the aim wa final settl whose conse the facts an the step of 1 the tempo 0 62. As re hindcring f allcw m”, t the Preside gnie univer 1953. The 8 See Offida 558th meeting, 66. The E of the Coun on the issue in an object we believe, rights of so scope of thei international we ‘hope, ref CounciI itse 60. On a fait une désobligeante allusion aux Egyp- tiens établis dans les deux îles de Tiran et de Sinafir, situées dans la mer Rouge, et qui ont été occupées par l’Egypte bien avant que les forces armées israé- liennes ne se fussent avancées jusqu’au golfe d’Akaba, quelques jours après la signature de la Convention d’armistice général égypto-israélienne. A ce sujet, je me trouve dans l’obligation de souligner que les docu- ments de la deuxième guerre mondiale prouvent offi- ciellement que les deux îles en question ont été uti- lisées par des unités des forces armées égyptiennes en tant que partie du système de défense égyptien pendant la deuxième guerre mondiale. Les détache- ments égyptiens qui occupaient ces îles ont coopéré avec les unités aériennes et navales égyptiennes, qui étaient chargées, à l’époque, de protéger les navires alliés naviguant dans la mer kouge contre les attaques .de sons-marins. Tandis que des unités des éléments de l’armée de l’air égyptienne protégeaient la côte pour assurer la libre circulation des navires alliés dans la Méditerranée, une unité égyptienne de 8.000 hommes a défendu pendant toute la deuxième guerre mondiale le canal de Suez et ses ports contre les continuelles attaques aériennes de l’ennemi. 57. Qu’il me soit permis maintenant de citer quelques faits et de donner quelques chiffres au sujet des mesures prises par l’Egypte dans ses eaux territoriales de la mer Rouge, plus précisément dans le golfe d’Akaba. 58. Depuis octobre 1951, 267 navires sont passés dans le golfe d’Ak-aba, dont 214 navires anglais, 35 navires allemands, 5 navires américains, 3 navires norvégiens, 3 navires grecs, 2 navires syriens, un navire turc, un navire panaméen, un navire pakistanais, un navire italien et un navire danoi.s. Bien qu’un gra.nd nombre de ces navires transportaient des marchandises à destination d’Israël, 3 seulement ont été visités et fouillés. Je tiens, ici, à déclarer à nouveau que sur les 267 navires en question, pas un seul, quelle que fût ‘sa destination, n’a vu sa cargaison confisquée. 59. Quant aux cas de visite et de fouille qui, selon le représentant d’Israël, auraient eu lieu dans cette région, je ne pense pas qu’il soit utile, étant donné les faits et les chiffres que je viens de citer, de prendre le temps du Conseil en rectifiant les déclarations inexactes des Israéliens. Je suis néanmoins prêt à le faire le cas échéant. . déformation. Ainsi, au nord, l’Egypte n’aurait pas son mot à dire à propos du canal de Suez; au sud, pour le dire franchement, la question ne concernerait qu’Israël, et l’Egypte n’aurait pas à s’en mêler. Le golfe en question serait le golfe d’Elath et non pas le golfe d’Akaba; il s’agirait donc d’un golfe apparte- nant à Israël. 55. Pour en revenir aux questions que l’on pettt légitimement se poser, la cinquième est cdle de savoir si l’Egypte a abusé de son droit de visite, de fouille et de confiscation de la contrebande de guerre. 56. Nous avons déjà indiqué que, depuis septembre 1951, moins de 0,17 pour 100 des navires empruntant le canal de Suez ont été sou..-nis, de la part des auto- rités douanières civiles égyptiennes, à la procédure de visite et de fouille. Nous avons égalemem. indiqué que, depuis cette date, aucune cargaison n’a été confisquée. 10 56. We have shown in our previous statement that, since Septemher 1951, less than .17 per cent of the ships passing through the Suez Canal have been subjected to the procedure of visit and search by Egyptian ch>ilian customs authorities. We have further shown that no cargo has been confiscated since thaJt date. 57. To this, let me now add the facts and figures relative to the measures taken by Egypt in its terri- torial waters in the Red Sea at the Gulf of Aqaba. 55. Going back to the series of questions, the fifth may he whether Egypt has abused its right of visit, sem’ch and confiscation of war contraband. 59. With regard to the enumeration by the repre- sènta:tive of Israel of certain cases of visit and search in that area, l do not deem it necessary, because of the faets and figures 1 have just presented, to utilize the tinte of the Council at ,this juneture with details correcting the distorted Israel information in this r~spect.. 1 am, however, prepared to do so if the occa- SIon anses. 60. A disparaging reference has been made in this Council ta Egyptians being on the two is1ands of Tiran and Sinafir on the Red Sea, islands which had been occupied by Egyptians long hefore the l’srael armed forces advanced ta the Gulf of Aqaba a few days after the signature of the Egyptian-Israe1 General·Armistice Agreement. Rere 1 feel bound to smte H’lt the records of the Second World War contain official evidence that Egyptian units had been using these two· islands as part of the Egyptian defensive system during that war. Egyptian detachments on these two islands co- operated with the Egyptian air force and the naval units entrusted at the time with the task of protecting AlIied shipping in the Red Sea against submarine attack. While Egyptian air force units were covering the. coast for A1lied shipping in the Mediterranean, a force of 8,000 Egyptian troops undertook the defence of the entire length of the Suez Canal and its ports against continuous, hostile air attacks throughout the Second World War. 58. Since October 1951, 267 ships have passed through the Gulf of Aqaba. Of these, 214 were British, 3S German, 5 American, 3 Norwegian, 3 Greek, 2 Syrian, 1 Turkish, 1 Panamanian, 1 Pakistani, 1 Italia’ll and 1 Danish. Although a great number of these ships carried cargos destined for Israel, only three were actually visited and searched; and here I declare again that out of the 267 ships not one single ship, not one single consignment of cargo was confiscated, whether destined for Israel or not. Now, he says, in the north Egypt bas no business in the Suez Canal; in the liouth, in plain 1:i’Ugu~ae, the business is that of Israel- hands off 1 The gulf is that of Eilat, not of Aqaba – it is an Israel gulf.

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

61. Il faut être animé d’une haine aveugle pour accuser l’Egypte de pratiquer la piraterie et de mé– priser le droit. C’est une accusation contre laquelle nous cC’ntinuerons à nQUS défendre• 62. Quant à l’affirmation selon laquelle l’Egypte a entravé la libre circulation dans le canal de Suez, permettez-moi de lire deux lignes seulement du rap- port que le Président du Conseil d’administration dè la Compagnie universelle du canal maritime de Suez a présenté en juin 1953. Le Président a déclaré ce qui suit: “Le tonnage des marchandises transportées par le canal a atteint un nouveau record de 83.448.000 tonnes, soit une augmentation de 8,7 pour 100 par rapport au chiffre de 1951.” 63. Cependant, à la 658ème séance) après avoir dé- claré que la visite ou la fouille de 2 navires sur 1.000 constituait un défi complet à l’autorité du Conseil de sécurité, après avoir qualifié d’ “acte de condes- cendance” le fait qu’aucune cargaison n’ait été confis- quée, après avoir déclaré que, pour ces raisons, la per- manence du système d’armistice et l’autorité du Con- seil de sécurité étaient toutes deux: “gravement com- promises”, le représentant d’Israël a demandé au Con- seil de sécurité de prévoir une procédure qui lui permette de détenniner si ses décisions ont été ou n’ont pas été respectées. 64. Faut-il rappeler au représentant d’Israë.L les décisions déjà anciennes du Conseil de sécurité et de l’Assemblée générale? N’est-il pas nécessaire de pré- voir une procédure pour empêcher les troupes israé- liennes de commettre des actes d)agression prémédités? N’est-il pas nécessaire de prévoir une procédure pour mettre un tenne à l’assassinë.t d’innombrables Arabes? N’est-il pas nécessaire aussi de prévoir une procédure pour assurer le rapatriement d’un nùllion d’Arabes qui, selon le New York Times} “sont encor.e sur le champ de bataille, dépourvus, sombres et pleins de ressen- timent”. 65. Nous savons bien que le Conseil de sécurité a adopté une résolution le 1er septembre 1951 8• Nous savons également que lorsqu’il a adopté ce texte, le Conseil s’est inspiré de considérations étrangères aux: aspects strictement juridiques de l’affaire. Les comptes rendus du Conseil indiquent clairement que le Conseil de sécurité a cherché à prendre des mesures politiques en vue d’amener un règlement définitif de la question de Palestine, mesures qui ont eu les conséquences que l’on sait. Il suffit de consulter les faits et les chiffres que nous venons de soumettre au Conseil pour se rendre compte que la résolution du 1er septembre 1951 n’a pas manqué d’accélérer le rythme de l’agression ~sraélienne et de l’expansion sioniste. 66. Le Gouvernement égyptien est convaincu que ,le Conseil de sécurité déterminera son attitude en tenant compte des faits pertinents, faits que nous avons essayé de présenter de manière objective. Nous sommes con- vaincus que, dans sa sagesse, le Conseil de sécurité s’abstiendra de porter jugement sur les droits que des gouvernements souverains exercent dans le cadre de leur propre compètence et conformément aux: prin- cipes du droit international. Nous espérons q1;1e, faisant preuve de la largeur de vues qui lui est coutu11Ùère” le Conseil de sécurité s’abstiendra de créer des pro- 8 Voir Procès-verbaux officiels du Conseil de sécurité, sisième am~ée} 558ème séance, par’. S. 11 8 See Official Records of the Security Council} Sï:I:th Year} 558th meeting, para. S. ‘ 62. As regards the allegation that Egypt has been hindering freedom of passage through the Suez Canal, aIlew m”, to read just two lines from the report of the President of the Board of Directors of the cnmpa- gnie universelle du canal maritime de Suez dated June 1953. The President said: “The passage of merch3ndise set a new record figure of 83,448,000 tons, an increase of 8.7 per cent in comparison with the 1951 figure”. 61. Nothing, then, but blind hatred cau lay piracy and lawlcssness at the doors of Egypt. \Ve will con- tinue ta guard these doors. 65. We are aware of the faet that the Security Council adopted a resolution on 1 September 1951 8• ‘vVe are equally aware that the Couneil, in adopting that resolution, had based it on considerations other than the essentially legal aspects of the case. The records of the Security Council c1early indicate that the aim was to take sorne politica1 step towards the final ,settlement of the Palestine question, the step whose consequences experience bas shawn. Conrsidering the facts and figures we have presented ta the Couneil, the step of 1 September 1951 did not fail to accelerate the tempo of Israel aggression and Zionist expansion. 63. The representative of Israel, however, h~ving overbearingly termed the visit or search of tw~ of every thousand ships as comprehensive and comple~~ defiance of the Security Council’s authority; having classified as “condescension” the total absence of con- fiscation of any cargo whatsoever; having on such grounds placed “in deadly hazard” the authority of the Security Council and the integrity of the Armistice Agreement, proceeded to caIl on the Council ta establish machineries and procedures to enable it ta follow the fulfilment or non-fulfihnent of its behest [658th 1lUJetÏrllg] • 64. Does the representative of Israel need to be reminded of the long-standing behests of the Security Council and of the General Assembly? Is there no machinery needed 010 check the steady and premeditated aets of aggression by Israel armed forces? Is there no procedure required to put an end ta the killing of Arabs? Is there no machinery needed to repatriate the one nùllion Arabs who, in the words of The New y o,-k Times} are “still sitting around the battlefie1d, ragged, suIlen and resentful”. 66. The Egyptian Government trusts that the attitude of the Couneil ~’ill he determined by the faets bearing on the issue, the facts that we have tried ta present in an objective manner. In its wisdom, the Council, we believe, will not be led to pass judgment on the rights of sovereign governments exercised within the scope of their own j urisdiction and in conformity with inte,rnational law. In its wide vision, the Couneil will, we hope, refrain from re-creating problems which the Council itself has been established to solve. , ~- ~n ~é ri ~5 ~t ~5 1t ~S fe es ~s a, ln je l- I- 1- ~5

e

15 le ~5 ~5 t5 Ir 15 ~5 le )- r, ~5 ln te •Il lS e· re I1t D- ie e, e. ltt ir le lU Ir it

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

73. 1 fai Eg)rptian memory t representa its Minist Security rejection Security 74. The between 1 Armistice not our Council. 75. The and conte ment mea is not an authoritati attributes tation ma took part confirmed CouncH it 76. 1 do the Const important historie se Council. 1 meetings maritime signatories their opini the Egy incompatib law. 77. But be adduce it would whatsoever at this pro Nations in its O’Nn CI the Securit Article 10 supremacy other inter that 1 bel Convention certain p2 merce w arteries 72. Thu ca1ly stat the Secu Agreeme of the ri this is pr determi the Armi e.’i:en..-ise right of actions co of mariti argument. 70. Toutefois, en m’accusant de répétition, le repré- sentant de l’Egypte a négligé de mentionner un fait essentiel, à savoir que le Conseil de sécurité a fait siennes, dans leur ensemble, les assertions que nous avions faites en 1951 et que nous avons répétées à la 658ème séance. Le Conseil de sécurité a adopté une résolution le 1er septembre 1951 qui suffit à réfuter par avance toutes les pensées et tous les sentiments que le représentant de l’Egypte vient d’exprimer. 71. Le représentant de l’Egypte a défendu le droit de belligérance, mais le Conseil de sécurité lui-même a déjà condamné l’exercice actif de ce droit. Le repré- sentant de l’Egypte a, une fois de plus, invoqué le droit de conservation, mais le Conseil de sécurité a déclaré que la légitime défense ne justifie pas les restrictions imposées par l’Egypte. Le représentant de l’Egypte a déclaré que cette convention d’armistice doit, comme tous les aut!’es accords d’armistice, être compatible avec la continuation des droits de belligé- rance, mais le Conseil de sécurité a, par trois fois déjà, rejeté l’idée que la convention en question est com- patible, ou peut coexister, avec un exercice actif des droits de belligérance ou avec des actes d’hostilité. De même, le Conseil de sécurité a déjà réfuté la notion selon laquelle, du fait d’avoir envalli Israël en 1948, l’Egypte jouirait, cinq ans après cet événement, de certains privilèges qui l’autoriseraient à entraver le • blèlnes du genre de ceux qu’il est précisément appelé à résoudre. 67. M. EBAN (Israël) (traduit de l’anglais): Je voudrais répondre brièvement aux deux déclarations qui ont été faites au nom du Gouvernement égyptien pour résumer maintenant la thèse de ma délégation, en laissant aux membres du Conseil de sécurité le soin d’examiner conune ils l’entendent la plainte dont ils sont saisis. 68. La situation, qui était déjà sérieuse, a pris main- tenant une tournure encore plus grave. En effet, le discours que le représentant de l’Egypte vient de faire dissipe définitivement l’impression qui aurait pu se créer récemment, à savoir que l’Egypte était disposée à respecter dorénavant le droit intemational et les intérêts de la collectivité intemationale dans le canal de Suez. Il a défendu, avec irsistance et même avec une sorte de défi, les mesures de blocus que le Conseil de sécurité avait vigoureusement dénoncées. Une fois de plus, l’Egypte s’est présentée devant cet organe suprême de la ‘sécurité internationale pour lui demander de reconnaître son droit unilatéral de se livrer sur mer à des actes de guerre contre Israël cinq ans après la signature de la Convention d’armistice, quatre ans après que le Conseil de sécurité a adopté une résolu- tion invitant les parties à faire cesser tous actes d’hosti- lité, et deux ans et demi après que le Conseil a critiqué et condamné les pratiques mêmes que le représentant de l’Egypte essaie de défendre maintenant. 69. Le représentant de l’Egypte m’a accusé d’avoir répété les argmnents que j’avais invoqués à l’appui de notre thèse lorsque cette discussion a commencé en 1951. Je reconnais volontiers qu’il y a là répé- tition, car aucun des éléments juridiques, politiques ou moraux qui existaient à l’époque n’a été modifié depuis deux ans et demi. 12 68. A very grave turn has now occurred in what was already a serious situation; for the speech that we have just heard from the representative of Egypt entirely dispels any impression that might have arisen recently that Egypt was moving towards respeot of international law and interest in the Suez Canal. vVe have heard a firm and defiallt insistence upon tbe blockade restrictions which the Security Council has vigorously denounced~ Egypt has again come before this, the highest body of international security, to seek its recognition of a right of unilateral war to be waged at sea by Egypt against Israel five years after the signatux:e of the Armistice Agreement, four years after the adoption by the Security Council of resolu- tions forbidding any further hostile acts, and two and one-half years after the Security Council itself criti- cized and condemned the very practices which the representative of Egypt has now defended. 69. The representative of Egypt accused me of repeating the arguments which 1 invoked in support of our contention when this discussion first arose in 1951. 1 freely admit the charge of repetition; for none of the basic legal, political or moral facts which prevailed at that time have undergone any trans- fOI’mation in the two and ~ne-half years which have since ensued. 70. But the representative of Egypt, in accusing me of repetition, haiS surely ignored one central circumstance. These contentions, which were put forward in 1951 and which were, to sorne extent, repeated at the 658th meeting, have been substantively upheld by the Security Council. The Security Council adopted a resolution on 1 September 1951 which is, in itself, and anticipatory refutation of a1most every single expression of thought or sentiment which has just fallen from the lips of the Egyptian representative. 71. The Egyptian representative has argued in favour of the right of belligerent acts; but the Security Council has itself rejected this concept of active belligerent rights. The Egyptian representative has agaiu invoked the concept of self-preservation; but the Security Council bas stated that these Egyptian restrictions cannot be justified on any legitimate grounds of self- defence. The Egyptian representative has stated that this Armistice Agreement must be equivalent to aIl other armistice agreements in being compatible with the continuation of belligerent rights; but the Security Council has three times rejected the concept that this particular Armistice Agreement is compatible, or can in any sense sense co-exist, with the active exercise of beIIigerent rights or of any hostile acts. Similarly, the Security Council has already rejected the concept that th”, Egyptian invasion of Israel in 1948 has some- how endowed Egypt for five years thereafter with 67. Mr. EBAN (Israel): 1 should like to rep!y briefly to the two addresses wlùch we have now heard on hehalf of the Government of Egypt, in order that my delegation’s case may he summarized at this stage, leaving the members of the Security Council to give their consideration to the complaint now before them.

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

commerce d’Israël avec d’autres pays sur les grandes voies maritimes du monde. 72. Ainsi donc, lorsque le représentant de l’Egypte déclare, par un artifice de rhétorique, que ta question dont ~ous sommes saisis est de savoir si le Conseil estime que ta Convention d’armistice empêche son gouvernemLlt d’e.”i:ercer le droit de visite et de fouille, il faut lui répondre que c’est précisément la question que le Conseil a déjà tranchée en affirmant en effet que la Convention d’armistice est incompatible avec l’exercice par l’Egypte, en vertu de ces restrictions, du droit de visite et de fouille, et que ces actes cons- tituent en réalité une violation des principes tradi- tionnels du droit maritime. Par conséquent, l’argument relatif aux répétitions est, je crois, une arme à deux tranchants. 73. Le représentant de l’Egypte n’a rien dit qui ne m’ait inunédiatement rappelé certaines affirmations analogues faites au cours de débats antérieurs par un autre représentant de l’Egypte non moins éloquent- devenu depuis Ministre des affaires étrangères de son pays’- affirmations que le Conseil de sécurité a caté- goriquement rejetées, ainsi que nOus en avons la preuve formelle dans la résolution du 1er septembre 1951. • 74. Il ne s’agit donc pas d’une question qui intéresse uniquement Israël et l’Egypte. L’interprétation selon laquelle la Convention d’armistice interdit tout acte d’hostilité n’est pas la nôtre, elle est celle du Conseil de sécurité. 75. De même, la thèse selon laquelle, que1’S qu’aient été le caractère et la teneur d’autres accords d’armis- tice, la présente convention marque de façon définitive la fin des hostilités, n’est pas une thèse israélienne, mais bien l’interprétation authentique et autorisée que l’Organisation des Nations Unies donne à cette con- vention; elle est celle des représentants de l’Organi- sation qui ont participé aux négociations d’armistice, et le Conseil de sécurité lui-même l’a confir.mée à trois ,ou quatre reprises. 76. Je ne veux pas m’étendre inutilement sur la question de la Convention de Constantinople. Si· j’ai mentionné cet important instrument du droit interna- tional lors de mes premières observations, c’était d’un point de vue purement historique. J’ai en effet rappelé au Conseil historique, à savoir que certaines des Puis- sances maritimes représentées au Conseil en 1951, elles-mêmes signataires de la Convention de Constan- tinople, avaient émis l’opinion – difficile à réfuter selon moi – que les restrictions imposées par l’Egypte étaient, notamment, incompatibles avec cet instrument du droit international. 77. Mais même si les dispositions de la Convention de Constantinople pouvaient être invoquées à l’appui des restrictions imposées par l’Egypte, la position de l’Egypte n’en serait nullement renforcée, car le Con- seil de sé.:urité doit examiner l’affaire non pas en se plaçant du point de vue du droit international anté- rieur à l’Organisation des Nations Unies, mais compte tenu de la Charte, de la Convention d’armistice et de ses propres résolutions. Je rappellerai à ce propos l’Article 103 de notre Charte, qui stipule que les obli- gations des Membres des Nations Unies en vertu de la Charte prévalent sur leurs obligations en vertu de tout autre accord international. Cela ne signifie nulle- 13 73. 1 failed to hear anything in the speech of the Eg)rptian representative which did not arouse in my memory the echoes of previous contentions which a representative of Egypt, no less eloquent – now indeed its Minister for Foreign Affairs — put forward to the Security Council ; argulI11ents the comprehensive rejection of which is embodied and enshrined in the Security Council’s resolutiotl of 1 September 1951. certain privileges of intervention against Israel’s com- merce with other countries through the maritime arteries of the world. 72. Thus, when the representative of Egypt rhetori- cally stat~ that the question before us is whether the Security Council considers thJ.t the Armistice Agreement prevents the exercise by his ‘Government of the rights of visit and search, the answer is that this is precisely what the Security Council has already determined. It has adopted a policy which asserts that the Armistice Agreement is not compatible with the e.’Cercise by Egypt, under these restrictions, of the right of visit and s~arch, and, indeed, that these actions constitute an abuse of those traditional concepts of maritime law. Therefore, the charge of repetitious arguments can, l think, be tl’sed both ways. 74. The iss’-te, therefore, should not he drawn merely between Israel and Egypt. The interpretation of the Armistice Agreement as forbidding all hostile aets is not our interpretation, but is that of the Security Council. 75. The doctrine that, notwithstanding the character and content of other armistice agreements, this Agree- ment means a permanent end of hostilities – this again is not an Israel thesis, but it is the authentic and authoritative United Nations interpretation of the attributes of this Armistice Agreement; an interpre- tation made by United Nations representatives who took part in the negotiation of the armistice, and confirmed on three or four occasions by the Security Counciî itself. 76. l do not wish to spend time on the question of the Constantinople Convention. 1 referred to that important instntment of international law in a purely historie sense in my first observations to the Security Coundl. 1 stated as a point of historie faet that, at the meetings of the Security Council in 1951, certain maritime governments there represented who are signatories of the Constantinople Convention stated their opinion, which 1 think is difficult to deny, that the Egyptian restrictions are, amongst other things, incompatible with that instrument of international law. 77. But even if the Constantinople Convention could be adduced in full defence of the Egyptian restrictions, it would not help the Egyptian case to any degree whatsoever, because the Security Council must 10 – at this problem from the viewpoint, not of pre-Uniteu ~ations international law, but from the viewpoint of lts own Charter, of the Armistice Agreeme’nt and of the Security Council’s resolutions. Here l would recall Article 103 of our Charter, which establishes the supremacy of obligations under the Charter over all other international obligations of Member States. Not that 1 believe that the text of the Constantinople Convention does offer justification for Egypt’srestric- ~oit e a ré- le

a

les lllt iee tre ~é­ jà, m- Ies té. on IS, de le lré- fait fait oUs , la llne lter

nts

~oir lpui

ncé
pé-

[tles Iifié lain-

, le

[aire 1 se osée les anal lvec Iseil fois

ane

Ider sur près ans olu- lsti-

qué

tant f{>elé

Je

ions ltien tian, soin t ils

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

above deterri ships would 82. are its 83. I to the should the ve the t sentati decree It was “Decr Searc Conn ta the from Farou “hereb which the tre throug ment que j’admets que les dispositions de la Con- vention de Constantinople justifient tant soit peu les restrictions imposées par l’Egypte. Je dois dire, à cet égard, que la manière dont le représentant de l’Egypte a choisi des citations n’a pas laissé d’accroître mon scepticisme. 78. Le représentant de l’Egypte a cité d’abord l’ar- ticle IX et ensuite l’article X de la convention, comme s’il avait voulu défendre le droit souverain de l’Egypte à imposer ces restrictions. Cependant, dans ce grand effort de rhétorique, il a perdu de vue – on dirait par inadvertance -l’article XI de la convention. Or, cet article se borne à déclarer: “Les mesures qui seront prises dans les cas prévus par les articles IX et X du présent traité ne devront pas faire obstacle au libre usage du canal … ” Pour tout esprit non prévenu, il semblerait qu’il s’agit d’une réserve assez importante apportée aux articles IX et X. 79. Cependant, je laisserai cette question de côté poUT attirer l’attention du Conseil de sécurité ~i.1r les docu- ments qui sont la base de la discussion: je veux dire, non pas la Convention signée à Constantinople en 1888, mais la Charte des Nations Unies, la Convention d’armistice général égypto-israélienne, ainsi que la résolution du Conseil de sécurité en date du 1er sep- tel11Jbre 1951, qui interprète la Charte et la Convention d’arm;’Stice pour ce qui est des restrictions mêmes qui font l’objet de la plainte de mon gouvernement. 80. Les récentes interventions des représentants de l’Egypte nous ont pert1ÙS d’assister à une tentative fort étonnante en vue de réduire au minimwn l’impor- tance des effets de ce blocus et d’en sous-estimer la portée et la gravité. Ainsi, l’on s’est efforcé de réduire au minimunl l’importance de ce qui, à notre point de vue, constitue une attaque, couronnée de succès, de l’Egypte contre les intérêts maritimes d’Israël et de certains autres pays. A la base de cette déformation, il y a la volonté de passer sous silence le principal, à savoir les effets préventifs du blocus – qui constituent la question essentielle – et la volonté de mettre en vedette les mesures qui ont été prises contre les navires relativement peu nombreux qui ne respectent pas le blocus illégal et qui, de ce fait, ont fait l’objet d’une intervention aative. La semaine del”nière [658èm.e séanlCB) , j’ai essayé de souligner l’importance essen- tielle que nous attachons aux effets préventifs des dis- positions promulg’lées, en insistant sur le caractère plutôt secondaire des interventions et des saisies dont est l’objet le pp’:~( nombre de navires qui réussit à forcer le blocus si efficacement organisé. Pour préciser ce point extrêmement important, en raison surtout des statistiques que l’on nous a communiquées, je voudrais expliquer conunent fonctionne exactement le blocus. Je voudrais cependant, au préalable, dire qu’à mon avis, l’aspect quantitatif du problème n’est peut-être pas celui qui importe en l’occurrence. 81. Si ces restri.ctions sont illicites, conune le Conseil de sécurité semble le penser et comme il l’a prouvé par ses décisions, je ne crois pas qu’on puisse les excuser en disant qu’elles ne sont appliquées qu’à un nombre limité de navires et que cela est fort bien parce que l’Egypte aurait pu appliquer ces restrictions illicites à des centaines d’autres navires. Notre plainte a pour objet l’application de ces restrictions at1X navires qui en souffrent effectivement; mais elle a trait. avant 14 .- 78. He quoted article IX and the article X of that Convention as though in ‘Support of Egypt’s sovereign right to practise these restrictions. But somehow, in the great mass of rhetoric, article XI was inadvertently lost from sight. Article XI says only this: tians. And that sœpticism, l must say, was reinforced by the selecti ~haracter of the Egyptian representative’s quotations. “The measures which shaH he taken in the cases provided for my Articles IX and X of the present Treaty shall not interfere with the free use of the Canal …. JI . To the normal t1Ùnd, this sounds like a somewhat substantive qualification of articles IX and X. 79. However, l pass over that matter in arder ta focus the attention of the Security Council, if l may, upon the hasis of this discussion, which is not the Constantinople Convention of 1888, but the Charter of the United Nations, the Egyptian-Israel Armistice Agreement and the Security Council’s resolution ûf 1 September 1951 interpreting the Charter and the Armistice Agreement with reference to the very res- trictions which are the subject of my Government’s complaint. 80. We heard in the recent speeches of the repre- sentatives of Egypt a most astonishing attempt to t1Ùnimize the effects of this blockade and to under- estimate its dimensions and gravity. Thus, there is an attempt to minimize what is, in our view, a success- fuI assault by Egypt upon the maritime interests of Israel and of other nations. The basis of that misrepre- sentation is an effort to ignore the main theme, the deterrent effects of the blockade regulations, which is really primary; and to focus attention on the steps taken against those re1atively few ships which do not respect the illegal blockade and which therefore become the objects of active intervention. I attempted last weck [658th meeting] to emphasize the primary importance which we attach to the deterrent effects of the regulations themselves and the relatively secondary character of the actual deeds of intervention and of confiscation which are applied against that smal1 margin of shipping which slips through the loopholes in that effective blockade procedure. In order to make this mast important point dear, especially against the background of the statistics which we have had here, I should like to explain precisely how the blockade operates. l should, however, like to preface my observations by doubting the relevance of the quantitative aspect of this problem. 81. If these restrictions are illegitimate, as they are in the mind and in the policy of the Security Council, l cannot see that it is much mitigation to say that these illegal restrictions are only practised against a few ships, and that that is perfectly all right because Egypt could have practised these illegal restrictions against hundreds of other ships. The subject of our complaint is the practice of these restrictions against those ships against which they are practised, and,

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

Con~ eu les à cet ~gypte mon

l l’ar~
omme

~gypte grand dirait 1. Or, >révus evront ” s’agit rticles

pour

docu- dire, lIe en ention ue la r sep- ention es qui Lts de Ltative mpor- 1er la éduire int de ~, de et de lation, pal, à ituent re en avires >as le d’une >8èm.e’ essen- s dis- actère , dont forcer er ce It des ldrais ilS. Je avis, e pas Onseil rouvé le les ,’à un bien ctions llainte

wires

avant abave aIl, the effect of the blockade regulations in deterring the arrivaI in Israel ports of hundreds of ships which, but for the existence of the restrictions, would exercise their freedom to visit our ports. 82. How, then, does the blockade operate and what are its effects? 83. In order to clarify this problem, 1 have submitted to the Security Council, in document S/3179, what should he the basic papers for its consideration- the very existence of which were scarcely hinted a.t in the two addresses which we have heard from repre- sentatives of Egypt Document A is the basic royal decree under which the Egyptian blockade operates. It was promulgated on 6 February 1950 and is entitled, “Decree on the Procedure of Ship and Airplane Searches and of Seizure of Contraband Goods in Connexion with the Palestine War”. 1 have submitted to the Security Council the official French text, taken from the Journal Officiel in Cairo. It begins, “We, Farouk l, King of Egypt”, under a certain law, “hereby decree”. There follow seventeen articles, wlùch are now part of Egyptian legislation, governing the treatment of the ships of aIl nations seeking passage through the Suez Canal. 8+. Article 1 States that the inspection of ships with the object of confiscating contraband articles of war shall conform with the following dispositions. Article 2 lays down sorne of those dispositions. Article 3 tells what will happen to any ship which does not surrender its maritime freedom and subnùt to these procedures of search. It says that recourse cau always he had to force against any ship which attempts to avoid inspection, forcibly opening fire if necessary in order to compel the ship to stop to undergo the process of visit. Article 4 tells what would happen to the crew or to the ship if the exercise of this force were to be resisted. 85. After further procedur<ù articles, we come to what is perhaps the most important definition of the scope of these restrictions, article 10. It says that the following articles, when destined for the enemy – that is the way the State of Israel is envisaged in these regulations – are contraband of war and must be confiscated. There follows a list of seven categories of items, including fuel of aIl kinds, airplanes, ships, automobiles and vehicles – aIl this as weIl as arms, munitions and war material. 86. The following article goes on to define the condi- tions under which the ship’s destination shall qualify its cargo for confiscation. In general, any relationship of this vesse! to the State of Israel in the past or in the future is considered as establishing its enemy destination and as justifying the imposition of these rigorous articles upon it. 87. These, then, are the restrictions which the Secu- rity Council has been considering for some years and which have remained an active part of Egyptian legislation. Here we have laws enaCted by Egypt for intrucling against the ships the flags, the cargoes and the maritime rights of other sovereign countries passing through the Suez Canal in its capacity as an international artery joining two parts of the high seas. 15 tout, à l’influence que ces restrictions exercent sur les centaines des navires qui, si ces restrictions n’exis~ taient pas, exerceraient leur droit de venir dans les ports israéliens. 82. Conunent ce blocus fonctionne-t~il et quelles en sont les conséquences? 83. Pour éclaircir ce problème, j’ai soumis au Coœeil de sécurité le document S/3179, contenant deux docu~ ments qui constituent les éléments fondamentaux du problème. Or, dans les deux déclarations que nous avons entendues, les représentants de l’Egypte n’ont même pas fait allusion à ces documents. Le document A est le décret royal qui est à la base même du blocus. Ce décret a. été promulgué le 6 février 1950 sous le titre suivant: “Décret réglementant la procédure rela- tive à l’inspection des navires et des avions et la capture des prises de la guerre palestinienne”. J’ai soumis au Conseil le texte français, qui est le texte officiel publié dans le Jou·mal officiel du Caire. Ce texte proclame: “Nous, Farouk 1er, Roi d’Egypte”, vu certain article d’une loi, “décrétons”. Ensuite viennent dix-sept articles, qui font désormais partie intégrante de la législation égyptienne et qui régissertt le traite- ment à accorder aux navires de tout~s les nationalités qui chercheraient à passer par le canal de Suez. 84. L’article premier stipule que l’inspection des navires aux fins de capturer les articles de contrebande aura lieu conformément aux dispositions ci-après. L’article 2 définit certaines de ces dispositions. L’arti~ cle 3 précise ce qui attend les navires qui refuseraient de renoncer à leur liberté de navigation et qui essaie- raient de se soustraire à la procMure d’inspection. Il y est dit que les autorités égyptiennes pourront toujours recourir à la force contre tout navire qui essaierait de se soustraire à l’inspection, en faisant feu, s’il le faut, pour le contraindre à s’arrêter afin de subir la visite. L’article 4 définit les sanctions applicables aux équipages et aux navires qui résisteraient à cet emploi .de la force. 85. Après d’autres articles qui traitent de questions de procédure, nous en venons à la disposition qui définit peut-être le mieux la portée des mesures de restrictions: l’article 10. Cette disposition indique que les articles énumérés plus bas, lorsqu’ils sont destinés à l’ennenù – c’est ainsi que le décret considère l’Etat d’Israël-sont contrebande de guerre et doivent être capturés comme prises. Suit une liste de six catégories d’articles, notamment les combustibles de toutes sortes, les avions, les ‘bateau.'<:, les automobiles et les véhicules, ainsi que les armes, munitions et matériel de guerre. 86. L’article suivant définit les conditions dans les~ quelles la destination du navire indique que les mar- chandises devront être capturées comme prises. En général, le fait qu’un navire a touché dans la passé ou touchera dans l’avenir un port israélien est consi- déré comme établissant que les marchandises qu’il transporte sont destinées à l’ennenù et comme justifiant l’application à ce navire des dispositions des articles rigoureux du décret. 87. Telles sont les mesures de restriction dont le Conseil de sécurité s’est préoccupé depuis plusieurs années et qui constituent toujours un élément impor~ . tant de la législation égyptienne. Telles sont les lois promulguées par l’Egypte contre les’ navires, les pa- villons, les cargaisons et les droits maritimes de tous les Etats souverains dont les navires empruntent le canal de Suez, en tant qu’artère internationale unissant

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

94. refe the rest a ve the men men men regi 1950 docu m on an WI ” This Secu there su direc are t In ot these mea:ns scope he Eg Ar on arti 95. Iik 111 Ther additi enum conta sin still. first the Sect own ev choi eff abso and each ther in 1 den deux régions de haute mer. Nous sommes ici eh présence d’un ensemble de menaces, de dispositions et de mesures publiées à l’intention des Puissances maritimes afin que- ces Puissances renoncent à exercer leur légitime liberté de commerce et de navigation avec l’Etat d’Israël. A l’appui de ces mesures rigoureuses. il est prévu d’une façon précise et formelle que des mesures de force seront prises contre les pays qui ne se soumettront pas aux dispositions du décret. 88. C’est l’existence même de ce décret qui constitue le principal élément du blocus. Il faudrait à un pays, même convaincu de la légitimité de ses droits inter- nationaux, un courage et une audace particuliers pour exposer ses navires et leurs équipages à de telles inter- ventions et à de telles humiliations. 89. C’est par suite de ce décret et de sa promulgation que plus de 90 pour 100 des navires qui devraient nonnalement se rendre en Israël ne tentent même pas de le faire. C’est véritablement travestir les faits ct faire preuve de malhonnêteté que de souligner qu’une faible proportion seulement de navires ont été visités et fouillés. Certes, les Puissances maritimes désap- prouvent les mesures prises par l’Egypte, mais elles ne disposent pas des moyens nécessaires pour s’opposer à la force qui, en définitive les sanctionne et que seule l’Egypte peut appliquer dans la région en question. Ainsi la situation est la suivante: plus de 90 pour 100 des expéditions à destination ou en provenance d’Israël qui devraient passer par le canal de Suez ont été écartées du canal. C’est ce que j’ai voulu dire quand j’ai déclaré à la 658ème séance que moins il y a de navires visités et fouillés, plus la situation est grave, plus le délit est évident, et plus le blocus est complet. 90. Si j’en venais à dire: “J’userai de la force et de la violence ainsi que de tout autre moyen de coercition envers quiconque essaiera de passer par tel ou tel chemin, et, si l’on refuse de m’obéir, je me servirai d’une anne à feu”, il me serait moralement très diffi- dIe, deux ans et demi plus tard, de simuler l’étonne- ment et de déclarer: “Messieurs, il passe très peu de monde sur ce chemin, il est très rare que nous ayons à faire usage de notre droit de contrainte ou d’intervention.” . 9L Je demanderai dès lors au Conseil de sécurité, quelle que soit la décision à laquelle il parvienne, de ne pas se laisser induire en erreur et de garder toute ‘son attention fixée sur les restrictions eUes-mêmes, qui sont l’élément essentiel de culpabilité, et, enfin, sur les efforts secondaires entrepris en vue de ren- forcer les quelques points faibles qui existent dans le blocus. 92. En conséquence, l’ensemble de la déclaration que le représentant de l’Egypte a faite au Conseil à ce sujet peut, selon moi, se resumer comme suit. Il a déclare: “Nos restrictions, qui ont été condamnées par le Conseil de sécurité, sont devenues si efficaces que le blocus est maintenant ,pour ainsi dire absolu, et vous serez satisfaits d’apprendre qu’il y a de moins en moins de navires qui tentent de faire usage de leurs droits et- qui tombent, par là même, sous le coup de nos restrictions. Les incidents dans lesquels les navires de nombreux Etats ont été impliqués reiiè- tent simplement les efforts secondaires entrepris pour renforcer les points faibles du blocus.” C’est ainsi que l’on nous demande de reprendre courage, car les points faibles sont de plus en plus rares. 16 ………,_.. L.~ Here we have a series of threats. proVlslons and measures which are published for the knowledge of the maritime world to the end that these countries shall abstain from any effort ta exercise their legitimate freedom of commerce and navigation with Israel. And hehind these rigorous enactments. there is firmly and specifica1ly stated the sanction of physical force against countries which do not obey them. 88. Tt is the existence of these regulations which is the main element in the blockade. It would require very special courage or daring for any country. how- ever convinced of its international rectitude. ta place its ships and its personnel at the peril of such humili- ation and interference. 89. It is because, (ff the existence of this decree and its public promulgation that much more than 90 per cent of the ships which would nonnally reach Israel do not even attempt to do so at all. It is really a mockery of all fact and of aIl honesty ta draw attention ta the alleged tiny proportion of ships which become involved in specifie incidents. The fact is that the maritime Powers do disappli”ove of these regulations, but they have no means whatever of overcoming the force which is their ultimate sanction and which, in the area under discussion, lies at the disposaI of Egypt and of no other Sate. The position then 15 that 90 per cent or more of the trade wrJch should flow ta and from Israel through the Suez Canal has been driven off the Suez highway. That is what 1 meant when 1 said at the 658th meeting that the fewer the ships which are concerned in actual incidents, the worse the position, the graver the praof of offence, the more total the blockade. 90.. If 1 were to say that I will use force and violence and every kind of molestation against anybody pa:ssing alotig a certain road, and that if my will is not obeyed I ~;hall use a gun against him, I am scarcely in a moral position to turn in astonishment two and one-half years later and say: “Gentlemen, very few people appear to be passing along this road; we hardly ever have to tise our right of molestation or intervention.” 91. I would, then, ask the Security Council, what- ever it chooses ultimately to do, not to allow the position ta be misrepresented and to focus its eyes firmly upon the regulations themselves, which are the primary source of guilt, and, secondarily. upon those marginal efforts which are made to close up the few gaps in the blockade restrictions. 92. Therefore, all that the representative of Egypt was telling the Council in this context could, 1 think, he put in these words. He came to the Council and said: “Our regulations, which the Security Council has condemned, have become so effective as to be nearly absolute; and you will he glad to hear that fewer .and fewer ships now attempt to exerdse their freedom and thus come within the scope of our regu- lations. Such incidents as those in which the ships of many nations have been involved are oruy the marginal efforts to close the remaining gap.” So we are asked ta be comforted because the gap is small and is growing smaller.

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

i ici eh positions lissanœs , exercer

ion avec

lureuses, que des i qui ne t.

onstitue

In pays,

s inter-

~rs pour es inter- ulgation evraient ~ne pas faits ct , qu’une visités désap- ùs elles opposer le seule uestion.

mr 100

d’Israël ont été quand y a de grave, mplet. e et de ercition ou tel servirai diffi- étonne- ès peu e nous ,nte ou Ecurité, me, de r toute nêmes, enfin, le ren- ians le aration

il à ce
. Il a

mmées fficaces absolu, moins tge de DUS le ~sque1s i reHè-

pour

ainsi e, car 93. This brings me to the question: what has happened since September 1951? The position has not stood still. The position has grown considerably worse. The first index of the aggravation is the statistics which the representative of Egypt bas brought before the Security Couneil. His statistics, far from proving his own case, merely prove that fewer and fewer ships now even feel themselves free to exercise their legitimate choice of trading with Israel, 50 that the blockade effects of the restrictions are now hecoming almost absolute. But, as I pointed out at our 658th meeting, and as the Egyptian representatives who have succeeded each other at this table bave not in any sense denied, there have been aggravations of the position which in 1951 the Security Council thought worthy of strong denunciation. 94. The two aggravations are these. First, I have referred to the decree of 6 February 1950, which is the basic legal document upon which the blockade restrictions are based, and I said that article 10 was a very important article in defermining the scope and the dimensions of these restrictive practices. As docu- ment B (S/3179) 1 have submitted the latest enact- ment as published in the Egyptian press: an announce- ment by the Council of Ministers of the new Egyptian regime, not merely accepting the decree of 6 February 1950, but actuaIly extending its scope further. This docunlent reads: “The Council of Ministers decided at its last meeting to modify certain provisions of the ‘Decree on the Procedure of Ships and Aeroplane Searches and of Seizure of Contraband Goods in Connexion with the Palestine War’, in the foIlowing manner:” This refers to a modification of the decree which the Security Council critieized in 1951, and the Council, therefore, would probably Iike to listen in hopeful suspense to see whether the modification 1S in the direction of eliminating these restrictions. Here, then, are the· two modifications: ” (1) A seventh paragraph shaII be added to Article 10 of the above-mentioned Decree (enacted on 6 February 1950), to read as follows: ” ‘Foodstuifs and aIl other commodities which are likely to strengthen the war potential of the Zionists in Palestine in any way whatever.”’ There, then, is a seventh and most comprehensive addition to the already fairly exhaustive list of articles enumerated in article 10 of this Egyptian decree as containing what tS caIIed “contraband of war”. 95. The document goes on: “(2) A second clause shaIl he added to the same article, to read as follows: ” ‘AIl the commodities heretofore enumerated shall he regarded as war contraband even when pa:ssing Egypt’s territory or territorial waters in transit.”’ In other words, as soon as a ship containing any of these goods – and under this new enactment that means pretty weIl any goods at all – comes within the scope of Egyptian governmental power, it shaIl, at 17 93. Ceci m’amène à poser une qt’estion: “que s’est-il passé depuis septembre 1951?” Là situation n’est pas restée stationnaire. Elle n’a fait qu’empirer. Le premier indice d’aggravation figure dans les statistiques que le représentant de l’Egypte a soumises au Conseil de sécurité. Loin de constituer un argument en sa faveur, ces statistiques démontrent simplement qu’à l’heure actuelle le nombre des navires qui se sentent libres d’exercer leur droit légitime de commerce avec Israël ne fait que diminuer, si bien que le blocus qui résulte des mesures de restriction est aujourd’hui pratique- ment absolu. Cependant, comme je l’ai fait remarquer lors de la 65Sème séance – et les représentants de l’Egypte qui se sont succédé à cette table n’ont nulle- ment cherché à le nier -la situation que le Conseil de sécurité a cru devoir dénoncer énergiquement en 1951 s’est aggravée. 94. Les deux faits visés sont les suivants. En premier lieu, j’ai fait allusion au décret du 6 février 1950, qui constitue le document juridique essentiel sur lequel les mesures de restriction se fondent; j’ai dit que l’article 10 était extrêmement important en ce sens qu’il déterminait le chanlp d’application et l’impor- tance de ces mesures de restriction. Dans le document S/3179, j’ai fait connaître (document B) les ‘dernières dispositions qui ont été prises en la matière, telles qu’elles ont été publiées dans la presse égyptienne; il s’agit d’un arrêté du Conseil des ministres du nouveau régime égyptien. Cet arrêté ne se borne pas à ent’;riner le décret du 6 février 1950, il en étend la portée. Ce document est ainsi conçu: “A sa dernière séance, le Conseil des ministres a décidé d’apporter les modifications ci-après à cer- taines dispositions du “Décret réglementant la pro- cédure relative à l’inspection des navires et des avions et la capture des prises de la guerre pales- tinienne :” II s’agit du décret que le Conseil de sécurité a critiqué en 1951; le Conseil sera sans doute vivement intéressé d’entendre ce texte et de voir s’il a été modifié de façon à éliminer les restrictions en question. Je donne donc lecture des deux amendements: “1) A l’article 10 du décret susmentionné’ (pro- mulgué le 6 février 1950), ajouter un paragraphe 7 ainsi conçu: “Les denrées alimentaires et tous autres produits de nature à renforcer, de quelque manière que ce soit, le potentiel de guerre des sionistes de Pales- tine.” Tel est donc ce septième paragraphe, qui complète de façon détaillée la liste déjà assez exhaustive des articles énumérés à l’article 10 de te décret égyptien, article relatif à ce qu’on appelle “contrebande de guerre”. 95. La suite du document est la suivante: “2) Ajouter, à la fin du même article, une phrase ainsi conçue-: “Tous les articles énumérés ci-dessus sont consi- dérés comme contrebande de guerre, même lors- qu’ils passent en transit sur le territoire de l’Egypte ou dans les eaux territoriales égyptiennes.” En d’autres termes, dès qu’un navire transportant l’u-n quelconque de ces articles- et, aux termes de ces nouvelles dispositions, rares sont ceux qui ne sont pas visés – tombe sous la coupe du Gouvernement

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

10 1né of lm tex égyptien, il pourra, à la discrétion des autorités égyp- tiennes, faire l’objet d’une saisie. .96. Telle est la première aggravation survenue depuis le 1er septembre 1951. La portée de l’article 10 a été considérablement étendue, et le représentant de l’Egypte a reconnu que le nouveau texte de cet article avait pris effet. Il a déclaré qu’en ce qui concerne les denrées alimentaires, qui ont été portées sur la liste des artides de contrebande, il faisait une dis- tinction entre les aliments destinés à notre population civile et les produits qui devaient être consommés par nos troupes. Il ne nous a pas fait savoir toutefois par quel moyen magique ou mécanique il établissait la destination finale des marchandises en question. De toute façon, cette question ne se pose absolument pas car l’Egypte n’a nullement le droit d’empêcher que .des produits alimentaires ne soient importés en Israa par le canal de Suez, que ces produits soient destinés à l’armée ou à la population civile. De même, am;: termes de la résolution que le Conseil de sécurité 2 adoptée en vertu de la Convention d’armistice général, l’Egypte n’a pas le droit d’empêcher les importations ou les exportations de n’importe quel produit, quelle qu’en soit la nature. 97. La deuxième extension est une extension dans l’espace, et je voudrais dire quelques mots pour résumer notre plainte touchant l’application de ces restrictions dans le golfe d’Akaba. . 98. Je regrette que le représentant de l’Egypte trouve quoi que ce soit de sinistre dans la terminologie dont nous nous servons en appelant ce golfe le golfe d’Elath, mais il ne devrait attribuer à l’emploi de ce terme aucune intention politique. Il s’agit là d’une termi- nologie traditionnelle. Le terme “Akaba” est relative- ment nouveau, il ne date que d’un millier d’années, alors que ce lieu et le golfe lui-même ont été appelés Elath pendant quelque ‘quatre mille ans, et nous considérons donc cette désignation comme tradition- nelle. Cependant, pour lui donner satisfaction, je par- lerai désormais du golfe d’Akaba. 99. Il est clair que le golfe d’Akaba est une voie maritime internationale, étant donné que les eaux terri- toriales d’au moins quatre pays différents se recou- vrent dans ce golfe. Ainsi donc, si l’un quelconque de ces pays voulait insister pour exercer son droit de souveraineté sur ses eaux territoriales, on en arri- verait à la loi de la jungle: chacun des quatre gouver- nements en question pourrait recourir à la force pour exercer des représailles contre les navires se rendant dans les eaux de l’un quelconque des trois autres gouvernements. 100. Pour nous résumer, toutes les fois qu’une voie maritime étroite constitue l’unique liaison entre deux mers ou le seul débouché vers une mer, il faut en préserver le caractère international et aucun des pays intéressés ne doit pouvoir jouir de ,droits de souve- raineté basés sur la doctrine des eaux territoriales, car il rendrait ainsi toute navigation impossible.. 101. L’élément nouveau qui caractérise la situation aujourd’hui est de voir le Gouvernement égyptien mettre en doute le caractère légitime du commerce qui se fait avec Israël par la voie du golfe d’Elath, car cette affaire a une histoire. Lorsque les îles de Tiran et de Sinafir ont été occupées, le Gouverne- ment israélien s’est tout naturellement préocc1.1pé de déterminer les raisons qui avaient conduit l’Egypte à occuper brusquement ces deux îles jusque-là ïnha- 18 the discretion of the Egyptian authorities, be subject ta confiscation. 96. This, then, is the first aggravation which has occured since 1 September 1951. Article 10 has been greatly extended, and the E::,oyptian representative.ha.s confessed to us that that exten~ion has already been put into practice. He has state<:1 that in respect of food- stûfFs, which have now been introduced into a list of contraband articles which are a1ready illegimate, he makes a distinction between the food which is destined for our civilian population, and the food which is destined to he eaten by our soldiery. By exactly what divining rod or other mechanical device he defines the final destination of ,these foods, he does not allow us to know; but at any rate the entire question is quite irrele~t ~use Egypt has no right to prevent food from hemg lmported by Israel through the Suez Canal, whether for the army or for the civilian popu- lation; just as Egypt has no right to prevent the import or export of any commodity of any kind or sort whatsoever within the terms of the resolution of the Seeurity Council based upon the General Armis- tice Agreement. 97. The second extension tS in space, and 1 should like to say a few words to summarize our case once a”,aain about the application of these restrictions to the Gulf of Aqaba. 98. 1 very much regret it if the representative of Egypt sees anything sinister in our terminology when we calI this the Gulf of Eilat, and he should certainly not read any intention of a politica1 character into ‘such terminology. It is a matter of a link which is particularly traditional. The term “Aqaba” is a rather newfang1ed term, probab1y not more than a single mil1ennium, old, whereas this partieular place and gulf have heen called “Eilat” for something like four thousand years and have to that extent become tradi- tional with us. However, 1 will, out of deference ta him, refer ,to it as the Gulf of Aqaba. 99. Now, it is clear that the Gulf of Aqaba is an international waterway in the sense that the terri- torial waters of at least four countries overlap within that Gulf; so that, if any one country were to assert the application of its sovereign rights in the territorial waters, we would, as 1 have said before, achieve a maritime jungle in the sense that any one of the four govemments could use armed force against any l”hipping proceeding to any of the other three. 100. In brief, where a narrow waterway is the only junction between two parts of the high seas, or the only outlet to a part of the high seas, then its inter- national character has to he preserved, and no sovereign rights based upon the doctrine of territorial waters is inherent in any country from the viewpoint of holding up free maritime traffic. 101.. What is new in the situation today is to find that the Govemment of Egypt doubts that truth con- cerning the legitimacy of commerce with Israel through the Gulf of Eilat; because this matter has a history. When the islands of Tiran and Sinafir were occupied, the Govemment of Israel was naturally concerned to attempt to’ elicit the reasous for this sudden occupation by Egypt of two islands, previously uninhabited, which bisected an already narrow maritime channel ,

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

·rités égyp- ~ue depuis le 10 a été ,entant de

cet article

i concerne ées sur la tune dis- population Dnunés par r toutefois établissait lestion. De: lument pas

>êcher que

5 en Isra~l nt destinés nême, aux sécurité 2. ce général, aportations luit, quelle asion dans ur résumer restrictions rpte trouve >logie dont lfe d’Elath, ce terme LIne termi- st relative- . d’années, ~té appelés , et nous tradition- m, je par-

une voie

eaux terri- se recou- quelconque son droit ln en arri- re gouver- foree pour se rendant ‘ois autres u’une voie ~ntre deux il faut en l des pays de souve- ~ritoriales, ssible.. l situation t égyptien commerce te d’Elath, .es îles de Gouverne- occl.1pé de t l’Egypte le-là ïnha- and which would enable armed forces of any kind upon those islands ta e.’Œrcisc surveillance and control over aIl shipping passing towards the northern head of the Gulf of Aqaba. Lacking relations with the Government of Egypt, the Israel Govemment sought to receive these assurances through the good offices of a govern- ment in friendly relations with both; and, accordingly, my Government addressed the Government of Egypt through the United States Ambassador in Israel on 14 February 1950, asking if it were possible to secure any clarification of the reasons which had animated the Government of Egypt in establishing itself on those two islands. 102. We received a reply on 21 February, stating that at the very end of January the Egyptian Foreign Minister handed to Ambassador Caffery and aide- ménwire dated 28 J anuary 1950. l have here the text, and shall submit it as a document to the Security Council, because it does not, l think, express a very sound legal doctrine concerning the rights and duties of the parties at the head of the Gulf of Aqaba. The Egyptian Government, in this œide-mémoire, states that these two islands have been occupied in perfect agreement with the Government of Saudi Arabia. The second pa~”Taph states that, in so occupying these islands, Egypt has merely tried to confirm its rights on the said islands which, by their geographical position, are less than three sea miles from the Egyptian coa:st of Sinai and some four miles from the opposite coast of Saudi Arabia. 103. But the third paragraph of this Egyptian aide- mémoire, submitted in writting through the good offices of a friendly government, is, l think, of the utmost importance, and l should like to read it in its original text: “This occupation being in no sense intended to interfere in any way whatever with innocent traffic through the stretch of sea separating these two islands from the Sinai Coast of Egypt, it goes with- out ‘saying that this passage, the only practicable one, will remain free, as in the past; which is in conformity with international practice and with the recognized principles of international law.” Il 104. Therefore, in a more moderate and conciliat~ry moment sorne three or four years ago, Egypt was prepared to commit itself to the correct legal doctrine that respect for international law and the rights of nations prevents Egypt and, of course, prevents Israel, or Jordan, or Saucli Arabia, as the four littoral States on the Gulf of Aqaba, from using their territorial position in order to interfere with free passage through that Gulf. lOS. This enables me to summarize my case, reserving ouly our right of intervention at a later stage. l would oilly say in conclusion that the Security Council would, 1 think, find great interest in comparing the arguments which have been heard from th~ Egyptian represen- tative today with the categorica1 tenn:s of its own resolu- tian. Again we have heard the assertion of belligerent rights arising from a state of war, an assertion already most authoritative1y rejected. Again we have heard an interpretation of the Armistice Agreement as enabling the continuation of hostile acts – again, a 9 Translated from French. bitées. En effet. ces îles se trouvent au milieu d’une voie maritime déjà fort étroite, et les forces militaires qui y seraient stationnées seraient en mesure de sur- veiller et de contrôler toute la navigation se dirigeant vers la côte septentrionale du golfe d’Akaba. Comme il n’entretenait pas de relations avec le Gouvernement égyptien, le Gouvernement israélien a cherché à obtenir des assurances à cet égard en recourant aux oons offices d’un gouvernement ami des deux parties. En conséquence, mon gouvernement s’est adressé le 14 février 1950 à l’Ambassadeur des Etats-Uni!.\ d’Amé- rique en Israël et l’a prié d’obtei1!r si possible des éclaircissements sur les raisons qui avaient amené le Gouvernement égyptien à s’établir sur ces deux îles. 102. Le 21 février 1950, M. Caffery, ambassaQ~ur des Etats-Unis, nous fit savoir que le Ministre des affaires ëtrangères égyptien lui avait remis à la fin de janvier un aide-mémoire en date du 28 janvier 1950, dont j’ai ici le texte. Je me propose de faire publier ce texte en tant que document du Conseil de sécurité, car, à mon avis, il expose une thèse peu défendable au point de vue juridique, en ce qui concerne les droits et les devoirs des parties au fond du golfe d’Akaba. Dans son aide-mémoire, le Gouver- nement égyptien affirme qu’il a occupé les deux îles en question avec l’assentiment plein et entier du Gou- vernement de l’Arabie saoudite. Dans le deuxième paragraphe, il est dit qu’en occupant les îles l’Egypte n’a fait que confirmer ses droits, car elles sont situées à moins de trois milles maritimes de la côte égyptienne du Sinaï et à quelque quatre milles de la côte de l’Arabie saoudite, sur la rive opposée. 103. Il me semble cependant que c’est le troisième paragraphe de l’aide-mémoire égyptien qui est le plus important; aussi voudrais-je vous en donner lecture dans le texte original, qui nous a été communiqué par l’entremise d’un gouvernement ami: “Cette oLcupation n’étant nullement conçue dans l’esprit d’entraver en quoi que ce soit le passage innocent à travers l’étendue maritime séparant ces deux îles de la côte égyptienne du Sinaï, il va ale soi que ce passage, le seul praticable, demeurera libre comme par le passé, et c’est en conformité avec la pratique internationale et les principes reconnus du droit des gens. Il” 104. Ainsi, cédant à un mouvement de modération et de conciliation, l’Egypte était prête, il y a trois ou quatre ans, à admettre la seule thèse qui puisse se soutenir du point de vue juridique, à savoir que le respect du droit international et du droit des gens interdit à l’Egypte – ainsi, bien entendu, qu’à Israël, à la Jordanie ou à l’Arabie saoudite – interdit, dis-je, aux quatre Puissances riveraines d’exploiter la posi- tion qu’elles occupent sur le golfe d’Akaba pour empêcher la libre navigation dans ce golfe. 105. Je peux donc condure, en me réservant seule- ment le droit d’intervenir à nouveau dans le débat. Je me bornerai à dire que le Conseil de sécurité aurait intérêt, selon moi, à comparer les arguments avancés aujourd’hui par le représentant de l’Egypte avec les termes catégoriques de sa propre résolution. Une fois de plus, on nous a parlé de droits de belligérance découlant d’un état de guetTe, alors qu’il a été fait définitivement justice de cet argument. Une fois de plus, on nous a présenté une interprétation de la Con- vention d’armistice qui justifierait la continuation 9 En français dans l’original. 19

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

112. Mr. Eb has roared an walls of this walls of Jerkh of his oratori has been so 10 colleagues hav Press conferen they have issu 50 many lette of this Council that they had r that ML Eba and sober pr that is, of cou 113. But suc occasion is, in occasion to le machine. Thei tactics consist victim as to m aggressor, the 114. True to habits for whic Iiking, Mr. E table as a platf the unconditi of al! nations 110. Becaus( doubt that t view that thL of much bro mentous signi ment has had and l am con context, the international i 111. Mr. RI Israel and E the issue now tine question:

My delegatio

what these t, time being, l s about what t last meeting. 115. l listene to be expected, irrelevant to t a considerable this, l may po ganda – distor of facts. Finall admit in all fai on the specifi the statement February 195 could he descri of truths, half d’actes d’hostilité – à cet égard aussi, le Conseil de sécurité s’est déjà prononcé de façon diamétralement opposé. Une fois de plus, on a invoqué de prétendus droits de légitime défense ou de conseFVation, au mépris de la résolution du Conseil, qui déclare que ces droits ne sauraient être invoqués à l’appui des pratiques dont il s’agit. Une fois de plus, on s’est efforcé de déformer la nature et de minimiser la gravité des restrictions en faisant abstraction de l’effet pré- ventif du blocus. On n’a cherché d’aucune manière à déterminer quelles sont les conséquences, pour la vie économique et la sécurité politique d’Israël et d’autres pays, de cet abus de pouvoir si grave, dont les effets pèsent si lourdement sur le commerce et l’économie de notre région. On peut dire, en vérité, que le Conseil est appelé, non pas tant à choisir entre une thèse israélienne et une thèse égyptienne, mais à se prononcer sur une affaire qui oppose l’Egypte à la communauté des nations. 106. Ce qui est en jeu, c’est la Convention d’armis- tice, qui ne cesse d’être violée depuis cinq ans, de l’avis de tous ceux dont l’opinion sur l’interprétation de la convention fait autorité. Ce qui est en jeu, c’est la résolution du Omseil de sécurité, que le premier orateur égyptien a qualifiée, à juste titre, de décision du Conseil de sécurité. A ce p”opos, je ‘,-oudrais attirer l’attention sur l’Article 2S de la Chr-te, aux tennes duquel nous nous sommes engagés il nous conformer aux décisions du Conseil de sécurité, engagement que nous n’avons pris à l’égard d’aucun autre organ” international. 107. Un autre problème qui se pose, c’est la paix dans le Moyen-Orient, problème qui est envisagé selon deux doctrines différentes: le passage à la paix, qui est notre conception à nous, et l’état de guerre, thèse qui a de nouveau été défendue devant le Conseil de sécurité par un orateur qui a demandé au Conseil de sanctionner les concepts et les prétendus idéaux de la belligérance. 108. Ce dont il s’agit, c’est du grave préjudice qu’on p, te aux intérêts de nombreux pays et, avant tout, aUe( grands princi.pes maritimes, qui seront influencés par le caractère et le sens de la décision que prendra. le Conseil de sécurité. Une Puissance territoriale peut- elle, en raison du hasard géographique qui l’a placée à un carrefour des communications mondiales, exercer arbitrairement un tel pouvoir dans l’intérêt de sa propre politique nationale et sans le consentement international; ou bien continue-t-il d’exister, dans le monde moderne, un droit libre et inconditionnel de navigation pacifique dont peuvent se prévaloir tous les pays dont les navires voguent en haute mer ou entre les océans? 109. Il se trouve que, .pour certaines raisons poli- tiques, c’est Israël qui est aujourd’hui la victime de cette doctrine qui fait prévaloir les droits de l’Etat riverain sur les droits de la collectivité maritime internationale. Mais il se peut que ce ne soit pas toujours nous qui soyons la victime ou l’objet de ces procédés. Si le Conseil, laissant fermement établir ce précédent, décidait qu’un Etat riverain a le pouvoir en question, cela reviendrait en fait à doter des pays tels que l’Egypte d’un pouvoir arbitraire formidable qui leur permettrait, selon les rapports d’amitié ou d’inimitié qu’ils ont avec tel ou tel Etat, quel qu’il soit, et pour n’importe quel motif ou n’importe quelle doctrine on which the Security Council has alreat.y established a “1”‘ectly contrary view. Again we have heard invoketi. the alleged rights of self-defence and of self-preservation, as against a Security Council resolution which states that these practices cannat he justified under those tenus. Again we have had an attempt to minimize the character and the gravitY of the restrictions by ignoring the basic deterrent effects àf the blockade. ‘We have not had any attempt whJ.t- ever to di·scuss the effects upon the economic life and the political security of Israel and of other counmes of this most grave abuse, which is having the most em>rmously burdensome effects upan the trade and the economy of our region. Therefore, the Council is really faced less with a choice hetween an Israel and an Egyptian thesis than hetween an Egyptian case, on the one hand, and that of the wodd communitv, on the other hand. . 106. At stake is the Armistice Agreement, which has here heen violated for five years, in the judgment of aU the authoritative sources on its interpretation. At stake is the Security Council’s resolution, correctIy described by the first Egyptian speaker as a decision of the Security Council. And herL l would draw attention to Article 2S of the Charter, under which we have all undertaken with respect to the Security Council, as we have not undertaken with respect to any other international organ, to accept the decisions of the Security Council. 108. At stake is the grave 1055 to the interests of many countries and, above all, the great maritime principles which will here suffer according to the character and the direction of the S!=Curity Council’s decision. Can a territorial Power, by reason of the geographical fortune which puts it athwart the com- munications of the wodd, exercise that power arbitra- rily in the interests of its own national policy and with- out international consent; or does there continue to exist in the modern wodd a free and unconditional right of peaceful navigation ta he enjoyed by aH coun- tries upon and between the high seas? 20 107. Another issue is the peace of the Middle East, as it falls hetween these two doctrines of transition ta peace, which is our concept, and the state of war which has again been declared at the Security Council’s table in a speech which claimed the Council’s reco- gnition for the concepts and the alleged ideals of helli- gerency. 109. Israel happens, for certain political reasons, to be the target today of the doctrine which enthrones the rights of the coastal State against the rights of the wodd maritime community. But we might not always he the victim or the target of such an abuse. If, by allowing this precedent to become firm1y esta- blished, the Council determines that a coastal State does possess that right, then indeed we elevate countries such as Egypt really to the colossal arbitrary:} )wer of being allowed, as a function of their friendsh. ) or lacl< of friendship with any State, cause, or pôlicy, to decide which countries shall and which countries shall not exercise what has traditionally been one of

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

113. Mais telle n’est pas la manière des Israéliens. Ils estiment que toute occasion est bonne pour déclen- cher les flots de leur propagande. Leur tactique est bien connue. Cette tactique consiste à peindre une image tellement sombre de leur victime que celle-ci apparaît comme le coupable, l’agresseur, la partie rebelle qui s’insurge contre la loi. 114. Fidèle à ses habitudes des derniers mois, habi- tudes qu’il ‘semble avoir particulièrement prises à cœur, M. Eban s’est, une nouvelle fois, servi du Conseil comme d’une tribune qui lui pennet de diffuser sa propagande. 115. J’ai écouté M. Eban très attentivement. Comme on pouvait s’y attendre, une grande partie de ce qu’il avait à dire ne concernait nullement la question dont le Conseil de sécurité est saisi. En fait, une grande partie de son discours tendait – et c’est là un trait habituel de la propagande sioniste – à défonner la vérité, à la maltraiter, et même à dissimuler certains faits. Enfin,une partie de ce qu’il a dit, je dois sur ce point rendre justice à M. Eban, portait directement sur la question précise que le Conseil est en train d’examiner. Autrement dit, on peut considérer la décla- ration que le représentant d’Israël a faite à la 65Sème séance, le 5 février, comme un mélange de vérités, de considération politique, de décider quels sont les pays qui pourront ou ne pourront pas exercer ce qui cons- titue traditionnellement run des droits imprescriptibles des Etats souverains. 110. Etant donné que toutes ces questions sont en jeu, je suis persuadé que le Conseil de sécurité refusera .le s’associer à la thèse selon laquelle il s’agirait, en • occurrence, d’une affaire sans importance. A coup sûr, il s’agit d’une affaire qui présente une portée et une importance infiniment plus grandes que, n’importe laqudle des questions dans lesquelles mon gouverne- ment s’est trouvé directement mis en cause. J’espère que le Conseil de sécurité comprendra que les ques- tions qu’il examine en ce moment, loin de n’avoir qu’un caractère régional immédiat, sont d’une pro- fonde portée internationale. 111. M. RIZK (Liban) (trad1tit de l’anglœis): La délégation d’Israël et la délégation de l’Egypte ont chacune fait deux déclarations touchant le problème dont le Conseil est saisi, à savoir “La question de Palestine: plainte d’Israël contre l’Egypte … ” Ma délégation aura un grand nombre d’observations à présenter au sujet de ces déclarations: Pour le mo- ment, je voudrais me borner à quelques remarques d’ordre général sur le discours que le représentant d’Israël a prononcé à notre séance précédente. 112. M. Eban a parlé. Une fois de plus, sa voix a retenti et a provoqué des échos qui dépassent de loin les quatre murs de la salle du Conseil, mais, une fois de plus, les murs de Jéricho ne se sont pas effondrés sous l’effet de sa fougue oratoire. Ces jours derniers, le représentant d’Israël s’est montré si loquace, lui- même et ses collègues ont fait tant de déclarations à des conférences de presse et par d’autres voies, ils ont publié tant de communiqués et adressé tant de lettres au Président et aux membres du Conseil, que j’avais pensé et espéré qu’il ne leur restait plus grand- chose à dire. J’avais pensé que M. Eban se borne- rait à exposer sa thèse au Conseil d’une manière sobre et concise – si tant est qu’il ait une thèse à exposer. 21 115. 1 listened to Ml”‘. Eban very carefully. As was to he expected, a good deat of what he had to say was irrelevant to the issue before the Couneil. Of course, a considerable portion of his speech contained — and this, 1 may point out, is customary for Zionist propa- ganda – distortions, twistings and even concealment of facts. Finally, part of what he said, and this 1 must admit in an fairness to Ml”‘. Eban, had a direct bearing on the specific item now before us. In other words, the statement we heard at our 65Sth meeting on 5 Fehruary 1954 from the representative of IsraeJ couId be described as a diatribe consisting of a mixture of truths, half-truths and untruths, so ably enmeshed 111. Mr. RIZK (Lebanon): The representatives of Israel and Egypt have each made two statements on the issue now before the Coundl, namely, “The Pales- tine question: complaint by Israel against Egypt …… My delegation will have a good deal to say about what these two representatives have said. For the time being, I should like to make a few general remarks about what the Israel representative told us at our last meeting. the unconditional rights inherent in the sovereignty of al! nations. 110. Because aU these issues are at stake, I do not doubt that the Security Coundl will not share the view that this is a trivial case. It is certainly a case of much broader pS~pectives and of far more mo- mentous significance than any in which my Govern- ment has had the honour of being actively involved; and ! am confident that, beyond the immediate regional context, the Security Coundl will perceive the high international issues which are now at stake. 112. Mr. Eban has spoken. Once again, his voice has roared and echoed within and far beyond the four wans of this Council chamber – and, once again, the walls of Jerkho have not fallen down under the impact of his oratorical blasts. The representative of Israel has been so loqu?..cious these past few days, he and his colleagues have recently made so many statements in Press conferences and through other media of diffusion, they have issued so many Press releases and addressed so many lette1″‘s to the President and to the members of this Council, that 1 should have thought, and hoped, that they had little left to tell us. 1 should have throught that Ml”‘. Eban would be content to make a concise and sober presentation of his case to ,the Council- that is, of course, if he has a case at aIl. 113. But such are not the ways of the Israelis. Every occasion is, in the view of the Israelis, an appropriate occasion to let loose the floods of their propaganda machine. Their tactics are weIl known by nOw. These tactics consist of painting sa dark a pichire of their victim as ta make the latter appear as the culprit, tlle aggressor, the lawless and rebellious party. 114. True ta his habits of the past few months, habits for which he ‘seems to have acquired a particular liking, Ml”‘. Eban has once again used this Council table as a platfonn for the diffusion of his propaganda.

.

e a

t

.t t

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

of Terusale reierence ta he deemed , debate. 120. In th1. no intention Our sole pur ta draw the the very thi placed Israel this debate, vincingly an and ta prov My delegati -the true f which Ml’. For the tim far from sti mighty onsla 121. My de this truth ou members of may be in a facts of the from them. l gation to m statement on 122. Ml’. A It is not my the Israel re Council at th reality a mel sentative has but at previo ta a few obse has just put 123, l 5houl conception of note \vith sa ferring ta the point of view. is concerned., ,the 1888 Co Convention; signed it was 124. The 15 of the 1888 IX and X, w exceptions to Convention, making seizur there have certain ships arouse the Eo 125. The re which provide applied sa as We do not di the Conventio in the cases s free use of the the inspection on their arriv demi-vérités et de contre-vérités qui ‘s’imbriquaient si bien les unes dans les autres qu’il semblait s’agir de l’exposé d’une question digne de figurer à l’ordre du jour du Conseil. 116. Suivant l’exemple du représentant de l’Egypte et par respect pour la dignité et le prestige du ConseiÎ de sécurité, ma délégation ne s’abaissera pas à faire ne fût-ce qu’une allusion aux obse:.,’ations outrageantes du représentant d’Israël, qui a accusé l’Egypte de se livrer à des actes de piraterie et de brigandage. Ces tenues s’appliquaient, bien entendu, aux mesures que l’Egypte avait adoptées au sujet du canal de Suez et de ses eaux territoriales, dans l’exercice de son droit de légitime défense et de conservation, pour faire face aux actes d’agression commis à maintes reprises par Israël, pour répondre au défi. arrogant lancé par Israël à la volonté de tout le monde civilisé, exprimée dans les résolutions des Nations Unies sur la question de Palestine, et pour lutter contre les conséquences du profond mépris dans lequel Israël tient les principes humanitaires les plus élémentaires et les règles de la simple décence. 117. A la 658ème séance du Conseil de sécurité, j’ai écouté avec le plus grand soin ce que le représentant d’Israël avait à dire. Depuis cette séance, j’ai lu et relu la longue dissertation que M. Eban a faite sur le canal de Suez. Je ne me proposais pas de trouver des arguments qui me permettraient de réfuter sa thèse. Ce serait là une chose très facile à faire. En fait, Mahmoud Fawzi Bey, représentant de l’Egypte, l’a déjà fait d’une manière convaincante, scientifique, irréfutable, en exposant le point de vue de l’Egypte au Conseil de sécurité, lorsque ce!lui-ci examinait la question dans l’été de 1951. Si je me suis livré à ce travail, c’est parce que j’étais curieux de découvrir des raisons qui avaient amené les membres du Conseil de sécurité à inscrire la nouV’elle plainte d’Israël à l’ordre du jour du Conseil. 118. Dans sa longue dissertation sur le droit inter- national, la Charte des Nations Unies, les intentions profondes et l’esprit des accords d’annistioe, le repré- sentant d’Israël ne nous a appris rien ‘i.e nouveau. Il a répété les vieux arguments ressassés sur la Con- vention d’armistice égypto-israélienne et sur son esprit. Il semble toutefois que le texte au bas duquel l’Egypte a apposé sa signature n’importe que peu à M. Eban- c’est l’esprit de la convention qui l’obsède. M. Eban a parlé en outre de la Convention de Constantinople de 1888, omettant délibérément toute allusion aux articles de ce texte – notamment aux articles X et XII – qui, sur le plan juridique, justifient de manière irréfutable les mesures que l’Egypte a été contrainte d’adopter dans le ~anal de Suez à titre de précaution contre l’agression israélienne et pour défendre son existence même. 119. Le représentant d’Israël a en outre exposé au Conseil ses vues sur la Charte des Nations Unies et sur les obligations des Etats Membres, négligeant, bien entendu, de citer les articles de la Charte qui parle du respect à accorder aux résobtions des Nations Unies. Cette omission est parfaitement compréhensible. S’il avait agi autrement, le représentant d’Israël se serait accusé lui-même et aurait accusé les autorités de son pays d’avoir fait fi des résolutions que l’Orga- nisation des Nations Unies a adoptées au sujet d’en- viron un million de réfugiés arabes ‘victimes de l’agres- sion israélienne, au sujet du partage de la Palestine -.. -~··-‘”‘:”-~””-:V~-·”’;,·::-:’~”-‘–“‘: …… “~. 117. At ,the 658th meeting of the Security Council, l listened very carefully ta what the Israel represen- tative had ta say. Since that meeting, l have read and re-read Mr. Eban’s long dissertation on the Suez Canal. l did sa not in an effort ta find reason and arguments to refute his thesis. This will be a very easy thing ta do; in fact, this has already been done in a most adequate, scholarly and irrefutable manner by Mahmoud Fawzi Bey, the representative of Egypt who so ably presented the Egyptian point of view when the Security Couneil debated this item in the summer of 1951. If l did sa, it was out of cU1″Îosity ta discover the reasons which have prompted the mem- bers of this Council ta inscribe this new Israel com- p~aint on its agenda. 119. The Israel representative aiso submitted ta the Council his views about the Charter of the United Nations and the obligations of the Member States, omitting, of course, aIl l’eference ta those Articles of the Charter which deal with respect for United Nations resolutions. This omission is very understandable. If he had not made it, the representative of Israel would have been indicting himself and his authorities for defiance of the resolutions which the United Nations has passed with respect ta the nearly one million Arab refugees, victims of Israel aggression; with respect to partition; and with respect ta the internationalization 1 22 116. Following the example of the Egyptian repre- sentative, my delegation, out of respect for the dignity and prestige of the Security Coullcil, will not stoop sa low as ta make even a fleeting reference ta the Israel rèpresentative’s insulting remarks about what he chose ta call piracy and robbery on ,the part of Egypt. He was referring, of course, to the measures Egypt had adopted in the Suez Canal and its terdtorial waters in legitimate self-defence and self-preservation against repeated aets of Israel armed agression, against arrogant Israel defiance of the will of the civilized world as expressed in the United Nations resolutions on Palestine, and against the utter disregard by Israel of the most elementary principles of humanity and human decency. 118. In his long dissertation on international hw and on ,the United Nations Charter, and on ghosts and spirits of armistice agreements, the Israel represen- tative told us nothing new. He repeated the same old arguments, threadbare by now, about the Israel-Egyptian Armistice Agreement and its spirit-the text ta which Egypt affixed her signature being of little importance, it seems, in Ml’. Eban’s view; it is the spirit which fascinates him. Ml’. Eban also spoke about the Constan- tinople Convention of 1888, deliberately omitting any reference ta those articles thereof, particularly’ articles X and XII, which furnish irrefutable justification and a sound legal basis for the measures which Egypt has been forced ta adopt in the Suez Canal for its self- preservation and as a precaution against Israel aggres- sion. and woven together as ta appear like a case worthy of bemg inscribed on the agenda of tMs august body.

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

122. M. AZMI (Egypte): Mon intention n’est pas de présenter au ConseH de sécurité une réponse dé- taillée à la déclaration faite par le représentant d’Israël à la présente séance. Cette déclaration n’est en réalité qu’une répétition de ce que le représentant d’Israël a dit dans ses précédentes interventions, non seulement durant cette séance, mais également durant des séances antérieures. Je me bornerai plutôt à quelques réflexions se rapportant à certaines idées que M. Eban vient d’énoncer ici. 123. Je voudrais, par exemple, parler de la notion qu’il se fait au sujet de la Convention de 1888. Mais, auparavant, j’enregistre – et avec satisfaction -la déclaration par laquelle il affirme ne traiter la Con- vention de 1888 que du point de vue mstorique. Car, pour le. Gouvernement égyptien, l’Etat d’Israël n’a rien à faire avec la Convention de 1888; il ne l’a pas signée – il n’existait pas encore au moment de la signature de cette convention. 124. A propos de la Convention de 1888, le repré- sentant d’Israël a parlé de son article XI, qui fait suite ,aux articles IX et X, lesquels donnent à l’Egypte le droit de faire quelques exceptions aux articles IV, V, VII et VIII de la convention, droit que l’Egypte emploie en effectuant la saisie (je ne dirai pas la confiscation, puisque cela ne s’est jamais produit), l’inspection, ainsi que des recherches sur quelques navires qui passent et qui font l’objet de suspicion de la part du Gouvernement égyptien. 125. Le représentant d’Israël a fait état ne l’article XI, qui dit en effet que l’application des articles IX et X ne doit pas entraver la libre circulation dans le canal. Nous ne contestons pas que l’article XI de la Convention de Constantinople déclare que les mesures qui seront prises dans les cas prévus par l’a..-ticle X ne devront pas faire obstacle au libre usage du canal. Mais nous sommes fenaement convaincus que la visite effectuée par les autorités égyptiennes sur des navires et au sujet de l’internationalisation de Jérusalem. M. Eban s’est dispensé, fort à propos, de parler de toutes les dispositions de la Charte qu’il serait embarrassant, à son avis, d’invoquer au cours de la présente dis- cussion. 120. Dans cette déclaration préliminaire, ma délé- gation n’a nullement l’intention de traiter de la question quant au fond. Si no’!,:; avons pris la parole mainte- nant, c’est que nous voulions montrer au Conseil de sécurité sur quel fil tt:nu repose l’argumentation du jongleur israélien. Ma délégation s’efforcera plus tard – et, nous l’espérons, d’une manière convaincante- d’analyser la thèse israélienne et de montrer qu’elie ne repose sur rien de solide. Ma délégation s’efforcera de dégager les faits – je dis bien les faits – malgré ce voile tendancieux que M. Eban a si artistiquement tissé autour de la vérité. Qu’il me suffise de dire pour le moment que, loin d’étouffer la vérité, ce voile a servi au contraire à la protéger contre la puissante attaque de la propagande sioniste. 121. Ma délégation s’efforcera en temps opportun de faire apparaître cette vérité devant les membres du Conseil. Le Conseil pourra ainsi apprécier tous les faits (le la cause et en tirer les conclusions qui s’imposent. En conséquence, je réserve le droit de ma délégation de faire ultérieurement une déclaration plus complète sur cette question. 23 123. 1 should like, for example, to comment on ms conception of the 1888 Convention; but first let me note with satisfaction ms statement that he was re- ferring to the 1888 Convention solely from the mstorical point of view. For 50 far as the Egyptian Government is concerne<!, the State of Israel has nothing to do with the 1888 Convention. It was not a signatory to the Convention; at the time when the Convention was signed. it was not yet in existence. 124. The Israel representative referred to article XI of the 1888 Convention. That article follows articles IX and X, which give Egypt the right to make certain exceptions to articles IV, V, VII and VIII, of the Convention, a right wmch Egypt is exercising in making seizures (1 do notsay confiscations, because there have been none), inspections and searches on certain ships passing through the Canal when they arouse the Egyptian Government’s suspicions. 125. The representative of Israel quoted article XI, which provided that articles IX and X should not be applied so as to hamper free navigation of the Canal. We do not dispute the fact that under article XI of the Convention of Constantinople the measures taken in the cases specified in article X must not impede the free use of the Canal. But we are firmly convinced that the inspections of ships in transit through the Canal, on their arrivaI at Port Said and Suez. carried out of Terusalem. Mr. Eban very conveniently omitted reference to other provisions of the Charter which he deemed would be embarrassing to refer to in this debate. 120. In this preliminary statement, my delegation has no intention of entering into the substance of the matter. Our sole purpose in speaking at tms juncture is merely to draw the attention of the members of the Council to the very thin thread on which Israeli acrobaties have placed Israel’s case against Egypt. At a later stage in this debate, my delegation will attempt. we hope con- vineingly and with success, to dissect the Israel thesis and to prove that it does not rest on solid ground. My delegation wi.ll endeavour to disintangle the facts – the true facts, that is- from the web of distortion which Mr. Eban has so artfully spun round them. For ·the time being, suffice it to say that this v. eb, far from stifling the truth, has slùelded it from the mighty onslaught of the Zionist propaganda machine. 121. My delegation will seek in due course to bring this truth out into the open and to put it before the members of this Council in order that the Council may be in a position to become apprised of the full facts of the case and to draw the appropriate conclusion from them. 1 reserve, therefore, the right of my dele- gation to make a more extensive and comprehensive statement on tlùs subject at a later date. 122. Mr. AZMI (Egypt) (trœnslated frO’l1Z, Frelld~) : It is not my intention to submit a detailed. reply to the Israel representative’s statement to the Security Council at the present meeting. That statement was in reality a mere repetition of what the Israel repre- sentative has said in earlier speeches, not only at this, but at previous meetings. 1 shall instead limit myself to a few observations on certain ideas which Mr. Eban has just put forward. U ~t t, ri IS ~n le .x [1

e

te in ‘Il 1- ai nt et le er sa ~n e, e, LU la

e

‘Ir ~i1 à ,e

s

~­ 1- r- 15 é- u. l- it. te e (e. ‘eS ez lit .ce ar lël ns de

lu

es la te, eil ‘:re

es

de si de

lu

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

131. Th and ,ind l’srael po l wish researche relaxatio 132. Th isiands si He alle occupied Egyptian to the U were not l point 0 necessary the Otto Egypt, f two islan eussions, the Otto of Egypt islands h is an esta been und 133. Egypt an islands State wa occupatio State was between l would of these recognitio territory 134. Th by the Embassy sentative Egypt h entirely refers to in fact of interna inspection aIl ~aypt 135. By represent Couneil th to respect measures to the Sec This is, I cJeared u not in co of 1 Septe But at th and this i -that w taken, E is illustrat repr~senta Council 0 128. Le représentant d’Israël a fait distribuer un document [S/3179] contenant, en tant que document A, le texte de la loi égyptienne concernant les mesures que l’Egypte a prises à l’occasion du passage dans le canal de quelques navires portant des munitions et autres matières considérées comme munitions à desti- nation d’Israël. Le représentant d’Israël nous a lu quelques articles de cette loi. Je lui demande si, tout au long de ce texte, il a trouvé le mot “blocus” pour en faire état ensuite à plusieurs reprises. Cette loi ne concerne que la saisie – s’il y a lieu – de matières prohibées. 129. Le représentant d’Israël nous a parlé de l’aggra- vation de cette situation, dont témoignerait un autre document, le document B, également reproduit dans le document S/3179. Mais je demande pourquoi le représentant d’Israël, qui est cependant parfaitement au courant de la législation égyptienne et des dispo- sitions que prend l’Egypte aux fins de saisie – je ne dirai pas de confiscation (ce mot n’est pas employé), bien que le mot me vienne aux lèvres- n’a pas pour- suivi ses recherches jusqu’à ces jours derniers, alors que les journaux de New-York même ont publié une dernière mesure adoptée par le Gouvernement égyp- tien et constituant en fait une diminution des restric- tions édictées. transitatlt par le canal, à leur arrivée à Port-Saïd et à Suez, pour arrêter le commerce de contrebande, ne peut pas être considérée comme portant atteinte au libre usage du canal, ni, partant, comme incompatible avec la Convention de Constantinople de 1888. 126. D’une part, la notion du libre usage du canal n’a jamais exdu certaines formalités et restrictions douanières, policières et autres, édictées par le sou- verain territorial à l’égard des navires et de leurs équipages. On n’a jamais invoqué, pour se soustraire à ces formalités, le libre usage du canal. 127. Le représentant d’Israël a répété maintes fois le temle “blocus”. Je ne veux pas faire ici un cours de droit international afin de démontrer la différence qui existe entre le blocus et le droit de visite et de séquestration. J’attire seulement l’attention sur le fait que cette différence est claire et notoire. L’~aypte n’a pas et n’a jamais eu l’intention de faire un blocus, comme le représentant d’Israël l’a tellement répété, surtout au cours de sa dernière intervention. 130. Il s’agit d’une dépêche émanant du Caire, rédi- gée à l’origine en anglais et ainsi conçue: “Le Gouvernement égyptien a annoncé aujourd’hui qu’il avait assoupli les règlements relatifs à la “liste noire” sur laquelle étaient p-ortés les navires étran- gers qui se rendaient dans des ports israéliens. Le Bureau de boycottage a fait savoir aux compagnies de navigation que les navires marchands se rendant dans les ports israéliens ne seraient plus portés sur la liste noire s’ils ne s’arrêtaient pas dans des ports arabes au cours de la même traversée. Les restrictions ne s’appliqueront plus aux navires de croisière et aux navires transportant des touristes, qui seront autorisés à s’arrêter dans des ports israé- liens aussi bien que dans des ports arabes au cours du même voyage. Le Bureau a annoncé en outre qu’il était disposé à examiner les demandes tendant à rayer de la liste noire les navires qui y figurent 24 by the Egyptian authorities in order to prevent the contraband trade, cannot he considered as impeding the free navigation of the Canal or, therefore, as being incompatible with the Constantinople Convention of 1888. 126. Furthermore, the priqciple of the free use of the Canal has never barred certain customs, police and other formalities and restrictions decreed by the territorial sovereign in respect of vessels and their crews. The principle of the free navigation of the Canal has never been invoked to claim e..,emption from such formalities. 127. The Israel representative made much play with the term “blockade”. I do not \Vish here to give a lesson on internationallaw tQ demonstrate the difference between a blockade and the right of inspection and ‘sequestration. I would merely point out that that difference is dear and a matter of general knowledge. Egypt has not, and never has had, the intention of impo::iing a blockade, as the Israel representative has so often alleged, particularly in the speech he has just made. 128. The Israel representative bas had distributed a document [S/3179] containing, in document A, the text of the Egyptian law providing for L’le action taken by Egypt on the occasion of the passage through the Canal of a number of vessels carrying munitions, and other materials considered as munitions, destined for Israel. He read out certain articles of the law. Let me ask him if he found anywhere in its text any mention of the word “blockade” such as would justify his repeated reference to that word. The law concems ooly the seizure, where necessary, of prohibited materials. 129. The Israel representative bas told u’s that the situation is deteriorating, and in this connexion has suba lrtitted another document, document B, which is also included in document S/3179. I venture to ask why the Israel representative, although he is perfectly well acquainted with the progress of Egyptian legislation and the measures enacted by Egypt with a view to seizure – 1 shall not use the word confiscation, though it is on the tip of my tongue, since that word is not mentioned – did not pursue his resèarches as far as the last few days; fpor the New York press bas pubHshed the most reœnt measure enacted on this subject by the Egyptian Govemment, a measure which in faet constitutes a relaxation of the former restric- tions. 130. I am referring to a dispatch from Cairo which reads as follows: “The Egyptian Govemment today announced relaxation of its ‘black Hst’ regulations on foreïgIl ships sailing ta ports in Isn~l. The Boycott Bureau informed shipping cOlnpanies that merchant vessels would not he blacklisted hereafter for caIHng at Israel ports if they did not touch Arab ports during the same voyage. The restrictions will not apply to cruise and toudst ships, which will he permitted to calI at Israel ar..d Arab ports on the ‘same trip. The Bureau also announced it was willing to con- sider requests to clear ships placed on the black list. The restrictions were imposed as the result of the Palestine war .•. ”

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

actuellement. Ces restrictions ont été imposées à la guerre de Palestine •.. ” 131. C’est là une mesure qui donne beaucoup de facilités et permet même aux navires de poursuivre leur trajet jusqu’aux ports d’Israël sans être soumis à une inspection quelc!lnque. J’eus voulu que le repré- sentant d’Israël continuât ses recherches etarrlve ainsi à cette dernière mesure de clémence que le Gou- vernement égyptien applique l”‘laintenant en la matière. 132. Le représentant d’Israël nous a parlé des îles situées à l’entrée du golfe d’Akaba. Il a prétendu que ces îles avaient été occupées ‘Soudainement par l’Egypte. Il nous a lu, par le truchement d’une lettre adressée à l’Ambassade des Etats-Unis au Caire, une déclara- tion du Gouvernement égyptien. Ces îles n’ont pas été occupées soudainement. Je voudrais rappeler qu’elles ont été occupées en 1906. Il s’agissait de dé- finir les frontières entre l’Egypte et l’Empire ottoman à cette époque. En vue de cette délimitation, l’Egypte a eu .recours, pour des rairons techniques, à l’occu- pation de ces deux îles. Cette occupation a fait l’objet de discussions, d’échanges de vues et même de lettres entre l’Empire ottoman et le Gouvernement khédivial d’Egypte. Il n’y a donc eu aucune surprise. Ces îles ont été en effet occupées depuis 1906, et c’est un fait déterminé qu’à partir de cette époque elles ont été placées sous l’administration égyptienne. 133. Si, après la rupture des relations entre l’Egypte et l’Empire ottoman, ces îles sont devenues purement égyptiennes, et si un autre Etat a pu entamer des discussions concernant l’occupation de ces deux îles, ce fut certainement l’Arabie saoudite. Or un accord a été conclu entre l’Egypte et l’Arabie saoudite con- firmant je ne dirai pas l’annexion de ces îles, mais leur occupation et, qui plu’S est, la considération que celles- ci font partie intégrante du territoire égyptien. 134. D’ailleurs, le troisième paragraphe de la lettre communiquée par le Gouvernement égyptien à l’Am- bassade des Etats-Unis au Caire -lettre dont le repré- sentant d’Israël nous a donné lecture comme un témoi- gnage du fait que l’Egypte change d’idée, qu’eUe avait pris un engagement déterminé et que ses actes d’;l.u- jourd’hui sont, ‘selon lui, tout à fait contraires i: ~~t engagement – fait état du droit des gens. Eh bien, on respectera la situation dans la limite des règles édictées par le droit des gens. Or ces règles permettent, de façon absolue, la sai’sie, la visite, et c’est là tout ce que fait l’Egypte à l’heure actuelle. 135. Par son insistance, par ses répétitions, le repré- sentant d’Israël s’efforce, devant le Conseil de sécu- rité, de représenter l’Egypte comme ne voulant abso- lument pas respecter les décisions du Conseil. A tout instant, il parle de mesures prises par l’Egypte qui sont entièrement contraires à la décision du Conseil de sécurité du 1er septembre 1951. Je crois qu’il y a là un malentendu qui doit être dissipé. L’Egypte prend des mesures qui ne sont peut-être pas conformes à la décision du Conseil de sécurité du 1er septembre 1951. Je voudrais le reconnaître. Mais, en même temps, je voudrais dire – et c’est là le malentendu que je veux dissiper – que lorsque la décision du Conseil de ‘sécurité .a été prise, l’Egypte l’a accueillie dans un esprit déterminé. Cet esprit déterminé est démontré par la déclaration du représentant de l’Egypte qui était présent à la séance du Conseil de sécurité, en 25 131. This is a measure which affords many facilities, and ·indeed permits ships to continue their course to l’srael ports without being subject to any inspection. l wish the Israel representative had continuerl his researches and had mentioned this last measth’e of relaxation now applied by the Egyptian Government. 132. The Israel representative spoke to us of the isiauds situated at the entrance to the Gulf of Aqaba. He alleged that these islands had been suddenly occupied by Egypt. He read out a dec1aration of the Egyptian Government transmitted in a letter addressed to the United States Embassy at Cairo. Those islands were not suddenly occupied; they were occupied, may l point out, in 1906. At that time it had been found necessary to delimit the frontiers between Egypt and the Ottoman Empire. With a view to this delimitation, Egypt, for technical reasons, proceeded to occupy the two islands. The occupation was the subject of dis- cussions, exchanges of views and even letters between the Ottoman Empire and the Khedivial Government of Egypt. Consequently, there was no surprise. The islands have in fact been occupied since 1906, and it is an established fact that from that time on they have been under Egyptian administration. 133. While it is true thaï after relations between Egypt and the Ottoman Empire were broken off these islands became exclusive1y Egyptian, and that another State was able to initiate discussions concerning the occupation of the two islands; the fact is that that State was Saudi Arabia. An agreement was conc1uded between Egypt and Saudi Arabia, confirn1JÎng what l would caU, not the annexation, but the occupation of these islands and, what is more important, the recognition that they form an integral part of the territory of Egypt. 134. The third paragraph of the letter transmitted by the Egyptian Government to the United States Embassy at Cairo the letter which the Israel repre- sentative read to us in support of his assertion that Egypt has changed its mind, that its present acts entire1y contrary to its former definite commitment- refers to international law. But the situation will in fact be dealt with with due respect for the rules of international law. These rules permit seizures and inspections without any qualification – and that is all Egypt is now doing. 135. By dint of insistence and repetition the Israel representative is attempti’ng to give the Security Council the impression that Egypt is abso1utely refusing to respect the Council’s decisions. He keeps mentioning measures taken by Egypt which are entire1y contrary to the Security Council’s deci’Sion of 1 September 1951. This is, I believe, a misunderstanding which should he cleared. up. Egypt is taking action which is perhaps not in conformity with the Security Council’s decision of 1 September 1951; I am prepared to recognize that. But at the same time, I would like to point out- and this is the misunderstanding I want to clear up – that when the Security Council’s decision was taken, Egypt received it in a certain spirit. That spirit is illustrated in the statement made by the Egyptian repr~sentative who attended the meeting of he Security Council of 1 September 1951, at which this decision édi· r – rgra- LUtre dans >i le ment ispo- e ne )yé), K>ur- alors une gyp- itriC- l’hui ‘liste

ran-

.Le ~es dant >rtés des Les

de

stes, lraé- ‘S du qu’il 1t à lrent . un ment lUres 18 le IS et lesti- a lu tout pour li ne ières fois

ours
ence

~t de r le [Ypte DCUS, pété, et à i, ne e au Ltible

anal

tions sou- leurs raire

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

Priee: $U.S. 0.25; 1/9 stg.; Sw. fr. 1.00 (or equivalent in other curreneies) was taken. On that occasion the Egyptian represen~ tative made the following observations [558th meetingl paras. 28 and 29] : ccWe might reca11 something which the repre- sentative of China said towards the end of the debate. • He stated that Israel’s c1aim was based on three assurnptions: contravention by Egypt of the Suez Canal Convention, of international law and of the Israel-Egyptian General Armi’itice Agreement. The representative of China said at that late hour of our debate, after so many meetings had taken place, that that had yet to he proved. 1 say today, even after the adoption of this resolution by the Security Council, that the assumptions on which the c1aim of Israel was based – or on which it tned to base itself- have yet to he proved. “Obviousty it is of no use for me to comment in any further detail upon these various matters, or upon any other points. 1 would simply subnùt that my statements still stand. 1 have tried in them, to the best of my modest ability, ta outline the position of my Government, and 1 have fully resen”ed its rights in connexion with the present debate. Apart from that, 1 am going to exercise my freedom of silence.” 136. Thus, Egypt accepted the Security Council’s decision of 1 September 1951 within the limits of that statement, which made it cIear that Egypt was not convinced that the discussion was ended, that in its view the question was not cIosed and that the decision did not rest on fixed and final foundations. That was our conviction in Septemher 1951. That is still our conviction, and we accordingly maintain the same viewpoint and the same position. It is therefore beside . the point to state now that Egypt is acting in a manner incompatible with the decision taken by the Security Council on 1 September 1951. Egypt will continue to maintain the same position because it is convinced, as its representative said at the very moment the decision was, taken, that that decision was not based on exhaus- tive studies or on clear opinions. 137. MI’. SARPER (Turkey): We have head several important statements this afternoon which thight have sorne bearing on the decision that my delegation will talœ in the future. We might also have to communi- cate these statements to our Governments. As far as 1 am concerned, 1 think that 1 shall have to do this, and ask for instructions. 138. 1 therefore mave that we adjour!1 today’s meeting and meet again on Wednesday, 24 February, at 3 p.m. 139. The PRESIDENT: As there is no opposition ta the proposal of the representative of Turkey, 1 shaH take it that the Council agrees with his proposaI. 140. The Council will meet again next Wednesday, 24 February, at 3 p.m. The ‘meeting rose at 5.10 p.m. 26 Priiited in Canada septembre 1951, au moment où cette décision a été prise. A cette occasion, le représentant de l’Egypte a déclaré ce qui suit [558ème séancel par. 28 et 29]: “Je me permettrai de vous rappeler les obser- vations que le représentant de la Chine a formulées vers la fin de nos débats. Il a dit que les réclama- tions d’Israël étaient fondées sur les trois assertions suivantes: l’Egypte aurait violé la convention rela- tive au canal de Suez, le droit international et la Convention d’armistice général conclue entre Israël et l’Egypte. Le représentant de la Chine a dit, à ce point du débat et après de si nombreuses séances, que tout cela restait encore à démontrer. Aujourd’hui même, après que le Conseil de sécurité a adopté cette résolution, je dis que les prémisses sur les- quelles Israël tentait de fonder ses prétentions res- tent toujours à démontrer. “Il est manifestement inutile pour moi de reprendre dans le détail ces divers points ou d’aborder toute autre question. Je dirai simplement que les argu- ments que j’ai présentés restent valables. Au cours de mes interventions, j’ai essayé d’exposer, dans la mesure de mes modestes capacités, l’attitude de mon gouvernement, et j’ai réservé pleinement ses droits en ce qui concerne l’objet du présent débat. Pour le reste, j’exercerai mon droit de garder le silence.” 136. Par conséquent, l’Egypte a accueilli la décision du Conseil de sécurité du 1er septembre 1951 dans les limites de cette déclaration, qui faisait c1airement ressortir que l’Egypte n’était pas convaincue que la discussion était terminée, qu’elle estimait que la question n’avait pas été épuisée et que la décision ne reposait pas sur des bases définitives, sur des bases fixes. C’était là notre conviction en septembre 1951. Telle est toujours notre conviction, qui nous fait main- tenir le même point de vue, la même attitude. Il est donc inopérant de venir déclarer maintenant que l’Egypte agit contrairement à la décision prise par le Conseil de sécurité le 1er septembre 1951. L’Egypte continuera d’observer la même attitude patte qu’elle est convaincue, ainsi que l’a dit son représentant au moment même où la décision a été prise, que cette décision n’a pas été fondée sur des études finies, sur des ,opinions claires. 137. M. SARPER (Turquie) (traduit de lia1cgmis): Nous avons entendu plusieurs déclarations importantes, qui peuvent exercer une influence sur la décision que prendra ultérieurement ma délégation. Il faudra peut- être aussi que nous communiquions ces déclarations à nos gouvernements. Pour ma part, je crots que j’aurai à le faire, en demandant des instructions’. 138. Je propose donc que nous levions maintenant la séance et que nous nous réunissions à nouveau le mercredi 24 février, à 15 heures. 139. Le PRESIDENT (tradttit de l’anglais): Comme la proposition du représentant de la Turquie ne soulève aucune objection, j’en déduit que le Conseil y souscrit. 140. Le Conseil se réunira à nouveau mercredi 24 février, à 15 heures. La séance est levée à 17 h. 10. Q-9763-June 1954-1,600 J

↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔↔

لمصدر : http://arabic.sputniknews.com/arab_world/20160419/1018413160.html#ixzz46sYCO5ht

توضيح وشرح لخمسين حديث

  1. جامع_العلوم_والحكم_لإبن_رجب_الحنبلى

رابط الصفحة

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=506810766167869&id=242242652624683

🌻🌻🌻مقدمة المؤلف 🌻🌻🌻

[ص: 53 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، وجعل أمتنا - ولله الحمد - خير أمة ، وبعث فينا منا يتلو علينا آياته ، ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة . أحمده على نعمه الجمة ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله للعالمين رحمة ، وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا ، فأوضح لنا كل الأمور المهمة ، وخصه بجوامع الكلم ، فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة ، أو شطر كلمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، صلاة تكون لنا نورا من كل ظلمة ، وسلم تسليما كثيرا . أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم ، وخصه ببدائع الحكم . كما في " الصحيحين " ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بجوامع الكلم قال الزهري : جوامع الكلم - فيما بلغنا - أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ، ونحو ذلك . [ ص: 54 ] خرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عمرو بن العاص ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع ، فقال : " أنا محمد النبي الأمي " . قال ذلك ثلاث مرات . " ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " ، وذكر الحديث . وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إنى أوتيت جوامع الكلم وخواتمه ، واختصر لي اختصارا " . وخرج الدارقطني من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت جوامع الكلم ، واختصر لي الحديث اختصارا . وروينا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق القرشي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " فقلنا : يا رسول الله ، علمنا مما علمك الله عز وجل ، قال : فعلمنا التشهد . [ ص: 55 ] ‌ وفي " صحيح مسلم " ، عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ، عن البتع والمزر ، قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه ، فقال : أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة . وروى هشام بن عمار في كتاب " المبعث " بإسناده ، عن أبي سلام الحبشي ، قال : حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " فضلت على من قبلي بست ولا فخر " فذكر منها : قال : " وأعطيت جوامع الكلم ، وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءا بالليل إلى الصباح ، فجمعها لي ربي في آية واحدة سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( الحديد : 1 ) . فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : أحدهما : ما هو في القرآن ، كقوله عز وجل : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ( النحل : 90 ) قال الحسن : لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به ، ولا شرا إلا نهت عنه . والثاني : ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم ، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه [ ص: 56 ] صلى الله عليه وسلم . وقد جمع العلماء جموعا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة ، فصنف الحافظ أبو بكر بن السني كتابا سماه : " الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة " وجمع القاضي أبو عبد الله القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابا سماه : " الشهاب في الحكم والآداب " ، وصنف على منواله قوم آخرون ، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة . وأشار الخطابي في أول كتابه " غريب الحديث " إلى يسير من الأحاديث الجامعة . وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسا سماه " الأحاديث الكلية " جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال : إن مدار الدين عليها ، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة ، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا . ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا يحيى النووي رحمة الله عليه أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح ، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثا ، وسمى كتابه " بالأربعين " ، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها ، وكثر حفظها ، ونفع الله بها ببركة نية جامعها ، وحسن قصده رحمه الله . وقد تكرر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث المشار إليها ، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع كتاب يتضمن شرح ما ييسره الله تعالى من معانيها ، وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها ، وإياه أسأل العون على ما قصدت ، والتوفيق لصلاح النية والقصد فيما أردت ، وأعول في أمري كله عليه ، وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه . وقد كان بعض من شرح هذه الأربعين قد تعقب على جامعها رحمه الله تركه [ ص: 57 ] لحديث : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر قال : لأنه الجامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم ، فكان ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة ، كما ذكر حديث البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر لجمعه لأحكام القضاء . فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ رحمه الله ، وأن أضم إلى ذلك كله أحاديث أخر من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلوم والحكم ، حتى تكمل عدة الأحاديث كلها خمسين حديثا ، وهذه تسمية الأحاديث المزيدة على ما ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه : حديث : ألحقوا الفرائض بأهلها حديث : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب حديث : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه حديث : كل مسكر حرام حديث : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن حديث : أربع من كن فيه كان منافقا حديث : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير حديث : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل . وسميته : [ ص: 58 ] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم . واعلم أنه ليس غرضي إلا شرح الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية ، فلذلك لا أتقيد بكلام الشيخ رحمه الله في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها ، وإنما آتي بالمعنى الذي يدل على ذلك ؛ لأني قد أعلمتك أنه ليس لي غرض إلا في شرح معاني كلمات النبي صلى الله عليه وسلم الجوامع ، وما يتضمنه من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع . وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده ؛ ليعلم بذلك صحته وقوته وضعفه ، وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ ، وإن لم يكن في الباب غيره ، أو لم يكن يصح فيه غيره ، نبهت على ذلك كله ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

[ ص: 59 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحديث الأول

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن أبي وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، [ ص: 60 ] وليس له طريق تصح غير هذا الطريق ، كذا قال علي بن المديني وغيره . وقال الخطابي : لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في ذلك ، مع أنه قد روي من حديث أبي سعيد وغيره ، وقد قيل إنه قد روي من طرق كثيرة ، لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ . ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير ، فقيل : رواه عنه أكثر من مائتي راو ، وقيل : رواه عنه سبعمائة راو ، ومن أعيانهم : مالك ، والثوري ، [ ص: 61 ] والأوزاعي ، وابن المبارك ، والليث بن سعد وحماد بن زيد ، وشعبة ، وابن عيينة ، وغيرهم . واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول ، وبه صدر البخاري كتابه " الصحيح " وأقامه مقام الخطبة له ، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله ، فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي : لو صنفت كتابا في الأبواب ، لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب ، وعنه أنه قال : من أراد أن يصنف كتابا ، فليبدأ بحديث " الأعمال بالنيات " . وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها ، فروي عن الشافعي أنه قال : هذا الحديث ثلث العلم ، ويدخل في سبعين بابا من الفقه . وعن الإمام أحمد قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات وحديث عائشة : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين . وقال الحاكم : حدثونا عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه أنه ذكر قوله عليه الصلاة والسلام : الأعمال بالنيات وقوله : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، وقوله : من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد فقال : ينبغي أن يبدأ بهذه الأحاديث في كل تصنيف ، فإنها أصول الأحاديث [ ص: 62 ] وعن إسحاق بن راهويه قال : أربعة أحاديث هي من أصول الدين : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث : الحلال بين والحرام بين ، وحديث إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه ، وحديث : من صنع في أمرنا شيئا ليس منه فهو رد . وروى عثمان بن سعيد ، عن أبي عبيد ، قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ، وجمع أمر الدنيا كله في كلمة : إنما الأعمال بالنيات يدخلان في كل باب . وعن أبي داود ، قال نظرت في الحديث المسند ، فإذا هو أربعة آلاف حديث ، ثم نظرت ، فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث : حديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين ، وحديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث أبي هريرة : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . قال : فكل حديث من هذه ربع العلم . وعن أبي داود أيضا ، قال كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث ، انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب - يعني كتاب " السنن " - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث : أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ، والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، والثالث : قوله صلى الله عليه وسلم لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا [ ص: 63 ] يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، والرابع : قوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين . وفي رواية أخرى عنه أنه قال : الفقه يدور على خمسة أحاديث : الحلال بين والحرام بين ، وقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ، وقوله الأعمال بالنيات ، وقوله الدين النصيحة ، وقوله : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم . وفي رواية عنه ، قال : أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث : حديث عمر الأعمال بالنيات ، وحديث : الحلال بين والحرام بين ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، وحديث : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس . وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي : عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البريه اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه فقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ، وفي رواية : الأعمال بالنيات . وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح ، وليس غرضنا هاهنا توجيه ذلك ، ولا بسط القول فيه . وقد اختلف في تقدير قوله : الأعمال بالنيات ، فكثير من المتأخرين يزعم [ ص: 64 ] أن تقديره : الأعمال صحيحة أو معتبرة ومقبولة بالنيات ، وعلى هذا فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية ، فأما ما لا يفتقر إلى النية كالعادات من الأكل والشرب ، واللبس وغيرها ، أو مثل رد الأمانات والمضمونات ، كالودائع والغصوب ، فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية ، فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة هاهنا . وقال آخرون : بل الأعمال هاهنا على عمومها ، لا يخص منها شيء . وحكاه بعضهم عن الجمهور ، وكأنه يريد به جمهور المتقدمين ، وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري ، وأبي طالب المكي وغيرهما من المتقدمين ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد . قال في رواية حنبل : أحب لكل من عمل عملا من صلاة ، أو صيام ، أو صدقة ، أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات ، فهذا يأتي على كل أمر من الأمور . وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد - عن النية في العمل ، قلت كيف النية ؟ قال : يعالج نفسه ، إذا أراد عملا لا يريد به الناس . وقال أحمد بن داود الحربي : قال حدث يزيد بن هارون بحديث عمر : الأعمال بالنيات ، وأحمد جالس ، فقال أحمد ليزيد : يا أبا خالد ، هذا الخناق . وعلى هذا القول فقيل : تقدير الكلام : الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات ، فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سبب عملها ووجودها ، ويكون قوله بعد ذلك : وإنما لكل امرئ ما نوى إخبارا عن حكم الشرع ، وهو أن حظ العامل من عمله نيته ، فإن كانت صالحة ، فعمله صالح ، فله أجره ، وإن كانت فاسدة ، فعمله فاسد ، فعليه وزره . ويحتمل أن يكون التقدير في قوله : الأعمال بالنيات : الأعمال صالحة ، [ ص: 65 ] أو فاسدة ، أو مقبولة ، أو مردودة ، أو مثاب عليها ، أو غير مثاب عليها بالنيات ، فيكون خبرا عن حكم شرعي ، وهو أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النيات وفسادها ، كقوله : صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالخواتيم أي : إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمه بحسب الخاتمة . وقوله بعد ذلك : وإنما لكل امرئ ما نوى إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به ، فإن نوى خيرا حصل له خير ، وإن نوى به شرا حصل له شر ، وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولى ، فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده ، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة ، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة ، وقد تكون نيته مباحة ، فيكون العمل مباحا ، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب ، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه ، المقتضية لوجوده ، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي بها صار العمل صالحا ، أو فاسدا ، أو مباحا .

[ ص: 93 ] الحديث الثاني :

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال يا محمد ، أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " . قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : " أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك " . قال : فأخبرني عن الساعة ؟ . قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . قال : فأخبرني عن أمارتها ؟ . قال : " أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " . [ ص: 94 ] ثم انطلق ، فلبثت مليا ، ثم قال لي : " يا عمر ، أتدري من السائل ؟ . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه ، فخرجه من طريق كهمس عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ، ويتقفرون العلم ، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف . فقال : إذا لقيت أولئك ، فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم برآء مني ، [ ص: 95 ] والذي يحلف به عبد الله بن عمر ، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا ، فأنفقه ، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث بطوله . ثم خرجه من طرق أخرى ، بعضها يرجع إلى عبد الله بن بريدة ، وبعضها يرجع إلى يحيى بن يعمر ، وذكر أن في بعض ألفاظها زيادة ونقصا . وخرجه ابن حبان في " صحيحه " من طريق سليمان التيمي ، عن يحيى بن يعمر ، وقد خرجه مسلم من هذا الطريق ، إلا أنه لم يذكر لفظه ، وفيه زيادات منها : في الإسلام ، قال : " وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة ، وأن تتم الوضوء [ وتصوم رمضان ] " قال : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مسلم ؟ قال : نعم . وقال في الإيمان : " وتؤمن بالجنة والنار والميزان " ، وقال فيه : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مؤمن ؟ قال : " نعم " . وقال في آخره : " هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم ، خذوا عنه ، والذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه ، وما عرفته حتى ولى " . وخرجنا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس ، فأتاه رجل ، فقال : ما الإيمان ؟ فقال : " الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ، وبلقائه ، ورسله ، وتؤمن بالبعث الآخر " . قال : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال : " الإسلام : أن تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " [ ص: 96 ] قال : يا رسول الله ، ما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لا تراه ، فإنه يراك " . قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ " قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك ، عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها ، فذاك من أشراطها ، وإذا رأيت العراة الحفاة رؤوس الناس ، فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان ، فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ( لقمان : 34 ) . قال : ثم أدبر الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علي بالرجل " ، فأخذوا ليردوه ، فلم يروا شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " . وخرجه مسلم بسياق أتم من هذا ، وفيه في خصال الإيمان : " وتؤمن [ ص: 97 ] بالقدر كله " وقال في الإحسان : " أن تخشى الله كأنك تراه " . وخرجه الإمام أحمد في " مسنده " من حديث شهر بن حوشب ، عن ابن عباس . ومن حديث شهر بن حوشب أيضا ، عن ابن عامر أو أبي عامر ، أو أبي مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديثه قال : ونسمع رجع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى الذي يكلمه ، ولا نسمع كلامه ، وهذا يرده حديث عمر الذي خرجه مسلم وهو أصح . وقد روي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما . وهو حديث عظيم جدا ، يشتمل على شرح الدين كله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " بعد أن شرح درجة الإسلام ، ودرجة الإيمان ، ودرجة الإحسان ، فجعل ذلك كله دينا . واختلفت الرواية في تقديم الإسلام على الإيمان وعكسه ففي حديث [ ص: 98 ] عمر الذي خرجه مسلم أنه بدأ بالسؤال عن الإسلام ، وفي حديث الترمذي وغيره أنه بدأ بالسؤال عن الإيمان ، كما في حديث أبي هريرة ، وجاء في بعض روايات حديث عمر أنه سأله عن الإحسان بين الإسلام والإيمان . فأما الإسلام ، فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل ، وأول ذلك : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وهو عمل اللسان ، ثم إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا . وهي منقسمة إلى عمل بدني : كالصلاة والصوم ، وإلى عمل مالي : وهو إيتاء الزكاة ، وإلى ما هو مركب منهما ، كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة . وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك الاعتمار ، والغسل من الجنابة ، وإتمام الوضوء ، وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام . وإنما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها كما سيأتي شرح ذلك في حديث ابن عمر بني الإسلام على خمس في موضعه إن شاء الله تعالى . وقوله في بعض الروايات : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مسلم ؟ قال : " نعم " يدل على أن من كمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس ، صار مسلما حقا ، مع أن من أقر بالشهادتين ، صار مسلما حكما ، فإذا دخل في الإسلام بذلك ، ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام ، ومن ترك الشهادتين ، خرج من الإسلام ، وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء ، وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس ، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى [ ص: 99 ] ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده . وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : أن تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف . وفي " صحيح الحاكم " عن أبي هريرة ، عن النبي قال : إن للإسلام [ ص: 100 ] صوى ومنارا كمنار الطريق من ذلك : أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم ، فمن انتقص منهن شيئا ، فهو سهم من الإسلام تركه ، ومن يتركهن ، فقد نبذ الإسلام وراء ظهره . وخرجه ابن مردويه من حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : للإسلام ضياء وعلامات كمنار الطريق ، فرأسها وجماعها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإتمام الوضوء ، والحكم بكتاب الله وسنة نبيه ، وطاعة ولاة الأمر ، وتسليمكم على أنفسكم ، وتسليمكم على أهليكم إذا دخلتم بيوتكم ، وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتموهم وفي إسناده ضعف ، ولعله موقوف . وصح من حديث أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، قال : الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، وحج البيت سهم ، والجهاد سهم ، وصوم رمضان سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وخاب من لا سهم له . وخرجه البزار مرفوعا ، والموقوف أصح . [ ص: 101 ] ورواه بعضهم عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم خرجه أبو يعلى الموصلي وغيره ، والموقوف على حذيفة أصح . قاله الدارقطني وغيره . وقوله : " الإسلام سهم " يعني الشهادتين ، لأنهما علم الإسلام ، وبهما يصير الإنسان مسلما . وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى . ويدل على هذا أيضا ما خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث العرباض بن سارية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ضرب الله مثلا صراطا مستقيما [ ص: 102 ] وعلى جنبتي الصراط سوران ، فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ، ادخلوا الصراط جميعا ، ولا تعوجوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب ، قال ويحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه . والصراط : الإسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة : محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط : كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم زاد الترمذي : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( يونس : 25 ) . ففي هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى بالاستقامة عليه ، ونهى عن تجاوز حدوده ، وأن من ارتكب شيئا من المحرمات ، فقد تعدى حدوده .

[ ص: 144 ] الحديث الثالث :

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر ، وخرجه مسلم من طريقين آخرين ، عن ابن عمر ، وله طرق أخرى عنه . وقد روي هذا الحديث من رواية جرير بن عبد الله البجلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرج حديثه الإمام أحمد . وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكر الإسلام . [ ص: 145 ] والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس ، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه ، وقد خرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة " ولفظه : بني الإسلام على خمس دعائم فذكره . والمقصود تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس ، فلا يثبت البنيان بدونها ، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان ، فإذا فقد منها شيء ، نقص البنيان وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك ، بخلاف نقض هذه الدعائم الخمس ؛ فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال ، وكذلك يزول بفقد الشهادتين ، والمراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله . وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقا : " بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله " وذكر بقية الحديث . وفي رواية لمسلم : " على خمس : على أن يوحد الله " وفي رواية له : " على أن يعبد الله ويكفر بما دونه " . وبهذا يعلم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق تقريره في الحديث الماضي . وأما إقام الصلاة ، فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها ، فقد خرج من الإسلام ، ففي " صحيح مسلم " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ، وروي مثله من حديث بريدة [ ص: 146 ] وثوبان وأنس وغيرهم . وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تترك الصلاة متعمدا ، فمن تركها متعمدا ، فقد خرج من الملة . وفي حديث معاذ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولا يثبت إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه وقال عمر : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، وقال سعد [ ص: 147 ] وعلي بن أبي طالب : من تركها ، فقد كفر . وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر غير الصلاة . وقال أيوب السختياني : ترك الصلاة كفر ، لا يختلف فيه . وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف ، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق ، وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم ! وقال محمد بن نصر المروزي : هو قول جمهور أهل الحديث . وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه كافر بذلك وروي ذلك ، عن سعيد بن جبير ونافع والحكم ، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ، وهو قول ابن حبيب من المالكية . وخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، الحج في كل عام ؟ قال : لو قلت : نعم ، لوجب عليكم ولو وجب عليكم ، ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم . [ ص: 148 ] وخرج الالكائي من طريق مؤمل ، قال : حدثنا حماد بن زيد بن عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، ولا أحسبه إلا رفعه قال : عرى الإسلام ، وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله ، والصلاة ، وصوم رمضان . من ترك منهن واحدة ، فهو بها كافر ، حلال الدم ، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل بذلك دمه ، وتجده كثير المال فلا يزكي ، فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد موقوفا مختصرا ، ورواه سعيد بن زيد أخو حماد ، عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعا ، وقال : ومن ترك منهن واحدة ، فهو بالله كافر ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل ، وقد حل دمه وماله ولم يذكر ما بعده . وقد روي عن عمر ضرب الجزية على من لم يحج ، وقال : ليسوا بمسلمين . وعن ابن مسعود أن تارك الزكاة ليس بمسلم ، وعن أحمد رواية : أن ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج . وقال ابن عيينة : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ، وليس سواء ، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر . وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا بنعت النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ، ولم يعملوا بشرائعه . [ ص: 149 ] وقد استدل أحمد وإسحاق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم ، وترك السجود لله أعظم . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل إبليس يبكي ويقول : يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود ، فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار . واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض ، وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض كما في " مسند الإمام أحمد " عن زياد بن نعيم الحضرمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع فرضهن الله في الإسلام فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا : الصلاة ، والزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت وهذا مرسل ، وقد روي عن زياد ، عن عمارة بن حزم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئا دون شيء : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وبالجنة والنار ، والحياة بعد الموت هذه واحدة ، والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة ، والزكاة طهور من الذنوب ، ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة ، فمن فعل هؤلاء ، ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدا [ ص: 150 ] لم يقبل الله منه الإيمان ، ولا الصلاة ، ولا الزكاة ، فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج ، فلم يحج ، ولم يوص بحجة ، ولم يحج عنه بعض أهله ، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها ذكره ابن أبي حاتم وقال سألت أبي عنه فقال : هذا حديث منكر يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخرساني . قلت : الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر ، وعطاء من أجلاء علماء الشام . وقال ابن مسعود : من لم يزك ، فلا صلاة له ، ونفي القبول هنا لا يراد به نفي الصحة ، ولا وجوب الإعادة بتركه ، وإنما يراد بذلك انتفاء الرضا به ، ومدح عامله ، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى ، والمباهاة به للملائكة . فمن قام بهذه الأركان على وجهها ، حصل له القبول بهذا المعنى ، ومن قام ببعضها دون بعض ، لم يحصل له ذلك ، وإن كان لا يعاقب على ما أتى به منها عقوبة تاركه ، بل تبرأ به ذمته ، وقد يثاب عليه أيضا . ومن هاهنا يعلم أن ارتكاب بعض المحرمات التي ينقص بها الإيمان تكون مانعة من قبول بعض الطاعات ، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما وقال : من أتى عرافا فصدقه بما يقول ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما وقال : أيما عبد أبق من مواليه ، لم تقبل له صلاة . [ ص: 151 ] وحديث ابن عمر يستدل به على أن الاسم إذا شمل أشياء متعددة ، لم يزل زوال الاسم بزوال بعضها ، فيبطل بذلك قول من قال : إن الإيمان لو دخلت فيه الأعمال للزم أن يزول بزوال عمل مما دخل في مسماه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الخمس دعائم الإسلام ومبانيه ، وفسر بها الإسلام في حديث جبريل ، وفي حديث طلحة بن عبيد الله الذي فيه أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ، ففسره له بهذه الخمس . ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون : لو زال من الإسلام خصلة واحدة ، أو أربع خصال سوى الشهادتين ، لم يخرج بذلك من الإسلام . وقد روى بعضهم أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام ، لا عن الإسلام ، وهذه اللفظة لم تصح عند أئمة الحديث ونقاده ، منهم أبو زرعة الرازي ، ومسلم بن الحجاج ، وأبو جعفر العقيلي وغيرهم . وقد ضرب العلماء مثل الإيمان بمثل شجرة لها أصل وفروع وشعب ، فاسم الشجرة يشتمل على ذلك كله ، ولو زال شيء من شعبها وفروعها لم يزل عنه اسم الشجرة ، وإنما يقال هي شجرة ناقصة أو غيرها أتم منها . وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك في قوله تعالى : ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ( إبراهيم : 24 ) . والمراد بالكلمة كلمة التوحيد ، وبأصلها التوحيد الثابت في القلوب ، وأكلها : هو الأعمال الصالحة الناشئة منه . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمسلم بالنخلة ولو زال شيء من فروع [ ص: 152 ] النخلة ، أو من ثمرها ، لم يزل بذلك عنها اسم النخلة بالكلية ، وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر . ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا ، مع أن الجهاد أفضل الأعمال ، وفي رواية أن ابن عمر قيل له : فالجهاد ؟ قال الجهاد حسن ، ولكن هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه الإمام أحمد . وفي حديث معاذ بن جبل إن رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، وذروة سنامه : أعلى شيء فيه ، ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بني عليها ، وذلك لوجهين : أحدهما : أن الجهاد فرض كفاية عند جمهور العلماء ، ليس بفرض عين بخلاف هذه الأركان . والثاني : أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر ، بل إذا نزل عيسى عليه السلام ، ولم يبق حينئذ ملة غير ملة الإسلام ، فحينئذ تضع الحرب أوزارها ، ويستغني عن الجهاد بخلاف هذه الأركان ، فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك ، والله أعلم .

[ص: 153 ] الحديث الرابع :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث متفق على صحته ، وتلقته الأمة بالقبول ، رواه الأعمش عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود ، ومن طريقه خرجه الشيخان في " صحيحيهما " وقد روي عن محمد بن زيد الأسفاطي ، قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ، فقلت : يا رسول الله ، حديث ابن مسعود الذي حدث عنك ، فقال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق . فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي لا إله غيره حدثته به أنا " يقوله ثلاثا ، ثم قال غفر الله للأعمش كما حدث به ، وغفر الله [ ص: 154 ] لمن حدث به قبل الأعمش ، ولمن حدث به بعده . وقد روي عن ابن مسعود من وجوه أخر . فقوله صلى الله عليه وسلم : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة قد روي تفسيره عن ابن مسعود ؛ روى الأعمش ، عن خيثمة ، عن ابن مسعود قال : إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعرة وظفر ، فتمكث أربعين يوما ، ثم تنحدر في الرحم ، فتكون علقة . قال : فذلك جمعها . خرجه ابن أبي حاتم وغيره . وروي تفسير الجمع مرفوعا بمعنى آخر ، فخرج الطبراني وابن منده في كتاب " التوحيد " من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى إذا أراد خلق عبد ، فجامع الرجل المرأة ، طار ماؤه في كل عرق وعضو منها ، فإذا كان يوم السابع جمعه الله ، ثم أحضره في كل عرق له دون آدم : في أي صورة ما شاء ركبك قال ابن منده : إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما [ ص: 155 ] وخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني من رواية مطهر بن الهيثم ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لجده يا فلان ما ولد لك ؟ قال يا رسول الله ، وما عسى أن يولد لي ؟ إما غلام وإما جارية ، قال : فمن يشبه ؟ قال من عسى أن يشبه ؟ يشبه أمه أو أباه ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولن كذا . إن النطفة إذا استقرت في الرحم ، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ، أما قرأت هذه الآية في أي صورة ما شاء ركبك ( الانفطار : 8 ) قال : سلكك وهذا إسناد ضعيف ومطهر بن الهيثم ضعيف جدا : وقال البخاري : هو حديث لم يصح وذكر بإسناده عن موسى بن علي ، عن أبيه أن أباه لم يسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق يعني : أنه لا صحبة له . ويشهد لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له : ولدت امرأتي غلاما أسود قال : لعله نزعه عرق . و قوله ثم يكون علقة مثل ذلك يعني : أربعين يوما ، والعلقة قطعة من دم . ثم يكون مضغة مثل ذلك يعني : أربعين يوما . والمضغة : قطعة من لحم . ثم يرسل الله إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مائة وعشرين يوما ، في ثلاثة أطوار ، في كل أربعين يوما منها يكون في طور ، فيكون في الأربعين الأولى نطفة ، ثم في [ ص: 156 ] الأربعين الثانية علقة ، ثم في الأربعين الثالثة ، مضغة ثم بعد المائة وعشرين يوما ينفخ الملك فيه الروح ، ويكتب له هذه الأربع الكلمات . وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار كقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ( الحج : 5 ) . وذكر هذه الأطوار الثلاثة : النطفة والعلقة والمضغة في مواضع متعددة من القرآن ، وفي مواضع أخر ذكر زيادة عليها ، فقال في سورة المؤمنون ( 12 - 14 ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين . فهذه سبع تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه . وكان ابن عباس يقول : خلق ابن آدم من سبع ، ثم يتلو هذه الآية . وسئل عن العزل ، فقرأ هذه الآية ثم قال ، فهل يخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة ؟ وفي رواية عنه قال : وهل تموت نفس حتى تمر على هذا الخلق ؟ . وروي عن رفاعة بن رافع قال : جلس إلي عمر وعلي والزبير وسعد ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكروا العزل ، فقالوا لا بأس به ، فقال رجل : إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى فقال علي : لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع : تكون سلالة من طين ، ثم تكون نطفة ، ثم تكون علقة ، ثم تكون مضغة ، ثم تكون عظاما ، ثم تكون لحما ، ثم تكون خلقا آخر ، فقال عمر : صدقت أطال الله بقاءك . رواه الدارقطني في " المؤتلف والمختلف " . [ ص: 157 ] وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها ما لم ينفخ فيه الروح ، وجعلوه كالعزل ، وهو قول ضعيف ؛ لأن الجنين ولد انعقد ، وربما تصور وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية ، وإنما تسبب إلى منع انعقاده ، وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا أراد الله خلقه ، كما قال النبي لما سئل عن العزل : قال : لا عليكم أن لا تعزلوا إنه ليس من نفس منفوسة إلا أن الله خلقها . وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة ، لم يجز للمرأة إسقاطه ؛ لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة ، فإنها لم تنعقد بعد ، وقد لا تنعقد ولدا . وقد ورد في بعض الروايات في حديث ابن مسعود ذكر العظام وأنه يكون عظما أربعين يوما ، فخرج الإمام أحمد من رواية علي بن زيد سمعت أبا عبيدة يحدث قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تغير ، فإذا مضت الأربعون ، صارت علقة ، ثم مضغة كذلك ، ثم عظاما كذلك ، فإذا أراد الله تعالى أن يسوي خلقه ، بعث الله إليها ملكا ، وذكر بقية الحديث . ويروى من حديث عاصم عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم ، تكون أربعين ليلة نطفة ، ثم تكون علقة أربعين ليلة ، ثم تكون عظاما أربعين ليلة ، ثم يكسو الله العظام لحما . ورواية الإمام أحمد تدل على أن الجنين لا يكسى اللحم إلا بعد مائة وستين [ ص: 158 ] يوما ، وهذا غلط بلا ريب ، فإنه بعد مائة وعشرين يوما ينفخ فيه الروح بلا ريب كما سيأتي ذكره ، وعلي بن زيد : هو ابن جدعان لا يحتج به ، وقد ورد في حديث حذيفة بن أسيد ما يدل على خلق العظام واللحم في أول الأربعين الثانية ، ففي " صحيح مسلم " عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها ، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب أجله ؟ فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول يا رب رزقه ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص . وظاهر هذا الحديث يدل على أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أول الأربعين الثانية ، فيلزم من ذلك أن يكون في الأربعين الثانية لحما وعظاما . وقد تأول بعضهم ذلك على أن الملك يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء ، فيجعل بعضها للجلد ، وبعضها للحم ، وبعضها للعظام ، فيقدر ذلك كله قبل وجوده . وهذا خلاف ظاهر الحديث ، بل ظاهره أن يصورها ويخلق هذه الأجزاء كلها ، وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام ، قد يكون هذا في بعض الأجنة دون بعض . وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على أن التصوير يكون للنطفة أيضا في اليوم السابع ، وقد قال الله عز وجل إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ( الإنسان : 2 ) وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها . قال ابن مسعود : أمشاجها : عروقها [ ص: 159 ] وقد ذكر علماء الطب ما يوافق ذلك ، وقالوا : إن المني إذا وقع في الرحم ، حصل له زبدية ورغوة ستة أيام أو سبعة ، وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم ، ثم بعد ذلك تستمد منه ، وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام ، وقد يتقدم يوما ويتأخر يوما ، ثم بعد ستة أيام - وهو الخامس عشر من وقت العلوق - ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة ، ثم تتميز الأعضاء تميزا ظاهرا ، ويتنحى بعضها عن ممارسة بعض ، وتمتد رطوبة النخاع ، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تميزا يستبين في بعض ، ويخفى في بعض . قالوا : وأقل مدة يتصور الذكر فيها ثلاثون يوما ، والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يوما ، وقد يتصور في خمسة وأربعين يوما ، قالوا : ولم يوجد في الأسقاط ذكر تم قبل ثلاثين يوما ، ولا أنثى قبل أربعين يوما ، فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد في التخليق في الأربعين الثانية ، ومصيره لحما فيها أيضا . وقد حمل بعضهم حديث ابن مسعود على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين الأولى وصف المني ، وفي الأربعين الثانية وصف العلقة ، وفي الأربعين الثالثة وصف المضغة ، وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره ، وليس في حديث ابن مسعود ذكر وقت تصوير الجنين . وقد روي عن ابن مسعود نفسه ما يدل على أن تصويره قد يقع قبل الأربعين [ ص: 160 ] الثالثة أيضا ، فروى الشعبي عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفه ، فقال : أي رب ، مخلقة أم غير مخلقة ؟ فإن قيل : غير مخلقة ، لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام ، وإن قيل مخلقة ، قال : أي رب ، أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ، ما الأجل وما الأثر ؟ ، وبأي أرض تموت ؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله ، فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله ، فيقال : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة ، قال : فتخلق ، فتعيش في أجلها وتأكل في رزقها ، وتطأ في أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ، ماتت ، فدفنت في ذلك ، ثم تلا الشعبي هذه الآية : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ( الحج : 5 ) . فإذا بلغت مضغة ، نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن كانت غير مخلقة ، قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست نسمة . خرجه ابن أبي حاتم وغيره . وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود أن لا تصوير قبل ثمانين يوما ، فروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ( آل عمران : 6 ) قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام ، طارت في الجسد أربعين يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن تخلق ، بعث الله ملكا يصورها ، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه ، فيخلطه في المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصورها كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ؟ أشقي أو سعيد ؟ وما رزقه ، وما عمره ، وما أثره ، وما مصائبه ؟ فيقول الله تبارك وتعالى ، ويكتب الملك ، فإذا مات ذلك الجسد ، دفن حيث [ ص: 161 ] أخذ ذلك التراب ، خرجه ابن جرير الطبري في " تفسيره " ولكن السدي مختلف في أمره ، وكان الإمام أحمد ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد ، كما كان هو وغيره ينكرون على الواقدي جمعه الأسانيد المتعددة للحديث الواحد . وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية ، وتأولوا حديث ابن مسعود المرفوع عليها ، وقالوا : أقل ما يتبين خلق الولد أحد وثمانون يوما ، لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة ، ولا يتخلق قبل أن يكون مضغة . وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي بناء على هذا الأصل : إنه لا تنقضي العدة ، ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلقة ، وأقل ما يمكن أن يتخلق ويتصور في أحد وثمانين يوما . وقال أحمد في العلقة : هي دم لا يستبين فيها الخلق ، فإن كانت المضغة غير مخلقة ، فهل تنقضي بها العدة ، وتصير أم الولد بها مستولدة ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد ، وإن لم يظهر فيها التخطيط ، ولكن كان خفيا لا يعرفه إلا أهل الخبرة من النساء ، فشهدن بذلك ، قبلت شهادتين ، ولا فرق بين أن يكون بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء ، ونص على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه ، ونقل عنه ابنه صالح في الطفل يتبين خلقه . [ ص: 162 ] قال الشعبي : إذا نكس في الخلق الرابع ، كان مخلقا ، انقضت به العدة ، وعتقت به الأمة ، إذا كان لأربعة أشهر ، وكذا نقل عنه حنبل : إذا أسقطت أم الولد ، فإن كان خلقة تامة عتقت ، وانقضت به العدة إذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح ، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه ، وقد قال أحمد في رواية عنه : إذا تبين خلقه ، ليس فيه اختلاف أنها تعتق بذلك إذا كانت أمة ، ونقل عنه أيضا جماعة في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها ، وهو قول النخعي ، وحكى قولا للشافعي ، ومن أصحابنا من طرد هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدة به أيضا . وهذا كله مبني على أنه يمكن التخليق في العلقة كما قد يستدل على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدم إلا أن يقال : حديث حذيفة إنما يدل على أنه يتخلق إذا صار لحما وعظما ، وأن ذلك قد يقع في الأربعين الثانية ، لا في حال كونه علقة ، وفي ذلك نظر ، والله أعلم . وما ذكره الأطباء يدل على أن العلقة تتخلق وتتخطط ، وكذلك القوابل من النسوة يشهدن بذلك ، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال كون الجنين نطفة أيضا ، والله تعالى أعلم

[ص: 176 ] الحديث الخامس :

عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضي الله عنها وألفاظه مختلفة ، ومعناها متقارب ، وفي بعض ألفاظه : " من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد " . وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام ، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث : الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها ، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب ، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله ، فهو مردود على عامله ، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله ، فليس من الدين في شيء . وسيأتي حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين [ ص: 177 ] المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة . وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : " إن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها " وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه ، ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردها . فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع ، فهو مردود ، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود ، والمراد بأمره هاهنا : دينه وشرعه ، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد . فالمعنى إذا : أن من كان عمله خارجا عن الشرع ليس متقيدا بالشرع ، فهو مردود . وقوله : " ليس عليه أمرنا " إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة ، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها ، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع موافقا لها ، فهو مقبول ، ومن كان خارجا عن ذلك ، فهو مردود .

[ص: 193 ] الحديث السادس :

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص ، والمعنى واحد أو متقارب . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وعمار بن ياسر ، وجابر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب . [ ص: 194 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس معناه : أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه ، وكذلك الحرام المحض ، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس ، هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ وأما الراسخون في العلم ، فلا يشتبه عليهم ذلك ، ويعلمون من أي القسمين هي . فأما الحلال المحض : فمثل أكل الطيبات من الزروع ، والثمار وبهيمة الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان ، أو الصوف أو الشعر ، وكالنكاح ، والتسري وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع ، أو بميراث ، أو هبة ، أو غنيمة . والحرام المحض : مثل أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، ولباس الحرير للرجال ، ومثل الأكساب المحرمة كالربا والميسر وثمن مالا يحل بيعه ، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك . وأما المشتبه : فمثل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه ، إما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير ، والضب ، وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها ، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة والتورق ونحو [ ص: 195 ] ذلك ، وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة . وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب ، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام ، كما قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( النحل : 89 ) قال مجاهد وغيره : كل شيء أمروا به أو نهوا عنه ، وقال تعالى في آخر سورة النساء ( الآية : 176 ) التي بين فيها كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع : يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم وقال تعالى : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ( الأنعام : 119 ) ، وقال تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ( التوبة : 115 ) ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) وما قبض صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له ولأمته الدين ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة : 3 ) . وقال صلى الله عليه وسلم تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . وقال أبو ذر : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما . [ ص: 196 ] ولما شك الناس في موته صلى الله عليه وسلم ، قال عمه العباس رضي الله عنه : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا واضحا ، وأحل الحلال وحرم الحرام ، ونكح وطلق ، وحارب وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه بمخبطه ، ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم .

[ص: 215 ] الحديث السابع :

عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدين النصيحة ثلاثا قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن تميم الداري ، وقد روي عن سهيل وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرجه الترمذي من هذا الوجه ، فمن العلماء من صححه من الطريقين جميعا ، ومنهم من قال : إن الصحيح حديث تميم ، والإسناد الآخر وهم . وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر ، وثوبان ، وابن عباس ، وغيرهم . وقد ذكرنا في أول الكتاب عن أبي داود أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه . [ ص: 216 ] وقال الحافظ أبو نعيم : هذا الحديث له شأن ، ذكر محمد بن أسلم الطوسي أنه أحد أرباع الدين . وخرجه الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لا يهتم بأمر المسلمين ، فليس منهم ، ومن لم يمس ويصبح ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ، ولعامة المسلمين فليس منهم . وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي . وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموما ، وفي بعضها النصح لولاة أمورهم ، وفي بعضها : نصح ولاة الأمور لرعاياهم . فأما الأول - وهو النصح للمسلمين - عموما ، ففي " الصحيحين " عن جرير بن عبد الله قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حق المؤمن على المؤمن ست فذكر منها : وإذا استنصحك فانصح له . وروي هذا الحديث من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفي " المسند " عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا [ ص: 217 ] استنصح أحدكم أخاه ، فلينصح له . وأما الثاني : وهو النصح لولاة الأمور ، ونصحهم لرعاياهم ، ففي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يرضى لكم ثلاثا : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم . وفي " المسند " وغيره عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في خطبته بالخيف من منى ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين وقد روى هذه الخطبة عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو سعيد الخدري . وقد روي من حديث أبي سعيد بلفظ آخر خرجه الدارقطني في " الأفراد " بإسناد جيد ، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : [ ص: 218 ] النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين . وفي " الصحيحين " عن معقل بن يسار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يسترعيه الله رعية ثم لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل الجنة . وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السلام أنهم نصحوا لأممهم كما أخبر الله بذلك عن نوح ، وعن صالح وقال : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ( التوبة : 91 ) يعني : أن من تخلف عن الجهاد لعذر ، فلا حرج عليه بشرط أن يكون ناصحا لله ورسوله في تخلفه ، فإن المنافقين كانوا يظهرون الأعذار كاذبين ، ويتخلفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين النصيحة ، فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل ، وسمى ذلك كله دينا ، فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها ، وهو مقام الإحسان ، فلا يكمل النصح لله بدون ذلك ، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة ، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرمات والمكروهات على هذا الوجه أيضا . وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أرأيتم لو كان لأحدكم عبدان ، فكان أحدهما يطيعه إذا أمره ، ويؤدي إليه إذا ائتمنه ، وينصح له إذا غاب عنه ، وكان الآخر يعصيه إذا أمره ، ويخونه إذا ائتمنه ، ويغشه إذا غاب عنه كانا سواء ؟ قالوا : لا ، قال : فكذاكم أنتم عند الله عز وجل خرجه ابن أبي الدنيا . [ ص: 219 ] وخرج الإمام أحمد معناه من حديث أبي الأحوص عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الفضيل بن عياض : الحب أفضل من الخوف ، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك ، والآخر يخافك ، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدا كنت أو غائبا لحبه إياك ، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف ويغشك إذا غبت ولا ينصحك . قال عبد العزيز بن رفيع : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : ما الخالص من العمل ؟ قال : ما لا تحب أن يحمدك الناس عليه ، قالوا : فما النصح لله ؟ قال : أن تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس ، وإن عرض لك أمران : أحدهما لله ، والآخر للدنيا ، بدأت بحق الله تعالى . قال الخطابي : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له ، قال : وأصل النصح في اللغة الخلوص ، يقال : نصحت العسل : إذا خلصته من الشمع . فمعنى النصيحة لله سبحانه : صحة الاعتقاد في وحدانيته ، وإخلاص النية [ ص: 220 ] في عبادته ، والنصيحة لكتابه : الإيمان به ، والعمل بما فيه ، والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ، ونهى عنه ، والنصيحة لعامة المسلمين : إرشادهم إلى مصالحهم . انتهي . وقد حكى الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه " تعظيم قدر الصلاة " عن بعض أهل العلم أنه فسر هذا الحديث بما لا مزيد على حسنه ، ونحن نحكيه هاهنا بلفظه . قال محمد بن نصر : قال بعض أهل العلم : جماع تفسير النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له من كان ، وهي على وجهين : أحدهما فرض ، والآخر نافلة ، فالنصيحة المفترضة لله : هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض ، ومجانبة ما حرم . وأما النصيحة التي هي نافلة ، فهي إيثار محبته على محبة نفسه ، وذلك أن يعرض أمران ، أحدهما لنفسه ، والآخر لربه ، فيبدأ بما كان لربه ، ويؤخر ما كان لنفسه ، فهذه جملة تفسير النصيحة لله ، الفرض منه والنافلة ، ولذلك تفسير ، وسنذكر بعضه ليفهم بالتفسير من لا يفهم بالجملة . فالفرض منها مجانبة نهيه ، وإقامة فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقا له ، فإن عجر عن الإقامة بفرضه لآفة حلت به من مرض ، أو حبس ، أو غير ذلك ، عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلة المانعة له ، قال الله عز وجل ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل ( التوبة : 91 ) ، فسماهم محسنين لنصيحتهم لله بقلوبهم لما منعوا من الجهاد بأنفسهم . وقد ترفع الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات ، ولا يرفع عنه النصح لله ، فلو كان من المرض بحال لا يمكنه عمل بشيء من جوارحه بلسان ولا [ ص: 221 ] غيره ، غير أن عقله ثابت ، لم يسقط عنه النصح لله بقلبه وهو أن يندم على ذنوبه ، وينوي إن صح أن يقوم بما افترض الله عليه ، ويجتنب ما نهاه عنه ، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه . وكذلك النصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوجبه على الناس عن أمر ربه ، ومن النصح الواجب لله أن لا يرضى بمعصية العاصي ، ويحب طاعة من أطاع الله ورسوله . وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض ، فبذل المجهود بإيثار الله على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح حتى لا يكون في الناصح فضل عن غيره ، لأن الناصح إذا اجتهد ، لم يؤثر نفسه عليه ، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته ، فكذلك الناصح لربه ، ومن تنفل لله بدون الاجتهاد ، فهو ناصح على قدر عمله ، غير مستحق للنصح بكماله .

[ص: 226 ] الحديث الثامن :

عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمر . وقوله إلا بحق الإسلام هذه اللفظة تفرد بها البخاري دون مسلم . وقد روي معنى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ففي " صحيح البخاري " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وصلوا صلاتنا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها . وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويشهدوا أن لا إله إلا [ ص: 227 ] الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل . وخرجه ابن ماجه مختصرا . وخرج نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضا ، ولكن المشهور من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكر : إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة ففي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله عز وجل وفي رواية لمسلم : حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به . وخرجه مسلم أيضا من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث أبي هريرة الأول وزاد في آخره : ثم قرأ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ( الغاشية : 21 ) . [ ص: 228 ] وخرج أيضا من حديث أبي مالك الأشجعي ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل . وقد روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : كان هذا في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة ، وهذا ضعيف جدا ، وفي صحته عن سفيان نظر ، فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وبعضهم تأخر إسلامه . ثم قوله عصموا مني دماءهم وأموالهم يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورا بالقتال ، ويقتل من أبى الإسلام ، وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة ، ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ، ويعصم دمه بذلك ، ويجعله مسلما ، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال : لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف ، واشتد نكيره عليه . ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة ، بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام ، واشترطوا أن لا يزكوا ، ففي مسند الإمام أحمد ، عن جابر قال : اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيتصدقون ويجاهدون . وفيه أيضا عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين ، فقبل منه . [ ص: 229 ] وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث ، وقال : يصح الإسلام على الشرط الفاسد ، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها ، واستدل أيضا بأن حكيم بن حزام قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما . قال أحمد : معناه أن يسجد من غير ركوع . وخرج محمد بن نصر المروزي بإسناد ضعيف جدا عن أنس قال : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل من أجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وكانتا فريضتين على من أقر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام ، وذلك قول الله عز وجل : فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( المجادلة : 13 ) وهذا لا يثبت ، وعلى تقدير ثبوته ، فالمراد منه أنه لم يكن يقر أحدا دخل في الإسلام [ ص: 230 ] على ترك الصلاة والزكاة وهذا حق ، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر معاذا لما بعثه إلى اليمن أن يدعوهم أولا إلى الشهادتين ، وقال : إن هم أطاعوك لذلك ، فأعلمهم بالصلاة ثم بالزكاة ومراده أن من صار مسلما بدخوله في الإسلام أمر بعد ذلك بإقام الصلاة ، ثم بإيتاء الزكاة ، وكان من سأله عن الإسلام يذكر له مع الشهادتين بقية أركان الإسلام ، كما قال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام ، وكما قال للأعرابي الذي جاءه ثائر الرأس يسأله عن الإسلام . وبهذا الذي قررناه يظهر الجمع بين ألفاظ أحاديث هذا الباب ، ويتبين أن كلها حق ، فإن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما ، ويصير بذلك مسلما ، فإذا دخل في الإسلام ، فإن أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وقام بشرائع الإسلام ، فله ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وإن أخل بشيء من هذه الأركان ، فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا . وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين ، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع ، وفي هذا نظر ، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار تدل على خلاف هذا ، وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليا يوم خيبر ، فأعطاه الراية وقال : امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي شيئا ، ثم وقف ، فصرخ : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس ؟ فقال : قاتلهم على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عصمة للنفوس والأموال إلا بحقها ، ومن حقها الامتناع من الصلاة والزكاة بعد الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم

[ ص: 238 ] الحديث التاسع :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما نهيتكم عنه ، فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ، كلاهما عن أبي هريرة ، وخرجاه من رواية أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه . وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم [ ص: 239 ] بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء ، فدعوه . وخرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرا ، وقال فيه : فنزل قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( المائدة : 101 ) . وقد روي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج ، وقالوا : أفي كل عام ؟ . وفي " الصحيحين " عن أنس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : من أبي ؟ فقال : " فلان " فنزلت هذه الآية لا تسألوا عن أشياء . وفيهما أيضا عن قتادة ، عن أنس قال : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة ، فغضب ، فصعد المنبر ، فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته ، فقام رجل كان إذا لاحى الرجال دعي إلى غير أبيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " ثم أنشأ عمر ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، نعوذ بالله من الفتن . وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ [ ص: 240 ] فأنزل الله هذه الآية ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . وخرج ابن جرير الطبري في " تفسيره " من حديث أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارا وجهه ، حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل ، فقال : أين أنا ؟ فقال " في النار " فقام إليه آخر فقال : من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " فقام عمر فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا ، قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وروي أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس ، فقال : يا قوم كتب عليكم الحج فقام رجل ، فقال يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، فقال : والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذن لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإذا أمرتكم بشيء ، فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء ، فانتهوا عنه ، فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن ، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه . فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه ما يسوء [ ص: 241 ] السائل جوابه مثل سؤال السائل ؛ هل هو في النار أو في الجنة ، وهل أبوه ما ينسب إليه أو غيره ، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء ، كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم . وقريب من ذلك سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت ، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب ، وقال عكرمة وغيره : إن الآية نزلت في ذلك . ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده ، ولم يطلعهم عليه ، كالسؤال عن وقت الساعة ، وعن الروح . ودلت أيضا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببا لنزول التشديد فيه ، كالسؤال عن الحج : هل يجب كل عام أم لا ؟ وفي " الصحيح " عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته . ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللعان كره المسائل وعابها حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال .

[ص: 258 ] الحديث العاشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ( المؤمنون : 51 ) ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ( البقرة : 172 ) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر : أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ؟ . رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، وخرجه الترمذي ، وقال : حسن غريب .

وفضيل بن مرزوق ثقة وسط خرج له مسلم دون البخاري .

وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله طيب هذا قد جاء أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، جواد يحب الجود خرجه الترمذي ، وفي إسناده مقال والطيب هنا : معناه الطاهر .

والمعنى أن الله تعالى مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها ، وهذا كما في [ ص: 259 ] قوله : والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون ( النور : 26 ) ، والمراد : المنزهون من أدناس الفواحش وأوضارها .

وقوله " لا يقبل إلا طيبا " قد ورد معناه في حديث الصدقة ، ولفظه : لا يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا . . . . . . . والمراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيبا حلالا .

وقد قيل : إن المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله : " لا يقبل الله إلا طيبا " أعم من ذلك ، وهو أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبا طاهرا من المفسدات كلها ، كالرياء والعجب ، ولا من الأموال إلا ما كان طيبا حلالا ، فإن الطيب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات ، فكل هذه تنقسم إلى طيب وخبيث .

وقد قيل : إنه يدخل في قوله تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ( المائدة : 100 ) هذا كله .

وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث ، فقال : ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ( إبراهيم : 24 ) ، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ( إبراهيم : 26 ) ، وقال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب ( فاطر : 10 ) ، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث .

وقد قيل : إنه يدخل في ذلك الأقوال والأعمال والاعتقادات أيضا ، ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب ، بقوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ( النحل : 32 ) وإن الملائكة تقول عند الموت : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، وإن الملائكة تسلم عليهم عند دخولهم الجنة ، يقولون [ ص: 260 ] لهم : طبتم ، وقد ورد في الحديث أن المؤمن إذا زار أخاه في الله تقول له الملائكة : " طبت ، وطاب ممشاك ، وتبوأت من الجنة منزلا " .

فالمؤمن كله طيب قلبه ولسانه وجسده بما سكن في قلبه من الإيمان ، وظهر على لسانه من الذكر ، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان ، وداخلة في اسمه فهذه الطيبات كلها يقبلها الله عز وجل .

ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه ، وأن يكون من حلال ، فبذلك يزكو عمله .

وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال ، وإن أكل الحرام ، يفسد العمل ، ويمنع قبوله ، فإنه قال بعد تقريره : " إن الله لا يقبل إلا طيبا " إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم .

والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال ، وبالعمل الصالح ، فما دام الأكل حلالا ، فالعمل الصالح مقبول ، فإذا كان الأكل غير حلال ، فكيف يكون العمل مقبولا ؟ .

وما ذكره بعد ذلك من الدعاء ، وأنه كيف يتقبل مع الحرام ، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام . وقد خرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن ابن عباس ، قال : تليت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ( البقرة : 168 ) ، فقام سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا سعد [ ص: 261 ] أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من سحت ، فالنار أولى به .

وفي " مسند " الإمام أحمد بإسناد فيه نظر أيضا عن ابن عمر قال : " من اشترى ثوبا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام ، لم يقبل الله له صلاة ما كان عليه " ، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال : صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويروى من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا معناه أيضا ، خرجه البزار وغيره بإسناد ضعيف جدا .

وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ، ووضع رجله في الغرز ، فنادى : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لبيك وسعديك وزادك حلال ، وراحلتك حلال ، وحجك مبرور غير مأزور ، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة ، فوضع رجله في [ ص: 262 ] الغرز ، فنادى لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك ، زادك حرام ، ونفقتك حرام ، وحجك غير مبرور " . ويروى من حديث عمر بنحوه بإسناد ضعيف أيضا .

وروى أبو يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام .

[ص: 278 ] الحديث الحادي عشر :

عن الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه النسائي والترمذي ، وقال : حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " والحاكم من حديث بريد بن أبي مريم ، عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي ، وصححه الترمذي ، وأبو الحوراء السعدي ، قال الأكثرون : اسمه ربيعة بن شيبان ، ووثقه النسائي وابن حبان ، وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء اسمه ربيعة بن شيبان ، ومال إلى التفرقة بينهما ، وقال الجوزجاني : أبو الحوراء مجهول لا يعرف .

وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر ، وعند الترمذي [ ص: 279 ] وغيره زيادة في هذا الحديث وهي " فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة " ولفظ ابن حبان : " فإن الخير طمأنينة ، وإن الشر ريبة " .

وقد خرجه الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على أنس .

وخرجه الطبراني من رواية مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، قال الدارقطني : وإنما يروى هذا من قول ابن عمر ، وعن عمر ، ويروى عن مالك من قوله . انتهى .

ويروى بإسناد ضعيف ، عن عثمان بن عطاء الخراساني - وهو ضعيف - ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " قال : وكيف لي بالعلم بذلك ؟ قال : " إذا أردت أمرا ، فضع يدك على صدرك ، فإن القلب يضطرب للحرام ، ويسكن للحلال ، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة " . وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلا .

وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه : قيل له : فمن الورع ؟ قال : " الذي يقف عند الشبهة " [ ص: 280 ] وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة : منهم عمر ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وعن ابن مسعود ، قال : ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك ؟ ! وقال عمر : دعوا الربا والريبة ، يعني : ما ارتبتم فيه ، وإن لم تتحققوا أنه ربا .

ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب : بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك .

وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : إذا كان العبد ورعا ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .

وقال الفضيل : يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

وقال حسان بن أبي سنان : ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء ، فدعه . وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله .

قال ابن المبارك : كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز : إن قصب السكر أصابته آفة ، فاشتر السكر فيما قبلك ، فاشتراه من رجل ، فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا ، قال : فأتى صاحب السكر ، فقال : يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي ، فلم أعلمك ، فأقلني فيما اشتريت منك ، فقال له الآخر : قد أعلمتني الآن ، وقد طيبته لك ، قال : فرجع فلم يحتمل قلبه ، فأتاه ، فقال : يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه ، فأحب أن تسترد هذا البيع ، قال : فما زال به حتى رده عليه .

[ ص: 281 ] وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له : أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب .

وقال هشام بن حسان : ترك محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا .

وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه ، فأتاه كتابه : إني قدمت البصرة ، فوجدت الطعام مبغضا فحبسته ، فزاد الطعام ، فازددت فيه كذا وكذا ، فكتب إليه الحجاج : إنك قد خنتنا ، وعملت بخلاف ما أمرناك به ، فإذا أتاك كتابي ، فتصدق بجميع ثمن الطعام على فقراء البصرة ، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك .

وتنزه يزيد بن زريع عن خمسائة ألف من ميراث أبيه ، فلم يأخذه ، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين ، وكان يزيد يعمل الخوص ، ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله .

وكان المسور بن مخرمة قد احتكر طعاما كثيرا ، فرأى سحابا في الخريف فكرهه ، فقال : ألا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين ؟ فآلى أن لا يربح فيه شيئا ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال له عمر : جزاك الله خيرا .

وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارا منهيا عنه ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لدخوله في ربح ما لم يضمن ، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أحمد في رواية [ ص: 282 ] عنه فيمن أجر ما استأجره بربح : إنه يتصدق بالربح ، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب : إنه يتصدق به ، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل صلاحها بشرط القطع ، ثم تركها حتى بدا صلاحها : إنه يتصدق بالزيادة ، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب ، لأن الصدقة بالشبهات مستحب .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم ، فقالت : إنما هي أيام قلائل فما رابك ، فدعه يعني ما اشتبه عليك : هل هو حلال أو حرام ، فاتركه ، فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو .

[ص: 287 ] الحديث الثاني عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه حديث حسن ، رواه الترمذي وغيره .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي ، وابن ماجه من رواية الأوزاعي ، عن قرة بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم ، وقال الترمذي : غريب ، وقد حسنه الشيخ المصنف رحمه الله ، لأن رجال إسناده ثقات ، وقرة بن عبد الرحمن بن حيويل وثقه قوم وضعفه آخرون ، وقال ابن عبد البر : هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات ، وهذا موافق لتحسين الشيخ له ، وأما أكثر الأئمة ، فقالوا : ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد وإنما هو محفوظ عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، كذلك رواه الثقات ، عن الزهري ، منهم مالك في الموطأ ، ويونس ، ومعمر ، وإبراهيم بن سعد إلا أنه قال : " من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه " وممن قال : إنه لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، [ ص: 288 ] والبخاري ، والدارقطني ، وقد خلط الضعفاء في إسناده على الزهري تخليطا فاحشا ، والصحيح فيه المرسل ، ورواه عبد الله بن عمر العمري ، عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي ، وخرجه الإمام أحمد في " مسنده " من هذا الوجه ، والعمري ليس بالحافظ ، وخرجه أيضا من وجه آخر عن الحسين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وضعفه البخاري في " تاريخه " من هذا الوجه أيضا ، وقال : لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر وكلها ضعيفة .

وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب ، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح ، عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال : جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث : قول النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وقوله صلى الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له في الوصية : لا تغضب وقوله صلى الله عليه وسلم : المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه .

ومعنى هذا الحديث : أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل ، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ؛ ومعنى يعنيه : أنه تتعلق عنايته به ، ويكون من مقصده ومطلوبه ، والعناية : شدة الاهتمام بالشيء ، يقال عناه يعنيه : إذا اهتم به وطلبه ، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس ، بل بحكم الشرع والإسلام ولهذا جعله من حسن الإسلام ، فإذا حسن إسلام المرء ، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال [ ص: 289 ] والأفعال ، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام .

وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات ، كما قال صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وإذا حسن الإسلام ، اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات ، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها ، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه ، وبلغ إلى درجة الإحسان ، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإن الله يراه ، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه ، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه ، فقد حسن إسلامه ، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ، ويشتغل بما يعنيه فيه ، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه كما وصى صلى الله عليه وسلم رجلا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه . وفي " المسند " والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا : " الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما حوى ، وتحفظ البطن وما وعى ، ولتذكر الموت والبلى ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله حق الحياء " . [ ص: 290 ] قال بعضهم : استحي من الله على قدر قربه منك ، وخف الله على قدر قدرته عليك .

وقال بعض العارفين : إذا تكلمت ، فاذكر سمع الله لك ، وإذا سكت ، فاذكر نظره إليك .

وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع : كقوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق : 16 ، 17 ، 17 ] ، وقوله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ يونس : 61 ] ، وقال تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ( الزخرف : 80 ) .

وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة ( ق ) .

[ ص: 291 ] وفي " المسند " من حديث الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه .

وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم ؟ قال له : مرهم بإفشاء السلام ، وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم .

وفي " صحيح ابن حبان " عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام : وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن تكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكر فيها في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو مرمة لمعاش ، أو لذة في غير محرم ؛ وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه .

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : من عد كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه . وهو كما قال ، فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله ، فيجازف فيه ، ولا يتحرى ، وقد خفي هذا على معاذ بن جبل حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنؤاخذ بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ .

[ ص: 292 ] وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم ، فقال : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ( النساء : 114 ) .

وخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث أم حبيبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكر الله عز وجل .

وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري ، فقال سفيان : وما تعجبكم من هذا ، أليس قد قال الله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ؟ ( النساء : 114 ) أليس قد قال الله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ( النبأ : 38 ) .

وخرج الترمذي من حديث أنس قال : توفي رجل من أصحابه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - فقال رجل : أبشر بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا تدري ، فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه [ ص: 293 ] متعددة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي بعضها : أنه قتل شهيدا .

وخرج أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث شهاب بن مالك وكان وفد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له امرأة : يا رسول الله ألا تسلم علينا ؟ فقال : إنك من قبيل يقللن الكثير ، وتمنع ما لا يغنيها ، وتسأل عما لا يعنيها .

وخرجه العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أكثر الناس ذنوبا أكثرهم كلاما فيما لا يعنيه " .

قال عمرو بن قيس الملائي : مر رجل بلقمان والناس عنده ، فقال له : ألست عبد بني فلان ؟ قال بلى ، قال : الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا ؟ قال : بلى ، فقال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني .

وقال وهب بن منبه : كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء ، فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء ، [ ص: 294 ] فقالا له : يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة ؟ قال : بيسير من الدنيا : فطمت نفسي عن الشهوات ، وكففت لساني عما لا يعنيني ، ورغبت فيما دعاني إليه ، ولزمت الصمت ، فإن أقسمت على الله ، أبر قسمي ، وإن سألته أعطاني .

دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل ، فسألوه ، عن سبب تهلل وجهه ، فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين : كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، وكان قلبي سليما للمسلمين .

وقال مورق العجلي : أمر أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه أبدا ، قالوا : وما هو ؟ قال : الكف عما لا يعنيني . رواه ابن أبي الدنيا .

وروى أسد بن موسى ، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فدخل عبد الله بن سلام ، فقام إليه ناس ، فأخبروه ، وقالوا : أخبرنا بأوثق عملك في نفسك ، قال : إن عملي لضعيف ، وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر ، وتركي ما لا يعنيني .

وروى أبو عبيدة عن الحسن قال : من علامة إعراض الله تعالى ، عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه ، وقال سهل بن عبد الله التستري : من تكلم فيما [ ص: 295 ] لا يعنيه ، حرم الصدق ، وقال معروف : كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل .

[ص: 302 ] الحديث الثالث عشر :

عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث قتادة ، عن أنس ، ولفظ مسلم " حتى يحب لجاره أو لأخيه " بالشك .

وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير " .

وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في " الصحيحين " ، وأن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته ، فإن الإيمان كثيرا ما ينفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، وقوله : لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه . [ ص: 303 ] وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر : هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان ، أم لا يسمى مؤمنا ؟ وإنما يقال : هو مسلم ، وليس بمؤمن على قولين ، وهما روايتان عن الإمام أحمد .

فأما من ارتكب الصغائر ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، بل هو مؤمن ناقص الإيمان ، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك .

والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له : مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن عبد الله ، وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم ، والقول بأنه مسلم ، ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة .

وقال ابن عباس : الزاني ينزع منه نور الإيمان . وقال أبو هريرة : ينزع منه الإيمان ، فيكون فوقه كالظلة ، فإن تاب عاد إليه .

وقال عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء : الإيمان كالقميص ، يلبسه الإنسان تارة ، ويخلعه تارة أخرى ، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره ، والمعنى : أنه إذا كمل خصال الإيمان ، لبسه ، فإذا نقص منها شيء نزعه ، وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء .

والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، فإذا زال ذلك عنه ، فقد نقص إيمانه بذلك . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة : أحب للناس ما تحب لنفسك [ ص: 304 ] تكن مسلما خرجه الترمذي وابن ماجه .

وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان ، قال : أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله ، قال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : أن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيرا أو تصمت .

وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على هذه الخصلة ؛ ففي " مسند " الإمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسد القسري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتحب الجنة " ؟ قلت : نعم ، قال : " فأحب لأخيك ما تحب لنفسك " .

وفي " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه .

وفيه أيضا عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم .

[ ص: 305 ] وإنما نهاه عن ذلك ، لما رأى من ضعفه ، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف ، وإنما كان يتولى أمور الناس ، لأن الله قواه على ذلك ، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته ، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم .

وقد روي عن علي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إني أرضى لك ما أرضى لنفسي ، وأكره لك ما أكره لنفسي ، لا تقرأ القرآن وأنت جنب ، ولا أنت راكع ، ولا أنت ساجد .

وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له ، فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه ، وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق تفسير ذلك في موضعه . [ ص: 306 ] وقد ذكرنا فيما تقدم حديث النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر خرجاه في " الصحيحين " ، وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن ، ويحزنه ما يحزنه .

وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير ، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد ، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير ، أو يساويه فيه ، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله ، وينفرد بها عنهم ، والإيمان يقتضي خلاف ذلك ، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء .

وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلو في الأرض ولا الفساد ، فقال : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ( القصص : 83 ) . وروى ابن جرير بإسناد فيه نظر عن علي رضي الله عنه قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين . وكذا روي عن الفضيل بن عياض في هذه الآية ، قال : لا يحب أن يكون نعله أجود من نعل غيره ، ولا شراكه أجود من شراك غيره .

وقد قيل : إن هذا محمول على أنه إذا أراد الفخر على غيره لا مجرد التجمل ، قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية : العلو في الأرض : [ ص: 307 ] التكبر ، وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها ، والفساد : العمل بالمعاصي .

وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه من الناس أحد في الجمال ، فخرج الإمام أحمد رحمه الله والحاكم في " صحيحه " من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما ، أليس ذلك هو البغي ؟ فقال : " لا ، ليس ذلك بالبغي ، ولكن البغي من بطر - أو قال : - سفه الحق وغمص الناس " .

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه ، وفي حديثه : " الكبر " بدل " البغي " .

فنفى أن يكون كراهته لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا ، وفسر الكبر والبغي ببطر الحق ، وهو التكبر عليه ، والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ، ومن هنا قال بعض السلف : التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به ، وإن كان صغيرا ، فمن قبل الحق ممن جاء به ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وسواء كان يحبه أو لا يحبه ، فهو متواضع ، ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه ، فهو متكبر .

[ص: 311 ] الحديث الرابع عشر :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، وفي رواية لمسلم : " التارك للإسلام " بدل قوله : " لدينه " وفي هذا المعنى أحاديث متعددة : فخرج مسلم من حديث عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن مسعود .

وخرج الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس . وفي رواية للنسائي : " رجل زنى بعد [ ص: 312 ] إحصانه ، فعليه الرجم ، أو قتل عمدا ، فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه ، فعليه القتل " .

وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم ، وقد ذكرنا حديث أنس فيما تقدم ، وفيه تفسير أن هذه الثلاث خصال هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين .

فأما زنا الثيب ، فأجمع المسلمون على أن حده الرجم حتى يموت ، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية ، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه : " والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله ، والله عزيز حكيم " .

وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن من قوله تعالى : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ( المائدة : 15 ) ، قال : فمن كفر بالرجم ، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، [ ص: 313 ] ثم تلا هذه الآية وقال : كان الرجم مما أخفوا . أخرجه النسائي ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

ويستنبط أيضا من قوله تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا إلى قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ المائدة : 44 - 49 ] وقال الزهري : بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني أحكم بما في التوارة " وأمر بهما فرجما .

وخرج مسلم في " صحيحه " من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين ، وقال في حديثه : فأنزل الله : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر [ المائدة : 41 ] وأنزل : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] في الكفار كلها .

وخرجه الإمام أحمد وعنده : فأنزل الله : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله : إن أوتيتم هذا فخذوه [ المائدة : 41 ] يقولون : ائتوا محمدا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد ، فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] قال : في اليهود .

وروي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين ، وفي حديثه قال : فأنزل الله :

[ ص: 314 ] فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم إلى قوله : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ المائدة : 42 ] .

وكان الله تعالى قد أمر أولا بحبس النساء الزواني إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ، ثم جعل الله لهن سبيلا ، ففي " صحيح مسلم " عن عبادة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم .

وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء ، وأوجبوا جلد الثيب مائة ، ثم رجمه كما فعل علي بشراحة الهمدانية ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يشير إلى أن كتاب الله فيه جلد الزانيين من غير تفصيل بين ثيب وبكر ، وجاءت السنة برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضا ، [ ص: 315 ] وهذا القول هو المشهور ، عن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق ، وهو قول الحسن وطائفة من السلف .

وقالت طائفة منهم : إن كان الثيبان شيخين رجما وجلدا ، وإن كانا شابين ، رجما بغير جلد ، لأن ذنب الشيخ أقبح ، لا سيما بالزنا ، وهذا قول أبي بن كعب ، وروي عنه مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، وهو رواية عن أحمد وإسحاق أيضا .

[ ص: 332 ] الحديث الخامس عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة ، وفي بعض ألفاظها : " فلا يؤذي جاره " وفي بعض ألفاظها : " فليحسن قرى ضيفه " وفي بعضها : " فليصل رحمه " بدل ذكر الجار .

وخرجاه أيضا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود ، [ ص: 333 ] وعبد الله بن عمرو ، وأبي أيوب الأنصاري وابن عباس وغيرهم من الصحابة .

فقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " فليفعل كذا وكذا ، يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان ، وقد سبق أن الأعمال تدخل في الإيمان ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالصبر والسماحة ، قال الحسن : المراد : الصبر عن المعاصي ، والسماحة بالطاعة .

وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله ، كأداء الواجبات وترك المحرمات ، ومن ذلك قول الخير ، والصمت عن غيره .

وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف ، وإكرام الجار ، والكف عن أذاه ، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن : أحدهما قول الخير والصمت عما سواه ، وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي ، قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : " هل تملك لسانك ؟ " قلت : ما أملك إذا لم أملك لساني ؟ قال : " فهل تملك يدك ؟ " قلت : فما أملك إذا لم أملك يدي ؟ قال : " فلا تقل بلسانك إلا معروفا ، ولا تبسط يدك إلا إلى خير " . [ ص: 334 ] وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان ، كما في " المسند " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه .

وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنك لن تزال سالما ما سكت ، فإذا تكلمت ، كتب لك أو عليك . وفي " مسند " الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صمت نجا .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها ، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب .

وخرج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي هريرة ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار . [ ص: 335 ] وفي " صحيح البخاري " ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم .

وخرج الإمام أحمد من حديث سليمان بن سحيم ، عن أمه ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة ، فيتباعد بها أبعد من صنعاء " .

وخرج الإمام أحمد ، والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارث قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه .

وقد ذكرنا فيما سبق حديث أم حبيبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وذكر الله عز وجل .

فقوله صلى الله عليه وسلم : فليقل خيرا أو ليصمت أمر بقول الخير ، وبالصمت عما عداه ، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه ، بل إما [ ص: 336 ] أن يكون خيرا ، فيكون مأمورا بقوله ، وإما أن يكون غير خير ، فيكون مأمورا بالصمت عنه ، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا .

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث معاذ بن جبل ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا معاذ ثكلتك أمك وهل تقول شيئا إلا وهو لك أو عليك .

وقد قال الله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق : 17 - 18 ] وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات ، والذي عن شماله يكتب السيئات ، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف . وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم يصلي ، فإنه يناجي ربه والملك عن يمينه .

وروي من حديث حذيفة مرفوعا : " إن عن يمينه كاتب الحسنات " .

واختلفوا : هل يكتب كل ما يتكلم به ، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب ؟ على قولين مشهورين . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يكتب كل ما [ ص: 337 ] تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله : أكلت وشربت ذهبت وجئت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان فيه من خير أو شر ، وألقى سائره ، فذلك قوله تعالى : يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [ الرعد : 39 ] .

وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : ركب رجل الحمار ، فعثر به ، فقال : تعس الحمار ، فقال صاحب اليمين : ما هي حسنة أكتبها ، وقال صاحب الشمال : ما هي سيئة فأكتبها ، فأوحى الله إلى صاحب الشمال : ما ترك صاحب اليمين من شيء ، فاكتبه ، فأثبت في السيئات " تعس الحمار " .

وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة ، فهو سيئة ، وإن كان لا يعاقب عليها ، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها ، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر ، ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلا ، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه ، وهو نوع عقوبة .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار ، وكان لهم حسرة .

وخرجه الترمذي ولفظه : ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ، ولم [ ص: 338 ] يصلوا على نبيهم ، إلا كان عليهم ترة ، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم .

وفي رواية لأبي داود والنسائي : من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ، ومن اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة زاد النسائي : ومن قام مقاما لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة وخرج أيضا من حديث أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يجلسون مجلسا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة ، وإن دخلوا الجنة .

وقال مجاهد : ما جلس قوم مجلسا ، فتفرقوا قبل أن يذكروا الله ، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة ، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم ، وما جلس قوم مجلسا ، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا ، إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك ، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم .

وقال بعض السلف : يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره ، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات .

وخرجه الطبراني من حديث عائشة مرفوعا : " ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير ، إلا حسر عندها يوم القيامة " .

[ ص: 339 ] فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام ، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به ، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لابد منه . وقد روي عن ابن مسعود قال : إياكم وفضول الكلام ، حسب امرئ ما بلغ حاجته . وعن النخعي قال : يهلك الناس في فضول المال والكلام .

وأيضا قال فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب كما في " الترمذي " من حديث ابن عمر مرفوعا : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب ، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي " .

وقال عمر : من كثر كلامه ، كثر سقطه ، ومن كثر سقطه ، كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه ، كانت النار أولى به وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر [ ص: 340 ] مرفوعا بإسناد ضعيف .

وقال محمد بن عجلان : إنما الكلام أربعة : أن تذكر الله ، وتقرأ القرآن ، وتسأل عن علم فتخبر به ، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك .

وقال رجل لسلمان : أوصني ، قال : لا تكلم ، قال : ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم ، قال : فإن تكلمت ، فتكلم بحق أو اسكت .

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد .

وقال ابن مسعود : والله الذي لا إله إلا هو ، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان وقال وهب بن منبه : أجمعت الحكماء على أن رأس الحكم الصمت .

وقال شميط بن عجلان : يا ابن آدم ، إنك ما سكت ، فأنت سالم ، فإذا تكلمت ، فخذ حذرك ، إما لك وإما عليك وهذا باب يطول استقصاؤه .

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير ، والسكوت عما ليس بخير ، وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلا قال : يا رسول الله ، علمني عملا يدخلني الجنة ، فذكر الحديث وفيه قال : فأطعم الجائع ، [ ص: 341 ] واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك ، فكف لسانك إلا من خير .

فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق ، ولا السكوت كذلك ، بل لابد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر ، وكان السلف كثيرا يمدحون الصمت عن الشر ، وعما لا يعني لشدته على النفس ، وذلك يقع فيه الناس كثيرا ، فكانوا يعالجون أنفسهم ، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم .

قال الفضيل بن عياض : ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان ، ولو أصبحت يهمك لسانك ، أصبحت في غم شديد ، وقال : سجن اللسان سجن المؤمن ، ولو أصبحت يهمك لسانك ، أصبحت في غم شديد .

وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه : إن كان الكلام من فضة ، فإن الصمت من ذهب ، فقال : معناه : لو كان الكلام بطاعة الله من فضة ، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب . وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات ، وقد سبق القول في هذا مستوفى .

وتذاكروا عند الأحنف بن قيس ، أيهما أفضل الصمت أو النطق ؟ فقال قوم : الصمت أفضل ، فقال الأحنف : النطق أفضل ، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه ، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه .

وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله : الصامت على علم كالمتكلم على علم ، فقال عمر : إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم [ ص: 342 ] أفضلهما يوم القيامة حالا ، وذلك أن منفعته للناس ، وهذا صمته لنفسه ، فقال له : يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق ؟ فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدا .

ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يوما فرق الناس ، وبكوا ، فقطع خطبته ، فقيل له : لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به ، فقال عمر : إن القول فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول .

وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وسمعته يتكلم في هذه المسألة ، وأظن أني فاوضته فيها وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت ، وأظن أنه وقع في أثناء الكلام ذكر سليمان بن عبد الملك ، وأن عمر قال ذلك له ، وقد روي عن سليمان بن عبد الملك أنه قال : الصمت منام العقل ، والنطق يقظته ، ولا يتم حال إلا بحال ، يعني : لابد من الصمت والكلام .

وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته ، وكان أحد الحكماء : إذا كان المرء يحدث في مجلس ، فأعجبه الحديث فليسكت ، وإن كان ساكتا ، فأعجبه السكوت ، فليحدث ، وهذا حسن فإن من كان كذلك ، كان سكوته وحديثه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ، ومن كان كذلك ، كان جديرا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته ، لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل .

وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال : " علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا ، فإذا كان كذلك ، لم ينسني على حال ، وإذ كان كذلك ، مننت عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني ، فإذا نسيني ، حركت قلبه ، فإن تكلم تكلم لي ، وإن سكت ، سكت لي ، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي " خرجه إبراهيم بن الجنيد .

[ ص: 343 ] وبكل حال ، فالتزام الصمت مطلقا ، واعتقاده قربة إما مطلقا ، أو في بعض العبادات ، كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام الصمت . وخرج الإسماعيلي من حديث علي قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في العكوف ، وفي " سنن أبي داود " من حديث علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا صمات يوم إلى الليل . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة : إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال : صوم الصمت حرام .

[ص: 361 ] الحديث السادس عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني ، قال : لا تغضب فردد مرارا قال : لا تغضب رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي الحصين الأسدي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، ولم يخرجه مسلم ، لأن الأعمش رواه ، عن أبي صالح ، واختلف عليه في إسناده فقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، كقول أبي حصين ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، وعند يحيى بن معين أن هذا هو الصحيح ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو جابر ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن رجل من الصحابة غير مسمى . وخرج الترمذي هذا الحديث من طريق أبي حصين أيضا ولفظه : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه ، قال : لا تغضب فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول : لا تغضب وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ولا تكثر علي قال : لا تغضب . فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال [ ص: 362 ] الخير ، ليحفظها عنه خشية أن لا يحفظها لكثرتها ، فوصاه النبي أن لا يغضب ، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب ، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر ، وأن التحرز منه جماع الخير . ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو الدرداء ، فقد خرج الطبراني من حديث أبي الدرداء قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : لا تغضب ولك الجنة . وقد روى الأحنف بن قيس عن عمه جارية بن قدامة أن رجلا قال : يا رسول الله قل لي قولا ، وأقلل علي لعلي أعقله ، " قال لا تغضب " فأعاد عليه مرارا كل ذلك يقول : " لا تغضب " خرجه الإمام أحمد وفي رواية له أن جارية بن قدامة قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . فهذا يغلب على الظن أن السائل هو جارية بن قدامة ، ولكن ذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال : هكذا قال هشام ، يعني : أن هشاما ذكر في الحديث أن جارية سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يحيى : وهم يقولون : إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال العجلي وغيره : إنه تابعي وليس بصحابي . وخرج الإمام أحمد من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن [ ص: 363 ] رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : لا تغضب قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله ورواه مالك في " الموطأ " عن الزهري ، عن حميد مرسلا . وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل ؟ قال : لا تغضب . وقول الصحابي : ففكرت فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الغضب يجمع الشر كله يشهد لما ذكرناه أن الغضب جماع الشر ، قال جعفر بن محمد : الغضب مفتاح كل شر . وقيل لابن المبارك : اجمع لنا حسن الخلق في كلمة ، قال : ترك الغضب . وكذا فسر الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب ، وقد روي ذلك مرفوعا ، خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " من حديث أبي العلاء بن الشخير أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ فقال : " حسن الخلق " ثم أتاه عن يمينه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل فقال : " حسن الخلق " ، ثم أتاه عن شماله فقال : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : حسن الخلق ثم أتاه من بعده ، يعني : من خلفه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " مالك لا تفقه ! حسن الخلق هو أن لا تغضب إن استطعت " . وهذا مرسل . فقوله صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه : لا تغضب يحتمل أمرين : [ ص: 364 ] أحدهما : أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى ، والصفح والعفو ، وكظم الغيظ ، والطلاقة والبشر ، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه . والثاني : أن يكون المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك ، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمر والناهي له ، ولهذا المعنى قال الله عز وجل ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف : 154 ] فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شر الغضب ، وربما سكن غضبه ، وذهب عاجلا ، فكأنه حينئذ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في القرآن بقوله عز وجل وإذا ما غضبوا هم يغفرون [ الشورى : 37 ] ، وبقوله عز وجل : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] .

[ ص: 379 ] الحديث السابع عشر :

عن أبي يعلى شداد بن أوس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن شداد بن أوس ، وتركه البخاري ، لأنه لم يخرج في " صحيحه " لأبي الأشعث شيئا وهو شامي ثقة . وقد روي نحوه من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل محسن فأحسنوا ، فإذا قتل أحدكم ، فليحسن مقتوله ، وإذا ذبح ، فليحد شفرته ، وليرح ذبيحته خرجه ابن عدي . وخرج الطبراني من حديث أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا حكمتم فاعدلوا ، وإذا قلتم فأحسنوا ، فإن الله محسن يحب المحسنين . [ ص: 380 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب " السير " عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء أو قال : " على كل خلق " هكذا خرجها مرسلة ، وبالشك في " كل شيء " أو " كل خلق " وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإحسان ، فيكون كل شيء أو كل مخلوق هو المكتوب عليه ، والمكتوب هو الإحسان . وقيل : إن المعنى أن الله كتب الإحسان إلى كل شيء ، أو في كل شيء ، أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء ، فيكون المكتوب عليه غير مذكور ، وإنما المذكور المحسن إليه . ولفظ " الكتابة " يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافا لبعضهم ، وإنما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم إما شرعا ، كقوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ النساء : 103 ] ، وقوله : كتب عليكم الصيام [ البقرة : 182 ] ، كتب عليكم القتال [ البقرة : 216 ] ، أو فيما هو واقع قدرا لا محالة ، كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ المجادلة : 21 ] ، وقوله : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [ الأنبياء : 105 ] ، وقوله : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [ ص: 381 ] [ المجادلة : 22 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضان : إني خشيت أن يكتب عليكم وقال : " أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي " ، وقال : كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، فهو مدرك ذلك لا محالة . وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان ، وقد أمر الله تعالى به ، فقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] وقال : أحسنوا إن الله يحب المحسنين [ البقرة : 195 ] . وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره . وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها . وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال ، لكن إحسان كل شيء بحسبه ، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة : الإتيان بها على وجه كمال واجباتها ، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب ، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب . [ ص: 382 ] والإحسان في ترك الحرمات : الانتهاء عنها ، وترك ظاهرها وباطنها ، كما قال تعالى : وذروا ظاهر الإثم وباطنه [ الأنعام : 120 ] . فهذا القدر من الإحسان فيها واجب .

[ص: 395 ] الحديث الثامن عشر :

عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، وفي بعض النسخ : حسن صحيح . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن أبي ذر ، وخرجه أيضا بهذا الإسناد ، عن ميمون ، عن معاذ ، وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنه قال : حديث أبي ذر أصح . فهذا الحديث قد اختلف في إسناده وقيل فيه : عن حبيب ، عن ميمون : أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بذلك ، مرسلا ، ورجح الدارقطني هذا المرسل . وقد حسن الترمذي هذا الحديث ، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه ، فبعيد ، ولكن الحاكم خرجه ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وهو وهم من وجهين : أحدهما : أن ميمون بن أبي شبيب ، ويقال : ابن شبيب لم يخرج له البخاري في " صحيحه " شيئا ، ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه حديثا عن [ ص: 396 ] المغيرة بن شعبة . والثاني : أن ميمون بن أبي شبيب لم يصح سماعه من أحد من الصحابة ، قال الفلاس : ليس في شيء من رواياته عن الصحابة " سمعت " ولم أخبر أن أحدا يزعم أنه سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو حاتم الرازي : روايته عن أبي ذر وعائشة غير متصلة . وقال أبو داود : لم يدرك عائشة ، ولم ير عليا ، وحينئذ فلم يدرك معاذا بطريق الأولى . وروى البخاري وشيخه علي بن المديني ، وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أن الحديث لا يتصل إلا بصحة اللقي ، وكلام الإمام أحمد يدل على ذلك ، ونص عليه الشافعي في " الرسالة " وهذا كله خلاف رأي مسلم رحمه الله . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى بهذه الوصية معاذا وأبا ذر من وجوه أخر ، فخرج البزار من حديث أبي لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم ، فقال : يا رسول الله أوصني ، قال : أفش السلام ، وابذل الطعام ، واستحي من الله استحياء رجل ذي هيئة من أهلك ، وإذا أسأت فأحسن ، وليحسن خلقك ما استطعت . وخرج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن [ ص: 397 ] معاذ بن جبل أراد سفرا ، فقال : يا رسول الله أوصني قال : اعبد الله ، ولا تشرك به شيئا " قال : يا رسول الله زدني ، قال : " إذا أسأت فأحسن " قال : يا رسول الله زدني ، قال : " استقم ولتحسن خلقك " . وخرج الإمام أحمد من حديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته ، وإذا أسأت فأحسن ، ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط سوطك ، ولا تقبض أمانة ، ولا تقض بين اثنين . وخرج أيضا من وجه آخر عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله علمني عملا يقربني من الجنة ويباعدني من النار ، قال : إذا عملت سيئة ، فاعمل حسنة ، فإنها عشر أمثالها قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : هي أحسن الحسنات . وخرج ابن عبد البر في " التمهيد " بإسناد فيه نظر عن أنس قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن ، فقال : " يا معاذ اتق الله ، وخالق الناس بخلق حسن ، وإذا عملت سيئة ، فأتبعها حسنة " فقال : قلت : يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات ؟ قال : " هي من أكبر الحسنات " . وقد رويت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ من حديث ابن عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف . ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ، وابن حبان في " صحيحه " . [ ص: 398 ] فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده ، فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته ، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين . قال تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [ النساء : 131 ] . وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه . وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل ، كقوله تعالى : واتقوا الله الذي إليه تحشرون [ المائدة : 96 ] ، وقوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [ الحشر : 18 ] ، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى ، فالمعنى : اتقوا سخطه وغضبه ، وهو أعظم ما يتقى ، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي ، قال تعالى : ويحذركم الله نفسه [ آل عمران : 28 ] ، وقال تعالى : هو أهل التقوى وأهل المغفرة [ المدثر : 56 ] ، فهو سبحانه أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه ، لما يستحقه من الإجلال والإكرام ، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش ، وشدة البأس . وفي الترمذي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية هو أهل التقوى وأهل المغفرة [ المدثر : 56 ] قال : قال الله تعالى : " أنا أهل أن أتقى ، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له " . [ ص: 399 ] وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه ، كالنار ، أو إلى زمانه ، كيوم القيامة ، كما قال تعالى : واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ آل عمران : 131 ] ، وقال تعالى : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين [ البقرة : 24 ] ، وقال تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا [ البقرة : 48 ، 123 ] .

[ص: 459 ] الحديث التاسع عشر :

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف .

رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

وفي رواية غير الترمذي : احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية حنش الصنعاني ، عن ابن عباس وخرجه الإمام أحمد من حديث حنش الصنعاني مع إسنادين آخرين منقطعين ولم يميز لفظ بعضها من بعض ، ولفظ حديثه : يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات [ ص: 460 ] ينفعك الله بهن ؟ " فقلت : بلى ، فقال : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله ، لم يقدروا عليه ، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا عليه ، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا .

وهذا اللفظ أتم من اللفظ الذي ذكره الشيخ رحمه الله ، وعزاه إلى غير الترمذي ، واللفظ الذي ذكره الشيخ رواه عبد بن حميد في " مسنده " بإسناد ضعيف عن عطاء ، عن ابن عباس ، وكذلك عزاه ابن الصلاح في " الأحاديث الكلية " التي هي أصل أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بن حميد وغيره .

وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي ومولاه عكرمة ، وعطاء بن أبي رباح ، وعمرو بن دينار ، وعبيد الله بن عبد [ ص: 461 ] الله ، وعمر مولى غفرة ، وابن أبي مليكة وغيرهم .

وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي ، كذا قال ابن منده وغيره . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري ، وسهل بن سعد ، وعبد الله بن جعفر ، وفي أسانيدها كلها ضعف . [ ص: 462 ] وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة ، وبعضها أصلح من بعض ، وبكل حال ، فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة .

وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء : تدبرت هذا الحديث ، فأدهشني وكدت أطيش ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث ، وقلة التفهم لمعناه .

قلت : وقد أفردت لشرحه جزءا كبيرا ونحن نذكر هاهنا مقاصده على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى .

قوله صلى الله عليه وسلم : " احفظ الله " يعني : احفظ حدوده ، وحقوقه ، وأوامره ، ونواهيه ، وحفظ ذلك : هو الوقوف عند أوامره بالامتثال ، وعند نواهيه بالاجتناب ، وعند حدوده ، فلا يتجاوز ما أمر به ، وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك ، فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه ، وقال عز وجل : هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب [ ق : 32 - 33 ] وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله ، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها .

ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها ، فقال : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ البقرة : 238 ] ، ومدح المحافظين عليها بقوله : والذين هم على صلاتهم يحافظون [ المعارج : 34 ] . [ ص: 463 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حافظ عليها ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي حديث آخر : من حافظ عليهن ، كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة .

وكذلك الطهارة ، فإنها مفتاح الصلاة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .

ومما يؤمر بحفظه الأيمان ، قال الله عز وجل : واحفظوا أيمانكم [ المائدة : 89 ] ، فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرا ، ويهمل كثير منهم ما يجب بها ، فلا يحفظه ، ولا يلتزمه .

[ص: 496 ] الحديث العشرون :

عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت رواه البخاري .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأظن مسلما لم يخرجه ، لأنه قد رواه قوم ، فقالوا : عن ربعي ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف في إسناده ، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال : عن أبي مسعود ، منهم البخاري ، وأبو زرعة الرازي ، والدارقطني وغيرهم ، ويدل على صحة ذلك [ ص: 497 ] أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه .

وخرجه الطبراني من حديث أبي الطفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .

فقوله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن ، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام ، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة . وفي بعض الروايات قال : " لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا " . خرجها حميد بن زنجويه وغيره .

وقوله " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " في معناه قولان : أحدهما : أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء ، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه ، وأهل هذه المقالة لهم طريقان :

أحدهما : أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد ، والمعنى : إذا لم يكن حياء ، فاعمل ما شئت ، فالله يجازيك عليه ، كقوله : اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير [ فصلت : 40 ] ، وقوله : فاعبدوا ما شئتم من دونه [ الزمر : 15 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من باع الخمر ، فليشقص الخنازير " يعني ليقطعها إما لبيعها [ ص: 498 ] أو لأكلها ، وأمثلته متعددة ، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس بن ثعلب .

والطريق الثاني : أنه أمر ، ومعناه الخبر ، والمعنى : أن من لم يستحي ، صنع ما شاء ، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء ، فمن لم يكن له حياء ، انهمك في كل فحشاء ومنكر ، وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم : من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ، فإن لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار ، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله ، وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي ، وغيرهم ، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول .

وروى ابن أبي لهيعة عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أبغض الله عبدا ، نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا بغيضا متبغضا ، ونزع منه الأمانة ، فإذا نزع منه الأمانة ، نزع منه الرحمة ، وإذا نزع منه الرحمة ، نزع منه ربقة الإسلام ، فإذا نزع منه ربقة الإسلام ، لم تلقه إلا شيطانا مريدا " . خرجه حميد بن زنجويه ، وخرجه ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا أيضا .

وعن سلمان الفارسي قال : إن الله إذا أراد بعبد هلاكا ، نزع منه الحياء ، فإذا [ ص: 499 ] نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا ، فإذا كان مقيتا ممقتا ، نزع منه الأمانة ، فلم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا كان خائنا مخونا ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظا غليظا ، فإذا كان فظا غليظا ، نزع ربق الإيمان من عنقه ، فإذا نزع ربق الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا .

وعن ابن عباس قال : الحياء والإيمان في قرن ، فإذا نزع الحياء ، تبعه الآخر . خرجه كله حميد بن زنجويه في كتاب " الأدب " .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان كما في " الصحيحين " عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول : إنك لتستحيي ، كأنه يقول : قد أضر بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإن الحياء من الإيمان . [ ص: 500 ] وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة قال : " الحياء شعبة من الإيمان " .

وفي " الصحيحين " عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية لمسلم قال : " الحياء خير كله " ، أو قال : " الحياء كله خير " .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث الأشج العصري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فيك لخلقين يحبهما الله " ، قلت : ما هما ؟ قال : " الحلم والحياء " قلت : أقديما كان أو حديثا ؟ قال " بل قديما " قلت : الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله .

وقال : إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل فاستسقى ، فأتى بماء فشرب ، فستره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا ؟ قال : [ ص: 501 ] " الحياء خلة أوتوها ومنعتموها " .

واعلم أن الحياء نوعان : أحدهما : ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب ، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الحياء لا يأتي إلا بخير " فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها ، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من استحيا ، اختفى ، ومن اختفى ، اتقى ، ومن اتقى وقي .

وقال الجراح بن عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام - : تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع . وعن بعضهم قال : رأيت المعاصي نذالة ، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة .

النوع الثاني : ما كان مكتسبا من معرفة الله ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده ، واطلاعه عليهم ، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فهذا من أعلى خصال الإيمان ، بل هو من أعلى درجات الإحسان ، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " استحي من الله كما تستحيي رجلا من صالح عشيرتك " .

وفي حديث ابن مسعود : " الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ؛ ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله " خرجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا . [ ص: 502 ] وقد يتولد من الله الحياء من مطالعة نعمه ورؤية التقصير في شكرها ، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي ، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح ، والأخلاق الدنيئة ، فصار كأنه لا إيمان له . وقد روي من مراسيل الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحياء حياءان : طرف من الإيمان ، والآخر عجز " ولعله من كلام الحسن ، وكذلك قال بشير بن كعب العدوي لعمران بن حصين : إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله ، ومنه ضعف ، فغضب عمران وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه ؟ والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه ، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل ، وترك القبيح ، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده ، فليس هو من الحياء ، إنما هو ضعف وخور ، وعجز ومهانة ، والله أعلم . [ ص: 503 ] والقول الثاني : في معنى قوله : " إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت " أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه ، وأن المعنى : إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحيا من فعله لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنع منه حينئذ ما شئت ، وهذا قول جماعة من الأئمة ، منهم إسحاق المروزي الشافعي ، وحكي مثله عن الإمام أحمد ، ووقع كذلك في بعض نسخ " مسائل أبي داود " المختصرة عنه ، ولكن الذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل ، وكذلك حكاه عنه الخلال في كتاب " الأدب " ، ومن هذا قول بعض السلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أن لا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم : الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

وروى عبد الرازق في كتابه عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل من مزينة قال : قيل : يا رسول الله ، ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم ؟ قال : " الخلق الحسن " قال : فما شر ما أوتي المسلم ؟ قال : " إذا كرهت أن يرى عليك شيء في نادي القوم ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وفي " صحيح ابن حبان " عن أسامة بن شريك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كره منك شيئا ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري قال : قلت : يا رسول الله [ ص: 504 ] ما تمام البر ؟ قال : " أن تعمل في السر عمل العلانية " . وخرجه أيضا من حديث أبي عامر السكوني ، قال : قلت : يا رسول الله ، فذكره .

وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ في كتاب " أدب المحدث " بإسناده عن حرملة بن عبد الله ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأزداد من العلم ، فقمت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تأمرني أن أعمل به ؟ قال : " ائت المعروف ، واجتنب المنكر ، وانظر الذي سمعته أذنك من الخير يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فأته ، وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم ، فاجتنبه " قال : فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئا : إتيان المعروف ، واجتناب المنكر .

وخرج ابن سعد في " طبقاته " بمعناه .

وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولا آخر حكاه عن جرير : قال معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير ، فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء ، يقول : فلا يمنعنك الحياء من المضي لما أردت ، كما جاء في الحديث : " إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي ، فقال : إنك ترائي ، فزدها طولا " ثم قال أبو عبيد : وهذا [ ص: 505 ] الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير ، ولا على هذا يحمله الناس .

قلت : لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظ الحديث : إذا استحييت مما لا يستحيا منه ، فافعل ما شئت ، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه ، والله أعلم .

[ص: 506 ] الحديث الحادي والعشرون .:

عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك ، قال : قل آمنت بالله ، ثم استقم رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان وسفيان : هو ابن عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة ، وكان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف .

وقد روي عن سفيان بن عبد الله من وجوه أخر بزيادات ، فخرجه الإمام أحمد ، والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز ، وعند الترمذي : من رواية عبد الرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبد الله قال : قلت : يا رسول الله ، حدثني بأمر أعتصم به ، قال : قل : ربي الله ، ثم استقم قلت : يا رسول الله ، ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، قال هذا ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وخرجه الإمام أحمد ، والنسائي من رواية عبد الله بن سفيان الثقفي ، عن أبيه أن رجلا قال : يا رسول الله ، مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك [ ص: 507 ] قال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم قلت : فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه .

قول سفيان بن عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم : " قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك " طلب منه أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل آمنت بالله ، ثم استقم وفي الرواية الأخرى : " قل : ربي الله ، ثم استقم " هذا منتزع من قوله عز وجل : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ فصلت : 30 ] ، وقوله عز وجل : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ الأحقاف : 13 - 14 ] .

وخرج النسائي في " تفسيره " من رواية سهيل بن أبي حزم : حدثنا ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فقال : " قد قالها الناس ، ثم كفروا ، فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة " . وخرجه الترمذي ، ولفظه : فقال : " قد قالها الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها ، فهو ممن استقام " ، وقال : حسن غريب ، وسهيل تكلم فيه من قبل حفظه . [ ص: 508 ] وقال أبو بكر الصديق في تفسير ثم استقاموا قال : لم يشركوا بالله شيئا . وعنه قال : لم يلتفتوا إلى إله غيره . وعنه قال : ثم استقاموا على أن الله ربهم .

وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال : هذه أرخص آية في كتاب الله قالوا ربنا الله ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله . وروي نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال ، وزيد بن أسلم ، والسدي وعكرمة وغيرهم . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فقال : لم يروغوا روغان الثعلب .

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ثم استقاموا قال : استقاموا على أداء فرائضه .

وعن أبي العالية ، قال : ثم أخلصوا له الدين والعمل .

وعن قتادة قال : استقاموا على طاعة الله ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية [ ص: 509 ] قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة .

ولعل من قال : إن المراد الاستقامة على التوحيد إنما أراد التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار ، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله ، فإن الإله هو المعبود الذي يطاع ، فلا يعصى خشية وإجلالا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلا ودعاء ، والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد ، لأنها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان ، قال الله عز وجل : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الجاثية : 23 ] قال الحسن وغيره : هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه ، فهذا ينافي الاستقامة على التوحيد .

وأما على رواية من روى : " قل : آمنت بالله " فالمعنى أظهر ، لأن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث ، وقال الله عز وجل : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير [ هود : 112 ] ، فأمره أن يستقيم هو ومن تاب معه ، وأن لا يجاوزوا ما أمروا به ، وهو الطغيان ، وأخبر أنه بصير بأعمالكم ، مطلع عليها ، قال تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم [ الشورى : 15 ] قال قتادة : أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقيم على أمر الله وقال الثوري على القرآن ، وعن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رئي ضاحكا خرجه ابن أبي حاتم وذكر القشيري وغيره عن بعضهم : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال له : يا رسول الله ، قلت : " شيبتني هود وأخواتها " فما شيبك [ ص: 510 ] منها ؟ قال : " قوله : فاستقم كما أمرت .

وقال عز وجل : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه [ فصلت : 6 ] .

وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عموما كما قال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ الشورى : 13 ] ، وأمر بإقام الصلاة في غير موضع من كتابه ، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين

[ ص: 513 ] الحديث الثاني والعشرون .:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت إذا صليت المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئا ، أأدخل الجنة ؟ قال : نعم رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر ، وزاد في آخره قال : والله لا أزيد على ذلك شيئا . وخرجه أيضا من رواية الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال : قال النعمان بن قوقل : يا رسول الله ، أرأيت إذا صلي6ت المكتوبة ، وحرمت الحرام ، وأحللت الحلال ، ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم " .

وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله ، وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه ، ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه ، ويكون الحلال هاهنا عبارة عما ليس بحرام فيدخل فيه الواجب والمستحب والمباح ، ويكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه ، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره ، ويجتنب المحرمات . وقد روي عن طائفة من السلف ، منهم ابن مسعود وابن عباس في قوله عز وجل : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به [ البقرة : 121 ] ، قالوا : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه . [ ص: 514 ] والمراد بالتحليل والتحريم : فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا الحديث . وقد قال الله في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله [ التوبة : 37 ] والمراد : أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاما ، فيحلونه بذلك ، ويمتنعون من القتال فيه عاما ، فيحرمونه بذلك .

وقال الله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا [ المائدة : 87 - 88 ] وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدنيا وتقشفا ، وبعضهم حرم ذلك على نفسه ، إما بيمين حلف بها ، أو بتحريمه على نفسه ، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر ، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا تحريم ، فسمى الجميع تحريما ، حيث قصد الامتناع منه إضرارا بالنفس ، وكفا لها عن شهواتها . ويقال في الأمثال : فلان لا يحلل ولا يحرم ، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ، ولا يقف عند ما أبيح له ، وإن كان يعتقد تحريم الحرام ، فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحاشى منه محللا له وإن كان لا يعتقد حله .

وبكل حال ، فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات ، وانتهى عن المحرمات دخل الجنة وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى ، أو ما هو قريب منه ، كما خرجه النسائي ، وابن حبان ، والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، [ ص: 515 ] ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة ، يدخل من أيها شاء ثم تلا : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ النساء : 31 ] .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من عبد الله ، لا يشرك به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة - .

وفي " المسند " عن ابن عباس أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له الصلوات الخمس ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، فلما فرغ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، لا أزيد ولا أنقص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صدق دخل الجنة وخرجه الطبراني من وجه آخر ، وفي حديثه قال : والخامسة لا أرب لي فيها يعني الفواحش ثم قال : لأعملن بها ، ومن أطاعني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

[ ص: 516 ] وفي " صحيح البخاري " عن أبي أيوب أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم وخرجه مسلم إلا أن عنده أنه قال : أخبرني بعمل يدنيني من الجنة ويباعدني من النار . وعنده في رواية : فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تمسك بما أمر به ، دخل الجنة " .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : والذي بعثك بالحق ، لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه ، فلما ولى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا .

وفي " الصحيحين " عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة ؟ فقال : الصلوات الخمس ، إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الصيام ؟ فقال : شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام ، فقال : والذي أكرمك بالحق ، لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق - أو دخل الجنة إن صدق - ولفظه للبخاري .

[ ص: 517 ] وفي " صحيح مسلم " عن أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه ، وزاد فيه " حج البيت من استطاع إليه سبيلا " فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على الصلاة المكتوبة ، والزكاة المفروضة ، وصيام رمضان ، وحج البيت شيئا من التطوع ، ليس مراده أنه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك ، وهذه الأحاديث لم يذكر فيها اجتناب المحرمات ، لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة .

وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : أيها الناس ، اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم وقال : حسن صحيح ، وخرجه الإمام أحمد ، وعنده " اعبدوا ربكم " بدل قوله " اتقوا الله " . وخرجه بقي بن مخلد في " مسنده " من وجه آخر ، ولفظ حديثه : " صلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وحجوا بيتكم ، وأدوا زكاة أموالكم ، طيبة بها أنفسكم ، تدخلوا جنة ربكم " .

وخرج الإمام أحمد بإسناده عن ابن المنتفق ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات ، فقلت : ثنتان أسألك عنهما : ما ينجيني من النار ، وما يدخلني الجنة ؟ فقال : لئن كنت أوجزت في المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، فاعقل عني إذن : اعبد الله لا تشرك به شيئا ، وأقم الصلاة المكتوبة ، وأد الزكاة المفروضة ، وصم [ ص: 518 ] رمضان ، وما تحب أن يفعله بك الناس ، فافعله بهم ، وما تكره أن يأتي إليك الناس ، فذر الناس منه .

وفي رواية له أيضا قال : " اتق الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، ولم تزد على ذلك " وقيل : إن هذا الصحابي هو وافد بن المنتفق ، واسمه لقيط .

فهذه الأعمال أسباب مقتضية لدخول الجنة ، وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع ، ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن مرة الجهني ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليت الخمس ، وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه " .

[ ص: 519 ] وقد ورد ترتب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال كالصلاة ، ففي الحديث المشهور : من صلى الصلوات لوقتها ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي الحديث الصحيح : من صلى البردين دخل الجنة ، وهذا كله من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه ، وانتفاء موانعه ؛ ويدل هذا على ما خرجه الإمام أحمد عن بشير بن الخصاصية ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فشرط علي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أوتي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله ، فقلت : يا رسول الله ، فأما اثنتان فوالله ما أطيقهما : الجهاد والصدقة ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حركها ، وقال : " فلا جهاد ولا صدقة ؟ فبم تدخل الجنة إذا ؟ " قلت : يا رسول الله أبايعك ، فبايعته عليهن كلهن ففي هذا الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه [ ص: 520 ] الخصال بدون الزكاة والجهاد .

[ص: 5 ] الحديث الثالث والعشرون :

عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله ، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث أخرجه مسلم من رواية يحيى بن أبي كثير أن زيد بن سلام حدثه أن سلاما حدثه عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، فذكر الحديث . وفي أكثر نسخ صحيح مسلم " والصبر ضياء " وفي بعضها : " والصيام ضياء " . وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلام ، فأنكره يحيى بن معين ، وأثبته الإمام أحمد ، وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه . وخرج هذا الحديث النسائي ، وابن ماجه من رواية معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي [ ص: 6 ] مالك ، فزاد في إسناده عبد الرحمن بن غنم ، ورجح هذه الرواية بعض الحفاظ ، وقال : معاوية بن سلام أعلم بحديث أخيه زيد من يحيى بن أبي كثير ، ويقوي ذلك أنه قد روي عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك من وجه آخر ، وحينئذ فتكون رواية مسلم منقطعة . وفي حديث معاوية بعض المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير ، فإن لفظ حديثه عند ابن ماجه : إسباغ الوضوء شطر الإيمان ، والحمد لله ملء الميزان ، والتسبيح والتكبير ملء السماء والأرض ، والصلاة نور ، والزكاة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها " . وخرج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه مسلم ، ولفظ حديثه : " الوضوء شطر الإيمان " وباقي حديثه مثل سياق مسلم . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث رجل من بني سليم ، قال : عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده : " التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض ، والصوم نصف الصبر ، والطهور نصف الإيمان " . [ ص: 7 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " فسر بعضهم الطهور هاهنا بترك الذنوب ، كما في قوله تعالى : إنهم أناس يتطهرون [ الأعراف : 82 ] ، وقوله : وثيابك فطهر [ المدثر : 4 ] ، وقوله : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] . وقال الإيمان نوعان : فعل وترك ، فنصفه فعل المأمورات ، ونصفه ترك المحظورات ، وهو تطهير النفس بترك المعاصي ، وهذا القول محتمل لولا أن رواية " الوضوء شطر الإيمان " ترده ، وكذلك رواية إسباغ الوضوء . وأيضا ففيه نظر من جهة المعنى ، فإن كثيرا من الأعمال تطهر النفس من الذنوب السابقة ، كالصلاة ، فكيف لا تدخل في اسم الطهور ، ومتى دخلت الأعمال ، أو بعضها ، في اسم الطهور ، لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان . والصحيح الذي عليه الأكثرون : أن المراد بالطهور هاهنا : التطهير بالماء من الإحداث ، وكذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء ، وكذلك خرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما ، وعلى هذا فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيمان . فمنهم من قال : المراد بالشطر الجزء ، لا أنه النصف بعينه ، فيكون الطهور جزءا من الإيمان ، وهذا فيه ضعف ، لأن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في النصف ، ولأن في حديث الرجل من سليم : " الطهور نصف الإيمان " كما سبق . ومنهم من قال : المعنى أنه يضاعف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان ، لكن من غير تضعيف ، وفي هذا نظر وبعد . [ ص: 8 ] ومنهم من قال : الإيمان يكفر الكبائر كلها ، والوضوء يكفر الصغائر ، فهو شطر الإيمان بهذا الاعتبار ، وهذا يرده حديث : " من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية " وقد سبق ذكره . منهم من قال : الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان ، فصار نصف الإيمان ، وهذا ضعيف . ومنهم من قال : المراد بالإيمان هاهنا : الصلاة ، كما في قوله عز وجل : وما كان الله ليضيع إيمانكم [ البقرة : 143 ] ، والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس ، فإذا كان المراد بالإيمان الصلاة ، فالصلاة لا تقبل إلا بطهور ، فصار الطهور شطر الصلاة بهذا الاعتبار ، حكى هذا التفسير محمد بن نصر [ ص: 9 ] المروزي في " كتاب الصلاة " عن إسحاق بن راهويه عن يحيى بن آدم ، وأنه قال في معنى قولهم " لا أدري " نصف العلم : إن العلم إنما هو " أدري ولا أدري " ، فأحدهما نصف الآخر . قلت : كل شيء كان تحته نوعان : فأحدهما نصف له ، وسواء كان عدد النوعين على السواء ، أو أحدهما أزيد من الآخر ، ويدل على هذا حديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " والمراد : قراءة الصلاة ، ولهذا فسرها بالفاتحة ، والمراد أنها مقسومة للعبادة والمسألة ، فالعبادة حق الرب والمسألة حق العبد ، وليس المراد قسمة كلماتها على السواء . وقد ذكر هذا الخطابي ، واستشهد بقول العرب : نصف السنة سفر ، ونصفها حضر ، قال : وليس على تساوي الزمانين فيهما ، لكن على انقسام الزمانين لهما ، وإن تفاوتت مدتاهما ، وبقول شريح - وقد قيل له : كيف أصبحت ؟ - قال : أصبحت ونصف الناس علي غضبان ، يريد أن الناس بين محكوم له ومحكوم عليه ، فالمحكوم عليه غضبان ، والمحكوم له راض عنه ، فهما حزبان مختلفان . ويقول الشاعر : إذا مت كان الناس نصفين شامت بموتي ومثن بالذي كنت أفعل ومراده أنهم ينقسمون قسمين . [ ص: 10 ] قلت : ومن هذا المعنى حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض " أنها نصف العلم " خرجه ابن ماجه ، فإن أحكام المكلفين نوعان : نوع يتعلق بالحياة ، ونوع يتعلق بما بعد الموت ، وهذا هو الفرائض . وقال ابن مسعود : الفرائض ثلث العلم . ووجه ذلك الحديث الذي خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : " العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة " . وروي عن مجاهد أنه قال : المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء ، ولعله أراد أن الوضوء قسمان : أحدهما مذكور في القرآن ، والثاني مأخوذ من السنة ، وهو المضمضة والاستنشاق ، أو أراد أن المضمضة والاستنشاق يطهران باطن الجسد ، وغسل سائر الأعضاء يطهر ظاهره ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، ومنه قول ابن مسعود : الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله . وجاء من رواية يزيد [ ص: 11 ] الرقاشي عن أنس مرفوعا : " الإيمان نصفان : نصف في الصبر ، ونصف في الشكر " فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، ولا ينال ذلك كله إلا بالصبر ، كان الصبر نصف الإيمان ، فهكذا يقال في الوضوء : إنه نصف الصلاة . وأيضا فالصلاة تكفر الذنوب والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه ، فصار شطر الصلاة بهذا الاعتبار أيضا ، كما في " صحيح مسلم " عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مؤمن مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه ، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن . وفي رواية له : من أتم الوضوء كما أمره الله ، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن [ ص: 12 ] وأيضا ، فالصلاة مفتاح الجنة ، والوضوء مفتاح الصلاة ، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث جابر مرفوعا ، وكل من الصلاة والوضوء موجب لفتح أبواب الجنة كما في " صحيح مسلم " عن عقبة بن عامر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ، يقبل عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة وعن عقبة ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء . وفي " الصحيحين " عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء . فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبا لفتح أبواب الجنة ، صار الوضوء نصف الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار . [ ص: 13 ] وأيضا ، فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن ، كما في حديث ثوبان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن . والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة ، كما خرجه العقيلي من حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خمس من جاء بهن مع إيمان ، دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - قال : وكان يقول : - وايم الله ، لا يفعل ذلك إلا مؤمن ، وصام رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وأدى الأمانة قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وخرج ابن ماجه من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات [ ص: 14 ] الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، وأداء الأمانة كفارة لما بينهن . قيل : وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن تحت كل شعرة جنابة وحديث أبي الدرداء الذي قبله جعل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة . وجاء في حديث خرجه البزار من رواية شبابة بن سوار : حدثنا مغيرة بن مسلم ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا : " الصلاة ثلاثة أثلاث : الطهور ثلث : والركوع ثلث ، والسجود ثلث ، فمن أداها بحقها ، قبلت منه ، وقبل منه سائر عمله ، ومن ردت عليه صلاته ، رد عليه سائر عمله " وقال : تفرد به المغيرة ، والمحفوظ عن أبي صالح ، عن كعب من قوله . فعلى هذا التقسيم الوضوء ثلث الصلاة ، إلا أن يجعل الركوع والسجود كالشيء الواحد ، لتقاربهما في الصورة ، فيكون الوضوء نصف الصلاة أيضا . ويحتمل أن يقال : خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلها تطهر القلب وتزكيه ، وأما الطهارة بالماء ، فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه ، فصارت خصال الإيمان قسمين : أحدهما يطهر الظاهر ، والآخر يطهر الباطن ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كله .

[ص: 32 ] الحديث الرابع والعشرون :

. عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر لكم ذنوبكم جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم : أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 [ ص: 33 ] هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر ، وفي آخره : قال سعيد بن عبد العزيز : كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه . وخرجه مسلم أيضا من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يسقه بلفظه ، ولكنه قال : وساق الحديث بنحو سياق أبي إدريس ، وحديث أبي إدريس أتم . وخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه ، من رواية شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديت ، فسلوني الهدى أهدكم ، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم ، وكلكم مذنب إلا من عافيت ، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني ، غفرت له ولا أبالي ، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة ، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم ، اجتمعوا في صعيد واحد ، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر ، فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ، ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له : كن فيكون وهذا لفظ الترمذي ، وقال : حديث حسن . وخرجه الطبراني بمعناه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن إسناده ضعيف . [ ص: 34 ] وحديث أبي ذر قال الإمام أحمد : هو أشرف حديث لأهل الشام . فقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " يعني : أنه منع نفسه من الظلم لعباده ، كما قال عز وجل : وما أنا بظلام للعبيد [ ق : 29 ] ، وقال : وما الله يريد ظلما للعباد [ غافر 31 ] ، وقال وما الله يريد ظلما للعالمين [ آل عمران : 108 ] ، وقال وما ربك بظلام للعبيد [ فصلت : 46 ] ، وقال : إن الله لا يظلم الناس شيئا [ يونس : 44 ] ، وقال إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] ، وقال : [ ص: 35 ] ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [ طه : 112 ] ، والهضم : أن ينقص من جزاء حسناته ، والظلم : أن يعاقب بذنوب غيره ، ومثل هذا كثير في القرآن . وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم ، ولكن لا يفعله فضلا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده . وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير موضعها . وأما من فسره بالتصرف في ملك الغير بغير إذنه - وقد نقل نحوه عن إياس بن معاوية وغيره - فإنهم يقولون : إن الظلم مستحيل عليه ، وغيره متصور في حقه ، لأن كل ما يفعله فهو تصرف في ملكه ، وبنحو ذلك أجاب أبو الأسود الدؤلي لعمران بن حصين حين سأله عن القدر . وخرج أبو داود ، وابن ماجه من حديث أبي سنان سعيد بن سنان ، عن وهب بن خالد الحمصي ، عن ابن الديلمي أنه سمع أبي بن كعب يقول : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم ، لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، وأنه أتى ابن مسعود ، فقال له مثل ذلك ، ثم أتى زيد بن ثابت ، فحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك . وفي هذا الحديث نظر ، ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم . وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم ، لقدر لهم ما يعذبهم عليه ، فيكون غير ظالم لهم حينئذ . [ ص: 36 ] وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى ، كما أنه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد ، وهي خلقه وتقديره ، فإنه لا يوصف إلا بأفعاله لا يوصف بأفعال عباده ، فإن أفعال عباده مخلوقاته ومفعولاته ، وهو لا يوصف بشيء منها ، إنما يوصف بما قام به من صفاته وأفعاله والله أعلم . وقوله " وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا " يعني : أنه تعالى حرم الظلم على عباده ، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم ، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره ، مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقا ، وهو نوعان : أحدهما : ظلم النفس ، وأعظمه الشرك ، كما قال تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق ، فعبده وتألهه ، فهو وضع الأشياء في غير موضعها ، وأكثر ما ذكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به المشركون ، كما قال عز وجل : والكافرون هم الظالمون [ البقرة : 254 ] ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر . والثاني : ظلم العبد لغيره ، وهو المذكور في هذا الحديث ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا . وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم النحر من يوم عرفة ، وفي اليوم الثاني من أيام التشريق ، وفي رواية : ثم قال : " اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ؛ إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " . وفي " الصحيحين " عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الظلم ظلمات يوم القيامة . وفيهما عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ هود : 102 ] . وفي " صحيح البخاري " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كانت عنده مظلمة لأخيه ، فليتحلله منها ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه .

[ص: 56 ] الحديث الخامس والعشرون :

. عن أبي ذر رضي الله عنه أيضا أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم ، قال : أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الديلي ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، وقد روي معناه عن أبي ذر من وجوه كثيرة بزيادة ونقصان ، وسنذكر بعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى . وفي هذا الحديث دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة ، وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم ، فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء ، ويحزنون على التخلف عن الخروج [ ص: 57 ] في الجهاد ، لعدم القدرة على آلته ، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه ، فقال : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [ التوبة : 92 ] . وفي هذا الحديث : أن الفقراء غبطوا أهل الدثور - والدثور : هي الأموال - مما يحصل لهم من أجر الصدقة بأموالهم ، فدلهم النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات يقدرون عليها . وفي " الصحيحين " عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال : " وما ذاك ؟ " قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من قد سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة " ، قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم علي ، [ ص: 58 ] وأبو ذر ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن عباس وغيرهم . ومعنى هذا أن الفقراء ظنوا أن لا صدقة إلا بالمال ، وهم عاجزون عن ذلك ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة . وفي " صحيح مسلم " عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل معروف صدقة . وخرجه البخاري من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم . فالصدقة تطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان ، حتى إن فضل الله الواصل منه إلى عباده صدقة منه عليهم . وقد كان بعض السلف ينكر ذلك ، ويقول إنما الصدقة ممن يطلب جزاءها وأجرها ، والصحيح خلاف ذلك ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة في السفر : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته خرجه مسلم ، وقال : " من كانت له صلاة بليل ، فغلب عليه نوم فنام عنها ، كتب الله له أجر صلاته ، [ ص: 59 ] وكان نومه صدقة من الله تصدق بها عليه " خرجه النسائي وغيره من حديث عائشة ، وخرجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء . وفي " مسندي " بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا : " ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده ، وما من الله على عبد مثل أن يلهمه ذكره " . وقال خالد بن معدان : إن الله يتصدق كل يوم بصدقة ، وما تصدق الله على أحد من خلقه بشيء خير من أن يتصدق عليه بذكره . والصدقة بغير المال نوعان : أحدهما : ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق ، فيكون صدقة عليهم ، وربما كان أفضل من الصدقة بالمال ، وهذا كالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فإنه دعاء إلى طاعة الله ، وكف عن معاصيه ، وذلك خير من النفع بالمال ، وكذلك تعليم العلم النافع ، وإقراء القرآن ، وإزالة الأذى عن الطريق ، والسعي في جلب النفع للناس ، ودفع الأذى عنهم . وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم . وخرج ابن مردويه بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر مرفوعا : " من كان له مال ، فليتصدق من ماله ، ومن كان له قوة ، فليتصدق من قوته ، ومن كان له علم ، فليتصدق من علمه " ولعله موقوف . [ ص: 60 ] وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة صدقة اللسان " قيل : يا رسول الله ، وما صدقة اللسان ؟ قال : " الشفاعة تفك بها الأسير ، وتحقن بها الدم ، وتجر بها المعروف والإحسان إلى أخيك ، وتدفع عنه الكريهة " . وقال عمرو بن دينار : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صدقة أحب إلى الله من قول ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى [ البقرة : 263 ] " خرجه ابن أبي حاتم . وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت طليق الوجه " خرجه ابن أبي الدنيا . وقال معاذ : تعليم العلم لمن لا يعلمه صدقة . وروي مرفوعا . ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس ، ففي " الصحيحين " عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيله " قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ قال : " أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا " قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : " تعين صانعا ، وتصنع لأخرق " . قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : " تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة . [ ص: 61 ] وقد روي في حديث أبي ذر زيادات أخرى ، فخرج الترمذي من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ، وأمرك بالمعروف ، ونهيك عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة " . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل : يا رسول الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها ؟ قال : إن أبواب الجنة لكثيرة : التسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته ، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف ، فهذا كله صدقة منك على نفسك . وخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر ، يتصدقون ولا نتصدق ، قال : " وأنت فيك صدقة : رفعك العظم عن الطريق صدقة ، وهدايتك الطريق صدقة ، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة ، وبيانك عن الأغتم صدقة ، ومباضعتك امرأتك صدقة " ، قلت : يا [ ص: 62 ] رسول الله ، نأتي شهوتنا ونؤجر ؟ ! قال : " أرأيت لو جعله في حرام ، أكان يأثم ؟ " قال : قلت : نعم ، قال : " أفتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير ؟ " وفي رواية أخرى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن فيك صدقة كثيرة ، فذكر فضل سمعك وفضل بصرك " وفي رواية أخرى للإمام أحمد : قال : " إن من أبواب الصدقة التكبير وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، وأستغفر الله ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعزل الشوكة عن الطريق والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه ، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها ، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث ، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف ، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ، ولك في جماعك زوجتك أجر " قلت : كيف يكون لي أجر في شهوتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو كان لك ولد ، فأدرك ورجوت خيره ، فمات ، أكنت تحتسب به ؟ قلت : نعم ، قال : فأنت خلقته ؟ قلت : بل الله خلقه ، قال : أفأنت هديته ؟ قلت : بل الله هداه ، قال : أفأنت كنت ترزقه ؟ قلت : بل الله كان يرزقه ، قال : كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه ، فإن شاء الله أحياه ، وإن شاء أماته ، ولك أجر " . وظاهر هذا السياق يقتضي أنه يؤجر على جماعه لأهله بنية طلب الولد الذي يترتب الأجر على تربيته وتأديبه في حياته ، ويحتسبه عند موته ، وأما إذا لم ينو شيئا بقضاء شهوته ، فهذا قد تنازع الناس في دخوله في هذا الحديث . [ ص: 63 ] وقد صح الحديث بأن نفقة الرجل على أهله صدقة ، ففي " الصحيحين " عن أبي مسعود الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نفقة الرجل على أهله صدقة وفي رواية لمسلم : " وهو يحتسبها " ، وفي لفظ للبخاري : " إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها ، فهو له صدقة " ، فدل على أنه إنما يؤجر فيها إذا احتسبها عند الله كما في حديث سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك خرجاه . وفي " صحيح مسلم " عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله ، ودينار ينفقه على فرس في سبيل الله ، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله قال أبو قلابة عند رواية هذا الحديث : بدأ بالعيال ، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به ، ويغنيهم الله به . وفيه أيضا عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن نفقتك على عيالك صدقة ، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة وهذا قد ورد مقيدا في الرواية الأخرى بابتغاء وجه الله . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : دينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار تصدقت به على [ ص: 64 ] مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك ، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك . وخرج الإمام أحمد ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا فقال رجل : عندي دينار ، فقال : " تصدق به على نفسك " قال عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على زوجتك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على ولدك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على خادمك " قال : عندي دينار آخر ، قال : أنت أبصر . وخرج الإمام أحمد من حديث المقدام بن معدي كرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أطعمت نفسك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك ، فهو لك صدقة وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة يطول ذكرها . وفي " الصحيحين " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من مسلم يغرس غرسا ، أو يزرع زرعا ، فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة ، إلا كان له صدقة . وفي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة ، وما سرق منه له صدقة ، وما أكل السبع منه ، فهو له صدقة ، وما أكلت الطير فهو له صدقة ، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة . وفي رواية له أيضا : " فيأكل منه إنسان ، ولا دابة ، ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة " . [ ص: 65 ] وفي " المسند " بإسناد ضعيف عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء ، أو غرس غراسا في غير ظلم ولا اعتداء ، إلا كان له أجرا جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن " . وذكر البخاري في " تاريخه " من حديث جابر مرفوعا : " من حفر ماء لم تشرب منه كبد حرى من جن ولا إنس ولا سبع ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة " . وظاهر هذه الأحاديث كلها يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما من غير قصد ولا نية ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " يدل بظاهره على أنه يؤجر في إتيان أهله من غير نية ، فإن المباضع لأهله كالزارع في الأرض التي يحرث ويبذر فيها ، وقد ذهب إلى هذا طائفة من العلماء ، ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشرب والجماع ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه . وهذا اللفظ الذي استدل به غير معروف ، إنما المعروف قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد : " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك " ، وهو مقيد بإخلاص النية لله ، فتحمل الأحاديث المطلقة عليه ؛ والله أعلم . ويدل عليه أيضا قول الله عز وجل : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [ النساء : 114 ] ، [ ص: 66 ] فجعل ذلك خيرا ، ولم يرتب عليه الأجر إلا مع نية الإخلاص . وأما إذا فعله رياء ، فإنه يعاقب عليه ، وإنما محل التردد إذا فعله بغير نية صالحة ولا فاسدة . وقد قال أبو سليمان الداراني : من عمل عمل خير من غير نية كفاه نية اختياره للإسلام على غيره من الأديان ، وظاهر هذا أنه يثاب عليه من غير نية بالكلية ، لأنه بدخوله في الإسلام مختار لأعمال الخير في الجملة ، فيثاب على كل عمل يعمله منها بتلك النية ، والله أعلم . وقوله : " أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال ، كان له أجر " . هذا يسمى عند الأصوليين قياس العكس ، ومنه قول ابن مسعود ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا أخرى ، قال : من مات يشرك بالله شيئا دخل النار ، وقلت : من مات لا يشرك بالله دخل الجنة . والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية : ما نفعه قاصر على فاعله ، كأنواع الذكر : من التكبير ، والتسبيح ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، وكذلك المشي إلى المساجد صدقة ، ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصلاة والصيام والحج والجهاد أنه صدقة ، وأكثر هذه الأعمال أفضل من الصدقات المالية ، لأنه إنما ذكر جوابا لسؤال الفقراء الذين سألوه عما يقاوم تطوع الأغنياء بأموالهم ، وأما الفرائض ، فإنهم قد كانوا كلهم مشتركين فيها . وقد تكاثرت النصوص بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيرها من [ ص: 67 ] الأعمال ، كما في حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " ذكر الله عز وجل " خرجه الإمام أحمد والترمذي ، وذكره مالك في " الموطأ " موقوفا على أبي الدرداء . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة ، كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك . وفيهما أيضا عن أبي أيوب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قالها عشر مرات ، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل . وخرج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا " قلت : [ ص: 68 ] يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : " لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . ويروى نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعا ، والصواب وقفه على معاذ من قوله . وخرج الطبراني من حديث أبي الوازع ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لو أن رجلا في حجره دراهم يقسمها ، وآخر يذكر الله ، كان الذاكر أفضل " . قلت : الصحيح عن أبي الوازع عن أبي برزة الأسلمي من قوله . خرجه جعفر الفريابي . وخرج أيضا من حديث أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من كبر مائة ، وسبح [ ص: 69 ] مائة ، وهلل مائة ، كانت خيرا له من عشر رقاب يعتقها ، ومن سبع بدنات ينحرها " . وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي الدرداء أنه قيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وعن أبي الدرداء أيضا ، قال : لأن أقول : الله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار . وكذلك قال سلمان الفارسي وغيره من الصحابة والتابعين : إن الذكر أفضل من الصدقة بعدده من المال . وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : سبحي الله مائة تسبيحة ، فإنها تعدل مائة رقبة من ولد إسماعيل ، واحمدي الله مائة تحميدة ، فإنها تعدل لك مائة فرس ملجمة مسرجة تحملين عليهن في سبيل الله ، وكبري الله مائة تكبيرة ، فإنها تعدل مائة بدنة مقلدة متقبلة ، وهللي الله مائة تهليلة - لا أحسبه إلا قال : - تملأ ما بين السماء والأرض ، ولا يرفع يومئذ لأحد مثل عملك إلا أن يأتي بمثل ما أتيت وخرجه أحمد أيضا وابن ماجه ، وعندهما : " وقولي : لا إله إلا الله مائة مرة ، لا تذر ذنبا ، ولا يسبقها العمل " . [ ص: 70 ] وخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا : قال : " ما من صدقة أفضل من ذكر الله عز وجل " . وخرج الفريابي بإسناد فيه نظر عن أبي أمامة مرفوعا : " من فاته الليل أن يكابده ، ويبخل بماله أن ينفقه ، وجبن من العدو أن يقاتله ، فليكثر من سبحان الله وبحمده ، فإنها أحب إلى الله عز وجل من جبل ذهب ، أو جبل فضة ينفقه في سبيل الله عز وجل " . وخرج البزار بإسناد مقارب من حديث ابن عباس مرفوعا قال في حديثه : " فليكثر ذكر الله " ، ولم يزد على ذلك ، وفي المعنى أحاديث أخر متعددة .

[ص: 71 ] الحديث السادس والعشرون:

عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته ، فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة ، وخرجه البزار من رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : للإنسان ثلاثمائة وستون عظما ، أو ستة وثلاثون سلامى ، عليه في كل يوم صدقة " قالوا : فمن لم يجد ؟ قال : "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر " قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : " يرفع عظما عن الطريق " قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : " فليعن ضعيفا " قالوا : فمن لم يستطع ذلك ؟ قال : فليدع الناس من شره . وخرج مسلم من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن ذكر الله ، وحمد الله ، وهلل الله ، وسبح الله ، وعزل حجرا عن طريق المسلمين ، أو عزل شوكة ، أو عزل عظما ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى أمسى من يومه وقد زحزح نفسه عن النار . [ ص: 72 ] وخرج مسلم أيضا من رواية أبي الأسود الديلمي عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى . وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا ، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة قالوا : ومن يطيق ذلك يا نبي الله ؟ قال : النخاعة في المسجد تدفنها ، والشيء تنحيه عن الطريق ، فإن لم تجد ، فركعتا الضحى تجزئك . وفي " الصحيحين " عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : على كل مسلم صدقة قالوا : فإن لم يجد ؟ قال : فيعمل بيده ، فينفع نفسه ويتصدق قالوا : فإن لم يستطع ، أو لم يفعل ؟ قال : يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليأمر بالمعروف قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليمسك عن الشر فإنه صدقة . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل منسم من ابن آدم صدقة كل يوم فقال رجل من القوم : ومن [ ص: 73 ] يطيق هذا ؟ قال : أمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، والحمل على الضعيف صدقة ، وكل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة . وخرجه البزار وغيره . وفي رواية : على كل ميسم من الإنسان صدقة كل يوم أو صلاة فقال رجل : هذا من أشد ما أتيتنا به ، فقال : إن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر صلاة أو صدقة ، وحملك عن الضعيف صلاة ، وإنحاؤك القذر عن الطريق صلاة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة . وفي رواية البزار : وإماطة الأذى عن الطريق صدقة أو قال : " صلاة " . قال بعضهم : يريد بالميسم كل عضو على حدة مأخوذ من الوسم : وهو العلامة ، إذ ما من عظم ولا عرق ولا عصب إلا وعليه أثر صنع الله ، فيجب على العبد الشكر على ذلك والحمد لله على خلقه سويا صحيحا ، وهذا هو المراد بقوله : عليه صلاة كل يوم ، لأن الصلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء . وخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل سلامى ، أو على كل عضو من بني آدم في كل يوم صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتا الضحى . ويروى من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل نفس في كل يوم صدقة قيل : فإن كان لا يجد شيئا ؟ قال : أليس بصيرا شهما فصيحا صحيحا ؟ قال : بلى ، قال : يعطي من قليله وكثيره ، وإن بصرك للمنقوص بصره صدقة ، وإن سمعك للمنقوص سمعه صدقة . وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي - حديث أبي ذر - الذي خرجه ابن [ ص: 74 ] حبان في " صحيحه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل : يا رسول الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها ؟ قال : إن أبواب الخير لكثيرة : التسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، والتهليل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته ، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف ، فهذا كله صدقة منك على نفسك . فقوله صلى الله عليه وسلم : على كل سلامى من الناس عليه صدقة قال أبو عبيد : السلامى في الأصل عظم يكون في فرسن البعير ، قال : فكأن معنى الحديث : على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة ، يشير أبو عبيد إلى أن السلامى اسم لبعض العظام الصغار التي في الإبل ، ثم عبر بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره . فمعنى الحديث عنده : على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة . وقال غيره : السلامى : عظم في طرف اليد والرجل ، وكنى بذلك عن جميع عظام الجسد ، والسلامى جمع ، وقيل : هو مفرد . وقد ذكر علماء الطب أن جميع عظام البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما سوى السمسمانيات ، وبعضهم يقول : هي ثلاثمائة وستون عظما ، يظهر منها للحس مائتان وخمسة وستون عظما ، والباقية صغار لا تظهر تسمى السمسمانية ، وهذه الأحاديث تصدق هذا القول ، ولعل السلامى عبر بها عن هذه العظام الصغار ، كما أنها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام ، ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد لهذا ، حيث قال فيها : " أو ستة وثلاثون سلامى " وقد [ ص: 75 ] خرجه غير البزار ، وقال فيه : " إن في ابن آدم ستمائة وستين عظما " وهذه الرواية غلط . وفي حديث عائشة وبريدة ذكر ثلاثمائة وستين مفصلا . ومعنى الحديث : أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده ، فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه ، ليكون ذلك شكرا لهذه النعمة . قال الله عز وجل : ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار : 6 - 8 ] . وقال عز وجل : قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ الملك : 23 ] ، وقال : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] وقال : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ البلد : 8 - 9 ] ، قال مجاهد : هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر ، وقرأ الفضل ليلة هذه الآية ، فبكى فسئل عن بكائه ، فقال : هل بت ليلة شاكرا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما ؟ هل بت ليلة شاكرا لله أن جعل لك لسانا تنطق به ؟ وجعل يعدد من هذا الضرب . وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلمان الفارسي ، قال : إن رجلا بسط له من الدنيا ، فانتزع ما في يديه ، فجعل يحمد الله عز وجل ، ويثني عليه ، حتى لم يكن له فراش إلا بوري ، فجعل يحمد الله ، ويثني عليه ، وبسط للآخر من الدنيا ، فقال لصاحب البوري : أرأيتك أنت على ما تحمد الله عز وجل ؟ قال : أحمد الله على ما لو أعطيت به ما أعطي الخلق لم أعطهم إياه ، قال : [ ص: 76 ] وما ذاك ؟ قال : أرأيت بصرك ؟ أرأيت لسانك ؟ أرأيت يديك ؟ أرأيت رجليك ؟ وبإسناده عن أبي الدرداء أنه كان يقول : الصحة غنى الجسد . وعن يونس بن عبيد أن رجلا شكا إليه ضيق حاله ، فقال له يونس : أيسرك أن لك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم ؟ قال الرجل : لا ، قال : فبيدك مائة ألف درهم ؟ قال : لا ، قال : فرجليك ؟ قال : لا ، قال : فذكره نعم الله عليه ، فقال يونس : أرى عندك مئين ألوف وأنت تشكو الحاجة . وعن وهب بن منبه ، قال : مكتوب في حكمة آل داود : العافية الملك الخفي . وعن بكر المزني قال : يا ابن آدم ، إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك ، فغمض عينيك . وفي بعض الآثار : كم من نعمة لله في عرق ساكن . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ . فهذه النعم مما يسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة ، ويطالب به كما قال تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر : 8 ] وخرج الترمذي وابن حبان [ ص: 77 ] من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم ، فيقول له : ألم نصح لك جسمك ، ونرويك من الماء البارد ؟ . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : النعيم الأمن والصحة . وروي عنه مرفوعا . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر : 8 ] ، قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الإسراء : 36 ] . وخرج الطبراني من رواية أيوب بن عتبة - وفيه ضعف - عن عطاء ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ قال : إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل ، لو وضع على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة من نعم الله ، فتكاد أن تستنفد ذلك كله ، إلا أن يتطاول الله برحمته . [ ص: 78 ] وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف أيضا عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يؤتى بالنعم يوم القيامة ، وبالحسنات والسيئات ، فيقول الله لنعمة من نعمه : خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها . وبإسناده عن وهب بن منبه قال : عبد الله عابد خمسين عاما ، فأوحى الله عز وجل إليه : إني قد غفرت لك ، قال : يا رب ، وما تغفر لي ولم أذنب ؟ فأذن الله عز وجل لعرق في عنقه ، فضرب عليه ، فلم ينم ، ولم يصل ، ثم سكن وقام ، فأتاه ملك ، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق ، فقال الملك : إن ربك عز وجل يقول : عبادتك خمسين سنة تعدل سكون ذلك العرق . وخرج الحاكم هذا المعنى مرفوعا من رواية سلمان بن هرم القرشي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن جبريل أخبره أن عابدا عبد الله على رأس جبل في البحر خمسمائة سنة ، ثم سأل ربه أن يقبضه وهو ساجد ، قال : فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا ، ونجد في العلم أنه يبعث يوم [ ص: 79 ] القيامة ، فيوقف بين يدي الله عز وجل ، فيقول الله عز وجل : أدخلو عبدي الجنة برحمتي ، فيقول العبد : يا رب ، بعملي ، ثلاث مرات ، ثم يقول الله للملائكة : قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله ، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة ، وبقيت نعم الجسد له ، فيقول : أدخلوا عبدي النار ، فيجر إلى النار ، فينادي ربه : برحمتك أدخلني الجنة ، برحمتك أدخلني الجنة ، فيدخله الجنة ، قال جبريل : إنما الأشياء برحمة الله يا محمد . وسلمان بن هرم ، قال العقيلي : هو مجهول وحديثه غير محفوظ . وروى الخرائطي بإسناد فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول للملائكة : انظروا في عمل عبدي ونعمتي عليه ، فينظرون فيقولون : ولا بقدر نعمة واحدة من نعمك عليه ، فيقول : انظروا في عمله سيئه وصالحه ، فينظرون فيجدونه كفافا ، فيقول : عبدي ، قد قبلت حسناتك ، وغفرت لك سيئاتك ، وقد وهبت لك نعمتي فيما بين ذلك . والمقصود : أن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه كما قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 34 ] وطلب منهم الشكر ، ورضي به منهم . قال سليمان التيمي : إن الله أنعم على العباد على قدره ، وكلفهم الشكر على قدرهم حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه ، وبالحمد بألسنتهم عليها ، كما خرجه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن غنام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال من قال : حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك ، فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشكر ، فقد [ ص: 80 ] أدى شكر ذلك اليوم ، ومن قالها حين يمسي أدى شكر ليلته . وفي رواية النسائي عن عبد الله بن عباس . وخرج الحاكم من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أنعم الله على عبد نعمة ، فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله شكرها قبل أن يشكرها ، وما أذنب عبد ذنبا ، فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أن يستغفره . وقال أبو عمرو الشيباني : قال موسى عليه السلام يوم الطور : يا رب ، إن أنا صليت فمن قبلك ، وإن أنا تصدقت فمن قبلك ، وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك ، فكيف أشكرك ؟ قال : الآن شكرتني . وعن الحسن قال : قال موسى عليه السلام : يا رب ، كيف يستطيع آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه ؟ خلقته بيدك ، ونفخت فيه من روحك ، وأسكنته جنتك ، وأمرت الملائكة فسجدوا له ، فقال : يا موسى ، علم أن ذلك مني ، فحمدني عليه ، فكان ذلك شكرا لما صنعته . [ ص: 81 ] وعن أبي الجلد قال : قرأت في مسألة داود أنه قال : أي رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك ؟ قال : فأتاه الوحي : أن يا داود ، أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فإني أرضى بذلك منك شكرا . قال : وقرأت في مسألة موسى : يا رب ، كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله ؟ قال : فأتاه الوحي : أن يا موسى ، الآن شكرتني . وقال بكر بن عبد الله ما قال : عبد قط : الحمد لله مرة ، إلا وجبت عليه نعمة بقوله : الحمد لله ، فما جزاء تلك النعمة ؟ جزاؤها أن يقول : الحمد لله ، فجاءت نعمة أخرى ، فلا تنفد نعماء الله . وقد روى ابن ماجه من حديث أنس مرفوعا : ما أنعم الله على عبد نعمة ، فقال : الحمد لله ، إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ . وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا أيضا . وروي هذا عن الحسن البصري من قوله . [ ص: 82 ] وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه : إني بأرض قد كثرت فيها النعم ، حتى لقد أشفقت على أهلها من ضعف الشكر ، فكتب إليه عمر : إني قد كنت أراك أعلم بالله مما أنت ، إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا كان حمده أفضل من نعمته ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل ، قال الله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ النمل : 15 ] ، وقال الله : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها إلى قوله : وقالوا الحمد لله [ الزمر : 73 ] وأي نعمة أفضل من دخول الجنة ؟ . وقد ذكر ابن أبي الدنيا في " كتاب الشكر " عن بعض العلماء أنه صوب هذا القول ، أعني قول من قال : إن الحمد أفضل من النعم ، وعن ابن عيينة أنه خطأ قائله ، وقال : لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب عز وجل . ولكن الصواب قول من صوبه ، فإن المراد بالنعم : النعم الدنيوية ، كالعافية والرزق والصحة ، ودفع المكروه ، ونحو ذلك ، والحمد لله هو من النعم الدينية ، وكلاهما نعمة من الله ، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده ، فإن النعم الدنيوية إن لم يقترن بها الشكر ، كانت بلية كما قال أبو حازم : كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية ، فإذا وفق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر ، كانت هذه النعمة خيرا من تلك النعم وأحب إلى الله عز وجل منها ، فإن الله [ ص: 83 ] يحب المحامد ، ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، ويشرب الشربة فيحمده عليها ، والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحب إليهم من أموالهم ، فهم يبذلونها طلبا للثناء ، والله عز وجل أكرم الأكرمين ، وأجود الأجودين ، فهو يبذل نعمه لعباده ، ويطلب منهم الثناء بها وذكرها ، والحمد عليها ، ويرضى منهم بذلك شكرا عليها ، وإن كان ذلك كله من فضله عليهم ، وهو غير محتاج إلى شكرهم ، لكنه يحب ذلك من عباده ، حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله فيه . ومن فضله سبحانه أنه نسب الحمد والشكر إليهم ، وإن كان من أعظم نعمه عليهم ، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال ، ثم استقرض منهم بعضه ، ومدحهم بإعطائه ، والكل ملكه ومن فضله ، ولكن كرمه اقتضى ذلك ، ومن هنا يعلم معنى الأثر الذي جاء مرفوعا وموقوفا : " الحمد لله حمدا يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده " . ولنرجع الآن إلى تفسير حديث : كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس . يعني : أن الصدقة على ابن آدم عن هذه الأعضاء في كل يوم من أيام الدنيا ، فإن اليوم قد يعبر به عن مدة أزيد من ذلك ، كما يقال : يوم صفين ، وكان مدة أيام ، وعن مطلق الوقت كما في قوله : ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم [ هود : 8 ] ، وقد يكون ذلك ليلا ونهارا ، فإذا قيل : كل يوم تطلع فيه الشمس ، علم أن هذه الصدقة على ابن آدم في كل يوم يعيش فيه من أيام الدنيا ، وظاهر الحديث يدل على أن هذا الشكر بهذه الصدقة واجب على المسلم كل يوم ، ولكن الشكر على درجتين : إحداهما : واجب ، وهو أن يأتي بالواجبات ، ويتجنب المحارم ، فهذا لا بد [ ص: 84 ] منه ، ويكفي في شكر هذه النعم ، ويدل على ذلك ما خرجه أبو داود من حديث أبي الأسود الديلي ، قال : كنا عند أبي ذر ، فقال : يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة ، فله بكل صلاة صدقة ، وصيام صدقة ، وحج صدقة ، وتسبيح صدقة ، وتكبير صدقة ، وتحميد صدقة ، فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأعمال الصالحات قال : يجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى وقد تقدم في حديث أبي موسى المخرج في " الصحيحين " : فإن لم يفعل ، فليمسك عن الشر ، فإنه له صدقة . وهذا يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئا من الشر ، وإنما يكون مجتنبا للشر إذا قام بالفرائض ، واجتنب المحارم ، فإن أعظم الشر ترك الفرائض ، ومن هنا قال بعض السلف : الشكر ترك المعاصي . وقال بعضهم : الشكر أن لا يستعان بشيء من النعم على معصية . وذكر أبو حازم الزاهد شكر الجوارح كلها وأن تكف عن المعاصي ، وتستعمل في الطاعات ، ثم قال : وأما من شكر بلسانه ، ولم يشكر بجميع أعضائه ، فمثله كمثل رجل له كساء ، فأخذ بطرفه ، فلم يلبسه ، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لينظر العبد في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك ، ليس من هذا شيء إلا وفيه نعمة من الله عز وجل ، حق على العبد أن يعمل بالنعم اللاتي هي في بدنه لله عز وجل [ ص: 85 ] في طاعته ، ونعمة أخرى في الرزق ، حق عليه أن يعمل لله عز وجل فيما أنعم عليه من الرزق في طاعته ، فمن عمل بهذا ، كان قد أخذ بحزم الشكر وأصله وفرعه . ورأى الحسن رجلا يتبختر في مشيته ، فقال : لله في كل عضو منه نعمة ، اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمك على معصيتك . الدرجة الثانية من الشكر : الشكر المستحب ، وهو أن يعمل العبد بعد أداء الفرائض واجتناب المحارم بنوافل الطاعات ، وهذه درجة السابقين المقربين ، وهي التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث التي سبق ذكرها ، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في الصلاة ، ويقوم حتى تنفطر قدماه ، فإذا قيل له : أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا شكورا . وقال بعض السلف : لما قال الله عز وجل : اعملوا آل داود شكرا [ سبأ : 13 ] ، لم يأت عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم مصل يصلي . وهذا مع أن بعض هذه الأعمال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم واجب : إما على الأعيان ، كالمشي إلى الصلاة عند من يرى وجوب الصلاة في الجماعات في المساجد ، وإما على الكفاية ، كالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإغاثة الملهوف ، والعدل بين الناس ، إما في الحكم بينهم ، أو في الإصلاح . وقد [ ص: 86 ] روي من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الصدقة إصلاح ذات البين . وهذه الأنواع التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، منها ما نفعه متعد كالإصلاح ، وإعانة الرجل على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها ، والكلمة الطيبة ، ويدخل فيها السلام ، وتشميت العاطس ، وإزالة الأذى عن الطريق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ودفن النخامة في المسجد ، وإعانة ذي الحاجة الملهوف ، وإسماع الأصم والبصر للمنقوص بصره ، وهداية الأعمى ، أو غيره الطريق . وجاء في بعض روايات حديث أبي ذر وبيانك عن الأرتم صدقة يعني : من لا يطيق الكلام ، إما لآفة في لسانه ، أو لعجمة في لغته ، فيبين عنه ما يحتاج إلى بيانه . ومنه ما هو قاصر النفع : كالتسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والمشي إلى الصلاة ، وصلاة ركعتي الضحى ، وإنما كانتا مجزئتين عن ذلك كله ، لأن في الصلاة استعمالا للأعضاء كلها في الطاعة والعبادة ، فتكون كافية في شكر نعمة سلامة هذه الأعضاء . وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرها استعمال لبعض أعضاء البدن خاصة ، فلا تكمل الصدقة بها حتى يأتي منها بعدد سلامى البدن ، وهي ثلاثمائة وستون كما في حديث عائشة رضي الله عنها . [ ص: 87 ] وفي " المسند " عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أتدرون أي الصدقة أفضل وخير ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : المنحة أن تمنح أخاك الدراهم ، أو ظهر الدابة ، أو لبن الشاة أو لبن البقرة . والمراد بمنحة الدراهم : قرضها ، وبمنحة ظهر الدابة إفقارها ، وهو إعارتها لمن يركبها ، وبمنحة لبن الشاة أو البقرة أن يمنحه بقرة أو شاة ليشرب لبنها ثم يعيدها إليه ، وإذا أطلقت المنيحة ، لم تنصرف إلا إلى هذا . وخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من منح منيحة لبن ، أو ورق ، أو أهدى زقاقا ، كان له مثل عتق رقبة وقال الترمذي : معنى قوله : من منح منيحة ورق إنما يعني به قرض الدراهم ، وقوله : وأهدى زقاقا إنما يعني به هداية الطريق ، وهو إرشاد السبيل . وخرجه البخاري من حديث حسان بن عطية ، عن أبي كبشة السلولي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربعون خصلة ، أعلاها منيحة العنز ، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها ، وتصديق موعودها ، إلا أدخله الله بها الجنة قال حسان : فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام ، وتشميت العاطس ، وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه ، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة . [ ص: 88 ] وفي " صحيح مسلم " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حق الإبل حلبها على الماء وإعارة دلوها ، وإعارة فحلها ، ومنيحتها ، وحمل عليها في سبيل الله . وخرج الإمام أحمد من حديث جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل معروف صدقة ، ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وأن تفرغ من دلوك في إنائه . وخرج الحاكم وغيره بزيادة ، وهي : وما أنفق المرء على نفسه وأهله ، كتب له به صدقة ، وما وقى به عرضه كتب له به صدقة ، وكل نفقة أنفقها مؤمن ، فعلى الله خلفها ضامن ، إلا نفقة في معصية أو بنيان . وفي " المسند " عن أبي جري الهجيمي ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعروف ، فقال : لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تعطي صلة الحبل ، ولو أن تعطي شسع النعل ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق ، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه ، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض . ومن أنواع الصدقة : كف الأذى عن الناس باليد واللسان ، كما في " الصحيحين " عن أبي ذر ، قلت : يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعا ، أو [ ص: 89 ] تصنع لأخرق قلت : أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة . وفي " صحيح ابن حبان " عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، دلني على عمل ، إذا عمل به العبد دخل به الجنة ، قال : يؤمن بالله قلت : يا رسول الله ، إن مع الإيمان عملا ؟ قال : يرضخ مما رزقه الله قلت : وإن كان معدما لا شيء له ؟ قال : يقول معروفا بلسانه ، قلت : فإن كان عييا لا يبلغ عنه لسانه ؟ قال : فيعين مغلوبا ، قلت : فإن كان ضعيفا لا قدرة له ؟ قال : فليصنع لأخرق ، قلت : فإن كان أخرق ؟ فالتفت إلي ، فقال : ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير ؟ فليدع الناس من أذاه ، قلت : يا رسول الله ، إن هذا كله ليسير ، قال : والذي نفسي بيده ، ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد بها ما عند الله ، إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى يدخل الجنة . فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلها إخلاص النية كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلة ، وهذا كما في قوله عز وجل : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [ النساء : 114 ] . وقد روي عن الحسن ، وابن سيرين أن فعل المعروف يؤجر عليه ، وإن لم يكن له فيه نية . سئل الحسن عن الرجل يسأله آخر حاجة وهو يبغضه ، فيعطيه حياء : هل له فيه أجر ؟ فقال : إن ذلك لمن المعروف ، وإن في المعروف لأجرا . خرجه حميد بن زنجويه . وسئل ابن سيرين عن الرجل يتبع الجنازة ، لا يتبعها حسبة ، يتبعها حياء من [ ص: 90 ] أهلها : أله في ذلك أجر ؟ فقال : أجر واحد ؟ بل له أجران : أجر لصلاته على أخيه ، وأجر لصلته الحي . خرجه أبو نعيم في " الحلية " . ومن أنواع الصدقة : أداء حقوق المسلم على المسلم ، وبعضها مذكور في الأحاديث الماضية ، ففي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس وفي رواية لمسلم : للمسلم على المسلم ست ، قيل : ما هن يا رسول الله ؟ قال : إذا لقيته تسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك ، فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه . وفي " الصحيحين " عن البراء قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع : بعيادة المريض ، واتباع الجنازة ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام . وفي رواية لمسلم : وإرشاد الضال ، بدل إبرار القسم . ومن أنواع الصدقة : المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم ، قال ابن عباس : من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه ، فله بكل خطوة صدقة . ومنها إنظار المعسر ، وفي " المسند " و " سنن ابن ماجه " عن بريدة مرفوعا : [ ص: 91 ] من أنظر معسرا ، فله بكل يوم صدقة ، قبل أن يحل الدين ، فإذا حل الدين ، فأنظره بعد ذلك ، فله بكل يوم مثله صدقة . ومنها الإحسان إلى البهائم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن سقيها : فقال : في كل كبد رطبة أجر ، وأخبر أن بغيا سقت كلبا يلهث من العطش ، فغفر لها . وأما الصدقة القاصرة على نفس العامل بها ، فمثل أنواع الذكر من التسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك تلاوة القرآن ، والمشي إلى المساجد ، والجلوس فيها لانتظار الصلاة ، أو لاستماع الذكر . ومن ذلك : التواضع في اللباس ، والمشي ، والهدي ، والتبذل في المهنة ، واكتساب الحلال ، والتحري فيه . ومنها أيضا : محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها ، والندم والتوبة من الذنوب السالفة ، والحزن عليها ، واحتقار النفس ، والازدراء عليها ، ومقتها في الله عز وجل ، والبكاء من خشية الله تعالى ، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أمور الآخرة ، وما فيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك مما يزيد الإيمان في القلب ، وينشأ عنه كثير من أعمال القلوب ؛ كالخشية ، والمحبة ، والرجاء ، والتوكل ، وغير ذلك . وقد قيل : إن هذا التفكر أفضل من نوافل الأعمال [ ص: 92 ] البدنية ، روي ذلك عن غير واحد من التابعين ، منهم سعيد بن المسيب ، والحسن وعمر بن عبد العزيز ، وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه . وقال كعب : لأن أبكي من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا .

[ ص: 93 ] الحديث السابع والعشرون .:

عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، فقال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس رواه مسلم .

وعن وابصة بن معبد قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جئت تسأل عن البر والإثم ؟ قلت : نعم ، قال : استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك .

الحاشية رقم: 1 قال الشيخ رحمه الله : حديث حسن رويناه في " مسندي " الإمامين أحمد والدارمي بإسناد حسن .

أما حديث النواس بن سمعان ، فخرجه مسلم من رواية معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس ، ومعاوية وعبد الرحمن ، وأبوه تفرد بتخريج حديثهم مسلم دون البخاري .

وأما حديث وابصة فخرجه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة ، عن الزبير بن عبد السلام ، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز ، عن وابصة بن معبد ، [ ص: 94 ] قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألت عنه ، فقال لي : ادن يا وابصة ، فدنوت منه ، حتى مست ركبتي ركبته ، فقال : يا وابصة أخبرك ما جئت تسأل عنه أو تسألني ؟ قلت : يا رسول الله أخبرني ، قال : جئت تسألني عن البر والإثم قلت : نعم ، فجمع أصابعه الثلاث ، فجعل ينكت بها في صدري ، ويقول : يا وابصة ، استفت نفسك ، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس ، والإثم : ما حاك في القلب ، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك . وفي رواية أخرى للإمام أحمد أن الزبير لم يسمعه من أيوب ، وقال : وحدثني جلساؤه ، وقد رأيته ، ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعفه : أحدهما : انقطاعه بين الزبير وأيوب ، فإنه رواه عن قوم لم يسمعهم .

والثاني : ضعف الزبير هذا ، قال الدارقطني : روى أحاديث مناكير ، وضعفه ابن حبان أيضا ، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام ، فأخطأ في اسمه ، وله طريق آخر عن وابصة خرجه الإمام أحمد أيضا من رواية معاوية بن صالح عن أبي عبد الله السلمي ، قال : سمعت وابصة ، فذكر الحديث مختصرا ، ولفظه : قال : البر ما انشرح له صدرك ، والإثم ما حاك في صدرك ، وإن أفتاك عنه الناس .

والسلمي هذا ، قال علي بن المديني : هو مجهول .

وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي ، وقال البزار : لا نعلم أحدا سماه ، كذا قال ، وقد سمي في بعض الروايات محمدا . قال عبد الغني بن سعيد الحافظ : لو قال قائل : إنه محمد بن سعيد المصلوب ، لما دفعت ذلك ، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة ، وهو مشهور بالكذب والوضع ، ولكنه لم يدرك وابصة ، والله أعلم .

[ ص: 95 ] وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة ، فخرجه الإمام أحمد ، وابن حبان في " صحيحه " من طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن أبي أمامة ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، ما الإثم ؟ قال : إذا حاك في صدرك شيء فدعه وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ، فإنه خرج حديث يحيى بن كثير عن زيد بن سلام ، وأثبت أحمد سماعه منه ، وإن أنكره ابن معين .

وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر : سمعت مسلم بن مشكم قال : سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول : قلت : يا رسول الله ، أخبرني ما يحل لي وما يحرم علي ، فقال : البر ما سكنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ، ولا يطمئن إليه القلب ، وإن أفتاك المفتون ، وهذا أيضا إسناد جيد ، وعبد الله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور ، وخرجه البخاري ، ومسلم بن مشكم ثقة مشهور أيضا .

وخرج الطبراني وغيره بإسناد ضعيف من حديث واثلة بن الأسقع قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أفتني عن أمر لا أسألك عنه أحدا بعدك ، قال : استفت نفسك قلت : كيف لي بذاك ؟ قال : تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وإن أفتاك المفتون ، قلت : وكيف بذاك ؟ قال : تضع يدك على قلبك ، فإن الفؤاد يسكن للحلال ولا يسكن للحرام . ويروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضا .

[ ص: 96 ] وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن سويد بن قيس أخبره عن عبد الرحمن بن معاوية : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما يحل لي مما يحرم علي ؟ وردد عليه ثلاث مرار ، كل ذلك يسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله ، فقال بأصابعه : ما أنكر قلبك فدعه . خرجه أبو القاسم البغوي في " معجمه " وقال : لا أدري عبد الرحمن بن معاوية سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ ولا أعلم له غير هذا الحديث . قلت : هو عبد الرحمن بن معاوية بن حديج جاء منسوبا في كتاب " الزهد " لابن المبارك ، وعبد الرحمن هذا تابعي مشهور ، فحديثه مرسل .

وقد صح عن ابن مسعود أنه قال : " الإثم حواز القلوب " . واحتج به الإمام أحمد ، ورواه عن جرير ، عن منصور ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال عبد الله : إياكم وحزاز القلوب ، وما حز في قلبك من شيء فدعه .

وقال أبو الدرداء : الخير في طمأنينة والشر في ريبة .

وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له : أرأيت شيئا يحيك في صدورنا ، لا ندري أحلال هو أم حرام ؟ فقال : وإياكم والحكاكات ، فإنهن الإثم ، والحز والحك متقاربان في المعنى ، والمراد : ما أثر في القلب ضيقا [ ص: 97 ] وحرجا ، ونفورا وكراهة .

فهذه الأحاديث مشتملة على تفسير البر والإثم ، وبعضها في تفسير الحلال والحرام ، فحديث النواس بن سمعان فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه البر بحسن الخلق ، وفسره في حديث وابصة وغيره بما اطمأن إليه القلب والنفس ، كما فسر الحلال بذلك في حديث أبي ثعلبة . وإنما اختلف تفسيره للبر ، لأن البر يطلق باعتبارين معينين : أحدهما : باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، وربما خص بالإحسان إلى الوالدين ، فيقال : بر الوالدين ، ويطلق كثيرا على الإحسان إلى الخلق عموما ، وقد صنف ابن المبارك كتابا سماه " كتاب البر والصلة " ، وكذلك في " صحيح البخاري " و " جامع الترمذي " : " كتاب البر والصلة " ، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموما ، ويقدم فيه بر الوالدين على غيرهما . وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : ثم أباك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم الأقرب فالأقرب .

ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . وفي " المسند " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن بر الحج ، فقال : إطعام الطعام ، [ ص: 98 ] وإفشاء السلام وفي رواية أخرى : وطيب الكلام .

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : البر شيء هين : وجه طليق وكلام لين .

وإذا قرن البر بالتقوى ، كما في قوله عز وجل : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] ، فقد يكون المراد بالبر معاملة الخلق بالإحسان ، وبالتقوى : معاملة الحق بفعل طاعته ، واجتناب محرماته ، وقد يكون أريد بالبر فعل الواجبات ، وبالتقوى : اجتناب المحرمات ، وقوله تعالى : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [ المائدة : 2 ] قد يراد بالإثم : المعاصي ، وبالعدوان : ظلم الخلق ، وقد يراد بالإثم : ما هو محرم في نفسه كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وبالعدوان : تجاوز ما أذن فيه إلى ما نهي عنه مما جنسه مأذون فيه ، كقتل ما أبيح قتله لقصاص ومن لا يباح ، وأخذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها ، ومجاوزة الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك .

والمعنى الثاني من معنى البر : أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة ، كقوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان ، فتلا هذه الآية .

[ ص: 99 ] فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبه الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والصبر على الأقدار ، كالمرض والفقر ، وعلى الطاعات ، كالصبر عند لقاء العدو .

وقد يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس شاملا لهذه الخصال كلها ، لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة ، والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه ، كما قال تعالى لرسوله وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] ، وقالت عائشة : كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن ، يعني أنه يتأدب بآدابه ، فيفعل أوامره ، ويتجنب نواهيه ، فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا يفارقه ، وهذا أحسن الأخلاق وأشرفها وأجملها .

وقد قيل : إن الدين كله خلق . وأما في حديث وابصة ، فقال : البر ما اطمأن إليه القلب ، واطمأنت إليه النفس وفي رواية : ما انشرح إليه الصدر ، وفسر الحلال بنحو ذلك في حديث أبي ثعلبة وغيره ، وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق ، والسكون إليه وقبوله ، وركز في الطباع محبة ذلك ، والنفور عن ضده .

وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حمار : إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا .

[ ص: 100 ] وقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله .

ولهذا سمى الله ما أمر به معروفا ، وما نهى عنه منكرا ، فقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] ، وقال في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ الأعراف : 157 ] وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئن بذكره ، فالقلب الذي دخله نور الإيمان ، وانشرح به وانفسح ، يسكن للحق ، ويطمئن به ويقبله ، وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله .

وقال معاذ بن جبل : أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، فقيل لمعاذ : ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال : ما هذه ؟ ولا يثنيك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورا ، خرجه أبو داود . وفي رواية له قال : بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول : ما أراد بهذه الكلمة ؟ فهذا يدل على أن الحق والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير ، بل يعرف الحق بالنور عليه ، فيقبله قلبه ، وينفر عن الباطل ، فينكره ولا يعرفه ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : سيكون في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لم [ ص: 101 ] تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم يعني : أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين ، ولا تعرفه ، وفي قوله : أنتم ولا آباؤكم إشارة إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين مع تقادم العهد وتطاول الزمان ، فهو الحق ، وأن ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر فلا خير فيه .

فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، فما إليه سكن القلب ، وانشرح إليه الصدر ، فهو البر والحلال ، وما كان خلاف ذلك ، فهو الإثم والحرام .

وقوله في حديث النواس : الإثم ما حاك في الصدر ، وكرهت أن يطلع عليه الناس إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجا ، وضيقا ، وقلقا ، واضطرابا ، فلم ينشرح له الصدر ، ومع هذا ، فهو عند الناس مستنكر ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه ، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه ، وهو ما استنكره الناس على فاعله وغير فاعله .

ومن هذا المعنى قول ابن مسعود : ما رآه المؤمنون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المومنون قبيحا ، فهو عند الله قبيح .

[ ص: 102 ] وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة : وإن أفتاك المفتون يعني : أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم ، وإن أفتاه غيره بأنه ليس ، بإثم فهذه مرتبة ثانية ، وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره ، وقد جعله أيضا إثما ، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان ، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي ، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي ، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه ، وإن لم ينشرح له صدره ، وهذا كالرخصة الشرعية ، مثل : الفطر في السفر ، والمرض ، وقصر الصلاة في السفر ، ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال ، فهذا لا عبرة به .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم ، فيمتنعون من فعله ، فيغضب من ذلك ، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، فكرهه من كرهه منهم ، وكما أمرهم بنحر هديهم ، والتحلل من عمرة الحديبية ، فكرهوه ، وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه ، وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم .

وفي الجملة ، فما ورد النص به ، فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله ، كما قال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب : 36 ] .

[ ص: 103 ] وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا ، فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به ، والتسليم له ، كما قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] .

وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة ، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان ، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء ، وحك في صدره لشبهة موجودة ، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه ، بل هو معروف باتباع الهوى ، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حك في صدره ، وإن أفتاه هؤلاء المفتون .

وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا ، أيضا قال المروزي في " كتاب الورع " قلت : لأبي عبد الله إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق ، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء ، فقال : أمرها أمر قذر متلوث ، قلت : فتكره العمل فيها ؟ قال : دع ذا عنك إن كان لا يقع في قلبك شيء ، قلت : قد وقع في قلبي منها ، فقال : قال : ابن مسعود : الإثم حواز القلوب . قلت : إنما هذا على المشاورة ؟ قال : أي شيء يقع في قلبك ؟ قلت : قد اضطرب علي قلبي ، قال : الإثم هو حواز القلوب .

وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين ، وفي شرح حديث الحسن بن علي : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وشرح حديث : إذا لم تستح فاصنع ما شئت شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا .

وقد ذكر طوائف من فقهاء الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه [ ص: 104 ] مسألة الإلهام : هل هو حجة أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافا بينهم ، وذكر طائفة من أصحابنا أن الكشف ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نص أحمد هاهنا بالرجوع إلى حواز القلوب ، وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي ، بل إلى مجرد رأي وذوق ، كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي .

فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب ، فقد دلت عليه النصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك ؟ لا سيما وقد نص على الرجوع إليه موافقة لهم . وقد سبق حديث : إن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ، فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه ، ومعرفته ، وبنفوره عن الكذب وإنكاره ، كما قال الربيع بن خثيم : إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه ، وظلمة كظلمة الليل تنكره .

وخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد ، وأبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم ، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد ، فأنا أبعدكم منه . وإسناده قد قيل : إنه على [ ص: 105 ] شرط مسلم ، لأنه خرج بهذا الإسناد بعينه حديثا ، لكن هذا الحديث معلول ، فإنه رواه بكير بن الأشج ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن عباس بن سهل ، عن أبي بن كعب من قوله ، قال البخاري : وهو أصح .

وروى يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ، ولا تنكرونه ، فصدقوا به ، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر ، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه ، فلا تصدقوا به ، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ، وهذا الحديث معلول أيضا ، وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب ، ورواه الحفاظ عنه عن سعيد مرسلا ، والمرسل أصح عند أئمة الحفاظ ، منهم ابن معين والبخاري ، وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة ، وقال : ما رأيت أحدا من علماء الحديث يثبت وصله .

وإنما تحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحتها - على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد ، الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكلام غيره ، ولحال رواة الأحاديث ، ونقلة الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم ، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته ، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها ، وخالصها ومشوبها ، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته ، ولا يقيم عليه دليلا لغيره ، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم ، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة .

وقد امتحن هذا منهم غير مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم ، فوجد الأمر على ذلك ، فقال السائل : أشهد أن هذا العلم إلهام . قال الأعمش : كان إبراهيم النخعي صيرفيا في الحديث ، كنت أسمع من الرجال فأعرض عليه ما سمعته . وقال عمرو بن قيس : ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينقد الدراهم ، فإن الدراهم فيها الزائف والبهرج وكذا الحديث .

وقال الأوزاعي : كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة ، فما عرفوا أخذنا ، وما أنكروا تركنا .

وقيل لعبد الرحمن بن مهدي : إنك تقول للشيء : هذا صحيح وهذا لم يثبت ، فعمن تقول ذلك ؟ فقال : أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك ، فقال : هذا جيد ، وهذا بهرج أكنت تسأله عمن ذلك ، أو تسلم الأمر إليه ؟ قال : لا ، بل كنت أسلم الأمر إليه ، قال : فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبر به .

وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضا ، وأنه قيل له : يا أبا عبد الله تقول : هذا الحديث منكر ، فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله ؟ قال : [ ص: 107 ] مثلنا كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها ، فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد ، أو أنه رديء .

وقال ابن مهدي : معرفة الحديث إلهام . وقال : إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة .

وقال أبو حاتم الرازي : مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار ، وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده ، فكذلك نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب ، وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه ، قال : وتعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره ، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش ، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره ، فإن خالفه في المائية والصلابة ، علم أنه زجاج ، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح مثله أن يكون كلام النبوة ، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم .

وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدا ، وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين ، ثم خلفه أيوب السختياني ، وأخذ ذلك عنه شعبة ، وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي ، وأخذ عنهما أحمد ، وعلي بن المديني ، وابن معين ، وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم .

وكان أبو زرعة في زمانه يقول : قل من يفهم هذا ، وما أعزه إذا دفعت هذا عن واحد واثنين ، فما أقل من تجد من يحسن هذا ! ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : ذهب الذي كان يحسن هذا - يعني أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا [ ص: 108 ] بالعراق واحد يحسن هذا . وقيل له بعد موت أبي زرعة : تعرف اليوم واحدا يعرف هذا ؟ قال : لا .

وجاء بعد هؤلاء جماعة ، منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني ، وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه " الموضوعات " : قد قل من يفهم هذا بل عدم . والله أعلم .

[ ص: 109 ] الحديث الثامن والعشرون .

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع ، فأوصنا ، قال : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة رواه أبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، زاد أحمد في رواية له ، وأبو داود : وحجر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العرباض بن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين ، قال : ولم يتركه البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما له ، وزعم الحاكم أن سبب تركهما له أنهما توهما أنه ليس له [ ص: 110 ] راو عن خالد بن معدان غير ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضا بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما .

قلت : ليس الأمر كما ظنه ، وليس الحديث على شرطهما ، فإنهما لم يخرجا لعبد الرحمن بن عمرو السلمي ، ولا لحجر الكلاعي شيئا ، وليسا ممن اشتهر بالعلم والرواية .

وأيضا فقد اختلف فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدم ، وروي عنه عن أبي بلال عن العرباض ، وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه أيضا وروي أيضا عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، عن العرباض ، خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه ، وزاد في حديثه : فقد تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وزاد في آخر الحديث : فإنما المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد انقاد .

وقد أنكر طائفة من الحفاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجة فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرجه الحاكم ، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : فإن المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد انقاد .

وخرجه ابن ماجه أيضا من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى بن أبي المطاع ، سمعت العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متصل ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرح فيه بالسماع ، وقد ذكر البخاري في " تاريخه " أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادا على هذه الرواية ، إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلط ، وممن ذكر ذلك أبو زرعة [ ص: 111 ] الدمشقي ، وحكاه عن دحيم ، وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم ، والبخاري رحمه الله يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد روي عن العرباض من وجوه أخر ، وروي من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن إسناد حديث بريدة لا يثبت ، والله أعلم .

فقول العرباض : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : " بليغة " ، وفي روايتهم أن ذلك بعد صلاة الصبح ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا [ النساء : 63 ] ، وقال : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] ، ولكنه كان لا يديم وعظهم ، بل يتخولهم به أحيانا ، كما في " الصحيحين " عن أبي وائل ، قال : كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نحب حديثك ونشتهيه ، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم ، فقال : ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملكم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا .

والبلاغة في الموعظة مستحسنة ، لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها ، والبلاغة : هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر خطبتها ، ولا يطيلها ، بل كان يبلغ ويوجز .

وفي " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة قال : كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 112 ] فكانت صلاته قصدا ، وخطبته قصدا .

وخرجه أبو داود ولفظه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة ، إنما هو كلمات يسيرات .

وخرجه مسلم من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمار فأوجز وأبلغ ، فلما نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفست ، قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن طول صلاة الرجل ، وقصر خطبته ، مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإن من البيان سحرا .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث الحاكم بن حزن ، قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فقام متوكئا على عصا أو قوس ، فحمد الله ، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات .

وخرج أبو داود عن عمرو بن العاص أن رجلا قام يوما ، فأكثر القول ، فقال عمرو : لو قصد في قوله ، لكان خيرا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لقد رأيت - أو أمرت - أن أتجوز في القول ، فإن الجواز هو خير .

[ص: 134 ] الحديث التاسع والعشرون :.

عن معاذ رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت . ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ : يعلمون [ السجدة : 16 - 17 ] ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ، قال : كف عليك هذا قلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 [ ص: 135 ] هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من رواية معمر عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن جبل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين : أحدهما : أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ ، وإن كان قد أدركه بالسن وكان معاذ بالشام ، وأبو وائل بالكوفة ، وما زال الأئمة - كأحمد وغيره - يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا ، وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء : قد أدركه ، وكان بالكوفة وأبو الدرداء بالشام ، يعني : أنه لم يصح له سماع منه . وقد حكى أبو زرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر ، أو نفوه ، فسماعه من معاذ أبعد .

والثاني : أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ ، خرجه الإمام أحمد مختصرا ، قال الدارقطني : وهو أشبه بالصواب ؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه .

قلت : رواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا ، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه ، وقد خرجه الإمام أحمد من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ، وخرجه الإمام أحمد أيضا من رواية عروة بن النزال أو النزال بن عروة ، وميمون بن أبي شبيب ، كلاهما عن معاذ ، ولم يسمع عروة ولا ميمون من معاذ ، وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة .

وقوله : " أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني عن النار " وقد تقدم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب [ ص: 136 ] وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذه المسألة ، وأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ .

وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنه قال : يا رسول الله ، إني أريد أن أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني ، قال : سل عما شئت ، قال : أخبرني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك غيره ، وهذا يدل على شدة اهتمام معاذ رضي الله عنه بالأعمال الصالحة ، وفيه دليل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة ، كما قال تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [ الزخرف : 72 ] .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله فالمراد - والله أعلم - أن العمل بنفسه لا يستحق به أحد الجنة لولا أن الله جعله - بفضله ورحمته - سببا لذلك والعمل بنفسه من رحمة الله وفضله على عبده ، فالجنة وأسبابها كل من فضل الله ورحمته .

وقوله : لقد سألت عن عظيم قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن مثل هذا : لئن كنت أوجزت المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، وذلك لأن دخول الجنة والنجاة من النار أمر عظيم جدا ، ولأجله أنزل الله الكتب ، وأرسل الرسل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : كيف تقول إذا صليت ؟ قال : أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حولها ندندن وفي رواية : هل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ، [ ص: 137 ] ونعوذ به من النار .

وقوله : وإنه ليسير على من يسره الله عليه : إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل ، فمن يسر الله عليه الهدى اهتدى ، ومن لم ييسره عليه ، لم ييسر له ذلك ؛ قال الله تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى [ الليل : 5 - 10 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : واهدني ويسر الهدى لي ، وأخبر الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال في دعائه : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري [ طه : 25 - 26 ] ، وكان ابن عمر يدعو : اللهم يسرني لليسرى ، وجنبني العسرى .

وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيه ترتيب دخول الجنة على [ ص: 138 ] الإتيان بأركان الإسلام الخمسة ، وهي : التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج .

[ص: 150 ] الحديث الثلاثون :

عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء ، فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها . حديث حسن ، رواه الدارقطني وغيره .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني ، وله علتان : إحداهما : أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة ، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما .

والثانية : أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة ، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله ، لكن قال الدارقطني : الأشبه بالصواب المرفوع ، قال : وهو أشهر .

وقد حسن الشيخ رحمه الله هذا الحديث ، وكذلك حسن قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في " أماليه " .

وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا من وجوه أخر ، خرجه البزار في [ ص: 151 ] " مسنده " والحاكم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا هذه الآية : وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال البزار : إسناده صالح .

وقد خرجه الطبراني والدارقطني من وجه آخر عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي ثعلبة ، وقال في آخره : رحمة من الله فاقبلوها ولكن إسناده ضعيف .

وخرجه الترمذي ، وابن ماجه من رواية سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ، فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه .

وقال الترمذي : رواه سفيان - يعني ابن عيينة - عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن سلمان من قوله ، قال : وكأنه أصح . وذكر في كتاب " العلل " عن البخاري أنه قال في الحديث المرفوع : ما أراه محفوظا ، وقال أحمد : هو منكر ، [ ص: 152 ] وأنكره ابن معين أيضا ، وقال أبو حاتم الرازي : هو خطأ ، رواه الثقات عن التيمي عن أبي عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ليس فيه سلمان .

قلت : وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر .

وخرجه ابن عدي من حديث ابن عمر مرفوعا وضعف إسناده .

ورواه أبو صالح المري ، عن الجريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عائشة مرفوعا وأخطأ في إسناده .

وروي عن الحسن مرسلا .

وخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ، ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل ، فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ الأنعام : 145 ] الآية ، وهذا موقوف .

وقال عبيد بن عمير : إن الله عز وجل أحل حلالا وحرم حراما ، وما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عفو .

فحديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام الله أربعة أقسام : فرائض ، ومحارم ، وحدود ، ومسكوت عنه ، وذلك يجمع أحكام الدين كلها .

[ ص: 153 ] قال أبو بكر السمعاني : هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين ، قال : وحكي عن بعضهم أنه قال : ليس في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد أجمع بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة ، قال : وحكي عن أبي واثلة المزني أنه قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين في أربع كلمات ، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة .

قال ابن السمعاني : فمن عمل بهذا الحديث ، فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأن من أدى الفرائض ، واجتنب المحارم ، ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسام الفضل ، وأوفى حقوق الدين ، لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث انتهى .

فأما الفرائض فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج .

وقد اختلف العلماء : هل الواجب والفرض بمعنى واحد أم لا ؟ فمنهم من قال : هما سواء ، وكل واجب بدليل شرعي بكتاب أو سنة أو إجماع أو غير ذلك من أدلة الشرع فهو فرض ، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي وغيرهم ، وحكي رواية عن أحمد ؛ لأنه قال : كل ما في الصلاة فهو فرض .

ومنهم من قال : بل الفرض ما ثبت بدليل مقطوع به ، والواجب ما ثبت بغير مقطوع به ، وهو قول الحنفية وغيرهم .

وأكثر النصوص عن أحمد تفرق بين الفرض والواجب ، فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال : لا يسمى فرضا إلا ما كان في كتاب الله تعالى ، وقال في صدقة الفطر : ما أجترئ أن أقول : إنها فرض ، مع أنه يقول بوجوبها ، فمن أصحابنا من قال : مراده أن الفرض ما يثبت بالكتاب ، والواجب ما ثبت بالسنة ، ومنهم من قال : أراد أن الفرض ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر ، والواجب ما ثبت من جهة الاجتهاد ، وساغ الخلاف في وجوبه .

[ ص: 154 ] ويشكل على هذا أن أحمد قال في رواية الميموني في بر الوالدين : ليس بفرض ، ولكن أقول : واجب ما لم يكن معصية ، وبر الوالدين مجمع على وجوبه ، وقد كثرت الأوامر به في الكتاب والسنة ، فظاهر هذا أنه لا يقول : فرض ، إلا ما ورد في الكتاب والسنة فرضا

[ص: 174 ] الحديث الحادي والثلاثون :.

عن سهل بن سعد الساعدي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله ، وأحبني الناس ، فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن إسناده حسن ، وفي ذلك نظر ، فإن خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمام أحمد : منكر الحديث ، وقال مرة : ليس بثقة ، يروي أحاديث بواطيل ، وقال ابن معين : ليس حديثه بشيء ، وقال مرة : كان كذابا يكذب ، حدث عن شعبة [ ص: 175 ] أحاديث موضوعة ، وقال البخاري وأبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : متروك الحديث ضعيف ، ونسبه صالح بن محمد ، وابن عدي إلى وضع الحديث ، وتناقض ابن حبان في أمره ، فذكره في كتاب " الثقات " وذكره في كتاب " الضعفاء " وقال : كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات ، لا يحل الاحتجاج بخبره ، وخرج العقيلي حديثه هذا وقال : ليس له أصل من حديث سفيان الثوري ، قال : وقد تابع خالدا عليه محمد بن كثير الصنعاني ، ولعله أخذه عنه ودلسه ، لأن المشهور به خالد هذا .

قال أبو بكر الخطيب : وتابعه أيضا أبو قتادة الحراني ومهران بن أبي عمر الرازي ، فرووه عن الثوري قال : وأشهرها حديث ابن كثير . كذا قال ، وهذا يخالف قول العقيلي : إن أشهرها حديث خالد بن عمرو ، وهذا أصح ، ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي ، ضعفه أحمد . وأبو قتادة ومهران تكلم فيهما أيضا ، لكن محمد بن كثير خير منهما ، فإنه ثقة عند كثير من الحفاظ .

وقد تعجب ابن عدي من حديثه هذا ، وقال ما أدري ما أقول فيه .

وذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث محمد بن كثير عن سفيان الثوري ، فذكر هذا الحديث ، فقال : هذا حديث باطل ، يعني بهذا الإسناد ، يشير إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير عن سفيان .

وقال ابن مشيش : سألت أحمد عن حديث سهل بن سعد ، فذكر هذا الحديث ، فقال أحمد : لا إله إلا الله - تعجبا منه - من يروي هذا ؟ قلت : [ ص: 176 ] خالد بن عمرو ، فقال : وقعنا في خالد بن عمرو ، ثم سكت ، ومراده الإنكار على من ذكر له شيئا من حديث خالد هذا ، فإنه لا يشتغل به .

وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " المواعظ " له عن خالد بن عمرو ، ثم قال : كنت منكرا لهذا الحديث ، فحدثني هذا الشيخ يعني عن وكيع : أنه سأله عنه ، ولولا مقالته هذه لتركته . وخرج ابن عدي هذا الحديث في ترجمة خالد بن عمرو ، وذكر رواية محمد بن كثير له أيضا ، وقال : هذا الحديث عن الثوري منكر ، وقال : ورواه زافر - يعني ابن سلمان - عن محمد بن عيينة أخي سفيان ، عن أبي حازم ، عن ابن عمر . انتهى ، وزافر ومحمد بن عيينة ، كلاهما ضعيف .

وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرسل : أخرجه أبو سليمان بن زبر الدمشقي في " مسند " إبراهيم بن أدهم من جمعه من رواية معاوية بن حفص ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن منصور ، عن ربعي بن حراش ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل يحبني الله عليه ، ويحبني الناس عليه ، فقال : أما العمل الذي يحبك الله عليه ، فازهد في الدنيا ، وأما العمل الذي يحبك الناس عليه ، فانظر هذا الحطام ، فانبذه إليهم .

[ ص: 177 ] وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذم الدنيا " من رواية علي بن بكار عن إبراهيم بن أدهم ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، ولم يذكر في إسناده منصورا ولا ربعيا ، وقال في حديثه : فانبذ إليهم ما في يديك من الحطام .

وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين : إحداهما : الزهد في الدنيا ، وأنه مقتض لمحبة الله عز وجل لعبده . والثانية : الزهد فيما في أيدي الناس ، فإنه مقتض لمحبة الناس .

فأما الزهد في الدنيا ، فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه ، وإلى ذم الرغبة في الدنيا ، قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 17 ] ، وقال تعالى : تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة [ الأنفال : 67 ] وقال تعالى في قصة قارون : فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون إلى قوله : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 79 - 83 ] ، وقال تعالى : وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع [ الرعد : 26 ] وقال قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا [ النساء : 77 ] .

وقال حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : [ ص: 178 ] ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 38 - 39 ] .

وقد ذم الله من كان يريد الدنيا بعمله وسعيه ونيته ، وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث " الأعمال بالنيات " .

والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله كثيرة جدا ، ففي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفيه ، فمر بجدي أسك ميت ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، فقال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه ، لأنه أسك ، فكيف وهو ميت ؟ فقال : والله ، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم .

وفيه أيضا عن المستورد الفهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بماذا ترجع .

وخرج الترمذي من حديث سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة ماء صححه .

[ ص: 179 ] ومعنى الزهد في الشيء : الإعراض عنه لاستقلاله ، واحتقاره ، وارتفاع الهمة عنه ، يقال : شيء زهيد ، أي : قليل حقير .

وقد تكلم السلف ومن بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا ، وتنوعت عباراتهم عنه ، وورد في ذلك حديث مرفوع خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمرو بن واقد منكر الحديث .

قلت : الصحيح وقفه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب " الزهد " ، حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا خالد بن صبيح ، حدثنا يونس بن حلبس قال : قال أبو مسلم الخولاني : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك ، وإذا أصبت بمصيبة ، كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك .

وخرجه ابن أبي الدنيا من راوية محمد بن مهاجر ، عن يونس بن ميسرة ، قال : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون حالك في [ ص: 180 ] المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء ، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء .

ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب ، لا من أعمال الجوارح ، ولهذا كان أبو سليمان يقول : لا تشهد لأحد بالزهد ، فإن الزهد في القلب .

أحدها : أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه ، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته ، فإن الله ضمن أرزاق عباده ، وتكفل بها ، كما قال : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] ، وقال : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ، وقال : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه [ العنكبوت : 17 ] .

وقال الحسن : إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل .

وروي عن ابن مسعود قال : إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا ليس في البيت دقيق . وقال مسروق : إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم : ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم . وقال الإمام أحمد : أسر أيامي إلي يوم أصبح وليس عندي شيء .

وقيل لأبي حازم الزاهد : ما مالك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر : الثقة بالله ، واليأس مما في أيدي الناس .

وقيل له : أما تخاف الفقر ؟ فقال : أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؟ !

[ ص: 181 ] ودفع إلى علي بن الموفق ورقة ، فقرأها فإذا فيها : يا علي بن الموفق أتخاف الفقر وأنا ربك ؟ .

وقال الفضيل بن عياض : أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل . وقال : القنوع هو الزاهد وهو الغني .

فمن حقق اليقين ، وثق بالله في أموره كلها ، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ، ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة ، وكان من أغنى الناس ، وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار : كفى بالموت واعظا ، وكفى باليقين غنى ، وكفى بالعبادة شغلا .

وقال ابن مسعود : اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ، ولا تحمد أحدا على رزق الله ، ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله ، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ، فإن الله تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمه - جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .

وفي حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا [ صادقا ] حتى أعلم أنه لا يمنعني رزقا قسمته لي ، ورضني من المعيشة بما قسمت لي .

وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول : اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا ، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت [ ص: 182 ] علينا ، ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا .

روينا من حديث ابن عباس مرفوعا ، قال : من سره أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده .

والثاني : أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال ، أو ولد أو غير ذلك - أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له ، وهذا أيضا ينشأ من كمال اليقين .

وقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها ، كما قال علي رضي الله عنه : من زهد الدنيا ، هانت عليه المصيبات .

والثالث : أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق ، وهذا من علامات الزهد في الدنيا ، واحتقارها ، وقلة الرغبة فيها ، فإن من عظمت الدنيا عنده أحب [ ص: 183 ] المدح وكره الذم ، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم ، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح ، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق ، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه ، وامتلائه من محبة الحق ، وما فيه رضا مولاه ، كما قال ابن مسعود : اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله . وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم .

وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا ، وكلها ترجع إلى ما تقدم ، كقول الحسن : الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال : هو أفضل مني ، وهذا يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها ، ولهذا يقال : الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة ، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس ، فهو الزاهد حقا ، وهذا هو الذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق ، وكقول وهيب بن الورد : الزهد في الدنيا أن لا تأسى على ما فات منها ، ولا تفرح بما آتاك منها ، قال ابن السماك : هذا هو الزاهد المبرز في زهده .

وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصها ، وهو مثل استواء حال المصيبة وعدمها كما سبق .

وسئل بعضهم - أظنه الإمام أحمد - عمن معه مال ، هل يكون زاهدا ؟ قال : إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه ، أو كما قال .

وسئل الزهري عن الزاهد فقال : من لم يغلب الحرام صبره ، ولم يشغل الحلال شكره ، وهذا قريب مما قبله ، فإن معناه أن الزاهد في الدنيا إذا قدر [ ص: 184 ] منها على حرام ، صبر عنه ، فلم يأخذه ، وإذا حصل له منها حلال ، لم يشغله عن الشكر ، بل قام بشكر الله عليه .

وقال أحمد بن أبي الحوارى : قلت لسفيان بن عيينة : من الزاهد في الدنيا ؟ قال : من إذا أنعم عليه شكر ، وإذا ابتلي صبر ، فقلت : يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر ، وإذا ابتلي فصبر ، وحبس النعمة ، كيف يكون زاهدا ؟ فقال : اسكت ، من لم تمنعه النعماء من الشكر ، ولا البلوى من الصبر ، فذلك الزاهد .

وقال ربيعة : رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها ، ووضعها في حقها .

وقال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ، ولا بلبس العباء . وقال : كان من دعائهم : اللهم زهدنا في الدنيا ، ووسع علينا منها ، ولا تزوها عنا ، فترغبنا فيها . وكذا قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا : قصر الأمل ، وقال مرة : قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس .

ووجه هذا أن قصر الأمل يوجب محبة لقاء الله ، بالخروج من الدنيا ، وطول الأمل يقتضي محبة البقاء فيها ، فمن قصر أمله ، فقد كره البقاء في الدنيا ، وهذا نهاية الزهد فيها ، والإعراض عنها ، واستدل ابن عيينة لهذا القول بقوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين إلى قوله : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة [ البقرة : 94 - 96 ] الآية .

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الضحاك بن مزاحم قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله ، من أزهد الناس ؟ فقال : من لم ينس القبر والبلى ، وترك زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعد غدا من أيامه وعد [ ص: 185 ] نفسه من الموتى وهذا مرسل .

وقد قسم كثير من السلف الزهد أقساما : فمنهم من قال : أفضل الزهد الزهد في الشرك ، وفي عبادة ما عبد من دون الله ، ثم الزهد في الحرام كله من المعاصي ، ثم الزهد في الحلال ، وهو أقل أقسام الزهد ، فالقسمان الأولان من هذا الزهد ، كلاهما واجب ، والثالث : ليس بواجب ، فإن أعظم الواجبات الزهد في الشرك ، ثم في المعاصي كلها . وكان بكر المزني يدعو لإخوانه : زهدنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات ، فعلم أن الله يراه فتركه .

وقال ابن المبارك : قال سلام بن أبي مطيع : الزهد على ثلاثة وجوه : واحد أن يخلص العمل لله عز وجل والقول ، ولا يراد بشيء منه الدنيا ، والثاني : ترك ما لا يصلح ، والعمل بما يصلح ، والثالث : الحلال أن يزهد فيه وهو تطوع ، وهو أدناها .

وهذا قريب مما قبله ، إلا أنه جعل الدرجة الأولى من الزهد الزهد في الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل ، وهو الشرك الأصغر ، والحامل عليه محبة المدح في الدنيا ، والتقدم عند أهلها ، وهو من نوع محبة العلو فيها والرياسة .

وقال إبراهيم بن أدهم : الزهد ثلاثة أصناف : فزهد فرض ، وزهد فضل ، وزهد سلامة ، فالزهد الفرض : الزهد في الحرام ، والزهد الفضل : الزهد في الحلال ، والزهد السلامة : الزهد في الشبهات .

[ص: 207 ] الحديث الثاني والثلاثون . :

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار حديث حسن ، رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا ، ورواه مالك في " الموطإ " عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، فأسقط أبا سعيد ، وله طرق يقوى بعضها ببعض .

الحاشية رقم: 1 حديث أبي سعيد لم يخرجه ابن ماجه ، وإنما خرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة ، حدثنا الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرار ، من ضار ضره الله ، ومن شاق شق الله عليه وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ، وقال البيهقي : تفرد به عثمان عن [ ص: 208 ] الدراوردي ، وخرجه مالك في " الموطإ " عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلا .

قال ابن عبد البر لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث ، قال : ولا يسند من وجه صحيح ، ثم خرجه من رواية عبد الملك بن معاذ النصيبي ، عن الدراوردي موصولا ، والدراوردي كان الإمام أحمد يضعف ما حدث به من حفظه ، ولا يعبأ به ، ولا شك في تقديم قول مالك على قوله . وقال خالد بن سعد الأندلسي الحافظ : لم يصح حديث : لا ضرر ولا ضرار مسندا .

وأما ابن ماجه ، فخرجه من رواية فضيل بن سليمان ، حدثنا موسى بن عقبة ، حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار ، وهذا من جملة صحيفة تروى بهذا الإسناد ، وهي منقطعة مأخوذة من كتاب ، قاله ابن المديني وأبو زرعة وغيرهما ، وإسحاق بن يحيى قيل : هو ابن طلحة ، وهو ضعيف لم يسمع من عبادة ، قاله أبو زرعة وابن أبي حاتم والدارقطني في موضع ، وقيل : إنه إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة ، ولم يسمع أيضا من عبادة ، قاله الدارقطني أيضا . [ ص: 209 ] وذكره ابن عدي في كتابه " الضعفاء " ، وقال : عامة أحاديثه غير محفوظة ، وقيل : إن موسى بن عقبة لم يسمع منه ، وإنما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه ، وأبو عياش لا يعرف .

وخرجه ابن ماجه أيضا من وجه آخر من رواية جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار وجابر الجعفي ضعفه الأكثرون ، وخرجه الدارقطني من رواية إبراهيم بن إسماعيل ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة وإبراهيم ضعفه جماعة ، وروايات داود عن عكرمة مناكير .

وخرج الدارقطني من حديث الواقدي ، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت ، عن أبي الرجال ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ، ولا ضرار والواقدي متروك ، وشيخه مختلف في تضعيفه . وخرجه الطبراني من وجهين ضعيفين أيضا عن القاسم عن عائشة .

وخرج الطبراني أيضا من رواية محمد بن سلمة عن أبي إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وهذا إسناد مقارب وهو غريب ، لكن خرجه أبو داود في " المراسيل " من رواية عبد الرحمن بن مغراء عن ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع مرسلا ، وهذا أصح .

وخرج الدارقطني من رواية أبي بكر بن عياش ، قال : أراه عن ابن عطاء ، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرورة ، ولا يمنعن [ ص: 210 ] أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه ، وهذا الإسناد فيه شك ، وابن عطاء : هو يعقوب ، وهو ضعيف .

وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا إضرار قال ابن عبد البر : إسناده غير صحيح .

قلت : كثير هذا يصحح حديثه الترمذي ويقول البخاري في بعض حديثه : هو أصح حديث في الباب ، وحسن حديثه إبراهيم بن المنذر الحزامي ، وقال : هو خير من مراسيل ابن المسيب ، وكذلك حسنه ابن أبي عاصم ، وترك حديثه آخرون ، منهم الإمام أحمد وغيره ، فهذا ما حضرنا من ذكر طرق أحاديث هذا الباب .

وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن بعض طرقه تقوى ببعض ، وهو كما قال ، وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني : إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قويت .

وقال الشافعي في المرسل : إنه إذا أسند من وجه آخر ، أو أرسله من يأخذ العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل الأول فإنه يقبل .

وقال الجوزجاني : إذا كان الحديث المسند من رجل غير مقنع - يعني : لا يقنع برواياته - وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار ، استعمل واكتفي به ، وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه .

وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث ، وقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار . [ ص: 211 ] وقال أبو عمرو بن الصلاح : هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه ، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه ، وقد تقبله جماهير أهل العلم ، واحتجوا به ، وقول أبي داود : إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف والله أعلم .

وفي المعنى أيضا حديث أبي صرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ضار ضار الله به ، ومن شاق شاق الله عليه خرجه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن غريب .

وخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف عن أبي بكر الصديق ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به .

وقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار . هذه الرواية الصحيحة ، ضرار بغير همزة ، وروي " إضرار " بالهمزة ، ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدارقطني ، بل وفي بعض نسخ الموطإ ، وقد أثبت بعضهم هذه الرواية وقال : ضر وأضر بمعنى واحد ، وأنكرها آخرون ، وقالوا : لا صحة لها .

[ ص: 212 ] واختلفوا : هل بين اللفظين - أعني الضر والضرار - فرق أم لا ؟ فمنهم من قال : هما بمعنى واحد على وجه التأكيد ، والمشهور أن بينهما فرقا ، ثم قيل : إن الضرر هو الاسم ، والضرار الفعل ، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع ، وإدخال الضرر بغير حق كذلك .

وقيل : الضرر : أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به ، والضرار : أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به ، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع ، ورجح هذا القول طائفة ، منهم ابن عبد البر ، وابن الصلاح .

وقيل : الضرر : أن يضر بمن لا يضره ، والضرار : أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز .

وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضرر والضرار بغير حق .

فأما إدخال الضرر على أحد بحق ، إما لكونه تعدى حدود الله ، فيعاقب بقدر جريمته ، أو كونه ظلم غيره ، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل ، فهذا غير مراد قطعا ، وإنما المراد : إلحاق الضرر بغير حق ، وهذا على نوعين : أحدهما : أن لا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير ، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه ، وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع : منها في الوصية ، قال الله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] ، وفي حديث أبي هريرة المرفوع : إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضره الموت ، فيضار في الوصية ، فيدخل النار ، ثم تلا : تلك حدود الله إلى قوله : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها [ النساء : 13 - 14 ] ، وقد خرجه الترمذي وغيره بمعناه .

[ ص: 213 ] وقال ابن عباس : الإضرار : في الوصية من الكبائر ، ثم تلا هذه الآية .

والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له ، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث .

وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث ، فتنقص حقوق الورثة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : الثلث والثلث كثير .

ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث ، لم ينفذ ما وصى به إلا بإجازة الورثة ، وسواء قصد المضارة أو لم يقصد ، وأما إن قصد المضارة بالوصية لأجنبي بالثلث ، فإنه يأثم بقصده المضارة ، وهل ترد وصيته إذا ثبت بإقراره أم لا ؟ حكى ابن عطية رواية عن مالك أنها ترد ، وقيل : إنه قياس مذهب أحمد .

[ص: 226 ] الحديث الثالث والثلاثون :

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر . حديث حسن ، رواه البيهقي وغيره هكذا ، وبعضه في " الصحيحين " .

الحاشية رقم: 1 أصل هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه .

وخرجاه أيضا من رواية نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه .

واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساقه ابن الصلاح قبله في الأحاديث الكليات ، وقال : رواه البيهقي بإسناد حسن .

[ ص: 227 ] وخرجه الإسماعيلي في " صحيحه " من رواية الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ، ولكن البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب .

وروى الشافعي : أنبأ مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي قال الشافعي : وأحسبه - ولا أثبته - أنه قال : واليمين على المدعى عليه .

وروى محمد بن عمر بن لبابة الفقيه الأندلسي عن عثمان بن أيوب الأندلسي - ووصفه بالفضل - عن غازي بن قيس ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث ، قال : لكن البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر وغازي بن قيس الأندلسي كبير صالح ، سمع من مالك وابن جريج وطبقتهما ، وسقط من هذا الإسناد ابن جريج والله أعلم .

وقد استدل الإمام أحمد وأبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ، وهذا يدل على أن هذا اللفظ عندهما صحيح محتج به ، وفي المعنى أحاديث كثيرة ، ففي " الصحيحين " عن الأشعث بن قيس ، قال : كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاهداك أو يمينه ، قلت : إذا يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر ، لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ، ثم اقترأ هذه الآية : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] . وفي رواية لمسلم بعد قوله : " إذا يحلف " ، قال : ليس لك إلا ذلك . وخرجه أيضا مسلم بمعناه من حديث وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وخرج الترمذي من حديث العرزمي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، وقال : في إسناده مقال ، والعرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه . وخرجه الدارقطني من رواية مسلم بن خالد الزنجي - وفيه ضعف عن [ ص: 229 ] ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة . ورواه الحافظ عن ابن جرير ، عن عمرو مرسلا .

وخرجه أيضا من رواية مجاهد عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم الفتح : المدعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة ، وخرجه الطبراني ، وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وفي إسناده كلام . وخرج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة .

وروى حجاج الصواف ، عن حميد بن هلال ، عن زيد بن ثابت ، قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما رجل طلب عند رجل طلبة ، فإن المطلوب هو أولى باليمين .

وخرجه أبو عبيد والبيهقي ، وإسناده ثقات ، إلا أن حميد بن هلال ما أظنه لقي زيد بن ثابت ، وخرجه الدارقطني ، وزاد فيه " بغير شهداء " .

وخرج النسائي من حديث ابن عباس ، قال : جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على الآخر حقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي : أقم بينتك فقال : يا رسول الله ، ما لي بينة ، فقال للآخر : احلف بالله الذي لا إله إلا هو : ما له عليك أو عندك شيء .

وقد روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : أن البينة على المدعي ، [ ص: 230 ] واليمين على من أنكر . وقضى بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبي بن كعب ولم ينكراه .

وقال قتادة : فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام : هو أن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر .

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، قال : ومعنى قوله : البينة على المدعي يعني : يستحق بها ما ادعى ، لأنها واجبة يؤخذ بها ، ومعنى قوله : اليمين على المدعى عليه أي : يبرأ بها ، لأنها واجبة عليه ، يؤخذ بها على كل حال . انتهى .

[ص: 243 ] الحديث الرابع والثلاثون :

عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي سعيد ومن رواية إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، عن أبي سعيد وعنده في حديث طارق قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل ، فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ثم روى هذا الحديث .

وقد روى معناه من وجه آخر ، فخرجه مسلم من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي ، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . [ ص: 244 ] وروى سالم المرادي عن عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم ، لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله بلسانه ويده وقلبه ، فذلك الذي سبقت له السوابق ، ورجل عرف دين الله فصدق به ، وللأول عليه سابقة ، ورجل عرف دين الله ، فسكت ، فإن رأى من يعمل بخير أحبه عليه ، وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه ، فذلك الذي ينجو على إبطائه وهذا غريب ، وإسناده منقطع .

وخرج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي - وهو ضعيف جدا - عن مولى لعمر ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : توشك هذه الأمة أن تهلك إلا ثلاثة نفر : رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه ، فإن جبن بيده ، فبلسانه وقلبه ، فإن جبن بلسانه وبيده فبقلبه .

وخرج أيضا من رواية الأوزاعي عن عمير بن هانئ ، عن علي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون بعدي فتن لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيد ولا بلسان ، قلت : يا رسول الله ، وكيف ذاك ؟ قال : ينكرونه بقلوبهم ، قلت : يا رسول الله ، وهل ينقص ذلك إيمانهم شيئا ؟ قال : لا ، إلا كما ينقص القطر من الصفا ، وهذا الإسناد منقطع . وخرج الطبراني معناه من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف .

[ ص: 245 ] فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه ، وأما إنكاره بالقلب لا بد منه ، فمن لم ينكر قلبه المنكر ، دل على ذهاب الإيمان من قلبه .

وقد روى عن أبي جحيفة ، قال : قال علي : إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه المعروف ، وينكر قلبه المنكر ، نكس فجعل أعلاه أسفله .

وسمع ابن مسعود رجلا يقول : هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، فقال ابن مسعود هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر ، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك .

[ص: 257 ] الحديث الخامس والثلاثون :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه ، ولا يحقره ، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة ، وأبو سعيد هذا لا يعرف اسمه ، وقد روى عنه غير واحد ، وذكره ابن حبان في " ثقاته " وقال ابن المديني : هو مجهول .

وروى هذا الحديث سفيان الثوري ، فقال فيه : سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ووهم في قوله : " سعيد بن يسار " إنما هو : أبو سعيد مولى ابن كريز ، قاله أحمد ويحيى والدارقطني ، وقد روي بعضه من وجه آخر . وخرجه الترمذي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم ، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله ، كل المسلم على [ ص: 258 ] المسلم حرام : عرضه وماله ودمه ، التقوى هاهنا ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم .

وخرج أبو داود من قوله : كل المسلم إلى آخره .

وخرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تحاسدوا ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا .

وخرجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة .

وخرج الإمام أحمد من حديث واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وعرضه ، وماله ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ، والتقوى هاهنا - وأومأ بيده إلى القلب - وحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم . [ ص: 259 ] وخرج أبو داود آخره فقط .

وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه " . وخرجه الإمام أحمد ولفظه " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، وبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم .

وفي " الصحيحين " عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا .

ويروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعا وموقوفا .

[ ص: 260 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا يعني : لا يحسد بعضكم بعضا ، والحسد مركوز في طباع البشر ، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل .

ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام ، فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل ، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه ، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه ، وهو شرهما وأخبثهما ، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه ، وهو كان ذنب إبليس حيث كان حسد آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة بأن خلقه الله بيده ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه في جواره ، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها ، ويروى عن ابن عمر أن إبليس قال لنوح : اثنتان بهما أهلك بني آدم : الحسد ، وبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما ، والحرص [ وبالحرص ] أبيح آدم الجنة كلها ، فأصبت حاجتي منه بالحرص . خرجه ابن أبي الدنيا .

وقد وصف الله اليهود بالحسد في مواضع من كتابه القرآن ، كقوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ البقرة : 109 ] ، وقوله : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ النساء : 54 ] .

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الزبير بن العوام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، والبغضاء هي الحالقة ، حالقة الدين لا حالقة الشعر ، والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم .

[ ص: 261 ] وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إياكم والحسد ، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، أو قال : العشب .

وخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : سيصيب أمتي داء الأمم ، قالوا : يا نبي الله ، وما داء الأمم ؟ قال : الأشر والبطر ، والتكاثر والتنافس في الدنيا ، والتباغض ، والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج .

[ ص: 262 ] وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره ، لم يعمل بمقتضى حسده ، ولم يبغ على المحسود بقول ولا بفعل . وقد روي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك ، وروي مرفوعا من وجوه ضعيفة ، وهذا على نوعين : أحدهما : أن لا يمكنه إزالة ذلك الحسد من نفسه ، فيكون مغلوبا على ذلك ، فلا يأثم به .

والثاني : من يحدث نفسه بذلك اختيارا ، ويعيده ويبديه في نفسه مستروحا إلى تمني زوال نعمة أخيه ، فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية ، وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء ، وربما يذكر في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، لكن هذا يبعد أن يسلم من البغي على المحسود ، ولو بالقول ، فيأثم بذلك .

وقسم آخر إذا حسد لم يتمن زوال نعمة المحسود ، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله ، ويتمنى أن يكون مثله ، فإن كانت الفضائل دنيوية ، فلا خير في ذلك ، كما قال الذين يريدون الحياة الدنيا : ياليت لنا مثل ما أوتي قارون [ القصص : 79 ] ، وإن كانت فضائل دينية ، فهو حسن ، وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم الشهادة في سبيل الله عز وجل . وفي " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم ، قال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، وهذا هو الغبطة ، وسماه حسدا من باب الاستعارة .

[ ص: 263 ] وقسم آخر إذا وجد في نفسه الحسد ، سعى في إزالته ، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه ، والدعاء له ، ونشر فضائله ، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرا منه وأفضل ، وهذا من أعلى درجات الإيمان ، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه

[ص: 284 ] الحديث السادس والثلاثون :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له به طريقا إلى الجنة ، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، واعترض عليه غير واحد من الحفاظ في تخريجه ، منهم الفضل الهروي والدارقطني ، فإن أسباط بن محمد رواه عن الأعمش ؛ قال : حدثت عن أبي صالح ، فتبين أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر من حدثه به عنه ، ورجح الترمذي وغيره هذه الرواية ، وزاد بعض أصحاب الأعمش في [ ص: 285 ] متن الحديث : ومن أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة .

وخرجا في " الصحيحين " من حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم ، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة .

وخرج الطبراني من حديث كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من نفس عن مؤمن كربة من كربه ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر على مؤمن عورته ، ستر الله عورته ، ومن فرج عن مؤمن كربة ، فرج الله عنه كربته .

وخرج الإمام أحمد من حديث مسلمة بن مخلد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من ستر مسلما في الدنيا ، ستره الله في الدنيا والآخرة ، ومن نجى مكروبا ، فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته .

فقوله صلى الله عليه وسلم : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل ، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى ، كقوله صلى الله عليه وسلم : إنما يرحم الله من عباده الرحماء ، [ ص: 286 ] وقوله : إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا .

والكربة : هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب ، وتنفيسها أن يخفف عنه منها ، مأخوذ من تنفيس الخناق ، كأنه يرخى له الخناق حتى يأخذ نفسا ، والتفريج أعظم من ذلك ، وهو أن يزيل عنه الكربة ، فتفرج عنه كربته ، ويزول همه وغمه ، فجزاء التنفيس التنفيس ، وجزاء التفريج التفريج ، كما في حديث ابن عمر ، وقد جمع بينهما في حديث كعب بن عجرة .

وخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا : أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع ، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن سقى مؤمنا على ظمإ ، سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن كسا مؤمنا على عري ، كساه الله من خضر الجنة . وخرجه الإمام أحمد بالشك في رفعه ، وقيل : إن الصحيح وقفه .

[ ص: 287 ] وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال : يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط ، وأجوع ما كانوا قط ، وأظمأ ما كانوا قط ، وأنصب ما كانوا قط ، فمن كسا لله عز وجل كساه الله ، ومن أطعم لله عز وجل أطعمه الله ، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ، ومن عفا لله عز وجل أعفاه الله .

وخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا : أن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار ، فيناديه رجل من أهل النار : يا فلان ، هل تعرفني ؟ فيقول : لا والله ما أعرفك ، من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررت بي في دار الدنيا ، فاستسقيتني شربة من ماء ، فسقيتك ، قال : قد عرفت ، قال : فاشفع لي بها عند ربك ، قال : فيسأل الله عز وجل ، ويقول : شفعني فيه ، فيأمر به ، فيخرجه من النار .

وقوله : كربة من كرب يوم القيامة ، ولم يقل : من كرب الدنيا والآخرة كما قيل في التيسير والستر ، وقد قيل في مناسبة ذلك : إن الكرب هي الشدائد العظيمة ، وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا ، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر ، فإن أحدا لا يكاد يخلو في الدنيا من ذلك ، ولو بتعسر الحاجات المهمة . وقيل : لأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء ، فادخر الله جزاء تنفيس الكرب عنده ، لينفس به كرب الآخرة ، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس منهم ، فيبلغ الناس من الغم [ ص: 288 ] والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس بعضهم لبعض : ألا ترون ما بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم ؟ ، وذكر حديث الشفاعة ، خرجاه بمعناه من حديث أبي هريرة .

وخرجا من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تحشرون حفاة عراة غرلا ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك .

وخرجا من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : يوم يقوم الناس لرب العالمين [ المطففين : 6 ] ، قال : يقوم أحدهم في الرشح إلى أنصاف أذنيه .

وخرجا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم ولفظه للبخاري ، ولفظ مسلم : إن العرق ليذهب في الأرض سبعين باعا ، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم .

وخرج مسلم من حديث المقداد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين ، فتصهرهم الشمس ، فيكونون في [ ص: 289 ] العرق قدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه إلجاما .

وقال ابن مسعود : الأرض كلها يوم القيامة نار ، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، فيعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قدر قامة ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه ، وما مسه الحساب ، قال : فمم ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : مما يرى الناس يصنع بهم .

وقال أبو موسى : الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة ، وأعمالهم تظلهم أو تضحيهم .

وفي " المسند " من حديث عقبة بن عامر مرفوعا : كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس .

[ ص: 311 ] الحديث السابع والثلاثون :

. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال : إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من رواية الجعد أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء العطاردي ، عن ابن عباس وفي رواية لمسلم زيادة في آخر الحديث ، وهي : أو محاها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك . وفي هذا المعنى أحاديث متعددة ، فخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة ، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها ، فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي ، فاكتبوها له حسنة ، وإن أراد أن يعمل حسنة ، فلم يعملها ، فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وهذا لفظ البخاري ، وفي رواية لمسلم : قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن [ ص: 312 ] يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعملها ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها له بمثلها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قالت الملائكة : رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - قال : ارقبوه ، فإن عملها ، فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها ، فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جراي . قال رسول الله صلى عليه وسلم : إذا أحسن أحدكم إسلامه ، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، وفي رواية بعد قوله : إلى سبعمائة ضعف : إلى ما يشاء الله . وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله : من عمل حسنة ، فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن عمل سيئة ، فجزاؤها مثلها أو أغفر . وفيه أيضا عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من هم بحسنة ، فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة ، فلم يعملها لم يكتب عليه شيء ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة . وفي " المسند " عن خريم بن فاتك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من هم بحسنة ، [ ص: 313 ] فلم يعملها ، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه ، وحرص عليها ، كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ، ومن عملها كتبت له واحدة ، ولم تضاعف عليه ، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها ، ومن أنفق نفقة في سبيل الله ، كانت له بسبعمائة ضعف . وفي المعنى أحاديث أخر متعددة . فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات ، والسيئات ، والهم بالحسنة والسيئة ، فهذه أربعة أنواع : النوع الأول : عمل الحسنات ، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات ، وقد دل عليه قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام : 160 ] . وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له ، فدل عليه قوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [ البقرة : 261 ] ، فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف . وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود ، قال : جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، فقال : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة . وفي " المسند " بإسناد فيه نظر عن أبي عبيدة بن الجراح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، وعياله ، أو عاد مريضا ، أو ماز أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها . [ ص: 314 ] وخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف . وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أرسل نفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته ، فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله ، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية : والله يضاعف لمن يشاء [ البقرة : 261 ] . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لما نزلت هذه الآية : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل [ البقرة : 261 ] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب زد أمتي ، فأنزل الله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ البقرة : 245 ] ، فقال : رب زد أمتي فأنزل الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ الزمر : 10 ] . [ ص: 315 ] وخرج الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة ثم تلا أبو هريرة : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ النساء : 40 ] . وقال : " إذا قال الله أجرا عظيما ، فمن يقدر قدره ؟ " وروي عن أبي هريرة موقوفا . وخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة . ومن حديث تميم الداري مرفوعا : من قال : أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا أحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد عشر مرات ، كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة ، وفي كلا الإسنادين ضعف . [ ص: 316 ] وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا : من قال : سبحان الله ، كتب الله له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرين ألف حسنة .

[ص: 330 ] الحديث الثامن والثلاثون :

. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى قال من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، . رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب ، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة ، حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث بطوله ، وزاد في آخره : وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته . وهو من غرائب " الصحيح " تفرد به ابن كرامة عن خالد ، وليس في " مسند أحمد " مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه أحمد وغيره ، وقالوا : له مناكير ، وعطاء الذي في إسناده قيل : إنه ابن أبي رباح ، وقيل : إنه ابن يسار ، وإنه وقع في بعض نسخ " الصحيح " منسوبا كذلك . [ ص: 331 ] وقد روي هذا الحديث من وجوه أخر لا تخلو كلها عن مقال فرواه عبد الواحد بن ميمون أبو حمزة مولى عروة بن الزبير عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من آذى لي وليا ، فقد استحل محاربتي ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء فرائضي ، وإن عبدي ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت عينه التي يبصر بها ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وفؤاده الذي يعقل به ، ولسانه الذي يتكلم به ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن موته ، وذلك أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته . خرجه ابن أبي الدنيا وغيره ، وخرجه الإمام أحمد بمعناه . وذكر ابن عدي أنه تفرد به عبد الواحد هذا عن عروة ، وعبد الواحد هذا قال فيه البخاري : منكر الحديث ، ولكن خرجه الطبراني : حدثنا هارون بن كامل ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا إبراهيم بن سويد المدني ، حدثني أبو حرزة يعقوب بن مجاهد ، أخبرني عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وهذا إسناده جيد ، ورجاله كلهم ثقات مخرج لهم في " الصحيح " سوى شيخ الطبراني ، فإنه لا يحضرني الآن معرفة حاله ، ولعل الرواي قال : حدثنا أبو حمزة ، يعني عبد الواحد بن ميمون ، فخيل للسامع أنه قال : أبو حرزة ، ثم سماه [ ص: 332 ] من عنده بناء على وهمه والله أعلم . وخرج الطبراني وغيره من رواية عثمان بن أبي عاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله عز وجل : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، ابن آدم ، إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك ، ولا يزال عبدي يتحبب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فأكون قلبه الذي يعقل به ، ولسانه الذي ينطق به ، وبصره الذي يبصر به ، فإذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته ، وإذا استنصرني نصرته ، وأحب عبادة عبدي إلي النصيحة . عثمان وعلي بن يزيد ضعيفان . قال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث : هو منكر جدا . وقد روي من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف ، خرجه الإسماعيلي في " مسند علي " . وروي من حديث ابن عباس بسند ضعيف ، وخرجه الطبراني ، وفيه زيادة في لفظه ، ورويناه من وجه آخر عن ابن عباس وهو ضعيف أيضا . وخرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني ، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي ، عن هشام الكناني ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل ، عن ربه تعالى قال : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وما [ ص: 333 ] ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابا من العبادة ، فأكفه عنه لا يدخله عجب ، فيفسده ذلك ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتنفل إلي حتى أحبه ، ومن أحببته ، كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ، دعاني فأجبته ، وسألني فأعطيته ، ونصح لي فنصحت له ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، وإن بسطت له أفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته ، لأفسده ذلك ، إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني عليم خبير . والخشني وصدقة ضعيفان ، وهشام لا يعرف ، وسئل ابن معين عن هشام هذا : من هو ؟ قال : لا أحد ، يعني : لا يعتبر به . وقد خرج البزار بعض الحديث من طريق صدقة عن عبد الكريم الجزري ، عن أنس . وخرج الطبراني من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة ، عن زر بن حبيش ، سمعت حذيفة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى أوحى إلي : يا أخا المرسلين ، ويا أخا المنذرين أنذر قومك لا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة ، فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها ، فأكون سمعه الذي يسمع به ، وأكون بصره الذي يبصر به ، ويكون من أوليائي وأصفيائي ، ويكون جاري من النبيين والصديقين والشهداء في الجنة . وهذا إسناد جيد وهو غريب جدا . [ ص: 334 ] ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري ، وقد قيل : إنه أشرف حديث روي في ذكر الأولياء . قوله عز وجل : من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب يعني : فقد أعلمته بأني محارب له ، حيث كان محاربا لي بمعاداة أوليائي ، ولهذا جاء في حديث عائشة : فقد استحل محاربتي وفي حديث أبي أمامة وغيره : فقد بارزني بالمحاربة ، وخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذ بن جبل ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : إن يسير الرياء شرك ، وإن من عادى لله وليا ، فقد بارز الله بالمحاربة ، وإن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يدعوا ، ولم يعرفوا ، [ قلوبهم ] مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة . فأولياء الله تجب موالاتهم ، وتحرم معاداتهم ، كما أن أعداءه تجب معاداتهم ، وتحرم موالاتهم ، قال تعالى : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ الممتحنة : 1 ] ، وقال : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون [ المائدة : 55 - 56 ] ، ووصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه بأنهم أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ، وروى الإمام أحمد في كتاب " الزهد " بإسناده عن وهب بن منبه ، قال : إن الله تعالى قال لموسى عليه [ ص: 335 ] السلام حين كلمه : اعلم أن من أهان لي وليا أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني وعرض نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ؟ أو يظن الذي يعازني أن يعجزني ؟ أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، فلا أكل نصرتهم إلى غيري " .

[ص: 361 ] الحديث التاسع والثلاثون :

عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه . حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه ابن حبان في " صحيحه " والدارقطني ، وعندهما : عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر ، ورواته كلهم محتج بهم في " الصحيحين " وقد خرجه الحاكم ، وقال : صحيح على شرطهما . كذا قال ، ولكن له علة ، وقد أنكره الإمام أحمد جدا ، وقال : ليس يروى فيه إلا عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا . وقيل لأحمد : إن الوليد بن مسلم روى عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله ، فأنكره أيضا . [ ص: 362 ] وذكر لأبي حاتم الرازي حديث الأوزاعي ، وحديث مالك ، وقيل له : إن الوليد روى أيضا عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فقال أبو حاتم : هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة ، وقال : لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء ، وإنما سمعه من رجل لم يسمه ، أتوهم أنه عبد الله بن عامر ، أو إسماعيل بن مسلم ، قال : ولا يصح هذا الحديث ، ولا يثبت إسناده . قلت : وقد روي عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير مرسلا من غير ذكر ابن عباس ، وروى يحيى بن سليم ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : بلغني أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني ، وهذا المرسل أشبه . وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا رواه مسلم بن خالد الزنجي عن سعيد العلاف ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني . وسعيد العلاف : هو سعيد بن أبي صالح ، قال أحمد : هو مكي ، قيل له : كيف حاله ؟ قال : لا أدري وما علمت أحدا روى عنه غير مسلم بن خالد ، قال أحمد : وليس هذا مرفوعا ، إنما هو عن ابن عباس قوله . نقل ذلك عنه مهنا ، ومسلم بن خالد ضعفوه . [ ص: 363 ] وروي من وجه ثالث من رواية بقية بن الوليد ، عن علي الهمداني ، عن أبي جمرة عن ابن عباس مرفوعا ، خرجه حرب ، ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تساوي شيئا . وروي من وجه رابع خرجه ابن عدي من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبد الرحيم هذا ضعيف . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر ، وقد تقدم أن الوليد بن مسلم رواه عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، وصححه الحاكم وغربه ، وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك ، كما أنكره الإمام أحمد وأبو حاتم ، وكانا يقولان عن الوليد : إنه كثير الخطأ . ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود ، قال روى الوليد بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل ، منها عن نافع أربعة . قلت : والظاهر أن منها هذا الحديث ، والله أعلم . وخرجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعت أبا الأشعث يحدث عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي عن ثلاثة : عن الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه . ويزيد بن ربيعة ضعيف جدا . [ ص: 364 ] وخرج ابن أبي حاتم من رواية أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان والاستكراه قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] . وأبو بكر الهذلي متروك الحديث . وخرجه ابن ماجه ، ولكن عنده عن شهر ، عن أبي ذر الغفاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولم يذكر كلام الحسن . وأما الحديث المرسل عن الحسن ، فرواه عنه هشام بن حسان ، ورواه منصور ، وعوف عن الحسن من قوله ، لم يرفعه ، ورواه جعفر بن جسر بن فرقد ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعا ، وجعفر وأبوه ضعيفان . [ ص: 365 ] قال محمد بن نصر المروزي : ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به حكاه البيهقي . وفي " صحيح مسلم " عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال الله : قد فعلت . وعن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنها لما نزلت ، قال : نعم ، وليس واحد منهما مصرحا برفعه . وخرج الدارقطني من رواية ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، وما أكرهوا عليه ، إلا أن يتكلموا به أو يعملوا ، وهو لفظ غريب . وقد خرجه النسائي ولم يذكر الإكراه . وكذا رواه ابن عيينة عن مسعر ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزاد فيه : وما استكرهوا عليه خرجه ابن ماجه . وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عيينة ، ولم يتابعه عليها أحد . والحديث مخرج من رواية قتادة في " الصحيحين " والسنن والمسانيد بدونها . [ ص: 366 ] ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع ، فقوله : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان إلى آخره تقديره : إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ ، أو ترك ذلك عنهم ، فإن " تجاوز " لا يتعدى بنفسه . وقوله : الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه . فأما الخطأ والنسيان ، فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما ، قال الله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] ، وقال : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] . وفي " الصحيحين " عن عمرو بن العاص سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا حكم الحاكم ، فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ ، فله أجر . وقال الحسن : لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين - يعني داود وسليمان - لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعمله ، وعذر هذا باجتهاده : يعني قوله : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] الآية . وأما الإكراه فصرح القرآن أيضا بالتجاوز عنه ، قال تعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] ، وقال تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة [ آل عمران : 28 ] الآية .

[ص: 376 ] الحديث الأربعون :

. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ، فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل . وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت ، فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري عن علي بن المديني ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، حدثنا الأعمش ، حدثني مجاهد ، عن ابن عمر ، فذكره ، وقد تكلم غير واحد من الحفاظ في لفظة : " حدثنا مجاهد " وقالوا : هي غير ثابتة ، وأنكروها على ابن المديني وقالوا : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من مجاهد ، إنما سمعه من ليث بن أبي سليم عنه ، وقد ذكره العقيلي وغيره ، وخرجه الترمذي من حديث ليث عن مجاهد ، وزاد فيه : وعد نفسك من أهل القبور ، وزاد في كلام ابن عمر : فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا . وخرجه ابن ماجه ولم يذكر قول ابن عمر . وخرج الإمام أحمد والنسائي من [ ص: 377 ] حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة ، عن ابن عمر قال : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي ، وقال : اعبد الله كأنك تراه ، وكن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل . وعبدة بن أبي لبابة أدرك ابن عمر ، واختلف في سماعه منه . وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا ، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا ، فيطمئن فيها ، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر : يهيئ جهازه للرحيل . وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال : يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 39 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها . ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنه قال لهم : اعبروها ولا تعمروها ، وروي عنه أنه قال : من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنيا ، فلا تتخذوها قرارا . ودخل رجل على أبي ذر ، فجعل يقلب بصره في بيته ، فقال : يا أبا ذر ، أين متاعكم ؟ قال : إن لنا بيتا نوجه إليه ، قال : إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا ، قال : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه . [ ص: 378 ] ودخلوا على بعض الصالحين ، فقلبوا بصرهم في بيته ، فقالوا له : إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل ، فقال : أمرتحل ؟ لا أرتحل ولكن أطرد طردا . وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ، ولكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل . قال بعض الحكماء : عجبت ممن الدنيا مولية عنه ، والآخرة مقبلة إليه يشغل بالمدبرة ، ويعرض عن المقبلة . وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : إن الدنيا ليست بدار قراركم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب الله على أهلها منها الظعن ، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب ، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى . وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطنا ، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين : إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة ، همه التزود للرجوع إلى وطنه ، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة ، بل هو ليله ونهاره ، يسير إلى بلد الإقامة ، فلهذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين . فأحدهما : أن يترك المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة ، لكن في بلد غربة ، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة ، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه ، وإنما هو مقيم في الدنيا ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه ، قال الفضيل بن عياض : المؤمن في الدنيا مهموم حزين ، همه مرمة جهازه . ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى [ ص: 379 ] وطنه ، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم ، ولا يجزع من الذل عندهم ، قال الحسن : المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزها ، له شأن ، وللناس شأن . لما خلق آدم عليه السلام أسكن هو وزوجته الجنة ، ثم أهبطا منها ووعدا بالرجوع إليها ، وصالح ذريتهما ، فالمؤمن أبدا يحن إلى وطنه الأول ، وحب الوطن من الإيمان ، كما قيل : كم منزل للمرء يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل ولبعض شيوخنا : فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم كان عطاء السليمي يقول في دعائه : اللهم ارحم في الدنيا غربتي ، وارحم في القبر وحشتي ، وارحم موقفي غدا بين يديك . قال الحسن : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إنما مثلي ومثلكم [ ص: 380 ] ومثل الدنيا ، كقوم سلكوا مفازة غبراء ، حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر ، أو ما بقي ، أنفدوا الزاد ، وحسروا الظهر ، وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة ، فأيقنوا بالهلكة ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء ، فقالوا : إن هذا قريب عهد بريف ، وما جاءكم هذا إلا من قريب ، فلما انتهى إليهم ، قال : علام أنتم ؟ قالوا : على ما ترى ، قال : أرأيتكم إن هديتكم على ماء رواء ، ورياض خضر ، ما تعملون ؟ قالوا : لا نعصيك شيئا ، قال : أعطوني عهودكم ومواثيقكم بالله ، قال فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئا ، قال : فأوردهم ماء ، ورياضا خضرا ، فمكث فيهم ما شاء الله ، ثم قال : يا هؤلاء الرحيل ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى ماء ليس كمائكم ، وإلى رياض ليست كرياضكم ، فقال جل القوم - وهم أكثرهم - : والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده ، وما نصنع بعيش خير من هذا ؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم - : ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئا وقد صدقكم في أول حديثه ، فوالله ليصدقنكم في آخره ، قال : فراح فيمن اتبعه ، وتخلف بقيتهم ، فنزل بهم عدو ، فأصبحوا بين أسير وقتيل خرجه ابن أبي الدنيا ، وخرجه الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه مختصرا . [ ص: 381 ] فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته ، فإنه أتاهم والعرب إذ ذاك أذل الناس ، وأقلهم ، وأسوؤهم عيشا في الدنيا وحالا في الآخرة ، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة ، وظهر لهم من براهين صدقه ، كما ظهر من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة ، وقد نفد ماؤهم ، وهلك ظهرهم ، برؤيته في حلة مترجلا يقطر رأسه ماء ، ودلهم على الماء والرياض المعشبة ، فاستدلوا بهيئته وحاله على صدق مقاله ، فاتبعوه ، ووعد من اتبعه بفتح بلاد فارس والروم ، وأخذ كنوزهما وحذرهم من الاغترار بذلك ، والوقوف معه ، وأمرهم بالتجزي من الدنيا بالبلاغ ، وبالجد والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها ، فوجدوا ما وعدهم به كله حقا ، فلما فتحت عليهم الدنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثر الناس بجمعها واكتنازها ، والمنافسة فيها ، ورضوا بالإقامة فيها ، والتمتع بشهواتها ، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجد والاجتهاد في طلبها ، وقبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب الآخرة والاستعداد لها . فهذه الطائفة القليلة نجت ، ولحقت نبيها في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدنيا ، وقبلت وصيته ، وامتثلت ما أمر به . وأما أكثر الناس ، فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها ، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتى فاجأهم الموت بغتة على هذه الغرة ، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير . وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي : الدنيا خمر الشيطان ، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادما مع الخاسرين . الحال الثاني : أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم ألبتة ، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره ، وهو الموت . ومن كانت هذه حاله في الدنيا ، فهمته تحصيل الزاد للسفر ، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا ، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه [ ص: 382 ] أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب . قيل لمحمد بن واسع : كيف أصبحت ؟ قال : ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة ؟ . وقال الحسن : إنما أنت أيام مجموعة ، كلما مضى يوم مضى بعضك . وقال : ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك ، يوضعك النهار إلى الليل ، والليل إلى النهار ، حتى يسلمانك إلى الآخرة ، فمن أعظم منك يابن آدم خطرا ، وقال : الموت معقود في نواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم . قال داود الطائي : إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها ، فافعل ، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزود لسفرك ، واقض ما أنت قاض من أمرك ، فكأنك بالأمر قد بغتك . وكتب بعض السلف إلى أخ له : يا أخي يخيل لك أنك مقيم ، بل أنت دائب السير ، تساق مع ذلك سوقا حثيثا ، الموت موجه إليك ، والدنيا تطوى من ورائك ، وما مضى من عمرك ، فليس بكار عليك يوم التغابن . سبيلك في الدنيا سبيل مسافر ولا بد من زاد لكل مسافر ولا بد للإنسان من حمل عدة ولا سيما إن خاف صولة قاهر قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره ، وشهره يهدم [ ص: 383 ] سنته ، وسنته تهدم عمره ، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله ، وتقوده حياته إلى موته . وقال الفضيل بن عياض لرجل : كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة ، قال : فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ ، فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال الفضيل : أتعرف تفسيره تقول : أنا لله عبد وإليه راجع ، فمن علم أنه لله عبد ، وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوف ، ومن علم أنه موقوف ، فليعلم أنه مسئول ، ومن علم أنه مسئول ، فليعد للسؤال جوابا ، فقال الرجل : فما الحيلة ؟ قال يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى ، فإنك إن أسأت فيما بقي ، أخذت بما مضى وبما بقي ، وفي هذا المعنى يقول بعضهم : وإن امرأ قد سار ستين حجة إلى منهل من ورده لقريب قال بعض الحكماء : من كانت الليالي والأيام مطاياه ، سارت به وإن لم يسر ، وفي هذا قال بعضهم : وما هذه الأيام إلا مراحل يحث بها داع إلى الموت قاصد وأعجب شيء - لو تأملت - أنها منازل تطوى والمسافر قاعد وقال آخر : أيا ويح نفسي من نهار يقودها إلى عسكر الموتى وليل يذودها قال الحسن : لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار ، وتقريب الآجال ، هيهات قد صحبا نوحا وعادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا ، فأصبحوا أقدموا على ربهم ، ووردوا على أعمالهم ، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين ، لم يبلهما ما مرا به ، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى . [ ص: 384 ] وكتب الأوزاعي إلى أخ له : أما بعد ، فقد أحيط بك من كل جانب ، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة ، فاحذر الله والمقام بين يديه ، وأن يكون آخر عهدك به ، والسلام . نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل ولم أر مثل الموت حقا كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شامل ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل وأما وصية ابن عمر رضي الله عنهما ، فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه ، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل ، وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح ، وإذا أصبح لم ينتظر المساء ، بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك ، وبهذا فسر غير واحد من العلماء الزهد في الدنيا ، قال المروزي : قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد - أي شيء الزهد في الدنيا ؟ قال : قصر الأمل ، من إذا أصبح قال : لا أمسي ، قال : وهكذا قال سفيان . قيل لأبي عبد الله : بأي شيء نستعين على قصر الأمل ؟ قال : ما ندري إنما هو توفيق . قال الحسن : اجتمع ثلاثة من العلماء ، فقالوا لأحدهم : ما أملك ؟ قال : ما أتى علي شهر إلا ظننت أني سأموت فيه ، قال : فقال صاحباه : إن هذا لأمل ، فقالا لأحدهم : فما أملك ؟ قال : ما أتت علي جمعة إلا ظننت أني سأموت فيها ، قال : فقال صاحباه : إن هذا لأمل ، فقالا للآخر : فما أملك ؟ قال : ما أمل من نفسه في يد غيره ؟ . قال داود الطائي : سألت عطوان بن عمر التيمي ، قلت : ما قصر الأمل ؟ [ ص: 385 ] قال : ما بين تردد النفس ، فحدث بذلك الفضيل بن عياض ، فبكى ، وقال : يقول : يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه ، لقد كان عطوان من الموت على حذر . وقال بعض السلف : ما نمت نوما قط ، فحدثت نفسي أني أستيقظ منه . وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحوه ، وكان يبكي كلما أصبح أو أمسى ، فسئلت امرأته عن بكائه ، فقالت : يخاف - والله - إذا أمسى أن يصبح ، وإذا أصبح أن يمسي . وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله : أستودعكم الله ، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبه إذا أراد النوم . وقال بكر المزني : إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب ، فليفعل ، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا ، ويصبح في أهل الآخرة . وكان أويس إذا قيل له : كيف الزمان عليك ؟ قال : كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح ، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي فيبشر بالجنة أو النار ؟ . وقال عون بن عبد الله : ما أنزل الموت كنه منزلته من عد غدا من أجله ، كم من مستقبل يوما يستكمله ، وكم من مؤمل لغد لا يدركه ، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره ، لبغضتم الأمل وغروره ، وكان يقول : إن من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره . [ ص: 386 ] وكانت امرأة متعبدة بمكة إذا أمست قالت : يا نفس ، الليلة ليلتك ، لا ليلة لك غيرها ، فاجتهدت ، فإذا أصبحت ، قالت : يا نفس اليوم يومك ، لا يوم لك غيره ، فاجتهدت . وقال بكر المزني : إذا أردت أن تنفعك صلاتك فقل : لعلي لا أصلي غيرها ، وهذا مأخوذ مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صل صلاة مودع . وأقام معروف الكرخي الصلاة ، ثم قال لرجل : تقدم فصل بنا ، فقال الرجل : إني إن صليت بكم هذه الصلاة ، لم أصل بكم غيرها ، فقال معروف : وأنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى ؟ نعوذ بالله من طول الأمل ، فإنه يمنع خير العمل . وطرق بعضهم باب أخ له ، فسأل عنه ، فقيل له : ليس هو في البيت ، فقال : متى يرجع ؟ فقالت له جارية من البيت : من كانت نفسه في يد غيره ، من يعلم متى يرجع ، ولأبي العتاهية من جملة أبيات : وما أدري وإن أملت عمرا لعلي حين أصبح لست أمسي ألم تر أن كل صباح يوم وعمرك فيه أقصر منه أمس [ ص: 387 ] وهذا البيت الثاني أخذه مما روي عن أبي الدرداء والحسن أنهما قالا : ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ، ومما أنشد بعض السلف : إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا فإنما الربح والخسران في العمل

[ص: 393 ] الحديث الحادي والأربعون .:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به الحاشية رقم: 1 قال الشيخ رحمه الله : حديث حسن صحيح ، رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح ! . يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق ، وكتابه هذا هو كتاب " الحجة على تارك المحجة " يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة . وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب " الأربعين " وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه ، وخرجته الأئمة في مسانيدهم ، ثم خرجه عن الطبراني : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن حاتم المرادي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عقبة بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ولا يزيغ عنه . ورواه الحافظ أبو بكر بن عاصم الأصبهاني [ ص: 394 ] عن ابن واره ، عن نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره عن ابن سيرين ، فذكره . وليس عنده لا يزيغ عنه ، قال الحافظ أبو موسى المديني : هذا الحديث مختلف فيه على نعيم ، وقيل فيه : حدثنا بعض مشيختنا ، حدثنا هشام أو غيره . قلت : تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه ، منها : أنه حديث يتفرد به نعيم بن حماد المروزي ، ونعيم هذا وإن كان وثقه جماعة من الأئمة ، وخرج له البخاري ، فإن أئمة الحديث كانوا يحسنون به الظن ، لصلابته في السنة ، وتشدده في الرد على أهل الأهواء ، وكانوا ينسبونه إلى أنه يهم ، ويشبه عليه في بعض الأحاديث ، فلما كثر عثورهم على مناكيره ، حكموا عليه بالضعف ، فروى صالح بن محمد الحافظ عن ابن معين أنه سئل عنه فقال : ليس بشيء ولكنه صاحب سنة ، قال صالح : وكان يحدث من حفظه ، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها . وقال أبو داود : عند نعيم نحو عشرين حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل ، وقال النسائي : ضعيف . وقال مرة : ليس ثقة . وقال مرة : قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين في أحاديث كثيرة ، فصار في حد من لا يحتج به . وقال أبو زرعة الدمشقي : يصل أحاديث يوقفها الناس ، يعني أنه يرفع الموقوفات ، وقال أبو عروبة الحراني : هو مظلم الأمر ، وقال أبو سعيد بن يونس : روى أحاديث مناكير عن الثقات ، ونسبه آخرون إلى أنه كان يضع الحديث ، وأين كان أصحاب عبد الوهاب الثقفي ، وأصحاب هشام بن حسان ، وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى ينفرد به نعيم ؟ . ومنها : أنه قد اختلف على نعيم في إسناده ، فروي عنه ، عن الثقفي ، عن هشام ، وروي عنه عن الثقفي ، حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره ، وعلى هذه الرواية ، يكون الشيخ الثقفي غير معروف عينه ، وروي عنه ، عن الثقفي ، حدثنا [ ص: 395 ] بعض مشيختنا ، حدثنا هشام أو غيره ، فعلى هذه الرواية ، فالثقفي رواه عن شيخ مجهول ، وشيخه رواه عن غير معين ، فتزداد الجهالة في إسناده . ومنها : أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري ، ويقال فيه : يعقوب بن أوس أيضا ، وقد خرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه حديثا عن عبد الله بن عمرو ، ويقال : عبد الله بن عمر ، وقد اضطرب في إسناده ، وقد وثقه العجلي ، وابن سعد ، وابن حبان ، وقال ابن خزيمة : روى عنه ابن سيرين مع جلالته ، وقال ابن عبد البر : هو مجهول . وقال الغلابي في " تاريخه " : يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمرو ، وإنما يقول : قال عبد الله بن عمرو ، فعلى هذا تكون رواياته عن عبد الله بن عمرو منقطعة والله أعلم . وأما معنى الحديث ، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها ، فيحب ما أمر به ، ويكره ما نهى عنه . وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع . قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] . وقال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب : 36 ] . وذم سبحانه من كره ما أحبه الله ، أو أحب ما كرهه الله ، قال : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ محمد : 9 ] ، وقال تعالى : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ محمد : 28 ] . فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه ، فإن زادت المحبة ، حتى أتى بما ندب إليه منه ، كان ذلك [ ص: 396 ] فضلا ، وأن يكره ما كرهه الله تعالى كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه ، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها ، كان ذلك فضلا . وقد ثبت في " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله . والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات ، قال عز وجل : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [ التوبة : 24 ] . وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [ آل عمران : 31 ] قال الحسن : قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إنا نحب ربنا حبا شديدا ، فأحب الله أن يجعل لحبه علما ، فأنزل الله هذه الآية . وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار . فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه ، أوجب له ذلك أن يحب بقلبه [ ص: 397 ] ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى ما يرضى الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك ، فإن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله ، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله ، مع وجوبه والقدرة عليه ، دل ذلك على نقص محبته الواجبة ، فعليه أن يتوب من ذلك ، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة . قال أبو يعقوب النهرجوري : كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره ، فدعواه باطلة ، وكل محب ليس يخاف الله ، فهو مغرور . وقال يحيى بن معاذ : ليس بصادق من ادعى محبة الله عز وجل ولم يحفظ حدوده . وسئل رويم عن المحبة ، فقال الموافقة : في جميع الأحوال ، وأنشد : ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا ولبعض المتقدمين : تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه ، وقال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله [ القصص : 50 ] .

[ص: 400 ] الحديث الثاني والأربعون .:

عن أنس بن مالك رضي عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى : يابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني ، غفرت لك ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة . رواه الترمذي وقال : حديث حسن . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد به الترمذي خرجه من طريق كثير بن فائد ، حدثنا سعيد بن عبيد ، سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول : حدثنا أنس ، فذكره ، وقال : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه . انتهى . وإسناده لا بأس به ، وسعيد بن عبيد هو الهنائي ، قال أبو حاتم : شيخ . وذكره ابن حبان في " الثقات " ، ومن زعم أنه غير الهنائي ، فقد وهم ، وقال الدارقطني : تفرد به كثير بن فائد ، عن سعيد مرفوعا ، ورواه سلم بن قتيبة ، عن سعيد بن عبيد ، فوقفه على أنس . قلت : قد روي عنه مرفوعا وموقوفا ، وتابعه على رفعه أبو سعيد أيضا مولى بني هاشم ، فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا أيضا ، وقد روي أيضا من حديث ثابت ، عن أنس مرفوعا ، ولكن قال أبو حاتم : هو منكر . وقد روي أيضا من حديث أبي ذر خرجه الإمام أحمد من رواية شهر بن [ ص: 401 ] حوشب ، عن معديكرب ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل فذكره بمعناه ، ورواه بعضهم عن شهر ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي ذر وقيل : عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يصح هذا القول . وروي من حديث ابن عباس خرجه الطبراني من رواية قيس بن الربيع ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي بعضه من وجوه أخر ، فخرج مسلم في " صحيحه " من حديث المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله تعالى : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا ، تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة . وخرج الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي ، قال : دخلت على أنس [ ص: 402 ] فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والذي نفسي بيده ، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله ، لغفر لكم . فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة : أحدها : الدعاء مع الرجاء ، فإن الدعاء مأمور به ، وموعود عليه بالإجابة ، كما قال تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [ غافر : 60 ] . وفي " السنن الأربعة " عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الدعاء هو العبادة ثم تلا هذه الآية . وفي حديث آخر خرجه الطبراني مرفوعا : من أعطي الدعاء ، أعطي الإجابة ، لأن الله تعالى يقول : ادعوني أستجب لكم . وفي حديث آخر : ما كان الله ليفتح على عبد باب الدعاء ، ويغلق عنه باب الإجابة . لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه ، وانتفاء موانعه ، وقد تتخلف إجابته ، لانتفاء بعض شروطه ، أو وجود بعض موانعه ، وقد سبق ذكر [ ص: 403 ] بعض شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر . ومن أعظم شرائطه : حضور القلب ، ورجاء الإجابة من الله تعالى ، كما خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه . وفي " المسند " عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن هذه القلوب أوعية ، فبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء من ظهر قلب غافل . ولهذا نهي العبد أن يقول في دعائه : اللهم اغفر لي إن شئت ، ولكن ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له . ونهي أن يستعجل ، ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة ، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه ولو طالت المدة ، فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء . وجاء في الآثار : إن العبد إذا دعا ربه وهو يحبه ، قال : يا جبريل ، لا تعجل بقضاء حاجة عبدي ، فإني أحب أن أسمع صوته ، وقال تعالى : وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين [ الأعراف : 56 ] . [ ص: 404 ] فما دام العبد يلح في الدعاء ، ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء ، فهو قريب من الإجابة ، ومن أدمن قرع الباب ، يوشك أن يفتح له . وفي " صحيح الحاكم " عن أنس مرفوعا : لا تعجزوا عن الدعاء ، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد .

[ص: 419 ] الحديث الثالث والأربعون .:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر . خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث الذي زعم بعض شراح هذه الأربعين أن الشيخ رحمه الله أغفله ، فإنه مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها ، وهذا الحديث خرجاه من رواية وهيب ، وروح بن القاسم ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس وخرجه مسلم من رواية معمر ، ويحيى بن أيوب ، عن ابن طاوس أيضا . وقد رواه الثوري ، وابن عيينة وابن جريج وغيرهم ، عن ابن طاوس عن أبيه مرسلا من غير ذكر ابن عباس ، ورجح النسائي إرساله . وقد اختلف العلماء في معنى قوله : ألحقوا الفرائض بأهلها : فقالت طائفة : المراد بالفرائض الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ، والمراد : أعطوا الفرائض المقدرة لمن سماها الله لهم ، فما بقي بعد هذه الفروض ، فيستحقه أولى الرجال ، والمراد بالأولى الأقرب ، كما يقال : هذا [ ص: 420 ] يلي هذا ، أي يقرب منه ، فأقرب الرجال هو أقرب العصبات ، فيستحق الباقي بالتعصيب ، وبهذا المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة ، منهم الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، نقله عنهما إسحاق بن منصور ، وعلى هذا ، فإذا اجتمع بنت وأخت وعم وابن عم أو ابن أخ ، فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة ، وهذا قول ابن عباس ، وكان يتمسك بهذا الحديث ، ويقر بأن الناس كلهم على خلافه ، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضا . وقال إسحاق : إذا كان مع البنت والأخت عصبة ، فالعصبة أولى ، وإن لم يكن معها أحد ، فالأخت لها الباقي ، وحكي عن ابن مسعود أنه قال : البنت عصبة من لا عصبة له ، ورد بعضهم هذا ، وقال : لا يصح عن ابن مسعود . وكان ابن الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس ، ثم رجعا عنه . وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخت مع البنت عصبة لها ما فضل ، منهم عمر ، وعلي ، وعائشة ، وزيد ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وتابعهم سائر العلماء . وروى عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج : سألت ابن طاوس عن ابنة وأخت ، فقال : كان أبي يذكر عن ابن عباس ، عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئا ، وكان طاوس لا يرضى بذلك الرجل ، قال : وكان أبي يشك فيها ، ولا يقول فيها شيئا ، وقد كان يسأل عنها . والظاهر - والله أعلم - أن مراد طاوس هو هذا الحديث ، فإن ابن عباس لم يكن عنده نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ميراث الأخت مع البنت ، إنما كان يتمسك بمثل عموم هذا الحديث . وما ذكره طاوس أن ابن عباس رواه عن رجل وأنه لا يرضاه ، فابن عباس أكثر رواياته للحديث عن الصحابة ، والصحابة كلهم عدول قد رضي الله عنهم ، [ ص: 421 ] وأثنى عليهم ، فلا عبرة بعد ذلك بعدم رضا طاوس . وفي " صحيح " البخاري عن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل ، قال : جاء رجل إلى أبي موسى ، فسأله عن ابنة وابنة ابن ، وأخت لأب وأم ، فقال : للابنة النصف ، وللأخت ما بقي وائت ابن مسعود فسيتابعني ، فأتى ابن مسعود ، فذكر ذلك له ، فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي ، فللأخت ، قال : فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . وفيه أيضا عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد ، قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للابنة ، والنصف للأخت ، ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يذكره . وخرجه أبو داود من وجه آخر عن الأسود ، وزاد فيه : ونبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حي . واستدل ابن عباس لقوله بقول الله عز وجل : قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك [ النساء : 176 ] وكان يقول : أأنتم أعلم أم الله ؟ يعني أن الله لم يجعل لها النصف إلا مع عدم الولد ، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت . والصواب قول عمر والجمهور ، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك ؛ لأن المراد بقوله : فلها نصف ما ترك بالفرض ، وهذا مشروط بعدم الولد [ ص: 422 ] بالكلية ، ولهذا قال بعده : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك [ النساء : 176 ] يعني بالفرض ، والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى ، فكذلك الأختان فصاعدا إنما يستحقون الثلثين مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى ، فإن كان هناك ولد ، فإن كان ذكرا ، فهو مقدم على الإخوة مطلقا ذكورهم وإناثهم ، وإن لم يكن هناك ولد ذكر ، بل أنثى فالباقي بعد فرضها يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق ، فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها ؛ فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات كالعم وابنه ؟ وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطا لها ، فيتعين تقديمها عليه ، لامتناع مشاركته لها ، فمفهوم الآية أن الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض ، وهذا حق ليس مفهوما أن الأخت تسقط بالبنت ، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها ، يدل عليه قوله تعالى : وهو يرثها إن لم يكن لها ولد [ النساء : 176 ] ، وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثى لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات ، وإنما وجود الولد الأنثى يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته كله ، فكما أن الولد إن كان ذكرا ، منع الأخ من الميراث ، وإن كان أنثى ، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها ، وإن منعه حيازة الميراث ، فكذلك الولد إن كان ذكرا منع الأخت الميراث بالكلية ، وإن كان أنثى منعت الأخت أن يفرض لها النصف ، ولم يمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها والله أعلم .

[ص: 438 ] الحديث الرابع والأربعون .:

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية عمرة عن عائشة ، وخرج مسلم أيضا من رواية عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، وخرجاه أيضا من رواية عروة عن عائشة من قولها ، وخرجاه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه الترمذي من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة ، وأن الرضاع يحرم ما يحرمه النسب ، ولنذكر المحرمات من النسب كلهن حتى يعلم بذلك ما يحرم من الرضاع ، فنقول : الولادة والنسب قد يؤثران التحريم في النكاح ، وهو على قسمين : أحدهما : تحريم مؤبد على الانفراد ، وهو نوعان [ ص: 439 ] أحدهما : ما يحرم بمجرد النسب ، فيحرم على الرجل أصوله وإن علون ، وفروعه وإن سفلن ، وفروع أصله الأدنى وإن سفلن ، فروع أصوله البعيدة دون فروعهن ، فيدخل في أصوله أمهاته وإن علون من جهة أبيه وأمه ، وفي فروعه بناته وبنات أولاده وإن سفلن ، وفي فروع أصله الأدنى أخواته من الأبوين ، أو من أحدهما ، وبناتهن وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلن ، ودخل في فروع أصوله البعيدة العمات والخالات وعمات الأبوين وخالاتهما وإن علون ، فلم يبق من الأقارب حلالا للرجل سوى فروع أصوله البعيدة ، وهن بنات العم وبنات العمات ، وبنات الخال ، وبنات الخالات . والنوع الثاني : ما يحرم من النسب مع سبب آخر ، وهو المصاهرة ؛ فيحرم على الرجل حلائل آبائه ، وحلائل أبنائه ، وأمهات نسائه ، وبنات نسائه المدخول بهن ؛ فيحرم على الرجل أم امرأته وأمهاتها من جهة الأم والأب وإن علون ، ويحرم عليه بنات امرأته ، وهن الربائب وبناتهن وإن سفلن ، وكذلك بنات بني زوجته وهن بنات الربائب نص عليه الشافعي وأحمد ، ولا يعلم فيه خلاف . ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه ، وإن علا وبامرأة ابنه وإن سفل ، ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهر ، لأن تحريمهن من جهة نسب الرجل مع سبب المصاهرة . وأما أمهات نسائه وبناتهن ، فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسب المرأة ، فلم يخرج التحريم بذلك عن أن يكون بالنسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة ، فإن التحريم بالسبب المجرد ، والنسب المضاف إلى المصاهرة يشترك فيه الرجال والنساء ؛ فيحرم على المرأة أن تتزوج أصولها وإن علوا ، وفروعها وإن سفلوا ، وفروع أصولها الأدنى وإن سفلوا من إخوتها ، وأولاد الإخوة وإن سفلوا ، وفروع أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم ، فهذا كله بالنسب المجرد . [ ص: 440 ] وأما بالنسب المضاف إلى المصاهرة ، فيحرم عليها نكاح أبي زوجها وإن علا ، ونكاح ابنه وإن سفل بمجرد العقد ، ويحرم عليها زوج ابنتها وإن سفلت بالعقد ، وزوج أمها وإن علت ، لكن بشرط الدخول بها .

ص: 445 ] الحديث الخامس والأربعون .:

عن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ؟ قال : لا ، هو حرام ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : قاتل الله اليهود ، إن الله حرم عليهم الشحوم ، فأجملوه ، ثم باعوه ، فأكلوا ثمنه خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 [ ص: 446 ] هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر . وفي رواية لمسلم أن يزيد قال : كتب إلي عطاء ، فذكره ، ولهذا قال أبو حاتم الرازي : لا أعلم يزيد بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئا ، يعني أنه إنما يروي عنه كتابه ، وقد رواه أيضا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد بن عبدة ، عن عبد الله بن عمر وعن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وفي " الصحيحين " عن ابن عباس قال : بلغ عمر أن رجلا باع خمرا ، فقال : قاتله الله ، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم ، فجملوها فباعوها ، وفي رواية : وأكلوا أثمانها . وخرجه أبو داود من حديث عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وزاد فيه : وإن الله إذا حرم أكل شيء ، حرم عليهم ثمنه ، وخرجه ابن أبي شيبة ، ولفظه : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قاتل الله يهودا ، حرمت عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا ثمنها . وفي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : لما أنزلت الآيات من آخر سورة البقرة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاقترأهن على الناس ، ثم نهى عن التجارة في الخمر ، وفي رواية لمسلم : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا ، خرج [ ص: 447 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فحرم التجارة في الخمر . وخرج مسلم من حديث أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حرم الخمر ، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء ، فلا يشرب ولا يبع . فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة ، فسفكوها . وخرجه أيضا من حديث ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل علمت أن الله قد حرمها ؟ قال : لا ، قال : فسار إنسانا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم ساررته ؟ قال : أمرته ببيعها ، قال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، قال : ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها . فالحاصل من هذه الأحاديث كلها أن ما حرم الله الانتفاع به ، فإنه يحرم بيعه وأكل ثمنه ، كما جاء مصرحا به في الرواية المتقدمة : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ، وهذه كلمة عامة جامعة تطرد في كل ما كان المقصود من الانتفاع به حراما ، وهو قسمان : أحدهما : ما كان الانتفاع به حاصلا مع بقاء عينه ، كالأصنام ، فإن منفعتها المقصودة منها الشرك بالله ، وهو أعظم المعاصي على الإطلاق ، ويلتحق بذلك ما كانت منفعته محرمة ، ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال ، وكذلك الصور المحرمة ، وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور ، وكذلك شراء الجواري للغناء . [ ص: 448 ] وفي " المسند " عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين ، وأمرني أن أمحق المزامير والكنارات - يعني البرابط والمعازف - والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية ، وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم ، معذبا أو مغفورا له ، ولا يسقيها صبيا صغيرا إلا سقيته مكانها من حميم جهنم معذبا أو مغفورا له ، ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيتها إياه في حظيرة القدس ، ولا يحل بيعهن ولا شراؤهن ، ولا تعليمهن ، ولا تجارة فيهن ، وأثمانهن حرام [ يعني ] المغنيات . وخرجه الترمذي ، ولفظه : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ، ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام ، في مثل ذلك أنزل الله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] الآية ، وخرجه ابن ماجه أيضا ، وفي إسناد الحديث مقال ، وقد روي نحوه من حديث عمر وعلي بإسنادين فيهما ضعف أيضا . ومن يحرم الغناء كأحمد ومالك ، فإنهما يقولان : إذا بيعت الأمة المغنية ، تباع على أنها ساذجة ، ولا يؤخذ لغنائها ثمن ، ولو كانت الجارية ليتيم ، ونص ذلك أحمد ، ولا يمنع الغناء من أصل بيع العبد والأمة ؛ لأن الانتفاع به في غير الغناء حاصل بالخدمة وغيرها ، وهو من أعظم مقاصد الرقيق . نعم ، لو علم [ ص: 449 ] أن المشتري لا يشتريه إلا للمنفعة المحرمة منه ، لم يجز بيعه له عند الإمام أحمد وغيره من العلماء ، كما لا يجوز بيع العصير ممن يتخذه خمرا ، ولا بيع السلاح في الفتنة ، ولا بيع الرياحين والأقداح لمن يعلم أنه يشرب عليها الخمر ، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة . والقسم الثاني : ما ينتفع به مع إتلاف عينه فإذا كان المقصود الأعظم منه محرما ، فإنه يحرم بيعه كما يحرم بيع الخنزير والخمر والميتة ، مع أن في بعضها منافع غير محرمة ، كأكل الميتة للمضطر ، ودفع الغصة بالخمر ، وإطفاء الحريق به ، والخرز بشعر الخنزير عند قوم ، والانتفاع بشعره وجلده عند من يرى ذلك ، ولكن لما كانت هذه المنافع غير مقصودة ، لم يعبأ بها ، وحرم البيع بكون المقصود الأعظم من الخنزير والميتة أكلهما ، ومن الخمر شربها ، ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك ، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى لما قيل له : أرأيت شحوم الميتة ، فإنها يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ، فقال : لا ، هو حرام

ص: 456 ] الحديث السادس والأربعون :.

عن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ، فسأله عن أشربة تصنع بها ، فقال : وما هي ؟ قال : البتع والمزر ، فقيل لأبي بردة : وما البتع ؟ قال : نبيذ العسل ، والمزر نبيذ الشعير ، فقال : كل مسكر حرام خرجه البخاري . الحاشية رقم: 1 وخرجه مسلم ، ولفظه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله ، إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له : المزر من الشعير ، وشراب يقال له : البتع من العسل ، فقال : كل مسكر حرام . وفي رواية لمسلم : فقال : كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام ، وفي رواية له قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال : أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة . فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات ، المغطية للعقل ، وقد ذكر الله في كتابه العلة المقتضية لتحريم المسكرات ، وكان أول ما حرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة لما صلى بعض المهاجرين وقرأ في صلاته ، فخلط في قراءته ، فنزل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] ، وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 457 ] ينادي لا يقرب الصلاة سكران ، ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ المائدة : 90 - 91 ] . فذكر سبحانه علة تحريم الخمر والميسر وهو القمار ، وهو أن الشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء ، فإن من سكر اختل عقله ، فربما تسلط على أذى الناس في أنفسهم وأموالهم ، وربما بلغ إلى القتل ، وهي أم الخبائث ، فمن شربها قتل النفس وزنا ، وربما كفر . وقد روي هذا المعنى عن عثمان وغيره ، وروي مرفوعا أيضا . ومن قامر فربما قهر ، وأخذ ماله قهرا ، فلم يبق له شيء ، فيشتد حقده على من أخذ ماله . وكل ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراما ، وأخبر سبحانه أن الشيطان يصد بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة ، فإن السكران يزول عقله أو يختل ، فلا يستطيع أن يذكر الله ، ولا أن يصلي ، ولهذا قال طائفة من السلف : إن شارب الخمر تمر عليه ساعة لا يعرف فيها ربه ، والله سبحانه إنما خلق الخلق ليعرفوه ، ويذكروه ، ويعبدوه ، ويطيعوه ، فما أدى إلى الامتناع من ذلك ، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته ، كان محرما ، وهو السكر ، وهذا بخلاف النوم ، فإن الله تعالى جبل العباد عليه ، واضطرهم إليه ، ولا قوام لأبدانهم إلا به ، إذ هو راحة لهم من السعي والنصب ، فهو من [ ص: 458 ] أعظم نعم الله على عباده ، فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة ، ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه ، كان نومه عونا له على الصلاة والذكر ، ولهذا قال من قال من الصحابة : إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي . وكذلك الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فإن صاحبه يعكف بقلبه عليه ، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه ، ولهذا قال علي لما مر على قوم يلعبون بالشطرنج : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ فشبههم بالعاكفين على التماثيل . وجاء في الحديث : إن مدمن الخمر كعابد وثن ، فإنه يتعلق قلبه بها ، فلا يكاد يمكنه أن يدعها كما لا يدع عابد الوثن عبادته . وهذا كله مضاد لما خلق الله العباد لأجله من تفريغ قلوبهم لمعرفته ، ومحبته ، وخشيته ، وذكره ، ومناجاته ، ودعائه ، والابتهال إليه ، فما حال بين العبد وبين ذلك ، ولم يكن بالعبد إليه ضرورة ، بل كان ضررا محضا عليه ، كان محرما ، وقد روي عن علي أنه قال لمن رآهم يلعبون بالشطرنج : ما لهذا خلقتم . ومن هنا يعلم أن الميسر محرم ، سواء كان بعوض أو بغير عوض ، وإن الشطرنج كالنرد أو شر منه ، لأنها تشغل أصحابها عن ذكر الله وعن [ ص: 459 ] الصلاة أكثر من النرد . والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل مسكر حرام ، وكل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام . وقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرجا في " الصحيحين " عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ولفظ مسلم : وكل مسكر حرام . وخرج أيضا من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع ، فقال : كل شراب أسكر فهو حرام وفي رواية لمسلم : كل شراب مسكر حرام وقد صحح هذا الحديث أحمد ويحيى بن معين وأصحابه واحتجا به ، ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته ، وأنه أثبت شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر . وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه ، فلا يثبت ذلك عنه . وخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل [ ص: 460 ] مسكر حرام . وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار ، وهو مذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وهو مما اجتمع على القول به أهل المدينة كلهم . وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة ، وقالوا : إن الخمر إنما هي خمر العنب خاصة ، وما عداها ، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر ، ولا يحرم ما دونه ، وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم ، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورا لهم ، وفيهم خلق من أئمة العلم والدين . قال ابن المبارك : ما وجدت في النبيذ رخصة عن أحد صحيح إلا عن إبراهيم ، يعني النخعي ، وكذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصح ، وقد صنف كتاب " الأشربة " ولم يذكر فيه شيئا من الرخصة ، وصنف كتابا في المسح على الخفين ، وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره ، فقيل له : كيف لم تجعل في كتاب الأشربة الرخصة كما جعلت في المسح ؟ فقال : ليس في الرخصة في السكر حديث صحيح . ومما يدل على أن كل مسكر خمر أن تحريم الخمر إنما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عما عندهم من الأشربة ، ولم يكن بها خمر العنب ، فلو لم [ ص: 461 ] تكن آية تحريم الخمر شاملة لما عندهم ، لما كان فيها بيان لما سألوا عنه ، ولكان محل السبب خارجا من عموم الكلام ، وهو ممتنع ، ولما نزل تحريم الخمر أراقوا ما عندهم من الأشربة ، فدل على أنهم فهموا أنه من الخمر المأمور باجتنابه . وفي " صحيح البخاري " عن أنس قال : حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا ، وعامة خمرنا البسر والتمر . وعنه أنه قال : إني لأسقي أبا طلحة ، وأبا دجانة ، وسهيل بن بيضاء خليط بسر وتمر إذ حرمت الخمر ، فقذفتها ، وأنا ساقيهم وأصغرهم ، وإنا نعدها يومئذ الخمر . وفي " الصحيحين " عنه قال : ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ . وفي " صحيح مسلم " عنه قال : لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر ، وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عمر ، قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما منها شراب العنب . وفي " الصحيحين " عن الشعبي ، عن ابن عمر ، قال : قام عمر على المنبر ، فقال : أما بعد ، نزل تحريم الخمر وهي من خمس : العنب ، والتمر ، والعسل [ ص: 462 ] والحنطة ، والشعير ، والخمر : ما خامر العقل . وخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر الترمذي أن قول من قال : عن الشعبي عن ابن عمر ، عن عمر - أصح ، وكذا قال ابن المديني . وروى أبو إسحاق عن أبي بردة قال : قال عمر : ما خمرته فعتقته ، فهو خمر ، وأنى كانت لنا الخمر خمر العنب . وفي " مسند " الإمام أحمد عن المختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفتة وقال : كل مسكر حرام قلت له : صدقت السكر حرام ، فالشربة والشربتان على طعامنا ؟ قال : المسكر قليله وكثيره حرام وقال : الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة ، فما خمرت من ذلك فهو الخمر ، خرجه أحمد عن عبد الله بن إدريس : سمعت المختار بن فلفل يقول فذكره ، وهذا إسناد على شرط مسلم . وفي " صحيح مسلم " ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة ، وهذا صريح في أن نبيذ التمر خمر . وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره ، كما خرجه أبو داود ، وابن [ ص: 463 ] ماجه ، والترمذي ، وحسنه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام . وخرج أبو داود ، والترمذي ، وحسنه من حديث عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق ، فملء الكف منه حرام ، وفي رواية الحسوة منه حرام ، وقد احتج به أحمد وذهب إليه . وسئل عمن قال : إنه لا يصح ؟ فقال : هذا رجل مغل ، يعني أنه قد غلا في مقالته . وقد خرج النسائي هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة يطول ذكرها . وروى ابن عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، حدثني أبو وهيب الجيشاني ، عن وفد أهل اليمن أنهم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن أشربة تكون باليمن ، قال : فسموا له البتع من العسل ، والمزر من الشعير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تسكرون منها ؟ قالوا : إن أكثرنا سكرنا ، قال : فحرام قليله ما أسكر كثيره خرجه القاضي إسماعيل . وقد كانت الصحابة تحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : كل مسكر حرام على تحريم جميع أنواع المسكرات ، ما كان موجودا منها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما حدث بعده ، كما سئل ابن عباس عن الباذق ، فقال : سبق محمد الباذق ، فما أسكر ، [ ص: 464 ] فهو حرام ، خرجه البخاري ، يشير إلى أنه إن كان مسكرا ، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة

ص: 467 ] الحديث السابع والأربعون :

عن المقدام بن معدي كرب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام ، وخرجه النسائي من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده ، وخرجه ابن ماجه من وجه آخر عنه وله طرق أخرى . وقد روي هذا الحديث مع ذكر سببه ، فروى أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث عبد الرحمن بن المرقع ، قال : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وهي مخضرة من الفواكه ، فواقع الناس الفاكهة ، فمغثتهم الحمى ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الحمى رائد الموت وسجن الله في [ ص: 468 ] الأرض ، وهي قطعة من النار ، فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان ، فصبوها عليكم بين الصلاتين يعني المغرب والعشاء ، قال : ففعلوا ذلك ، فذهبت عنهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرا من بطن ، فإن كان لا بد ، فاجعلوا ثلثا للطعام ، وثلثا للشراب ، وثلثا للريح . وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها . وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في " كتاب " أبي خيثمة ، قال : لو استعمل الناس هذه الكلمات ، سلموا من الأمراض والأسقام ، ولتعطلت المارستانات ودكاكين الصيادلة ، وإنما قال هذا ؛ لأن أصل كل داء التخم ، كما قال بعضهم : أصل كل داء البردة ، وروي مرفوعا ولا يصح رفعه . وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب : الحمية رأس الدواء ، والبطنة رأس [ ص: 469 ] الداء ، ورفعه بعضهم ولا يصح أيضا . وقال الحارث أيضا : الذي قتل البرية ، وأهلك السباع في البرية إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام . وقال غيره : لو قيل لأهل القبور : ما كان سبب آجالكم ؟ قالوا : التخم . فهذا بعض منافع تقليل الغذاء ، وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته . وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب ، وقوة الفهم ، وانكسار النفس ، وضعف الهوى والغضب ، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك . قال الحسن : يابن آدم كل في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلث بطنك يتنفس لتتفكر . وقال المروذي : جعل أبو عبد الله ، يعني أحمد يعظم أمر الجوع والفقر ، فقلت له : يؤجر الرجل في ترك الشهوات ، فقال : وكيف لا يؤجر ، وابن عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع ؟ قال : ما أرى . وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه ، فروى بإسناده عن ابن سيرين ، قال : قال رجل لابن عمر : ألا أجيئك بجوارش ؟ قال : [ ص: 470 ] وأي شيء هو ؟ قال : شيء يهضم الطعام إذا أكلته ، قال : ما شبعت منذ أربعة أشهر ، وليس ذاك أني لا أقدر عليه ، ولكن أدركت أقواما يجوعون أكثر مما يشبعون . وبإسناده عن نافع ، قال : جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : جوارش : شيء يهضم به الطعام ، قال : ما أصنع به ؟ إني ليأتي علي الشهر ما أشبع فيه من الطعام . وبإسناده عن رجل قال : قلت لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن رقت مضغتك ، وكبر سنك ، وجلساؤك لا يعرفون لك حقك ولا شرفك ، فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئا يلطفونك إذا رجعت إليهم ، قال : ويحك ، والله ما شبعت منذ إحدى عشرة سنة ، ولا اثنتي عشرة سنة ، ولا ثلاث عشرة سنة ، ولا أربع عشرة سنة مرة واحدة ، فكيف بي وإنما بقي مني كظمء الحمار . وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنه كان يدع كثيرا من الشبع مخافة الأشر . وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " بإسناده عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما شبعت منذ أسلمت . [ ص: 471 ] وروى بإسناده عن محمد بن واسع ، قال : من قل طعمه فهم وأفهم ، وصفا ، ورق ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد . وعن أبي عبيدة الخواص ، قال : حتفك في شبعك ، وحظك في جوعك ، وإذا أنت شبعت ثقلت ، فنمت ، استمكن منك العدو فجثم عليك ، وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد . وعن عمرو بن قيس ، قال : إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب . وعن سلمة بن سعيد قال : إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله . وعن بعض العلماء قال : إذا كنت بطينا ، فاعدد نفسك زمنا حتى تخمص . وعن ابن الأعرابي قال : كانت العرب تقول : ما بات رجل بطينا فتم عزمه . وعن أبي سليمان الداراني قال : إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة ، فلا تأكل حتى تقضيها ، فإن الأكل يغير العقل . وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه ، وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه . قال : وحدثني الحسن بن عبد الرحمن ، قال : قال الحسن أو غيره : كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلة ، وهي بليتكم إلى يوم القيامة . قال : وكان يقال : من ملك بطنه ، ملك الأعمال الصالحة كلها ، وكان يقال : لا تسكن الحكمة معدة ملأى . [ ص: 472 ] وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان يقال : قلة الطعم عون على التسرع إلى الخيرات . وعن قثم العابد قال : كان يقال : ما قل طعم امرئ قط إلا رق قلبه ، ونديت عيناه . وعن عبد الله بن مرزوق قال : لم نر للأشر مثل دوام الجوع ، فقال له أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : وما دوامه عندك ؟ قال : دوامه أن لا تشبع أبدا . قال : وكيف يقدر من كان في الدنيا على هذا ؟ قال : ما أيسر ذلك يا أبا عبد الرحمن على أهل ولايته ومن وفقه لطاعته ، لا يأكل إلا دون الشبع هو دوام الجوع . ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعام على بعض أصحابه ، فقال له : أكلت حتى لا أستطيع أن آكل ، فقال الحسن : سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل ؟ ! . وروى أيضا بإسناده عن أبي عمران الجوني ، قال : كان يقال : من أحب أن ينور قلبه ، فليقل طعمه . وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إلي سفيان الثوري : إن أردت أن يصح جسمك ، ويقل نومك ، فأقل من الأكل . وعن ابن السماك قال : خلا رجل بأخيه ، فقال : أي أخي ، نحن أهون على الله من أن يجيعنا ، إنما يجيع أولياءه . وعن عبد الله بن الفرج قال : قلت لأبي سعيد التميمي : الخائف يشبع ؟ [ ص: 473 ] قال : لا ، قلت : المشتاق يشبع ؟ قال : لا . وعن رياح القيسي أنه قرب إليه طعام ، فأكل منه ، فقيل له : ازدد فما أراك شبعت ، فصاح صيحة وقال : كيف أشبع أيام الدنيا وشجرة الزقوم طعام الأثيم بين يدي ؟ فرفع الرجل الطعام من بين يديه ، وقال : أنت في شيء ونحن في شيء . قال المروذي : قال لي رجل : كيف ذاك المتنعم ؟ يعني أحمد ، قلت له : وكيف هو متنعم ؟ قال : أليس يجد خبزا يأكل ، وله امرأة يسكن إليها ، ويطؤها ، فذكرت ذلك لأبي عبد الله فقال : صدق ، وجعل يسترجع ، وقال : إنا لنشبع . وقال بشر بن الحارث : ما شبعت منذ خمسين سنة ، وقال : ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال ، لأنه إذا شبع من الحلال ، دعته نفسه إلى الحرام ، فكيف من هذه الأقذار ؟ . وعن إبراهيم بن أدهم قال : من ضبط بطنه ضبط دينه ، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة ، وإن معصية الله بعيدة من الجائع ، قريبة من الشبعان ، والشبع يميت القلب ، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك . وقال ثابت البناني : بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام ، فرأى عليه معاليق من كل شيء ، فقال له يحيى : يا إبليس ، ما هذه المعاليق التي أرى عليك ؟ قال : هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيء ؟ قال : ربما شبعت ، فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر ، قال : فهل غير هذا ؟ قال : لا ، قال : لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا ، قال : فقال إبليس : لله علي أن لا أنصح مسلما أبدا . [ ص: 474 ] وقال أبو سليمان الداراني : إن النفس إذا جاعت وعطشت ، صفا القلب ورق ، وإذا شبعت ورويت ، عمي القلب ، وقال : مفتاح الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل ، وإن الله ليعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة ، فلا يعطي إلا من أحب خاصة ، ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلي من أن آكلها ثم أقوم من أول الليل إلى آخره . وقال الحسن بن يحيى الخشني : من أراد أن تغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه ، وقال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت بهذا أبا سليمان فقال : إنما جاء الحديث : " ثلث طعام وثلث شراب " وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم ، فربحوا سدسا . وقال محمد بن النضر الحارثي : الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأشر . وعن الشافعي ، قال : ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة اطرحتها ، لأن الشبع يثقل البدن ، ويزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة . وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام ، وقال : حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه . وفي " الصحيحين " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء والمراد أن المؤمن [ ص: 475 ] يأكل بأدب الشرع ، فيأكل في معى واحد والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنهم ، فيأكل في سبعة أمعاء . وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه ، فقال : طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة فأحسن ما أكل المؤمن في ثلث بطنه ، وشرب في ثلث ، وترك للنفس ثلثا ، كما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام ، فإن كثرة الشرب تجلب النوم ، وتفسد الطعام . قال سفيان : كل ما شئت ولا تشرب ، فإذا لم تشرب ، لم يجئك النوم . وقال بعض السلف : كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل ، فإذا كان عند فطرهم ، قام عليهم قائم فقال : لا تأكلوا كثيرا ، فتشربوا كثيرا ، فتناموا كثيرا ، فتخسروا كثيرا . وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيرا ، ويتقللون من أكل الشهوات ، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام ، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها . ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك - مع قدرته على الطعام - وكذلك كان أبوه من قبله . [ ص: 476 ] ففي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض . ولمسلم : قالت : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض . وخرج البخاري عن أبي هريرة قال : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قبض . وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير . وفي " صحيح مسلم " عن عمر أنه خطب ، فذكر ما أصاب الناس من الدنيا ، فقال : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه . وخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال . وخرجه ابن ماجه بإسناده عن سليمان بن صرد ، قال : أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمكثنا ثلاث ليال لا نقدر - أو لا يقدر - على طعام . [ ص: 477 ] وبإسناده عن أبي هريرة ، قال أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطعام سخن فأكل ، فلما فرغ قال : الحمد لله ، ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا . وقد ذم الله ورسوله من اتبع الشهوات ، قال تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب [ مريم : 59 - 60 ] . وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن . وفي " المسند " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا سمينا فجعل يومئ بيده إلى بطنه ويقول : لو كان هذا في غير هذا ، لكان خيرا لك . وفي " المسند " عن أبي برزة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ، ومضلات الهوى . وفي " مسند البزار " وغيره عن فاطمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : شرار أمتي [ ص: 478 ] الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدقون في الكلام . وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر ، قال : تجشأ رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : كف عنا جشاءك ، فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة . وخرجه ابن ماجه من حديث سلمان أيضا بنحوه ، وخرجه الحاكم من [ ص: 479 ] حديث أبي جحيفة ، وفي أسانيدها كلها مقال . وروى يحيى بن منده في كتاب " مناقب الإمام أحمد " بإسناد له عن الإمام أحمد أنه سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس فقال : ثلث للطعام : هو القوت ، وثلث للشراب : هو القوى ، وثلث للنفس : هو الروح والله أعلم .

ص: 480 ] الحديث الثامن والأربعون .

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أربع من كن فيه كان منافقا ، ومن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص . وخرجاه في " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان . وفي رواية لمسلم : وصلى وزعم أنه مسلم وفي رواية له أيضا : من علامات المنافق ثلاثة . وقد روي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر . وهذا الحديث قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم حدثوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذبوه ، وائتمنهم على سره فخانوه ، ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه ، وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء ، وأنه قال : حدثني به جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر أن الحسن [ ص: 481 ] رجع إلى قول عطاء هذا لما بلغه عنه ، وهذا كذب ، والمحرم هذا شيخ كذاب معروف بالكذب . وقد روي عن عطاء هذا من وجهين آخرين ضعيفين أنه أنكر على الحسن قوله : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وقال : قد حدث إخوة يوسف فكذبوا ، ووعدوا فأخلفوا ، وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين ، وهذا لا يصح عن عطاء ، والحسن لم يقل هذا من عنده وإنما بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فالحديث ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - لا شك في ثبوته وصحته ، والذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه ، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين : أحدهما : النفاق الأكبر ، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه ، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم ، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار . والثاني : النفاق الأصغر ، وهو نفاق العمل ، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ، ويبطن ما يخالف ذلك . وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث ، وهي خمسة : أحدها : أن يحدث بحديث لمن يصدقه به وهو كاذب له ، وفي " المسند " [ ص: 482 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق ، وأنت به كاذب . قال الحسن : كان يقال : النفاق اختلاف السر والعلانية ، والقول والعمل ، والمدخل والمخرج ، وكان يقال : أس النفاق الذي بني عليه الكذب . والثاني : إذا وعد أخلف ، وهو على نوعين : أحدهما : أن يعد ومن نيته أن لا يفي بوعده ، وهذا أشر الخلف ، ولو قال : أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل ، كان كذبا وخلفا ، قاله الأوزاعي .

ص: 496 ] الحديث التاسع والأربعون .

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " والحاكم ، وقال الترمذي : حسن صحيح . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه هؤلاء كلهم من رواية عبد الله بن هبيرة ، سمع أبا تميم الجيشاني ، سمع عمر بن الخطاب يحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو تميم وعبد الله بن هبيرة خرج لهما مسلم ، ووثقهما غير واحد ، وأبو تميم ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهاجر إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه . وقد روي هذا الحديث من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن في إسناده من لا يعرف حاله . قاله أبو حاتم الرازي . وهذا الحديث أصل في التوكل ، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها [ ص: 497 ] الرزق ، قال الله عز وجل : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 2 - 3 ] ، وقد قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية على أبي ذر ، وقال له : لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم يعني : لو حققوا التقوى والتوكل ؛ لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم . وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث ابن عباس : احفظ الله يحفظك . قال بعض السلف : بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه ، فكم من عبد من عباده قد فوض إليه أمره ، فكفاه منه ما أهمه ، ثم قرأ : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وحقيقة التوكل : هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ، وكلة الأمور كلها إليه ، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه . قال سعيد بن جبير : التوكل جماع الإيمان . وقال وهب بن منبه : الغاية القصوى التوكل . قال الحسن : إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته . وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من سره أن يكون أقوى الناس ، فليتوكل على الله . [ ص: 498 ] وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه : اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك ، وأنه كان يقول : اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته . واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها ، وجرت سنته في خلقه بذلك ، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل ، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له ، والتوكل بالقلب عليه إيمان به ، كما قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم [ النساء : 71 ] ، وقال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [ الأنفال : 60 ] ، وقال : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . وقال سهل التستري : من طعن في الحركة - يعني في السعي والكسب - فقد طعن في السنة ، ومن طعن في التوكل ، فقد طعن في الإيمان ، فالتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والكسب سنته ، فمن عمل على حاله ، فلا يتركن سنته .

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ . الحاشية رقم: 1 وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . وخرجه الترمذي ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفردون ؟ قال : المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا . وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه ، فقال : يا معاذ أين السابقون ؟ فقلت : قد مضوا وتخلف أناس . فقال : يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله عز وجل خرجه جعفر الفريابي . [ ص: 512 ] ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث ، فإنه لما سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ، ويولعون به ، فإن الاستهتار بالشيء : هو الولوع به والشغف ، حتى لا يكاد يفارق ذكره ، وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم ، فقال فيه : الذين أهتروا في ذكر الله وفسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام ، كما في الحديث : المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران . قال : والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي ، إما عن القرن أو عن المخالطة ، والله أعلم . ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة : ليس السابق اليوم من سبق بعيره ، وإنما السابق من غفر له . وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أحب أن يرتع في رياض الجنة ، فليكثر ذكر الله عز وجل . [ ص: 513 ] وخرج الإمام أحمد والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات الصاحات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون . وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عباس مرفوعا : اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون : إنكم تراءون . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، وقيل : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . [ ص: 514 ] وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ ، [ عن أبيه ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله فقال : أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، قال : فأي الصائمين أعظم ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أكثرهم لله ذكرا : ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل . وقد خرجه ابن المبارك ، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه . وقال أبو الدرداء : الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله ، يدخل أحدهما الجنة وهو يضحك ، وقيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وقال معاذ : لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل . [ ص: 515 ] وقال ابن مسعود في قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وخرجه الحاكم مرفوعا وصححه ، والمشهور وقفه . وقال زيد بن أسلم : قال موسى عليه السلام : يا رب ، قد أنعمت علي كثيرا ، فدلني على أن أشكرك كثيرا ، قال : اذكرني كثيرا ، فإن ذكرتني كثيرا ، فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني . وقال الحسن : أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا . وقال أحمد بن أبي الحواري : حدثني أبو المخارق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش ، فقلت : من هذا ؟ ملك ؟ قيل : لا ، قلت : نبي ؟ قيل : لا ، قلت : من هو ؟ قال : هذا رجل كان لسانه رطبا من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم يستسب والديه قط . وقال ابن مسعود : قال موسى عليه السلام : رب أي الأعمال أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني فلا تنساني . وقال أبو إسحاق بن ميثم : بلغني أن موسى عليه السلام ، قال : رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : أكثرهم لي ذكرا . وقال كعب : من أكثر ذكر الله ، برئ من النفاق ، ورواه مؤمل ، عن حماد بن سلمة ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا [ ص: 516 ] وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعا : من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان . ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ، فمن أكثر ذكر الله ، فقد باينهم في أوصافهم ، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله ، وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد ، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله ، فهو من الخاسرين . قال الربيع بن أنس ، عن بعض أصحابه : علامة حب الله كثرة ذكره ، فإنك لن تحب شيئا إلا أكثرت ذكره . وقال فتح الموصلي : المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين ، قال ذو النون : من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر ، قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه . قال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان ، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله . وكان بعض السلف يقول في مناجاته : إذا سئم البطالون من بطالتهم ، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك . قال أبو جعفر المحولي : ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته . وقد ذكرنا قول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه ، والمعنى : في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه ، وسواء كان على [ ص: 517 ] طهارة أو على حدث . وقال مسعر : كانت دواب البحر في البحر تسكن ، ويوسف عليه السلام في السجن لا يسكن عن ذكر الله عز وجل . وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به . وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن ، فلما مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح . وقيل لعمير بن هانئ : ما نرى لسانك يفتر ، فكم تسبح كل يوم ؟ قال مائة ألف تسبيحة ، إلا أن تخطئ الأصابع ، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت فلما بلغت القبر ، اختلست من أيدي الرجال . وكان الحسن البصري كثيرا ما يقول إذا لم يحدث ، ولم يكن له شغل : سبحان الله العظيم ، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال : إن صاحبكم لفقيه ، ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيت في الجنة . وكان عامة كلام ابن سيرين : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده . كان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون ، نزل إلى البحر ، وقام [ ص: 518 ] في الماء يذكر الله مع دواب البحر . نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال : فكنت كلما استيقظت من الليل ، وجدته يذكر الله ، فأغتم ، ثم أعزي نفسي بهذه الآية : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه ، فلو كلف أن ينسى تذكره لما قدر ، ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر . كيف ينسى المحب ذكر حبيب اسمه في فؤاده مكتوب كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول : أحد أحد ، فإذا قالوا له : قل : واللات والعزى ، قال : لا أحسنه . يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل كلما قويت المعرفة ، صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة ، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه : الله الله ، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح ، كما يلهمون النفس ، وتصير " لا إله إلا الله " لهم ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، كان الثوري ينشد : لا لأني أنساك أكثر ذكرا ك ولكن بذاك يجري لساني إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه ، وتضاعف قلقه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود : اقرأ علي القرآن ، قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ عليه ، ففاضت عيناه . [ ص: 519 ] سمع الشبلي قائلا يقول : يا ألله يا جواد ، فاضطرب : وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري النبض ينزعج عند ذكر المحبوب : إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ترنح نشوان وحن طروب ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الأنفال : 2 ] . وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه . قال أبو الجلد : أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتني ، فاذكرني ، وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا ، وإذا ذكرتني ، فاجعل لسانك من وراء قلبك . وصف علي يوما الصحابة ، فقال : كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في اليوم الشديد الريح ، وجرت دموعهم على ثيابهم . قال زهير البابي : إن لله عبادا ذكروه ، فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا ، وقوم ذكروه ، فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة ، فلو حرقوا بالنار ، لم يجدوا مس النار ، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقا من خوفه ، وقوم ذكروه ، فحالت ألوانهم غبرا ، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا . [ ص: 520 ] صلى أبو يزيد الظهر ، فلما أراد أن يكبر ، لم يقدر إجلالا لاسم الله ، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه . كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يرى جميع ذلك من عنده ، وكان يقول : ما أظن محقا يذكر الله عن غير غفلة ، ثم يبقى حيا إلا الأنبياء ، فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم . إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت مفاصلها من هول ما تتذكر وقف أبو زيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول : لا إله إلا الله ، فما قدر إجلالا وهيبة ، فلما كان عند الصباح نزل ، فبال الدم . وما ذكرتكم إلا نسيتكم نسيان إجلال لا نسيان إهمال إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا أجللت مثلكم يخطر على بالي الذكر لذة قلوب العارفين . قال الله عز وجل : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد : 28 ] . قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل . وفي بعض الكتب السالفة : يقول الله عز وجل : معشر الصديقين بي فافرحوا ، وبذكري فتنعموا . وفي أثر آخر سبق ذكره : وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها . وعن ابن عمر قال : أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها ، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها . قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره ، وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته ، [ ص: 521 ] قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره ، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه ، ولا طابت الجنة إلا برؤيته . أبدا نفوس الطالبيـ ــن إلى طلولكم تحن وكذا القلوب بذكركم بعد المخافة تطمئن جنت بحبكم ومن يهوى الحبيب ولا يجن بحياتكم يا سادتي جودوا بوصلكم ومنوا قد سبق حديث : اذكروا الله حتى يقولوا : مجنون ولبعضهم : لقد أكثرت من ذكرا ك حتى قيل وسواس كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر ، فرآه بعض الناس فأنكر حاله ، فقال لأصحابه : أمجنون صاحبكم ؟ فسمعه أبو مسلم ، فقال لا يا أخي ، ولكن هذا دواء الجنون . وحرمة الود ما لي عنكم عوض وليس لي في سواكم سادتي غرض وقد شرطت على قوم صحبتهم بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا ومن حديثي بكم قالوا : به مرض فقلت : لا زال عني ذلك المرض المحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر ، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم . قال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين كلموا الله كثيرا ، وكلموا الناس قليلا ، قالوا : كيف نكلم الله كثيرا ؟ قال : اخلوا بمناجاته ، اخلوا بدعائه . وكان بعض السلف يصلي كل يوم ألف ركعة حتى أقعد من رجليه ، فكان [ ص: 522 ] يصلي جالسا ألف ركعة ، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ، ويقول : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وكان بعضهم يصوم الدهر ، فإذا كان وقت الفطور ، قال : أحس نفسي تخرج لاشتغالي عن الذكر بالأكل . قيل لمحمد بن النضر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني . كتمت اسم الحبيب من العباد ورددت الصبابة في فؤادي فواشوقا إلى بلد خلي لعلي باسم من أهوى أنادي فإذا قوي حال المحب ومعرفته ، لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل ، فهو بين الخلق بجسمه ، وقلبه معلق بالمحل الأعلى ، كما قال علي رضي الله عنه في وصفهم : صحبوا الدنيا بأجساد أوراحها معلقة بالمحل الأعلى ، وفي هذا المعنى قيل : جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن وقال غيره : ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وهذه كانت حال الرسل والصديقين ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ الأنفال : 45 ] . [ ص: 523 ] وفي " الترمذي " مرفوعا : يقول الله عز وجل : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه . وقال تعالى : فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم [ النساء : 103 ] يعني الصلاة في حال الخوف ، ولهذا قال : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ النساء : 103 ] ، وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الجمعة : 10 ] ، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله ، وكثرة ذكره . ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند " و " الترمذي " ، و " سنن ابن ماجه " عن عمر مرفوعا : من دخل سوقا يصاح فيها ويباع ، فقال : لا إله إلا وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة . وفي حديث آخر : ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين ، وذاكر الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس . [ ص: 524 ] قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ما دام قلب الرجل يذكر الله ، فهو في صلاة ، وإن كان في السوق وإن حرك به شفتيه فهو أفضل . وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة . والتقى رجلان منهم في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى نذكر الله في غفلة الناس ، فخلوا في موضع ، فذكرا الله ، ثم تفرقا ، ثم مات أحدهما ، فلقيه الآخر في منامه ، فقال له : أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق ؟--Hussein2016 (نقاش) 21:12، 24 مايو 2016 (ت ع م)--Hussein2016 (نقاش) 21:12، 24 مايو 2016 (ت ع م)ردّ

شرح خمسين حديث

  1. جامع_العلوم_والحكم_لإبن_رجب_الحنبلى

رابط الصفحة

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=506810766167869&id=242242652624683

🌻🌻🌻مقدمة المؤلف 🌻🌻🌻

[ص: 53 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، وجعل أمتنا - ولله الحمد - خير أمة ، وبعث فينا منا يتلو علينا آياته ، ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة . أحمده على نعمه الجمة ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله للعالمين رحمة ، وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا ، فأوضح لنا كل الأمور المهمة ، وخصه بجوامع الكلم ، فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة ، أو شطر كلمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، صلاة تكون لنا نورا من كل ظلمة ، وسلم تسليما كثيرا . أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم ، وخصه ببدائع الحكم . كما في " الصحيحين " ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بجوامع الكلم قال الزهري : جوامع الكلم - فيما بلغنا - أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ، ونحو ذلك . [ ص: 54 ] خرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عمرو بن العاص ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع ، فقال : " أنا محمد النبي الأمي " . قال ذلك ثلاث مرات . " ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " ، وذكر الحديث . وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إنى أوتيت جوامع الكلم وخواتمه ، واختصر لي اختصارا " . وخرج الدارقطني من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت جوامع الكلم ، واختصر لي الحديث اختصارا . وروينا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق القرشي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " فقلنا : يا رسول الله ، علمنا مما علمك الله عز وجل ، قال : فعلمنا التشهد . [ ص: 55 ] ‌ وفي " صحيح مسلم " ، عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ، عن البتع والمزر ، قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه ، فقال : أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة . وروى هشام بن عمار في كتاب " المبعث " بإسناده ، عن أبي سلام الحبشي ، قال : حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " فضلت على من قبلي بست ولا فخر " فذكر منها : قال : " وأعطيت جوامع الكلم ، وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءا بالليل إلى الصباح ، فجمعها لي ربي في آية واحدة سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( الحديد : 1 ) . فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : أحدهما : ما هو في القرآن ، كقوله عز وجل : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ( النحل : 90 ) قال الحسن : لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به ، ولا شرا إلا نهت عنه . والثاني : ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم ، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه [ ص: 56 ] صلى الله عليه وسلم . وقد جمع العلماء جموعا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة ، فصنف الحافظ أبو بكر بن السني كتابا سماه : " الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة " وجمع القاضي أبو عبد الله القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابا سماه : " الشهاب في الحكم والآداب " ، وصنف على منواله قوم آخرون ، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة . وأشار الخطابي في أول كتابه " غريب الحديث " إلى يسير من الأحاديث الجامعة . وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسا سماه " الأحاديث الكلية " جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال : إن مدار الدين عليها ، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة ، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا . ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا يحيى النووي رحمة الله عليه أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح ، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثا ، وسمى كتابه " بالأربعين " ، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها ، وكثر حفظها ، ونفع الله بها ببركة نية جامعها ، وحسن قصده رحمه الله . وقد تكرر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث المشار إليها ، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع كتاب يتضمن شرح ما ييسره الله تعالى من معانيها ، وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها ، وإياه أسأل العون على ما قصدت ، والتوفيق لصلاح النية والقصد فيما أردت ، وأعول في أمري كله عليه ، وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه . وقد كان بعض من شرح هذه الأربعين قد تعقب على جامعها رحمه الله تركه [ ص: 57 ] لحديث : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر قال : لأنه الجامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم ، فكان ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة ، كما ذكر حديث البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر لجمعه لأحكام القضاء . فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ رحمه الله ، وأن أضم إلى ذلك كله أحاديث أخر من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلوم والحكم ، حتى تكمل عدة الأحاديث كلها خمسين حديثا ، وهذه تسمية الأحاديث المزيدة على ما ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه : حديث : ألحقوا الفرائض بأهلها حديث : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب حديث : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه حديث : كل مسكر حرام حديث : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن حديث : أربع من كن فيه كان منافقا حديث : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير حديث : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل . وسميته : [ ص: 58 ] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم . واعلم أنه ليس غرضي إلا شرح الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية ، فلذلك لا أتقيد بكلام الشيخ رحمه الله في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها ، وإنما آتي بالمعنى الذي يدل على ذلك ؛ لأني قد أعلمتك أنه ليس لي غرض إلا في شرح معاني كلمات النبي صلى الله عليه وسلم الجوامع ، وما يتضمنه من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع . وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده ؛ ليعلم بذلك صحته وقوته وضعفه ، وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ ، وإن لم يكن في الباب غيره ، أو لم يكن يصح فيه غيره ، نبهت على ذلك كله ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

[ ص: 59 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحديث الأول

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن أبي وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، [ ص: 60 ] وليس له طريق تصح غير هذا الطريق ، كذا قال علي بن المديني وغيره . وقال الخطابي : لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في ذلك ، مع أنه قد روي من حديث أبي سعيد وغيره ، وقد قيل إنه قد روي من طرق كثيرة ، لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ . ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير ، فقيل : رواه عنه أكثر من مائتي راو ، وقيل : رواه عنه سبعمائة راو ، ومن أعيانهم : مالك ، والثوري ، [ ص: 61 ] والأوزاعي ، وابن المبارك ، والليث بن سعد وحماد بن زيد ، وشعبة ، وابن عيينة ، وغيرهم . واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول ، وبه صدر البخاري كتابه " الصحيح " وأقامه مقام الخطبة له ، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله ، فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي : لو صنفت كتابا في الأبواب ، لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب ، وعنه أنه قال : من أراد أن يصنف كتابا ، فليبدأ بحديث " الأعمال بالنيات " . وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها ، فروي عن الشافعي أنه قال : هذا الحديث ثلث العلم ، ويدخل في سبعين بابا من الفقه . وعن الإمام أحمد قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات وحديث عائشة : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين . وقال الحاكم : حدثونا عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه أنه ذكر قوله عليه الصلاة والسلام : الأعمال بالنيات وقوله : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، وقوله : من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد فقال : ينبغي أن يبدأ بهذه الأحاديث في كل تصنيف ، فإنها أصول الأحاديث [ ص: 62 ] وعن إسحاق بن راهويه قال : أربعة أحاديث هي من أصول الدين : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث : الحلال بين والحرام بين ، وحديث إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه ، وحديث : من صنع في أمرنا شيئا ليس منه فهو رد . وروى عثمان بن سعيد ، عن أبي عبيد ، قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ، وجمع أمر الدنيا كله في كلمة : إنما الأعمال بالنيات يدخلان في كل باب . وعن أبي داود ، قال نظرت في الحديث المسند ، فإذا هو أربعة آلاف حديث ، ثم نظرت ، فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث : حديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين ، وحديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث أبي هريرة : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . قال : فكل حديث من هذه ربع العلم . وعن أبي داود أيضا ، قال كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث ، انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب - يعني كتاب " السنن " - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث : أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ، والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، والثالث : قوله صلى الله عليه وسلم لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا [ ص: 63 ] يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، والرابع : قوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين . وفي رواية أخرى عنه أنه قال : الفقه يدور على خمسة أحاديث : الحلال بين والحرام بين ، وقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ، وقوله الأعمال بالنيات ، وقوله الدين النصيحة ، وقوله : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم . وفي رواية عنه ، قال : أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث : حديث عمر الأعمال بالنيات ، وحديث : الحلال بين والحرام بين ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، وحديث : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس . وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي : عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البريه اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه فقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ، وفي رواية : الأعمال بالنيات . وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح ، وليس غرضنا هاهنا توجيه ذلك ، ولا بسط القول فيه . وقد اختلف في تقدير قوله : الأعمال بالنيات ، فكثير من المتأخرين يزعم [ ص: 64 ] أن تقديره : الأعمال صحيحة أو معتبرة ومقبولة بالنيات ، وعلى هذا فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية ، فأما ما لا يفتقر إلى النية كالعادات من الأكل والشرب ، واللبس وغيرها ، أو مثل رد الأمانات والمضمونات ، كالودائع والغصوب ، فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية ، فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة هاهنا . وقال آخرون : بل الأعمال هاهنا على عمومها ، لا يخص منها شيء . وحكاه بعضهم عن الجمهور ، وكأنه يريد به جمهور المتقدمين ، وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري ، وأبي طالب المكي وغيرهما من المتقدمين ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد . قال في رواية حنبل : أحب لكل من عمل عملا من صلاة ، أو صيام ، أو صدقة ، أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات ، فهذا يأتي على كل أمر من الأمور . وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد - عن النية في العمل ، قلت كيف النية ؟ قال : يعالج نفسه ، إذا أراد عملا لا يريد به الناس . وقال أحمد بن داود الحربي : قال حدث يزيد بن هارون بحديث عمر : الأعمال بالنيات ، وأحمد جالس ، فقال أحمد ليزيد : يا أبا خالد ، هذا الخناق . وعلى هذا القول فقيل : تقدير الكلام : الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات ، فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سبب عملها ووجودها ، ويكون قوله بعد ذلك : وإنما لكل امرئ ما نوى إخبارا عن حكم الشرع ، وهو أن حظ العامل من عمله نيته ، فإن كانت صالحة ، فعمله صالح ، فله أجره ، وإن كانت فاسدة ، فعمله فاسد ، فعليه وزره . ويحتمل أن يكون التقدير في قوله : الأعمال بالنيات : الأعمال صالحة ، [ ص: 65 ] أو فاسدة ، أو مقبولة ، أو مردودة ، أو مثاب عليها ، أو غير مثاب عليها بالنيات ، فيكون خبرا عن حكم شرعي ، وهو أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النيات وفسادها ، كقوله : صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالخواتيم أي : إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمه بحسب الخاتمة . وقوله بعد ذلك : وإنما لكل امرئ ما نوى إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به ، فإن نوى خيرا حصل له خير ، وإن نوى به شرا حصل له شر ، وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولى ، فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده ، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة ، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة ، وقد تكون نيته مباحة ، فيكون العمل مباحا ، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب ، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه ، المقتضية لوجوده ، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي بها صار العمل صالحا ، أو فاسدا ، أو مباحا .

[ ص: 93 ] الحديث الثاني :

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال يا محمد ، أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " . قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : " أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك " . قال : فأخبرني عن الساعة ؟ . قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . قال : فأخبرني عن أمارتها ؟ . قال : " أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " . [ ص: 94 ] ثم انطلق ، فلبثت مليا ، ثم قال لي : " يا عمر ، أتدري من السائل ؟ . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه ، فخرجه من طريق كهمس عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ، ويتقفرون العلم ، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف . فقال : إذا لقيت أولئك ، فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم برآء مني ، [ ص: 95 ] والذي يحلف به عبد الله بن عمر ، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا ، فأنفقه ، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث بطوله . ثم خرجه من طرق أخرى ، بعضها يرجع إلى عبد الله بن بريدة ، وبعضها يرجع إلى يحيى بن يعمر ، وذكر أن في بعض ألفاظها زيادة ونقصا . وخرجه ابن حبان في " صحيحه " من طريق سليمان التيمي ، عن يحيى بن يعمر ، وقد خرجه مسلم من هذا الطريق ، إلا أنه لم يذكر لفظه ، وفيه زيادات منها : في الإسلام ، قال : " وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة ، وأن تتم الوضوء [ وتصوم رمضان ] " قال : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مسلم ؟ قال : نعم . وقال في الإيمان : " وتؤمن بالجنة والنار والميزان " ، وقال فيه : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مؤمن ؟ قال : " نعم " . وقال في آخره : " هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم ، خذوا عنه ، والذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه ، وما عرفته حتى ولى " . وخرجنا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس ، فأتاه رجل ، فقال : ما الإيمان ؟ فقال : " الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ، وبلقائه ، ورسله ، وتؤمن بالبعث الآخر " . قال : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال : " الإسلام : أن تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " [ ص: 96 ] قال : يا رسول الله ، ما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لا تراه ، فإنه يراك " . قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ " قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك ، عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها ، فذاك من أشراطها ، وإذا رأيت العراة الحفاة رؤوس الناس ، فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان ، فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ( لقمان : 34 ) . قال : ثم أدبر الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علي بالرجل " ، فأخذوا ليردوه ، فلم يروا شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " . وخرجه مسلم بسياق أتم من هذا ، وفيه في خصال الإيمان : " وتؤمن [ ص: 97 ] بالقدر كله " وقال في الإحسان : " أن تخشى الله كأنك تراه " . وخرجه الإمام أحمد في " مسنده " من حديث شهر بن حوشب ، عن ابن عباس . ومن حديث شهر بن حوشب أيضا ، عن ابن عامر أو أبي عامر ، أو أبي مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديثه قال : ونسمع رجع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى الذي يكلمه ، ولا نسمع كلامه ، وهذا يرده حديث عمر الذي خرجه مسلم وهو أصح . وقد روي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما . وهو حديث عظيم جدا ، يشتمل على شرح الدين كله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " بعد أن شرح درجة الإسلام ، ودرجة الإيمان ، ودرجة الإحسان ، فجعل ذلك كله دينا . واختلفت الرواية في تقديم الإسلام على الإيمان وعكسه ففي حديث [ ص: 98 ] عمر الذي خرجه مسلم أنه بدأ بالسؤال عن الإسلام ، وفي حديث الترمذي وغيره أنه بدأ بالسؤال عن الإيمان ، كما في حديث أبي هريرة ، وجاء في بعض روايات حديث عمر أنه سأله عن الإحسان بين الإسلام والإيمان . فأما الإسلام ، فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل ، وأول ذلك : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وهو عمل اللسان ، ثم إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا . وهي منقسمة إلى عمل بدني : كالصلاة والصوم ، وإلى عمل مالي : وهو إيتاء الزكاة ، وإلى ما هو مركب منهما ، كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة . وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك الاعتمار ، والغسل من الجنابة ، وإتمام الوضوء ، وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام . وإنما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها كما سيأتي شرح ذلك في حديث ابن عمر بني الإسلام على خمس في موضعه إن شاء الله تعالى . وقوله في بعض الروايات : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مسلم ؟ قال : " نعم " يدل على أن من كمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس ، صار مسلما حقا ، مع أن من أقر بالشهادتين ، صار مسلما حكما ، فإذا دخل في الإسلام بذلك ، ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام ، ومن ترك الشهادتين ، خرج من الإسلام ، وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء ، وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس ، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى [ ص: 99 ] ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده . وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : أن تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف . وفي " صحيح الحاكم " عن أبي هريرة ، عن النبي قال : إن للإسلام [ ص: 100 ] صوى ومنارا كمنار الطريق من ذلك : أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم ، فمن انتقص منهن شيئا ، فهو سهم من الإسلام تركه ، ومن يتركهن ، فقد نبذ الإسلام وراء ظهره . وخرجه ابن مردويه من حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : للإسلام ضياء وعلامات كمنار الطريق ، فرأسها وجماعها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإتمام الوضوء ، والحكم بكتاب الله وسنة نبيه ، وطاعة ولاة الأمر ، وتسليمكم على أنفسكم ، وتسليمكم على أهليكم إذا دخلتم بيوتكم ، وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتموهم وفي إسناده ضعف ، ولعله موقوف . وصح من حديث أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، قال : الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، وحج البيت سهم ، والجهاد سهم ، وصوم رمضان سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وخاب من لا سهم له . وخرجه البزار مرفوعا ، والموقوف أصح . [ ص: 101 ] ورواه بعضهم عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم خرجه أبو يعلى الموصلي وغيره ، والموقوف على حذيفة أصح . قاله الدارقطني وغيره . وقوله : " الإسلام سهم " يعني الشهادتين ، لأنهما علم الإسلام ، وبهما يصير الإنسان مسلما . وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى . ويدل على هذا أيضا ما خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث العرباض بن سارية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ضرب الله مثلا صراطا مستقيما [ ص: 102 ] وعلى جنبتي الصراط سوران ، فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ، ادخلوا الصراط جميعا ، ولا تعوجوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب ، قال ويحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه . والصراط : الإسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة : محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط : كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم زاد الترمذي : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( يونس : 25 ) . ففي هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى بالاستقامة عليه ، ونهى عن تجاوز حدوده ، وأن من ارتكب شيئا من المحرمات ، فقد تعدى حدوده .

[ ص: 144 ] الحديث الثالث :

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر ، وخرجه مسلم من طريقين آخرين ، عن ابن عمر ، وله طرق أخرى عنه . وقد روي هذا الحديث من رواية جرير بن عبد الله البجلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرج حديثه الإمام أحمد . وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكر الإسلام . [ ص: 145 ] والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس ، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه ، وقد خرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة " ولفظه : بني الإسلام على خمس دعائم فذكره . والمقصود تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس ، فلا يثبت البنيان بدونها ، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان ، فإذا فقد منها شيء ، نقص البنيان وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك ، بخلاف نقض هذه الدعائم الخمس ؛ فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال ، وكذلك يزول بفقد الشهادتين ، والمراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله . وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقا : " بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله " وذكر بقية الحديث . وفي رواية لمسلم : " على خمس : على أن يوحد الله " وفي رواية له : " على أن يعبد الله ويكفر بما دونه " . وبهذا يعلم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق تقريره في الحديث الماضي . وأما إقام الصلاة ، فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها ، فقد خرج من الإسلام ، ففي " صحيح مسلم " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ، وروي مثله من حديث بريدة [ ص: 146 ] وثوبان وأنس وغيرهم . وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تترك الصلاة متعمدا ، فمن تركها متعمدا ، فقد خرج من الملة . وفي حديث معاذ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولا يثبت إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه وقال عمر : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، وقال سعد [ ص: 147 ] وعلي بن أبي طالب : من تركها ، فقد كفر . وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر غير الصلاة . وقال أيوب السختياني : ترك الصلاة كفر ، لا يختلف فيه . وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف ، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق ، وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم ! وقال محمد بن نصر المروزي : هو قول جمهور أهل الحديث . وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه كافر بذلك وروي ذلك ، عن سعيد بن جبير ونافع والحكم ، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ، وهو قول ابن حبيب من المالكية . وخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، الحج في كل عام ؟ قال : لو قلت : نعم ، لوجب عليكم ولو وجب عليكم ، ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم . [ ص: 148 ] وخرج الالكائي من طريق مؤمل ، قال : حدثنا حماد بن زيد بن عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، ولا أحسبه إلا رفعه قال : عرى الإسلام ، وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله ، والصلاة ، وصوم رمضان . من ترك منهن واحدة ، فهو بها كافر ، حلال الدم ، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل بذلك دمه ، وتجده كثير المال فلا يزكي ، فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد موقوفا مختصرا ، ورواه سعيد بن زيد أخو حماد ، عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعا ، وقال : ومن ترك منهن واحدة ، فهو بالله كافر ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل ، وقد حل دمه وماله ولم يذكر ما بعده . وقد روي عن عمر ضرب الجزية على من لم يحج ، وقال : ليسوا بمسلمين . وعن ابن مسعود أن تارك الزكاة ليس بمسلم ، وعن أحمد رواية : أن ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج . وقال ابن عيينة : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ، وليس سواء ، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر . وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا بنعت النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ، ولم يعملوا بشرائعه . [ ص: 149 ] وقد استدل أحمد وإسحاق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم ، وترك السجود لله أعظم . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل إبليس يبكي ويقول : يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود ، فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار . واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض ، وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض كما في " مسند الإمام أحمد " عن زياد بن نعيم الحضرمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع فرضهن الله في الإسلام فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا : الصلاة ، والزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت وهذا مرسل ، وقد روي عن زياد ، عن عمارة بن حزم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئا دون شيء : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وبالجنة والنار ، والحياة بعد الموت هذه واحدة ، والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة ، والزكاة طهور من الذنوب ، ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة ، فمن فعل هؤلاء ، ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدا [ ص: 150 ] لم يقبل الله منه الإيمان ، ولا الصلاة ، ولا الزكاة ، فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج ، فلم يحج ، ولم يوص بحجة ، ولم يحج عنه بعض أهله ، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها ذكره ابن أبي حاتم وقال سألت أبي عنه فقال : هذا حديث منكر يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخرساني . قلت : الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر ، وعطاء من أجلاء علماء الشام . وقال ابن مسعود : من لم يزك ، فلا صلاة له ، ونفي القبول هنا لا يراد به نفي الصحة ، ولا وجوب الإعادة بتركه ، وإنما يراد بذلك انتفاء الرضا به ، ومدح عامله ، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى ، والمباهاة به للملائكة . فمن قام بهذه الأركان على وجهها ، حصل له القبول بهذا المعنى ، ومن قام ببعضها دون بعض ، لم يحصل له ذلك ، وإن كان لا يعاقب على ما أتى به منها عقوبة تاركه ، بل تبرأ به ذمته ، وقد يثاب عليه أيضا . ومن هاهنا يعلم أن ارتكاب بعض المحرمات التي ينقص بها الإيمان تكون مانعة من قبول بعض الطاعات ، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما وقال : من أتى عرافا فصدقه بما يقول ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما وقال : أيما عبد أبق من مواليه ، لم تقبل له صلاة . [ ص: 151 ] وحديث ابن عمر يستدل به على أن الاسم إذا شمل أشياء متعددة ، لم يزل زوال الاسم بزوال بعضها ، فيبطل بذلك قول من قال : إن الإيمان لو دخلت فيه الأعمال للزم أن يزول بزوال عمل مما دخل في مسماه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الخمس دعائم الإسلام ومبانيه ، وفسر بها الإسلام في حديث جبريل ، وفي حديث طلحة بن عبيد الله الذي فيه أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ، ففسره له بهذه الخمس . ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون : لو زال من الإسلام خصلة واحدة ، أو أربع خصال سوى الشهادتين ، لم يخرج بذلك من الإسلام . وقد روى بعضهم أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام ، لا عن الإسلام ، وهذه اللفظة لم تصح عند أئمة الحديث ونقاده ، منهم أبو زرعة الرازي ، ومسلم بن الحجاج ، وأبو جعفر العقيلي وغيرهم . وقد ضرب العلماء مثل الإيمان بمثل شجرة لها أصل وفروع وشعب ، فاسم الشجرة يشتمل على ذلك كله ، ولو زال شيء من شعبها وفروعها لم يزل عنه اسم الشجرة ، وإنما يقال هي شجرة ناقصة أو غيرها أتم منها . وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك في قوله تعالى : ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ( إبراهيم : 24 ) . والمراد بالكلمة كلمة التوحيد ، وبأصلها التوحيد الثابت في القلوب ، وأكلها : هو الأعمال الصالحة الناشئة منه . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمسلم بالنخلة ولو زال شيء من فروع [ ص: 152 ] النخلة ، أو من ثمرها ، لم يزل بذلك عنها اسم النخلة بالكلية ، وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر . ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا ، مع أن الجهاد أفضل الأعمال ، وفي رواية أن ابن عمر قيل له : فالجهاد ؟ قال الجهاد حسن ، ولكن هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه الإمام أحمد . وفي حديث معاذ بن جبل إن رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، وذروة سنامه : أعلى شيء فيه ، ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بني عليها ، وذلك لوجهين : أحدهما : أن الجهاد فرض كفاية عند جمهور العلماء ، ليس بفرض عين بخلاف هذه الأركان . والثاني : أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر ، بل إذا نزل عيسى عليه السلام ، ولم يبق حينئذ ملة غير ملة الإسلام ، فحينئذ تضع الحرب أوزارها ، ويستغني عن الجهاد بخلاف هذه الأركان ، فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك ، والله أعلم .

[ص: 153 ] الحديث الرابع :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث متفق على صحته ، وتلقته الأمة بالقبول ، رواه الأعمش عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود ، ومن طريقه خرجه الشيخان في " صحيحيهما " وقد روي عن محمد بن زيد الأسفاطي ، قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ، فقلت : يا رسول الله ، حديث ابن مسعود الذي حدث عنك ، فقال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق . فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي لا إله غيره حدثته به أنا " يقوله ثلاثا ، ثم قال غفر الله للأعمش كما حدث به ، وغفر الله [ ص: 154 ] لمن حدث به قبل الأعمش ، ولمن حدث به بعده . وقد روي عن ابن مسعود من وجوه أخر . فقوله صلى الله عليه وسلم : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة قد روي تفسيره عن ابن مسعود ؛ روى الأعمش ، عن خيثمة ، عن ابن مسعود قال : إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعرة وظفر ، فتمكث أربعين يوما ، ثم تنحدر في الرحم ، فتكون علقة . قال : فذلك جمعها . خرجه ابن أبي حاتم وغيره . وروي تفسير الجمع مرفوعا بمعنى آخر ، فخرج الطبراني وابن منده في كتاب " التوحيد " من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى إذا أراد خلق عبد ، فجامع الرجل المرأة ، طار ماؤه في كل عرق وعضو منها ، فإذا كان يوم السابع جمعه الله ، ثم أحضره في كل عرق له دون آدم : في أي صورة ما شاء ركبك قال ابن منده : إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما [ ص: 155 ] وخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني من رواية مطهر بن الهيثم ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لجده يا فلان ما ولد لك ؟ قال يا رسول الله ، وما عسى أن يولد لي ؟ إما غلام وإما جارية ، قال : فمن يشبه ؟ قال من عسى أن يشبه ؟ يشبه أمه أو أباه ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولن كذا . إن النطفة إذا استقرت في الرحم ، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ، أما قرأت هذه الآية في أي صورة ما شاء ركبك ( الانفطار : 8 ) قال : سلكك وهذا إسناد ضعيف ومطهر بن الهيثم ضعيف جدا : وقال البخاري : هو حديث لم يصح وذكر بإسناده عن موسى بن علي ، عن أبيه أن أباه لم يسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق يعني : أنه لا صحبة له . ويشهد لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له : ولدت امرأتي غلاما أسود قال : لعله نزعه عرق . و قوله ثم يكون علقة مثل ذلك يعني : أربعين يوما ، والعلقة قطعة من دم . ثم يكون مضغة مثل ذلك يعني : أربعين يوما . والمضغة : قطعة من لحم . ثم يرسل الله إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مائة وعشرين يوما ، في ثلاثة أطوار ، في كل أربعين يوما منها يكون في طور ، فيكون في الأربعين الأولى نطفة ، ثم في [ ص: 156 ] الأربعين الثانية علقة ، ثم في الأربعين الثالثة ، مضغة ثم بعد المائة وعشرين يوما ينفخ الملك فيه الروح ، ويكتب له هذه الأربع الكلمات . وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار كقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ( الحج : 5 ) . وذكر هذه الأطوار الثلاثة : النطفة والعلقة والمضغة في مواضع متعددة من القرآن ، وفي مواضع أخر ذكر زيادة عليها ، فقال في سورة المؤمنون ( 12 - 14 ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين . فهذه سبع تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه . وكان ابن عباس يقول : خلق ابن آدم من سبع ، ثم يتلو هذه الآية . وسئل عن العزل ، فقرأ هذه الآية ثم قال ، فهل يخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة ؟ وفي رواية عنه قال : وهل تموت نفس حتى تمر على هذا الخلق ؟ . وروي عن رفاعة بن رافع قال : جلس إلي عمر وعلي والزبير وسعد ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكروا العزل ، فقالوا لا بأس به ، فقال رجل : إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى فقال علي : لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع : تكون سلالة من طين ، ثم تكون نطفة ، ثم تكون علقة ، ثم تكون مضغة ، ثم تكون عظاما ، ثم تكون لحما ، ثم تكون خلقا آخر ، فقال عمر : صدقت أطال الله بقاءك . رواه الدارقطني في " المؤتلف والمختلف " . [ ص: 157 ] وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها ما لم ينفخ فيه الروح ، وجعلوه كالعزل ، وهو قول ضعيف ؛ لأن الجنين ولد انعقد ، وربما تصور وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية ، وإنما تسبب إلى منع انعقاده ، وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا أراد الله خلقه ، كما قال النبي لما سئل عن العزل : قال : لا عليكم أن لا تعزلوا إنه ليس من نفس منفوسة إلا أن الله خلقها . وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة ، لم يجز للمرأة إسقاطه ؛ لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة ، فإنها لم تنعقد بعد ، وقد لا تنعقد ولدا . وقد ورد في بعض الروايات في حديث ابن مسعود ذكر العظام وأنه يكون عظما أربعين يوما ، فخرج الإمام أحمد من رواية علي بن زيد سمعت أبا عبيدة يحدث قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تغير ، فإذا مضت الأربعون ، صارت علقة ، ثم مضغة كذلك ، ثم عظاما كذلك ، فإذا أراد الله تعالى أن يسوي خلقه ، بعث الله إليها ملكا ، وذكر بقية الحديث . ويروى من حديث عاصم عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم ، تكون أربعين ليلة نطفة ، ثم تكون علقة أربعين ليلة ، ثم تكون عظاما أربعين ليلة ، ثم يكسو الله العظام لحما . ورواية الإمام أحمد تدل على أن الجنين لا يكسى اللحم إلا بعد مائة وستين [ ص: 158 ] يوما ، وهذا غلط بلا ريب ، فإنه بعد مائة وعشرين يوما ينفخ فيه الروح بلا ريب كما سيأتي ذكره ، وعلي بن زيد : هو ابن جدعان لا يحتج به ، وقد ورد في حديث حذيفة بن أسيد ما يدل على خلق العظام واللحم في أول الأربعين الثانية ، ففي " صحيح مسلم " عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها ، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب أجله ؟ فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول يا رب رزقه ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص . وظاهر هذا الحديث يدل على أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أول الأربعين الثانية ، فيلزم من ذلك أن يكون في الأربعين الثانية لحما وعظاما . وقد تأول بعضهم ذلك على أن الملك يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء ، فيجعل بعضها للجلد ، وبعضها للحم ، وبعضها للعظام ، فيقدر ذلك كله قبل وجوده . وهذا خلاف ظاهر الحديث ، بل ظاهره أن يصورها ويخلق هذه الأجزاء كلها ، وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام ، قد يكون هذا في بعض الأجنة دون بعض . وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على أن التصوير يكون للنطفة أيضا في اليوم السابع ، وقد قال الله عز وجل إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ( الإنسان : 2 ) وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها . قال ابن مسعود : أمشاجها : عروقها [ ص: 159 ] وقد ذكر علماء الطب ما يوافق ذلك ، وقالوا : إن المني إذا وقع في الرحم ، حصل له زبدية ورغوة ستة أيام أو سبعة ، وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم ، ثم بعد ذلك تستمد منه ، وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام ، وقد يتقدم يوما ويتأخر يوما ، ثم بعد ستة أيام - وهو الخامس عشر من وقت العلوق - ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة ، ثم تتميز الأعضاء تميزا ظاهرا ، ويتنحى بعضها عن ممارسة بعض ، وتمتد رطوبة النخاع ، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تميزا يستبين في بعض ، ويخفى في بعض . قالوا : وأقل مدة يتصور الذكر فيها ثلاثون يوما ، والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يوما ، وقد يتصور في خمسة وأربعين يوما ، قالوا : ولم يوجد في الأسقاط ذكر تم قبل ثلاثين يوما ، ولا أنثى قبل أربعين يوما ، فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد في التخليق في الأربعين الثانية ، ومصيره لحما فيها أيضا . وقد حمل بعضهم حديث ابن مسعود على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين الأولى وصف المني ، وفي الأربعين الثانية وصف العلقة ، وفي الأربعين الثالثة وصف المضغة ، وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره ، وليس في حديث ابن مسعود ذكر وقت تصوير الجنين . وقد روي عن ابن مسعود نفسه ما يدل على أن تصويره قد يقع قبل الأربعين [ ص: 160 ] الثالثة أيضا ، فروى الشعبي عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفه ، فقال : أي رب ، مخلقة أم غير مخلقة ؟ فإن قيل : غير مخلقة ، لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام ، وإن قيل مخلقة ، قال : أي رب ، أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ، ما الأجل وما الأثر ؟ ، وبأي أرض تموت ؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله ، فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله ، فيقال : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة ، قال : فتخلق ، فتعيش في أجلها وتأكل في رزقها ، وتطأ في أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ، ماتت ، فدفنت في ذلك ، ثم تلا الشعبي هذه الآية : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ( الحج : 5 ) . فإذا بلغت مضغة ، نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن كانت غير مخلقة ، قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست نسمة . خرجه ابن أبي حاتم وغيره . وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود أن لا تصوير قبل ثمانين يوما ، فروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ( آل عمران : 6 ) قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام ، طارت في الجسد أربعين يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن تخلق ، بعث الله ملكا يصورها ، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه ، فيخلطه في المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصورها كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ؟ أشقي أو سعيد ؟ وما رزقه ، وما عمره ، وما أثره ، وما مصائبه ؟ فيقول الله تبارك وتعالى ، ويكتب الملك ، فإذا مات ذلك الجسد ، دفن حيث [ ص: 161 ] أخذ ذلك التراب ، خرجه ابن جرير الطبري في " تفسيره " ولكن السدي مختلف في أمره ، وكان الإمام أحمد ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد ، كما كان هو وغيره ينكرون على الواقدي جمعه الأسانيد المتعددة للحديث الواحد . وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية ، وتأولوا حديث ابن مسعود المرفوع عليها ، وقالوا : أقل ما يتبين خلق الولد أحد وثمانون يوما ، لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة ، ولا يتخلق قبل أن يكون مضغة . وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي بناء على هذا الأصل : إنه لا تنقضي العدة ، ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلقة ، وأقل ما يمكن أن يتخلق ويتصور في أحد وثمانين يوما . وقال أحمد في العلقة : هي دم لا يستبين فيها الخلق ، فإن كانت المضغة غير مخلقة ، فهل تنقضي بها العدة ، وتصير أم الولد بها مستولدة ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد ، وإن لم يظهر فيها التخطيط ، ولكن كان خفيا لا يعرفه إلا أهل الخبرة من النساء ، فشهدن بذلك ، قبلت شهادتين ، ولا فرق بين أن يكون بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء ، ونص على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه ، ونقل عنه ابنه صالح في الطفل يتبين خلقه . [ ص: 162 ] قال الشعبي : إذا نكس في الخلق الرابع ، كان مخلقا ، انقضت به العدة ، وعتقت به الأمة ، إذا كان لأربعة أشهر ، وكذا نقل عنه حنبل : إذا أسقطت أم الولد ، فإن كان خلقة تامة عتقت ، وانقضت به العدة إذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح ، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه ، وقد قال أحمد في رواية عنه : إذا تبين خلقه ، ليس فيه اختلاف أنها تعتق بذلك إذا كانت أمة ، ونقل عنه أيضا جماعة في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها ، وهو قول النخعي ، وحكى قولا للشافعي ، ومن أصحابنا من طرد هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدة به أيضا . وهذا كله مبني على أنه يمكن التخليق في العلقة كما قد يستدل على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدم إلا أن يقال : حديث حذيفة إنما يدل على أنه يتخلق إذا صار لحما وعظما ، وأن ذلك قد يقع في الأربعين الثانية ، لا في حال كونه علقة ، وفي ذلك نظر ، والله أعلم . وما ذكره الأطباء يدل على أن العلقة تتخلق وتتخطط ، وكذلك القوابل من النسوة يشهدن بذلك ، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال كون الجنين نطفة أيضا ، والله تعالى أعلم

[ص: 176 ] الحديث الخامس :

عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضي الله عنها وألفاظه مختلفة ، ومعناها متقارب ، وفي بعض ألفاظه : " من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد " . وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام ، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث : الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها ، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب ، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله ، فهو مردود على عامله ، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله ، فليس من الدين في شيء . وسيأتي حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين [ ص: 177 ] المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة . وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : " إن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها " وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه ، ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردها . فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع ، فهو مردود ، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود ، والمراد بأمره هاهنا : دينه وشرعه ، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد . فالمعنى إذا : أن من كان عمله خارجا عن الشرع ليس متقيدا بالشرع ، فهو مردود . وقوله : " ليس عليه أمرنا " إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة ، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها ، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع موافقا لها ، فهو مقبول ، ومن كان خارجا عن ذلك ، فهو مردود .

[ص: 193 ] الحديث السادس :

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص ، والمعنى واحد أو متقارب . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وعمار بن ياسر ، وجابر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب . [ ص: 194 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس معناه : أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه ، وكذلك الحرام المحض ، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس ، هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ وأما الراسخون في العلم ، فلا يشتبه عليهم ذلك ، ويعلمون من أي القسمين هي . فأما الحلال المحض : فمثل أكل الطيبات من الزروع ، والثمار وبهيمة الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان ، أو الصوف أو الشعر ، وكالنكاح ، والتسري وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع ، أو بميراث ، أو هبة ، أو غنيمة . والحرام المحض : مثل أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، ولباس الحرير للرجال ، ومثل الأكساب المحرمة كالربا والميسر وثمن مالا يحل بيعه ، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك . وأما المشتبه : فمثل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه ، إما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير ، والضب ، وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها ، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة والتورق ونحو [ ص: 195 ] ذلك ، وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة . وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب ، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام ، كما قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( النحل : 89 ) قال مجاهد وغيره : كل شيء أمروا به أو نهوا عنه ، وقال تعالى في آخر سورة النساء ( الآية : 176 ) التي بين فيها كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع : يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم وقال تعالى : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ( الأنعام : 119 ) ، وقال تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ( التوبة : 115 ) ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) وما قبض صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له ولأمته الدين ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة : 3 ) . وقال صلى الله عليه وسلم تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . وقال أبو ذر : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما . [ ص: 196 ] ولما شك الناس في موته صلى الله عليه وسلم ، قال عمه العباس رضي الله عنه : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا واضحا ، وأحل الحلال وحرم الحرام ، ونكح وطلق ، وحارب وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه بمخبطه ، ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم .

[ص: 215 ] الحديث السابع :

عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدين النصيحة ثلاثا قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن تميم الداري ، وقد روي عن سهيل وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرجه الترمذي من هذا الوجه ، فمن العلماء من صححه من الطريقين جميعا ، ومنهم من قال : إن الصحيح حديث تميم ، والإسناد الآخر وهم . وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر ، وثوبان ، وابن عباس ، وغيرهم . وقد ذكرنا في أول الكتاب عن أبي داود أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه . [ ص: 216 ] وقال الحافظ أبو نعيم : هذا الحديث له شأن ، ذكر محمد بن أسلم الطوسي أنه أحد أرباع الدين . وخرجه الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لا يهتم بأمر المسلمين ، فليس منهم ، ومن لم يمس ويصبح ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ، ولعامة المسلمين فليس منهم . وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي . وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموما ، وفي بعضها النصح لولاة أمورهم ، وفي بعضها : نصح ولاة الأمور لرعاياهم . فأما الأول - وهو النصح للمسلمين - عموما ، ففي " الصحيحين " عن جرير بن عبد الله قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حق المؤمن على المؤمن ست فذكر منها : وإذا استنصحك فانصح له . وروي هذا الحديث من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفي " المسند " عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا [ ص: 217 ] استنصح أحدكم أخاه ، فلينصح له . وأما الثاني : وهو النصح لولاة الأمور ، ونصحهم لرعاياهم ، ففي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يرضى لكم ثلاثا : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم . وفي " المسند " وغيره عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في خطبته بالخيف من منى ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين وقد روى هذه الخطبة عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو سعيد الخدري . وقد روي من حديث أبي سعيد بلفظ آخر خرجه الدارقطني في " الأفراد " بإسناد جيد ، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : [ ص: 218 ] النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين . وفي " الصحيحين " عن معقل بن يسار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يسترعيه الله رعية ثم لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل الجنة . وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السلام أنهم نصحوا لأممهم كما أخبر الله بذلك عن نوح ، وعن صالح وقال : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ( التوبة : 91 ) يعني : أن من تخلف عن الجهاد لعذر ، فلا حرج عليه بشرط أن يكون ناصحا لله ورسوله في تخلفه ، فإن المنافقين كانوا يظهرون الأعذار كاذبين ، ويتخلفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين النصيحة ، فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل ، وسمى ذلك كله دينا ، فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها ، وهو مقام الإحسان ، فلا يكمل النصح لله بدون ذلك ، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة ، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرمات والمكروهات على هذا الوجه أيضا . وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أرأيتم لو كان لأحدكم عبدان ، فكان أحدهما يطيعه إذا أمره ، ويؤدي إليه إذا ائتمنه ، وينصح له إذا غاب عنه ، وكان الآخر يعصيه إذا أمره ، ويخونه إذا ائتمنه ، ويغشه إذا غاب عنه كانا سواء ؟ قالوا : لا ، قال : فكذاكم أنتم عند الله عز وجل خرجه ابن أبي الدنيا . [ ص: 219 ] وخرج الإمام أحمد معناه من حديث أبي الأحوص عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الفضيل بن عياض : الحب أفضل من الخوف ، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك ، والآخر يخافك ، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدا كنت أو غائبا لحبه إياك ، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف ويغشك إذا غبت ولا ينصحك . قال عبد العزيز بن رفيع : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : ما الخالص من العمل ؟ قال : ما لا تحب أن يحمدك الناس عليه ، قالوا : فما النصح لله ؟ قال : أن تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس ، وإن عرض لك أمران : أحدهما لله ، والآخر للدنيا ، بدأت بحق الله تعالى . قال الخطابي : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له ، قال : وأصل النصح في اللغة الخلوص ، يقال : نصحت العسل : إذا خلصته من الشمع . فمعنى النصيحة لله سبحانه : صحة الاعتقاد في وحدانيته ، وإخلاص النية [ ص: 220 ] في عبادته ، والنصيحة لكتابه : الإيمان به ، والعمل بما فيه ، والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ، ونهى عنه ، والنصيحة لعامة المسلمين : إرشادهم إلى مصالحهم . انتهي . وقد حكى الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه " تعظيم قدر الصلاة " عن بعض أهل العلم أنه فسر هذا الحديث بما لا مزيد على حسنه ، ونحن نحكيه هاهنا بلفظه . قال محمد بن نصر : قال بعض أهل العلم : جماع تفسير النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له من كان ، وهي على وجهين : أحدهما فرض ، والآخر نافلة ، فالنصيحة المفترضة لله : هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض ، ومجانبة ما حرم . وأما النصيحة التي هي نافلة ، فهي إيثار محبته على محبة نفسه ، وذلك أن يعرض أمران ، أحدهما لنفسه ، والآخر لربه ، فيبدأ بما كان لربه ، ويؤخر ما كان لنفسه ، فهذه جملة تفسير النصيحة لله ، الفرض منه والنافلة ، ولذلك تفسير ، وسنذكر بعضه ليفهم بالتفسير من لا يفهم بالجملة . فالفرض منها مجانبة نهيه ، وإقامة فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقا له ، فإن عجر عن الإقامة بفرضه لآفة حلت به من مرض ، أو حبس ، أو غير ذلك ، عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلة المانعة له ، قال الله عز وجل ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل ( التوبة : 91 ) ، فسماهم محسنين لنصيحتهم لله بقلوبهم لما منعوا من الجهاد بأنفسهم . وقد ترفع الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات ، ولا يرفع عنه النصح لله ، فلو كان من المرض بحال لا يمكنه عمل بشيء من جوارحه بلسان ولا [ ص: 221 ] غيره ، غير أن عقله ثابت ، لم يسقط عنه النصح لله بقلبه وهو أن يندم على ذنوبه ، وينوي إن صح أن يقوم بما افترض الله عليه ، ويجتنب ما نهاه عنه ، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه . وكذلك النصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوجبه على الناس عن أمر ربه ، ومن النصح الواجب لله أن لا يرضى بمعصية العاصي ، ويحب طاعة من أطاع الله ورسوله . وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض ، فبذل المجهود بإيثار الله على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح حتى لا يكون في الناصح فضل عن غيره ، لأن الناصح إذا اجتهد ، لم يؤثر نفسه عليه ، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته ، فكذلك الناصح لربه ، ومن تنفل لله بدون الاجتهاد ، فهو ناصح على قدر عمله ، غير مستحق للنصح بكماله .

[ص: 226 ] الحديث الثامن :

عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمر . وقوله إلا بحق الإسلام هذه اللفظة تفرد بها البخاري دون مسلم . وقد روي معنى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ففي " صحيح البخاري " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وصلوا صلاتنا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها . وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويشهدوا أن لا إله إلا [ ص: 227 ] الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل . وخرجه ابن ماجه مختصرا . وخرج نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضا ، ولكن المشهور من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكر : إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة ففي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله عز وجل وفي رواية لمسلم : حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به . وخرجه مسلم أيضا من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث أبي هريرة الأول وزاد في آخره : ثم قرأ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ( الغاشية : 21 ) . [ ص: 228 ] وخرج أيضا من حديث أبي مالك الأشجعي ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل . وقد روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : كان هذا في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة ، وهذا ضعيف جدا ، وفي صحته عن سفيان نظر ، فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وبعضهم تأخر إسلامه . ثم قوله عصموا مني دماءهم وأموالهم يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورا بالقتال ، ويقتل من أبى الإسلام ، وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة ، ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ، ويعصم دمه بذلك ، ويجعله مسلما ، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال : لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف ، واشتد نكيره عليه . ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة ، بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام ، واشترطوا أن لا يزكوا ، ففي مسند الإمام أحمد ، عن جابر قال : اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيتصدقون ويجاهدون . وفيه أيضا عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين ، فقبل منه . [ ص: 229 ] وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث ، وقال : يصح الإسلام على الشرط الفاسد ، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها ، واستدل أيضا بأن حكيم بن حزام قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما . قال أحمد : معناه أن يسجد من غير ركوع . وخرج محمد بن نصر المروزي بإسناد ضعيف جدا عن أنس قال : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل من أجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وكانتا فريضتين على من أقر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام ، وذلك قول الله عز وجل : فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( المجادلة : 13 ) وهذا لا يثبت ، وعلى تقدير ثبوته ، فالمراد منه أنه لم يكن يقر أحدا دخل في الإسلام [ ص: 230 ] على ترك الصلاة والزكاة وهذا حق ، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر معاذا لما بعثه إلى اليمن أن يدعوهم أولا إلى الشهادتين ، وقال : إن هم أطاعوك لذلك ، فأعلمهم بالصلاة ثم بالزكاة ومراده أن من صار مسلما بدخوله في الإسلام أمر بعد ذلك بإقام الصلاة ، ثم بإيتاء الزكاة ، وكان من سأله عن الإسلام يذكر له مع الشهادتين بقية أركان الإسلام ، كما قال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام ، وكما قال للأعرابي الذي جاءه ثائر الرأس يسأله عن الإسلام . وبهذا الذي قررناه يظهر الجمع بين ألفاظ أحاديث هذا الباب ، ويتبين أن كلها حق ، فإن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما ، ويصير بذلك مسلما ، فإذا دخل في الإسلام ، فإن أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وقام بشرائع الإسلام ، فله ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وإن أخل بشيء من هذه الأركان ، فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا . وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين ، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع ، وفي هذا نظر ، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار تدل على خلاف هذا ، وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليا يوم خيبر ، فأعطاه الراية وقال : امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي شيئا ، ثم وقف ، فصرخ : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس ؟ فقال : قاتلهم على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عصمة للنفوس والأموال إلا بحقها ، ومن حقها الامتناع من الصلاة والزكاة بعد الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم

[ ص: 238 ] الحديث التاسع :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما نهيتكم عنه ، فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ، كلاهما عن أبي هريرة ، وخرجاه من رواية أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه . وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم [ ص: 239 ] بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء ، فدعوه . وخرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرا ، وقال فيه : فنزل قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( المائدة : 101 ) . وقد روي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج ، وقالوا : أفي كل عام ؟ . وفي " الصحيحين " عن أنس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : من أبي ؟ فقال : " فلان " فنزلت هذه الآية لا تسألوا عن أشياء . وفيهما أيضا عن قتادة ، عن أنس قال : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة ، فغضب ، فصعد المنبر ، فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته ، فقام رجل كان إذا لاحى الرجال دعي إلى غير أبيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " ثم أنشأ عمر ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، نعوذ بالله من الفتن . وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ [ ص: 240 ] فأنزل الله هذه الآية ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . وخرج ابن جرير الطبري في " تفسيره " من حديث أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارا وجهه ، حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل ، فقال : أين أنا ؟ فقال " في النار " فقام إليه آخر فقال : من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " فقام عمر فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا ، قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وروي أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس ، فقال : يا قوم كتب عليكم الحج فقام رجل ، فقال يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، فقال : والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذن لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإذا أمرتكم بشيء ، فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء ، فانتهوا عنه ، فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن ، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه . فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه ما يسوء [ ص: 241 ] السائل جوابه مثل سؤال السائل ؛ هل هو في النار أو في الجنة ، وهل أبوه ما ينسب إليه أو غيره ، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء ، كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم . وقريب من ذلك سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت ، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب ، وقال عكرمة وغيره : إن الآية نزلت في ذلك . ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده ، ولم يطلعهم عليه ، كالسؤال عن وقت الساعة ، وعن الروح . ودلت أيضا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببا لنزول التشديد فيه ، كالسؤال عن الحج : هل يجب كل عام أم لا ؟ وفي " الصحيح " عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته . ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللعان كره المسائل وعابها حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال .

[ص: 258 ] الحديث العاشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ( المؤمنون : 51 ) ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ( البقرة : 172 ) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر : أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ؟ . رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، وخرجه الترمذي ، وقال : حسن غريب .

وفضيل بن مرزوق ثقة وسط خرج له مسلم دون البخاري .

وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله طيب هذا قد جاء أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، جواد يحب الجود خرجه الترمذي ، وفي إسناده مقال والطيب هنا : معناه الطاهر .

والمعنى أن الله تعالى مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها ، وهذا كما في [ ص: 259 ] قوله : والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون ( النور : 26 ) ، والمراد : المنزهون من أدناس الفواحش وأوضارها .

وقوله " لا يقبل إلا طيبا " قد ورد معناه في حديث الصدقة ، ولفظه : لا يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا . . . . . . . والمراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيبا حلالا .

وقد قيل : إن المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله : " لا يقبل الله إلا طيبا " أعم من ذلك ، وهو أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبا طاهرا من المفسدات كلها ، كالرياء والعجب ، ولا من الأموال إلا ما كان طيبا حلالا ، فإن الطيب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات ، فكل هذه تنقسم إلى طيب وخبيث .

وقد قيل : إنه يدخل في قوله تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ( المائدة : 100 ) هذا كله .

وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث ، فقال : ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ( إبراهيم : 24 ) ، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ( إبراهيم : 26 ) ، وقال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب ( فاطر : 10 ) ، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث .

وقد قيل : إنه يدخل في ذلك الأقوال والأعمال والاعتقادات أيضا ، ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب ، بقوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ( النحل : 32 ) وإن الملائكة تقول عند الموت : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، وإن الملائكة تسلم عليهم عند دخولهم الجنة ، يقولون [ ص: 260 ] لهم : طبتم ، وقد ورد في الحديث أن المؤمن إذا زار أخاه في الله تقول له الملائكة : " طبت ، وطاب ممشاك ، وتبوأت من الجنة منزلا " .

فالمؤمن كله طيب قلبه ولسانه وجسده بما سكن في قلبه من الإيمان ، وظهر على لسانه من الذكر ، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان ، وداخلة في اسمه فهذه الطيبات كلها يقبلها الله عز وجل .

ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه ، وأن يكون من حلال ، فبذلك يزكو عمله .

وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال ، وإن أكل الحرام ، يفسد العمل ، ويمنع قبوله ، فإنه قال بعد تقريره : " إن الله لا يقبل إلا طيبا " إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم .

والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال ، وبالعمل الصالح ، فما دام الأكل حلالا ، فالعمل الصالح مقبول ، فإذا كان الأكل غير حلال ، فكيف يكون العمل مقبولا ؟ .

وما ذكره بعد ذلك من الدعاء ، وأنه كيف يتقبل مع الحرام ، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام . وقد خرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن ابن عباس ، قال : تليت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ( البقرة : 168 ) ، فقام سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا سعد [ ص: 261 ] أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من سحت ، فالنار أولى به .

وفي " مسند " الإمام أحمد بإسناد فيه نظر أيضا عن ابن عمر قال : " من اشترى ثوبا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام ، لم يقبل الله له صلاة ما كان عليه " ، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال : صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويروى من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا معناه أيضا ، خرجه البزار وغيره بإسناد ضعيف جدا .

وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ، ووضع رجله في الغرز ، فنادى : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لبيك وسعديك وزادك حلال ، وراحلتك حلال ، وحجك مبرور غير مأزور ، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة ، فوضع رجله في [ ص: 262 ] الغرز ، فنادى لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك ، زادك حرام ، ونفقتك حرام ، وحجك غير مبرور " . ويروى من حديث عمر بنحوه بإسناد ضعيف أيضا .

وروى أبو يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام .

[ص: 278 ] الحديث الحادي عشر :

عن الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه النسائي والترمذي ، وقال : حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " والحاكم من حديث بريد بن أبي مريم ، عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي ، وصححه الترمذي ، وأبو الحوراء السعدي ، قال الأكثرون : اسمه ربيعة بن شيبان ، ووثقه النسائي وابن حبان ، وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء اسمه ربيعة بن شيبان ، ومال إلى التفرقة بينهما ، وقال الجوزجاني : أبو الحوراء مجهول لا يعرف .

وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر ، وعند الترمذي [ ص: 279 ] وغيره زيادة في هذا الحديث وهي " فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة " ولفظ ابن حبان : " فإن الخير طمأنينة ، وإن الشر ريبة " .

وقد خرجه الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على أنس .

وخرجه الطبراني من رواية مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، قال الدارقطني : وإنما يروى هذا من قول ابن عمر ، وعن عمر ، ويروى عن مالك من قوله . انتهى .

ويروى بإسناد ضعيف ، عن عثمان بن عطاء الخراساني - وهو ضعيف - ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " قال : وكيف لي بالعلم بذلك ؟ قال : " إذا أردت أمرا ، فضع يدك على صدرك ، فإن القلب يضطرب للحرام ، ويسكن للحلال ، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة " . وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلا .

وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه : قيل له : فمن الورع ؟ قال : " الذي يقف عند الشبهة " [ ص: 280 ] وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة : منهم عمر ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وعن ابن مسعود ، قال : ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك ؟ ! وقال عمر : دعوا الربا والريبة ، يعني : ما ارتبتم فيه ، وإن لم تتحققوا أنه ربا .

ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب : بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك .

وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : إذا كان العبد ورعا ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .

وقال الفضيل : يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

وقال حسان بن أبي سنان : ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء ، فدعه . وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله .

قال ابن المبارك : كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز : إن قصب السكر أصابته آفة ، فاشتر السكر فيما قبلك ، فاشتراه من رجل ، فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا ، قال : فأتى صاحب السكر ، فقال : يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي ، فلم أعلمك ، فأقلني فيما اشتريت منك ، فقال له الآخر : قد أعلمتني الآن ، وقد طيبته لك ، قال : فرجع فلم يحتمل قلبه ، فأتاه ، فقال : يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه ، فأحب أن تسترد هذا البيع ، قال : فما زال به حتى رده عليه .

[ ص: 281 ] وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له : أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب .

وقال هشام بن حسان : ترك محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا .

وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه ، فأتاه كتابه : إني قدمت البصرة ، فوجدت الطعام مبغضا فحبسته ، فزاد الطعام ، فازددت فيه كذا وكذا ، فكتب إليه الحجاج : إنك قد خنتنا ، وعملت بخلاف ما أمرناك به ، فإذا أتاك كتابي ، فتصدق بجميع ثمن الطعام على فقراء البصرة ، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك .

وتنزه يزيد بن زريع عن خمسائة ألف من ميراث أبيه ، فلم يأخذه ، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين ، وكان يزيد يعمل الخوص ، ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله .

وكان المسور بن مخرمة قد احتكر طعاما كثيرا ، فرأى سحابا في الخريف فكرهه ، فقال : ألا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين ؟ فآلى أن لا يربح فيه شيئا ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال له عمر : جزاك الله خيرا .

وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارا منهيا عنه ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لدخوله في ربح ما لم يضمن ، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أحمد في رواية [ ص: 282 ] عنه فيمن أجر ما استأجره بربح : إنه يتصدق بالربح ، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب : إنه يتصدق به ، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل صلاحها بشرط القطع ، ثم تركها حتى بدا صلاحها : إنه يتصدق بالزيادة ، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب ، لأن الصدقة بالشبهات مستحب .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم ، فقالت : إنما هي أيام قلائل فما رابك ، فدعه يعني ما اشتبه عليك : هل هو حلال أو حرام ، فاتركه ، فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو .

[ص: 287 ] الحديث الثاني عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه حديث حسن ، رواه الترمذي وغيره .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي ، وابن ماجه من رواية الأوزاعي ، عن قرة بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم ، وقال الترمذي : غريب ، وقد حسنه الشيخ المصنف رحمه الله ، لأن رجال إسناده ثقات ، وقرة بن عبد الرحمن بن حيويل وثقه قوم وضعفه آخرون ، وقال ابن عبد البر : هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات ، وهذا موافق لتحسين الشيخ له ، وأما أكثر الأئمة ، فقالوا : ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد وإنما هو محفوظ عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، كذلك رواه الثقات ، عن الزهري ، منهم مالك في الموطأ ، ويونس ، ومعمر ، وإبراهيم بن سعد إلا أنه قال : " من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه " وممن قال : إنه لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، [ ص: 288 ] والبخاري ، والدارقطني ، وقد خلط الضعفاء في إسناده على الزهري تخليطا فاحشا ، والصحيح فيه المرسل ، ورواه عبد الله بن عمر العمري ، عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي ، وخرجه الإمام أحمد في " مسنده " من هذا الوجه ، والعمري ليس بالحافظ ، وخرجه أيضا من وجه آخر عن الحسين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وضعفه البخاري في " تاريخه " من هذا الوجه أيضا ، وقال : لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر وكلها ضعيفة .

وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب ، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح ، عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال : جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث : قول النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وقوله صلى الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له في الوصية : لا تغضب وقوله صلى الله عليه وسلم : المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه .

ومعنى هذا الحديث : أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل ، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ؛ ومعنى يعنيه : أنه تتعلق عنايته به ، ويكون من مقصده ومطلوبه ، والعناية : شدة الاهتمام بالشيء ، يقال عناه يعنيه : إذا اهتم به وطلبه ، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس ، بل بحكم الشرع والإسلام ولهذا جعله من حسن الإسلام ، فإذا حسن إسلام المرء ، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال [ ص: 289 ] والأفعال ، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام .

وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات ، كما قال صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وإذا حسن الإسلام ، اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات ، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها ، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه ، وبلغ إلى درجة الإحسان ، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإن الله يراه ، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه ، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه ، فقد حسن إسلامه ، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ، ويشتغل بما يعنيه فيه ، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه كما وصى صلى الله عليه وسلم رجلا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه . وفي " المسند " والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا : " الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما حوى ، وتحفظ البطن وما وعى ، ولتذكر الموت والبلى ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله حق الحياء " . [ ص: 290 ] قال بعضهم : استحي من الله على قدر قربه منك ، وخف الله على قدر قدرته عليك .

وقال بعض العارفين : إذا تكلمت ، فاذكر سمع الله لك ، وإذا سكت ، فاذكر نظره إليك .

وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع : كقوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق : 16 ، 17 ، 17 ] ، وقوله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ يونس : 61 ] ، وقال تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ( الزخرف : 80 ) .

وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة ( ق ) .

[ ص: 291 ] وفي " المسند " من حديث الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه .

وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم ؟ قال له : مرهم بإفشاء السلام ، وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم .

وفي " صحيح ابن حبان " عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام : وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن تكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكر فيها في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو مرمة لمعاش ، أو لذة في غير محرم ؛ وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه .

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : من عد كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه . وهو كما قال ، فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله ، فيجازف فيه ، ولا يتحرى ، وقد خفي هذا على معاذ بن جبل حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنؤاخذ بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ .

[ ص: 292 ] وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم ، فقال : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ( النساء : 114 ) .

وخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث أم حبيبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكر الله عز وجل .

وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري ، فقال سفيان : وما تعجبكم من هذا ، أليس قد قال الله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ؟ ( النساء : 114 ) أليس قد قال الله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ( النبأ : 38 ) .

وخرج الترمذي من حديث أنس قال : توفي رجل من أصحابه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - فقال رجل : أبشر بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا تدري ، فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه [ ص: 293 ] متعددة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي بعضها : أنه قتل شهيدا .

وخرج أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث شهاب بن مالك وكان وفد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له امرأة : يا رسول الله ألا تسلم علينا ؟ فقال : إنك من قبيل يقللن الكثير ، وتمنع ما لا يغنيها ، وتسأل عما لا يعنيها .

وخرجه العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أكثر الناس ذنوبا أكثرهم كلاما فيما لا يعنيه " .

قال عمرو بن قيس الملائي : مر رجل بلقمان والناس عنده ، فقال له : ألست عبد بني فلان ؟ قال بلى ، قال : الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا ؟ قال : بلى ، فقال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني .

وقال وهب بن منبه : كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء ، فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء ، [ ص: 294 ] فقالا له : يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة ؟ قال : بيسير من الدنيا : فطمت نفسي عن الشهوات ، وكففت لساني عما لا يعنيني ، ورغبت فيما دعاني إليه ، ولزمت الصمت ، فإن أقسمت على الله ، أبر قسمي ، وإن سألته أعطاني .

دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل ، فسألوه ، عن سبب تهلل وجهه ، فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين : كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، وكان قلبي سليما للمسلمين .

وقال مورق العجلي : أمر أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه أبدا ، قالوا : وما هو ؟ قال : الكف عما لا يعنيني . رواه ابن أبي الدنيا .

وروى أسد بن موسى ، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فدخل عبد الله بن سلام ، فقام إليه ناس ، فأخبروه ، وقالوا : أخبرنا بأوثق عملك في نفسك ، قال : إن عملي لضعيف ، وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر ، وتركي ما لا يعنيني .

وروى أبو عبيدة عن الحسن قال : من علامة إعراض الله تعالى ، عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه ، وقال سهل بن عبد الله التستري : من تكلم فيما [ ص: 295 ] لا يعنيه ، حرم الصدق ، وقال معروف : كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل .

[ص: 302 ] الحديث الثالث عشر :

عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث قتادة ، عن أنس ، ولفظ مسلم " حتى يحب لجاره أو لأخيه " بالشك .

وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير " .

وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في " الصحيحين " ، وأن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته ، فإن الإيمان كثيرا ما ينفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، وقوله : لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه . [ ص: 303 ] وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر : هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان ، أم لا يسمى مؤمنا ؟ وإنما يقال : هو مسلم ، وليس بمؤمن على قولين ، وهما روايتان عن الإمام أحمد .

فأما من ارتكب الصغائر ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، بل هو مؤمن ناقص الإيمان ، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك .

والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له : مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن عبد الله ، وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم ، والقول بأنه مسلم ، ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة .

وقال ابن عباس : الزاني ينزع منه نور الإيمان . وقال أبو هريرة : ينزع منه الإيمان ، فيكون فوقه كالظلة ، فإن تاب عاد إليه .

وقال عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء : الإيمان كالقميص ، يلبسه الإنسان تارة ، ويخلعه تارة أخرى ، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره ، والمعنى : أنه إذا كمل خصال الإيمان ، لبسه ، فإذا نقص منها شيء نزعه ، وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء .

والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، فإذا زال ذلك عنه ، فقد نقص إيمانه بذلك . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة : أحب للناس ما تحب لنفسك [ ص: 304 ] تكن مسلما خرجه الترمذي وابن ماجه .

وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان ، قال : أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله ، قال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : أن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيرا أو تصمت .

وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على هذه الخصلة ؛ ففي " مسند " الإمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسد القسري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتحب الجنة " ؟ قلت : نعم ، قال : " فأحب لأخيك ما تحب لنفسك " .

وفي " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه .

وفيه أيضا عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم .

[ ص: 305 ] وإنما نهاه عن ذلك ، لما رأى من ضعفه ، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف ، وإنما كان يتولى أمور الناس ، لأن الله قواه على ذلك ، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته ، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم .

وقد روي عن علي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إني أرضى لك ما أرضى لنفسي ، وأكره لك ما أكره لنفسي ، لا تقرأ القرآن وأنت جنب ، ولا أنت راكع ، ولا أنت ساجد .

وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له ، فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه ، وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق تفسير ذلك في موضعه . [ ص: 306 ] وقد ذكرنا فيما تقدم حديث النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر خرجاه في " الصحيحين " ، وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن ، ويحزنه ما يحزنه .

وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير ، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد ، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير ، أو يساويه فيه ، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله ، وينفرد بها عنهم ، والإيمان يقتضي خلاف ذلك ، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء .

وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلو في الأرض ولا الفساد ، فقال : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ( القصص : 83 ) . وروى ابن جرير بإسناد فيه نظر عن علي رضي الله عنه قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين . وكذا روي عن الفضيل بن عياض في هذه الآية ، قال : لا يحب أن يكون نعله أجود من نعل غيره ، ولا شراكه أجود من شراك غيره .

وقد قيل : إن هذا محمول على أنه إذا أراد الفخر على غيره لا مجرد التجمل ، قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية : العلو في الأرض : [ ص: 307 ] التكبر ، وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها ، والفساد : العمل بالمعاصي .

وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه من الناس أحد في الجمال ، فخرج الإمام أحمد رحمه الله والحاكم في " صحيحه " من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما ، أليس ذلك هو البغي ؟ فقال : " لا ، ليس ذلك بالبغي ، ولكن البغي من بطر - أو قال : - سفه الحق وغمص الناس " .

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه ، وفي حديثه : " الكبر " بدل " البغي " .

فنفى أن يكون كراهته لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا ، وفسر الكبر والبغي ببطر الحق ، وهو التكبر عليه ، والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ، ومن هنا قال بعض السلف : التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به ، وإن كان صغيرا ، فمن قبل الحق ممن جاء به ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وسواء كان يحبه أو لا يحبه ، فهو متواضع ، ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه ، فهو متكبر .

[ص: 311 ] الحديث الرابع عشر :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، وفي رواية لمسلم : " التارك للإسلام " بدل قوله : " لدينه " وفي هذا المعنى أحاديث متعددة : فخرج مسلم من حديث عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن مسعود .

وخرج الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس . وفي رواية للنسائي : " رجل زنى بعد [ ص: 312 ] إحصانه ، فعليه الرجم ، أو قتل عمدا ، فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه ، فعليه القتل " .

وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم ، وقد ذكرنا حديث أنس فيما تقدم ، وفيه تفسير أن هذه الثلاث خصال هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين .

فأما زنا الثيب ، فأجمع المسلمون على أن حده الرجم حتى يموت ، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية ، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه : " والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله ، والله عزيز حكيم " .

وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن من قوله تعالى : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ( المائدة : 15 ) ، قال : فمن كفر بالرجم ، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، [ ص: 313 ] ثم تلا هذه الآية وقال : كان الرجم مما أخفوا . أخرجه النسائي ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

ويستنبط أيضا من قوله تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا إلى قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ المائدة : 44 - 49 ] وقال الزهري : بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني أحكم بما في التوارة " وأمر بهما فرجما .

وخرج مسلم في " صحيحه " من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين ، وقال في حديثه : فأنزل الله : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر [ المائدة : 41 ] وأنزل : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] في الكفار كلها .

وخرجه الإمام أحمد وعنده : فأنزل الله : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله : إن أوتيتم هذا فخذوه [ المائدة : 41 ] يقولون : ائتوا محمدا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد ، فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] قال : في اليهود .

وروي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين ، وفي حديثه قال : فأنزل الله :

[ ص: 314 ] فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم إلى قوله : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ المائدة : 42 ] .

وكان الله تعالى قد أمر أولا بحبس النساء الزواني إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ، ثم جعل الله لهن سبيلا ، ففي " صحيح مسلم " عن عبادة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم .

وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء ، وأوجبوا جلد الثيب مائة ، ثم رجمه كما فعل علي بشراحة الهمدانية ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يشير إلى أن كتاب الله فيه جلد الزانيين من غير تفصيل بين ثيب وبكر ، وجاءت السنة برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضا ، [ ص: 315 ] وهذا القول هو المشهور ، عن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق ، وهو قول الحسن وطائفة من السلف .

وقالت طائفة منهم : إن كان الثيبان شيخين رجما وجلدا ، وإن كانا شابين ، رجما بغير جلد ، لأن ذنب الشيخ أقبح ، لا سيما بالزنا ، وهذا قول أبي بن كعب ، وروي عنه مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، وهو رواية عن أحمد وإسحاق أيضا .

[ ص: 332 ] الحديث الخامس عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة ، وفي بعض ألفاظها : " فلا يؤذي جاره " وفي بعض ألفاظها : " فليحسن قرى ضيفه " وفي بعضها : " فليصل رحمه " بدل ذكر الجار .

وخرجاه أيضا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود ، [ ص: 333 ] وعبد الله بن عمرو ، وأبي أيوب الأنصاري وابن عباس وغيرهم من الصحابة .

فقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " فليفعل كذا وكذا ، يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان ، وقد سبق أن الأعمال تدخل في الإيمان ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالصبر والسماحة ، قال الحسن : المراد : الصبر عن المعاصي ، والسماحة بالطاعة .

وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله ، كأداء الواجبات وترك المحرمات ، ومن ذلك قول الخير ، والصمت عن غيره .

وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف ، وإكرام الجار ، والكف عن أذاه ، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن : أحدهما قول الخير والصمت عما سواه ، وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي ، قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : " هل تملك لسانك ؟ " قلت : ما أملك إذا لم أملك لساني ؟ قال : " فهل تملك يدك ؟ " قلت : فما أملك إذا لم أملك يدي ؟ قال : " فلا تقل بلسانك إلا معروفا ، ولا تبسط يدك إلا إلى خير " . [ ص: 334 ] وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان ، كما في " المسند " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه .

وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنك لن تزال سالما ما سكت ، فإذا تكلمت ، كتب لك أو عليك . وفي " مسند " الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صمت نجا .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها ، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب .

وخرج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي هريرة ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار . [ ص: 335 ] وفي " صحيح البخاري " ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم .

وخرج الإمام أحمد من حديث سليمان بن سحيم ، عن أمه ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة ، فيتباعد بها أبعد من صنعاء " .

وخرج الإمام أحمد ، والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارث قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه .

وقد ذكرنا فيما سبق حديث أم حبيبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وذكر الله عز وجل .

فقوله صلى الله عليه وسلم : فليقل خيرا أو ليصمت أمر بقول الخير ، وبالصمت عما عداه ، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه ، بل إما [ ص: 336 ] أن يكون خيرا ، فيكون مأمورا بقوله ، وإما أن يكون غير خير ، فيكون مأمورا بالصمت عنه ، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا .

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث معاذ بن جبل ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا معاذ ثكلتك أمك وهل تقول شيئا إلا وهو لك أو عليك .

وقد قال الله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق : 17 - 18 ] وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات ، والذي عن شماله يكتب السيئات ، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف . وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم يصلي ، فإنه يناجي ربه والملك عن يمينه .

وروي من حديث حذيفة مرفوعا : " إن عن يمينه كاتب الحسنات " .

واختلفوا : هل يكتب كل ما يتكلم به ، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب ؟ على قولين مشهورين . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يكتب كل ما [ ص: 337 ] تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله : أكلت وشربت ذهبت وجئت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان فيه من خير أو شر ، وألقى سائره ، فذلك قوله تعالى : يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [ الرعد : 39 ] .

وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : ركب رجل الحمار ، فعثر به ، فقال : تعس الحمار ، فقال صاحب اليمين : ما هي حسنة أكتبها ، وقال صاحب الشمال : ما هي سيئة فأكتبها ، فأوحى الله إلى صاحب الشمال : ما ترك صاحب اليمين من شيء ، فاكتبه ، فأثبت في السيئات " تعس الحمار " .

وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة ، فهو سيئة ، وإن كان لا يعاقب عليها ، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها ، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر ، ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلا ، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه ، وهو نوع عقوبة .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار ، وكان لهم حسرة .

وخرجه الترمذي ولفظه : ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ، ولم [ ص: 338 ] يصلوا على نبيهم ، إلا كان عليهم ترة ، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم .

وفي رواية لأبي داود والنسائي : من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ، ومن اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة زاد النسائي : ومن قام مقاما لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة وخرج أيضا من حديث أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يجلسون مجلسا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة ، وإن دخلوا الجنة .

وقال مجاهد : ما جلس قوم مجلسا ، فتفرقوا قبل أن يذكروا الله ، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة ، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم ، وما جلس قوم مجلسا ، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا ، إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك ، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم .

وقال بعض السلف : يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره ، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات .

وخرجه الطبراني من حديث عائشة مرفوعا : " ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير ، إلا حسر عندها يوم القيامة " .

[ ص: 339 ] فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام ، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به ، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لابد منه . وقد روي عن ابن مسعود قال : إياكم وفضول الكلام ، حسب امرئ ما بلغ حاجته . وعن النخعي قال : يهلك الناس في فضول المال والكلام .

وأيضا قال فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب كما في " الترمذي " من حديث ابن عمر مرفوعا : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب ، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي " .

وقال عمر : من كثر كلامه ، كثر سقطه ، ومن كثر سقطه ، كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه ، كانت النار أولى به وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر [ ص: 340 ] مرفوعا بإسناد ضعيف .

وقال محمد بن عجلان : إنما الكلام أربعة : أن تذكر الله ، وتقرأ القرآن ، وتسأل عن علم فتخبر به ، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك .

وقال رجل لسلمان : أوصني ، قال : لا تكلم ، قال : ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم ، قال : فإن تكلمت ، فتكلم بحق أو اسكت .

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد .

وقال ابن مسعود : والله الذي لا إله إلا هو ، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان وقال وهب بن منبه : أجمعت الحكماء على أن رأس الحكم الصمت .

وقال شميط بن عجلان : يا ابن آدم ، إنك ما سكت ، فأنت سالم ، فإذا تكلمت ، فخذ حذرك ، إما لك وإما عليك وهذا باب يطول استقصاؤه .

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير ، والسكوت عما ليس بخير ، وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلا قال : يا رسول الله ، علمني عملا يدخلني الجنة ، فذكر الحديث وفيه قال : فأطعم الجائع ، [ ص: 341 ] واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك ، فكف لسانك إلا من خير .

فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق ، ولا السكوت كذلك ، بل لابد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر ، وكان السلف كثيرا يمدحون الصمت عن الشر ، وعما لا يعني لشدته على النفس ، وذلك يقع فيه الناس كثيرا ، فكانوا يعالجون أنفسهم ، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم .

قال الفضيل بن عياض : ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان ، ولو أصبحت يهمك لسانك ، أصبحت في غم شديد ، وقال : سجن اللسان سجن المؤمن ، ولو أصبحت يهمك لسانك ، أصبحت في غم شديد .

وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه : إن كان الكلام من فضة ، فإن الصمت من ذهب ، فقال : معناه : لو كان الكلام بطاعة الله من فضة ، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب . وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات ، وقد سبق القول في هذا مستوفى .

وتذاكروا عند الأحنف بن قيس ، أيهما أفضل الصمت أو النطق ؟ فقال قوم : الصمت أفضل ، فقال الأحنف : النطق أفضل ، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه ، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه .

وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله : الصامت على علم كالمتكلم على علم ، فقال عمر : إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم [ ص: 342 ] أفضلهما يوم القيامة حالا ، وذلك أن منفعته للناس ، وهذا صمته لنفسه ، فقال له : يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق ؟ فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدا .

ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يوما فرق الناس ، وبكوا ، فقطع خطبته ، فقيل له : لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به ، فقال عمر : إن القول فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول .

وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وسمعته يتكلم في هذه المسألة ، وأظن أني فاوضته فيها وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت ، وأظن أنه وقع في أثناء الكلام ذكر سليمان بن عبد الملك ، وأن عمر قال ذلك له ، وقد روي عن سليمان بن عبد الملك أنه قال : الصمت منام العقل ، والنطق يقظته ، ولا يتم حال إلا بحال ، يعني : لابد من الصمت والكلام .

وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته ، وكان أحد الحكماء : إذا كان المرء يحدث في مجلس ، فأعجبه الحديث فليسكت ، وإن كان ساكتا ، فأعجبه السكوت ، فليحدث ، وهذا حسن فإن من كان كذلك ، كان سكوته وحديثه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ، ومن كان كذلك ، كان جديرا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته ، لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل .

وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال : " علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا ، فإذا كان كذلك ، لم ينسني على حال ، وإذ كان كذلك ، مننت عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني ، فإذا نسيني ، حركت قلبه ، فإن تكلم تكلم لي ، وإن سكت ، سكت لي ، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي " خرجه إبراهيم بن الجنيد .

[ ص: 343 ] وبكل حال ، فالتزام الصمت مطلقا ، واعتقاده قربة إما مطلقا ، أو في بعض العبادات ، كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام الصمت . وخرج الإسماعيلي من حديث علي قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في العكوف ، وفي " سنن أبي داود " من حديث علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا صمات يوم إلى الليل . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة : إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال : صوم الصمت حرام .

[ص: 361 ] الحديث السادس عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني ، قال : لا تغضب فردد مرارا قال : لا تغضب رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي الحصين الأسدي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، ولم يخرجه مسلم ، لأن الأعمش رواه ، عن أبي صالح ، واختلف عليه في إسناده فقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، كقول أبي حصين ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، وعند يحيى بن معين أن هذا هو الصحيح ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو جابر ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن رجل من الصحابة غير مسمى . وخرج الترمذي هذا الحديث من طريق أبي حصين أيضا ولفظه : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه ، قال : لا تغضب فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول : لا تغضب وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ولا تكثر علي قال : لا تغضب . فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال [ ص: 362 ] الخير ، ليحفظها عنه خشية أن لا يحفظها لكثرتها ، فوصاه النبي أن لا يغضب ، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب ، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر ، وأن التحرز منه جماع الخير . ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو الدرداء ، فقد خرج الطبراني من حديث أبي الدرداء قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : لا تغضب ولك الجنة . وقد روى الأحنف بن قيس عن عمه جارية بن قدامة أن رجلا قال : يا رسول الله قل لي قولا ، وأقلل علي لعلي أعقله ، " قال لا تغضب " فأعاد عليه مرارا كل ذلك يقول : " لا تغضب " خرجه الإمام أحمد وفي رواية له أن جارية بن قدامة قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . فهذا يغلب على الظن أن السائل هو جارية بن قدامة ، ولكن ذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال : هكذا قال هشام ، يعني : أن هشاما ذكر في الحديث أن جارية سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يحيى : وهم يقولون : إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال العجلي وغيره : إنه تابعي وليس بصحابي . وخرج الإمام أحمد من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن [ ص: 363 ] رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : لا تغضب قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله ورواه مالك في " الموطأ " عن الزهري ، عن حميد مرسلا . وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل ؟ قال : لا تغضب . وقول الصحابي : ففكرت فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الغضب يجمع الشر كله يشهد لما ذكرناه أن الغضب جماع الشر ، قال جعفر بن محمد : الغضب مفتاح كل شر . وقيل لابن المبارك : اجمع لنا حسن الخلق في كلمة ، قال : ترك الغضب . وكذا فسر الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب ، وقد روي ذلك مرفوعا ، خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " من حديث أبي العلاء بن الشخير أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ فقال : " حسن الخلق " ثم أتاه عن يمينه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل فقال : " حسن الخلق " ، ثم أتاه عن شماله فقال : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : حسن الخلق ثم أتاه من بعده ، يعني : من خلفه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " مالك لا تفقه ! حسن الخلق هو أن لا تغضب إن استطعت " . وهذا مرسل . فقوله صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه : لا تغضب يحتمل أمرين : [ ص: 364 ] أحدهما : أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى ، والصفح والعفو ، وكظم الغيظ ، والطلاقة والبشر ، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه . والثاني : أن يكون المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك ، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمر والناهي له ، ولهذا المعنى قال الله عز وجل ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف : 154 ] فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شر الغضب ، وربما سكن غضبه ، وذهب عاجلا ، فكأنه حينئذ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في القرآن بقوله عز وجل وإذا ما غضبوا هم يغفرون [ الشورى : 37 ] ، وبقوله عز وجل : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] .

[ ص: 379 ] الحديث السابع عشر :

عن أبي يعلى شداد بن أوس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن شداد بن أوس ، وتركه البخاري ، لأنه لم يخرج في " صحيحه " لأبي الأشعث شيئا وهو شامي ثقة . وقد روي نحوه من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل محسن فأحسنوا ، فإذا قتل أحدكم ، فليحسن مقتوله ، وإذا ذبح ، فليحد شفرته ، وليرح ذبيحته خرجه ابن عدي . وخرج الطبراني من حديث أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا حكمتم فاعدلوا ، وإذا قلتم فأحسنوا ، فإن الله محسن يحب المحسنين . [ ص: 380 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب " السير " عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء أو قال : " على كل خلق " هكذا خرجها مرسلة ، وبالشك في " كل شيء " أو " كل خلق " وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإحسان ، فيكون كل شيء أو كل مخلوق هو المكتوب عليه ، والمكتوب هو الإحسان . وقيل : إن المعنى أن الله كتب الإحسان إلى كل شيء ، أو في كل شيء ، أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء ، فيكون المكتوب عليه غير مذكور ، وإنما المذكور المحسن إليه . ولفظ " الكتابة " يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافا لبعضهم ، وإنما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم إما شرعا ، كقوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ النساء : 103 ] ، وقوله : كتب عليكم الصيام [ البقرة : 182 ] ، كتب عليكم القتال [ البقرة : 216 ] ، أو فيما هو واقع قدرا لا محالة ، كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ المجادلة : 21 ] ، وقوله : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [ الأنبياء : 105 ] ، وقوله : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [ ص: 381 ] [ المجادلة : 22 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضان : إني خشيت أن يكتب عليكم وقال : " أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي " ، وقال : كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، فهو مدرك ذلك لا محالة . وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان ، وقد أمر الله تعالى به ، فقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] وقال : أحسنوا إن الله يحب المحسنين [ البقرة : 195 ] . وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره . وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها . وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال ، لكن إحسان كل شيء بحسبه ، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة : الإتيان بها على وجه كمال واجباتها ، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب ، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب . [ ص: 382 ] والإحسان في ترك الحرمات : الانتهاء عنها ، وترك ظاهرها وباطنها ، كما قال تعالى : وذروا ظاهر الإثم وباطنه [ الأنعام : 120 ] . فهذا القدر من الإحسان فيها واجب .

[ص: 395 ] الحديث الثامن عشر :

عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، وفي بعض النسخ : حسن صحيح . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن أبي ذر ، وخرجه أيضا بهذا الإسناد ، عن ميمون ، عن معاذ ، وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنه قال : حديث أبي ذر أصح . فهذا الحديث قد اختلف في إسناده وقيل فيه : عن حبيب ، عن ميمون : أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بذلك ، مرسلا ، ورجح الدارقطني هذا المرسل . وقد حسن الترمذي هذا الحديث ، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه ، فبعيد ، ولكن الحاكم خرجه ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وهو وهم من وجهين : أحدهما : أن ميمون بن أبي شبيب ، ويقال : ابن شبيب لم يخرج له البخاري في " صحيحه " شيئا ، ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه حديثا عن [ ص: 396 ] المغيرة بن شعبة . والثاني : أن ميمون بن أبي شبيب لم يصح سماعه من أحد من الصحابة ، قال الفلاس : ليس في شيء من رواياته عن الصحابة " سمعت " ولم أخبر أن أحدا يزعم أنه سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو حاتم الرازي : روايته عن أبي ذر وعائشة غير متصلة . وقال أبو داود : لم يدرك عائشة ، ولم ير عليا ، وحينئذ فلم يدرك معاذا بطريق الأولى . وروى البخاري وشيخه علي بن المديني ، وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أن الحديث لا يتصل إلا بصحة اللقي ، وكلام الإمام أحمد يدل على ذلك ، ونص عليه الشافعي في " الرسالة " وهذا كله خلاف رأي مسلم رحمه الله . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى بهذه الوصية معاذا وأبا ذر من وجوه أخر ، فخرج البزار من حديث أبي لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم ، فقال : يا رسول الله أوصني ، قال : أفش السلام ، وابذل الطعام ، واستحي من الله استحياء رجل ذي هيئة من أهلك ، وإذا أسأت فأحسن ، وليحسن خلقك ما استطعت . وخرج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن [ ص: 397 ] معاذ بن جبل أراد سفرا ، فقال : يا رسول الله أوصني قال : اعبد الله ، ولا تشرك به شيئا " قال : يا رسول الله زدني ، قال : " إذا أسأت فأحسن " قال : يا رسول الله زدني ، قال : " استقم ولتحسن خلقك " . وخرج الإمام أحمد من حديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته ، وإذا أسأت فأحسن ، ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط سوطك ، ولا تقبض أمانة ، ولا تقض بين اثنين . وخرج أيضا من وجه آخر عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله علمني عملا يقربني من الجنة ويباعدني من النار ، قال : إذا عملت سيئة ، فاعمل حسنة ، فإنها عشر أمثالها قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : هي أحسن الحسنات . وخرج ابن عبد البر في " التمهيد " بإسناد فيه نظر عن أنس قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن ، فقال : " يا معاذ اتق الله ، وخالق الناس بخلق حسن ، وإذا عملت سيئة ، فأتبعها حسنة " فقال : قلت : يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات ؟ قال : " هي من أكبر الحسنات " . وقد رويت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ من حديث ابن عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف . ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ، وابن حبان في " صحيحه " . [ ص: 398 ] فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده ، فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته ، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين . قال تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [ النساء : 131 ] . وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه . وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل ، كقوله تعالى : واتقوا الله الذي إليه تحشرون [ المائدة : 96 ] ، وقوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [ الحشر : 18 ] ، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى ، فالمعنى : اتقوا سخطه وغضبه ، وهو أعظم ما يتقى ، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي ، قال تعالى : ويحذركم الله نفسه [ آل عمران : 28 ] ، وقال تعالى : هو أهل التقوى وأهل المغفرة [ المدثر : 56 ] ، فهو سبحانه أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه ، لما يستحقه من الإجلال والإكرام ، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش ، وشدة البأس . وفي الترمذي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية هو أهل التقوى وأهل المغفرة [ المدثر : 56 ] قال : قال الله تعالى : " أنا أهل أن أتقى ، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له " . [ ص: 399 ] وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه ، كالنار ، أو إلى زمانه ، كيوم القيامة ، كما قال تعالى : واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ آل عمران : 131 ] ، وقال تعالى : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين [ البقرة : 24 ] ، وقال تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا [ البقرة : 48 ، 123 ] .

[ص: 459 ] الحديث التاسع عشر :

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف .

رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

وفي رواية غير الترمذي : احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية حنش الصنعاني ، عن ابن عباس وخرجه الإمام أحمد من حديث حنش الصنعاني مع إسنادين آخرين منقطعين ولم يميز لفظ بعضها من بعض ، ولفظ حديثه : يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات [ ص: 460 ] ينفعك الله بهن ؟ " فقلت : بلى ، فقال : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله ، لم يقدروا عليه ، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا عليه ، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا .

وهذا اللفظ أتم من اللفظ الذي ذكره الشيخ رحمه الله ، وعزاه إلى غير الترمذي ، واللفظ الذي ذكره الشيخ رواه عبد بن حميد في " مسنده " بإسناد ضعيف عن عطاء ، عن ابن عباس ، وكذلك عزاه ابن الصلاح في " الأحاديث الكلية " التي هي أصل أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بن حميد وغيره .

وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي ومولاه عكرمة ، وعطاء بن أبي رباح ، وعمرو بن دينار ، وعبيد الله بن عبد [ ص: 461 ] الله ، وعمر مولى غفرة ، وابن أبي مليكة وغيرهم .

وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي ، كذا قال ابن منده وغيره . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري ، وسهل بن سعد ، وعبد الله بن جعفر ، وفي أسانيدها كلها ضعف . [ ص: 462 ] وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة ، وبعضها أصلح من بعض ، وبكل حال ، فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة .

وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء : تدبرت هذا الحديث ، فأدهشني وكدت أطيش ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث ، وقلة التفهم لمعناه .

قلت : وقد أفردت لشرحه جزءا كبيرا ونحن نذكر هاهنا مقاصده على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى .

قوله صلى الله عليه وسلم : " احفظ الله " يعني : احفظ حدوده ، وحقوقه ، وأوامره ، ونواهيه ، وحفظ ذلك : هو الوقوف عند أوامره بالامتثال ، وعند نواهيه بالاجتناب ، وعند حدوده ، فلا يتجاوز ما أمر به ، وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك ، فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه ، وقال عز وجل : هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب [ ق : 32 - 33 ] وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله ، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها .

ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها ، فقال : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ البقرة : 238 ] ، ومدح المحافظين عليها بقوله : والذين هم على صلاتهم يحافظون [ المعارج : 34 ] . [ ص: 463 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حافظ عليها ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي حديث آخر : من حافظ عليهن ، كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة .

وكذلك الطهارة ، فإنها مفتاح الصلاة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .

ومما يؤمر بحفظه الأيمان ، قال الله عز وجل : واحفظوا أيمانكم [ المائدة : 89 ] ، فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرا ، ويهمل كثير منهم ما يجب بها ، فلا يحفظه ، ولا يلتزمه .

[ص: 496 ] الحديث العشرون :

عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت رواه البخاري .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأظن مسلما لم يخرجه ، لأنه قد رواه قوم ، فقالوا : عن ربعي ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف في إسناده ، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال : عن أبي مسعود ، منهم البخاري ، وأبو زرعة الرازي ، والدارقطني وغيرهم ، ويدل على صحة ذلك [ ص: 497 ] أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه .

وخرجه الطبراني من حديث أبي الطفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .

فقوله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن ، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام ، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة . وفي بعض الروايات قال : " لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا " . خرجها حميد بن زنجويه وغيره .

وقوله " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " في معناه قولان : أحدهما : أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء ، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه ، وأهل هذه المقالة لهم طريقان :

أحدهما : أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد ، والمعنى : إذا لم يكن حياء ، فاعمل ما شئت ، فالله يجازيك عليه ، كقوله : اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير [ فصلت : 40 ] ، وقوله : فاعبدوا ما شئتم من دونه [ الزمر : 15 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من باع الخمر ، فليشقص الخنازير " يعني ليقطعها إما لبيعها [ ص: 498 ] أو لأكلها ، وأمثلته متعددة ، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس بن ثعلب .

والطريق الثاني : أنه أمر ، ومعناه الخبر ، والمعنى : أن من لم يستحي ، صنع ما شاء ، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء ، فمن لم يكن له حياء ، انهمك في كل فحشاء ومنكر ، وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم : من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ، فإن لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار ، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله ، وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي ، وغيرهم ، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول .

وروى ابن أبي لهيعة عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أبغض الله عبدا ، نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا بغيضا متبغضا ، ونزع منه الأمانة ، فإذا نزع منه الأمانة ، نزع منه الرحمة ، وإذا نزع منه الرحمة ، نزع منه ربقة الإسلام ، فإذا نزع منه ربقة الإسلام ، لم تلقه إلا شيطانا مريدا " . خرجه حميد بن زنجويه ، وخرجه ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا أيضا .

وعن سلمان الفارسي قال : إن الله إذا أراد بعبد هلاكا ، نزع منه الحياء ، فإذا [ ص: 499 ] نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا ، فإذا كان مقيتا ممقتا ، نزع منه الأمانة ، فلم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا كان خائنا مخونا ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظا غليظا ، فإذا كان فظا غليظا ، نزع ربق الإيمان من عنقه ، فإذا نزع ربق الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا .

وعن ابن عباس قال : الحياء والإيمان في قرن ، فإذا نزع الحياء ، تبعه الآخر . خرجه كله حميد بن زنجويه في كتاب " الأدب " .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان كما في " الصحيحين " عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول : إنك لتستحيي ، كأنه يقول : قد أضر بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإن الحياء من الإيمان . [ ص: 500 ] وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة قال : " الحياء شعبة من الإيمان " .

وفي " الصحيحين " عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية لمسلم قال : " الحياء خير كله " ، أو قال : " الحياء كله خير " .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث الأشج العصري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فيك لخلقين يحبهما الله " ، قلت : ما هما ؟ قال : " الحلم والحياء " قلت : أقديما كان أو حديثا ؟ قال " بل قديما " قلت : الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله .

وقال : إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل فاستسقى ، فأتى بماء فشرب ، فستره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا ؟ قال : [ ص: 501 ] " الحياء خلة أوتوها ومنعتموها " .

واعلم أن الحياء نوعان : أحدهما : ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب ، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الحياء لا يأتي إلا بخير " فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها ، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من استحيا ، اختفى ، ومن اختفى ، اتقى ، ومن اتقى وقي .

وقال الجراح بن عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام - : تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع . وعن بعضهم قال : رأيت المعاصي نذالة ، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة .

النوع الثاني : ما كان مكتسبا من معرفة الله ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده ، واطلاعه عليهم ، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فهذا من أعلى خصال الإيمان ، بل هو من أعلى درجات الإحسان ، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " استحي من الله كما تستحيي رجلا من صالح عشيرتك " .

وفي حديث ابن مسعود : " الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ؛ ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله " خرجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا . [ ص: 502 ] وقد يتولد من الله الحياء من مطالعة نعمه ورؤية التقصير في شكرها ، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي ، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح ، والأخلاق الدنيئة ، فصار كأنه لا إيمان له . وقد روي من مراسيل الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحياء حياءان : طرف من الإيمان ، والآخر عجز " ولعله من كلام الحسن ، وكذلك قال بشير بن كعب العدوي لعمران بن حصين : إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله ، ومنه ضعف ، فغضب عمران وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه ؟ والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه ، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل ، وترك القبيح ، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده ، فليس هو من الحياء ، إنما هو ضعف وخور ، وعجز ومهانة ، والله أعلم . [ ص: 503 ] والقول الثاني : في معنى قوله : " إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت " أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه ، وأن المعنى : إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحيا من فعله لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنع منه حينئذ ما شئت ، وهذا قول جماعة من الأئمة ، منهم إسحاق المروزي الشافعي ، وحكي مثله عن الإمام أحمد ، ووقع كذلك في بعض نسخ " مسائل أبي داود " المختصرة عنه ، ولكن الذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل ، وكذلك حكاه عنه الخلال في كتاب " الأدب " ، ومن هذا قول بعض السلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أن لا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم : الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

وروى عبد الرازق في كتابه عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل من مزينة قال : قيل : يا رسول الله ، ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم ؟ قال : " الخلق الحسن " قال : فما شر ما أوتي المسلم ؟ قال : " إذا كرهت أن يرى عليك شيء في نادي القوم ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وفي " صحيح ابن حبان " عن أسامة بن شريك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كره منك شيئا ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري قال : قلت : يا رسول الله [ ص: 504 ] ما تمام البر ؟ قال : " أن تعمل في السر عمل العلانية " . وخرجه أيضا من حديث أبي عامر السكوني ، قال : قلت : يا رسول الله ، فذكره .

وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ في كتاب " أدب المحدث " بإسناده عن حرملة بن عبد الله ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأزداد من العلم ، فقمت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تأمرني أن أعمل به ؟ قال : " ائت المعروف ، واجتنب المنكر ، وانظر الذي سمعته أذنك من الخير يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فأته ، وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم ، فاجتنبه " قال : فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئا : إتيان المعروف ، واجتناب المنكر .

وخرج ابن سعد في " طبقاته " بمعناه .

وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولا آخر حكاه عن جرير : قال معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير ، فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء ، يقول : فلا يمنعنك الحياء من المضي لما أردت ، كما جاء في الحديث : " إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي ، فقال : إنك ترائي ، فزدها طولا " ثم قال أبو عبيد : وهذا [ ص: 505 ] الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير ، ولا على هذا يحمله الناس .

قلت : لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظ الحديث : إذا استحييت مما لا يستحيا منه ، فافعل ما شئت ، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه ، والله أعلم .

[ص: 506 ] الحديث الحادي والعشرون .:

عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك ، قال : قل آمنت بالله ، ثم استقم رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان وسفيان : هو ابن عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة ، وكان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف .

وقد روي عن سفيان بن عبد الله من وجوه أخر بزيادات ، فخرجه الإمام أحمد ، والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز ، وعند الترمذي : من رواية عبد الرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبد الله قال : قلت : يا رسول الله ، حدثني بأمر أعتصم به ، قال : قل : ربي الله ، ثم استقم قلت : يا رسول الله ، ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، قال هذا ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وخرجه الإمام أحمد ، والنسائي من رواية عبد الله بن سفيان الثقفي ، عن أبيه أن رجلا قال : يا رسول الله ، مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك [ ص: 507 ] قال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم قلت : فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه .

قول سفيان بن عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم : " قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك " طلب منه أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل آمنت بالله ، ثم استقم وفي الرواية الأخرى : " قل : ربي الله ، ثم استقم " هذا منتزع من قوله عز وجل : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ فصلت : 30 ] ، وقوله عز وجل : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ الأحقاف : 13 - 14 ] .

وخرج النسائي في " تفسيره " من رواية سهيل بن أبي حزم : حدثنا ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فقال : " قد قالها الناس ، ثم كفروا ، فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة " . وخرجه الترمذي ، ولفظه : فقال : " قد قالها الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها ، فهو ممن استقام " ، وقال : حسن غريب ، وسهيل تكلم فيه من قبل حفظه . [ ص: 508 ] وقال أبو بكر الصديق في تفسير ثم استقاموا قال : لم يشركوا بالله شيئا . وعنه قال : لم يلتفتوا إلى إله غيره . وعنه قال : ثم استقاموا على أن الله ربهم .

وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال : هذه أرخص آية في كتاب الله قالوا ربنا الله ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله . وروي نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال ، وزيد بن أسلم ، والسدي وعكرمة وغيرهم . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فقال : لم يروغوا روغان الثعلب .

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ثم استقاموا قال : استقاموا على أداء فرائضه .

وعن أبي العالية ، قال : ثم أخلصوا له الدين والعمل .

وعن قتادة قال : استقاموا على طاعة الله ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية [ ص: 509 ] قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة .

ولعل من قال : إن المراد الاستقامة على التوحيد إنما أراد التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار ، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله ، فإن الإله هو المعبود الذي يطاع ، فلا يعصى خشية وإجلالا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلا ودعاء ، والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد ، لأنها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان ، قال الله عز وجل : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الجاثية : 23 ] قال الحسن وغيره : هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه ، فهذا ينافي الاستقامة على التوحيد .

وأما على رواية من روى : " قل : آمنت بالله " فالمعنى أظهر ، لأن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث ، وقال الله عز وجل : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير [ هود : 112 ] ، فأمره أن يستقيم هو ومن تاب معه ، وأن لا يجاوزوا ما أمروا به ، وهو الطغيان ، وأخبر أنه بصير بأعمالكم ، مطلع عليها ، قال تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم [ الشورى : 15 ] قال قتادة : أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقيم على أمر الله وقال الثوري على القرآن ، وعن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رئي ضاحكا خرجه ابن أبي حاتم وذكر القشيري وغيره عن بعضهم : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال له : يا رسول الله ، قلت : " شيبتني هود وأخواتها " فما شيبك [ ص: 510 ] منها ؟ قال : " قوله : فاستقم كما أمرت .

وقال عز وجل : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه [ فصلت : 6 ] .

وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عموما كما قال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ الشورى : 13 ] ، وأمر بإقام الصلاة في غير موضع من كتابه ، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين

[ ص: 513 ] الحديث الثاني والعشرون .:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت إذا صليت المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئا ، أأدخل الجنة ؟ قال : نعم رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر ، وزاد في آخره قال : والله لا أزيد على ذلك شيئا . وخرجه أيضا من رواية الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال : قال النعمان بن قوقل : يا رسول الله ، أرأيت إذا صلي6ت المكتوبة ، وحرمت الحرام ، وأحللت الحلال ، ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم " .

وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله ، وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه ، ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه ، ويكون الحلال هاهنا عبارة عما ليس بحرام فيدخل فيه الواجب والمستحب والمباح ، ويكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه ، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره ، ويجتنب المحرمات . وقد روي عن طائفة من السلف ، منهم ابن مسعود وابن عباس في قوله عز وجل : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به [ البقرة : 121 ] ، قالوا : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه . [ ص: 514 ] والمراد بالتحليل والتحريم : فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا الحديث . وقد قال الله في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله [ التوبة : 37 ] والمراد : أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاما ، فيحلونه بذلك ، ويمتنعون من القتال فيه عاما ، فيحرمونه بذلك .

وقال الله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا [ المائدة : 87 - 88 ] وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدنيا وتقشفا ، وبعضهم حرم ذلك على نفسه ، إما بيمين حلف بها ، أو بتحريمه على نفسه ، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر ، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا تحريم ، فسمى الجميع تحريما ، حيث قصد الامتناع منه إضرارا بالنفس ، وكفا لها عن شهواتها . ويقال في الأمثال : فلان لا يحلل ولا يحرم ، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ، ولا يقف عند ما أبيح له ، وإن كان يعتقد تحريم الحرام ، فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحاشى منه محللا له وإن كان لا يعتقد حله .

وبكل حال ، فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات ، وانتهى عن المحرمات دخل الجنة وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى ، أو ما هو قريب منه ، كما خرجه النسائي ، وابن حبان ، والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، [ ص: 515 ] ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة ، يدخل من أيها شاء ثم تلا : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ النساء : 31 ] .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من عبد الله ، لا يشرك به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة - .

وفي " المسند " عن ابن عباس أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له الصلوات الخمس ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، فلما فرغ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، لا أزيد ولا أنقص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صدق دخل الجنة وخرجه الطبراني من وجه آخر ، وفي حديثه قال : والخامسة لا أرب لي فيها يعني الفواحش ثم قال : لأعملن بها ، ومن أطاعني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

[ ص: 516 ] وفي " صحيح البخاري " عن أبي أيوب أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم وخرجه مسلم إلا أن عنده أنه قال : أخبرني بعمل يدنيني من الجنة ويباعدني من النار . وعنده في رواية : فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تمسك بما أمر به ، دخل الجنة " .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : والذي بعثك بالحق ، لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه ، فلما ولى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا .

وفي " الصحيحين " عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة ؟ فقال : الصلوات الخمس ، إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الصيام ؟ فقال : شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام ، فقال : والذي أكرمك بالحق ، لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق - أو دخل الجنة إن صدق - ولفظه للبخاري .

[ ص: 517 ] وفي " صحيح مسلم " عن أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه ، وزاد فيه " حج البيت من استطاع إليه سبيلا " فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على الصلاة المكتوبة ، والزكاة المفروضة ، وصيام رمضان ، وحج البيت شيئا من التطوع ، ليس مراده أنه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك ، وهذه الأحاديث لم يذكر فيها اجتناب المحرمات ، لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة .

وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : أيها الناس ، اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم وقال : حسن صحيح ، وخرجه الإمام أحمد ، وعنده " اعبدوا ربكم " بدل قوله " اتقوا الله " . وخرجه بقي بن مخلد في " مسنده " من وجه آخر ، ولفظ حديثه : " صلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وحجوا بيتكم ، وأدوا زكاة أموالكم ، طيبة بها أنفسكم ، تدخلوا جنة ربكم " .

وخرج الإمام أحمد بإسناده عن ابن المنتفق ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات ، فقلت : ثنتان أسألك عنهما : ما ينجيني من النار ، وما يدخلني الجنة ؟ فقال : لئن كنت أوجزت في المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، فاعقل عني إذن : اعبد الله لا تشرك به شيئا ، وأقم الصلاة المكتوبة ، وأد الزكاة المفروضة ، وصم [ ص: 518 ] رمضان ، وما تحب أن يفعله بك الناس ، فافعله بهم ، وما تكره أن يأتي إليك الناس ، فذر الناس منه .

وفي رواية له أيضا قال : " اتق الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، ولم تزد على ذلك " وقيل : إن هذا الصحابي هو وافد بن المنتفق ، واسمه لقيط .

فهذه الأعمال أسباب مقتضية لدخول الجنة ، وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع ، ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن مرة الجهني ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليت الخمس ، وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه " .

[ ص: 519 ] وقد ورد ترتب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال كالصلاة ، ففي الحديث المشهور : من صلى الصلوات لوقتها ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي الحديث الصحيح : من صلى البردين دخل الجنة ، وهذا كله من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه ، وانتفاء موانعه ؛ ويدل هذا على ما خرجه الإمام أحمد عن بشير بن الخصاصية ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فشرط علي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أوتي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله ، فقلت : يا رسول الله ، فأما اثنتان فوالله ما أطيقهما : الجهاد والصدقة ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حركها ، وقال : " فلا جهاد ولا صدقة ؟ فبم تدخل الجنة إذا ؟ " قلت : يا رسول الله أبايعك ، فبايعته عليهن كلهن ففي هذا الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه [ ص: 520 ] الخصال بدون الزكاة والجهاد .

[ص: 5 ] الحديث الثالث والعشرون :

عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله ، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث أخرجه مسلم من رواية يحيى بن أبي كثير أن زيد بن سلام حدثه أن سلاما حدثه عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، فذكر الحديث . وفي أكثر نسخ صحيح مسلم " والصبر ضياء " وفي بعضها : " والصيام ضياء " . وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلام ، فأنكره يحيى بن معين ، وأثبته الإمام أحمد ، وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه . وخرج هذا الحديث النسائي ، وابن ماجه من رواية معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي [ ص: 6 ] مالك ، فزاد في إسناده عبد الرحمن بن غنم ، ورجح هذه الرواية بعض الحفاظ ، وقال : معاوية بن سلام أعلم بحديث أخيه زيد من يحيى بن أبي كثير ، ويقوي ذلك أنه قد روي عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك من وجه آخر ، وحينئذ فتكون رواية مسلم منقطعة . وفي حديث معاوية بعض المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير ، فإن لفظ حديثه عند ابن ماجه : إسباغ الوضوء شطر الإيمان ، والحمد لله ملء الميزان ، والتسبيح والتكبير ملء السماء والأرض ، والصلاة نور ، والزكاة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها " . وخرج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه مسلم ، ولفظ حديثه : " الوضوء شطر الإيمان " وباقي حديثه مثل سياق مسلم . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث رجل من بني سليم ، قال : عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده : " التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض ، والصوم نصف الصبر ، والطهور نصف الإيمان " . [ ص: 7 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " فسر بعضهم الطهور هاهنا بترك الذنوب ، كما في قوله تعالى : إنهم أناس يتطهرون [ الأعراف : 82 ] ، وقوله : وثيابك فطهر [ المدثر : 4 ] ، وقوله : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] . وقال الإيمان نوعان : فعل وترك ، فنصفه فعل المأمورات ، ونصفه ترك المحظورات ، وهو تطهير النفس بترك المعاصي ، وهذا القول محتمل لولا أن رواية " الوضوء شطر الإيمان " ترده ، وكذلك رواية إسباغ الوضوء . وأيضا ففيه نظر من جهة المعنى ، فإن كثيرا من الأعمال تطهر النفس من الذنوب السابقة ، كالصلاة ، فكيف لا تدخل في اسم الطهور ، ومتى دخلت الأعمال ، أو بعضها ، في اسم الطهور ، لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان . والصحيح الذي عليه الأكثرون : أن المراد بالطهور هاهنا : التطهير بالماء من الإحداث ، وكذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء ، وكذلك خرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما ، وعلى هذا فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيمان . فمنهم من قال : المراد بالشطر الجزء ، لا أنه النصف بعينه ، فيكون الطهور جزءا من الإيمان ، وهذا فيه ضعف ، لأن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في النصف ، ولأن في حديث الرجل من سليم : " الطهور نصف الإيمان " كما سبق . ومنهم من قال : المعنى أنه يضاعف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان ، لكن من غير تضعيف ، وفي هذا نظر وبعد . [ ص: 8 ] ومنهم من قال : الإيمان يكفر الكبائر كلها ، والوضوء يكفر الصغائر ، فهو شطر الإيمان بهذا الاعتبار ، وهذا يرده حديث : " من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية " وقد سبق ذكره . منهم من قال : الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان ، فصار نصف الإيمان ، وهذا ضعيف . ومنهم من قال : المراد بالإيمان هاهنا : الصلاة ، كما في قوله عز وجل : وما كان الله ليضيع إيمانكم [ البقرة : 143 ] ، والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس ، فإذا كان المراد بالإيمان الصلاة ، فالصلاة لا تقبل إلا بطهور ، فصار الطهور شطر الصلاة بهذا الاعتبار ، حكى هذا التفسير محمد بن نصر [ ص: 9 ] المروزي في " كتاب الصلاة " عن إسحاق بن راهويه عن يحيى بن آدم ، وأنه قال في معنى قولهم " لا أدري " نصف العلم : إن العلم إنما هو " أدري ولا أدري " ، فأحدهما نصف الآخر . قلت : كل شيء كان تحته نوعان : فأحدهما نصف له ، وسواء كان عدد النوعين على السواء ، أو أحدهما أزيد من الآخر ، ويدل على هذا حديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " والمراد : قراءة الصلاة ، ولهذا فسرها بالفاتحة ، والمراد أنها مقسومة للعبادة والمسألة ، فالعبادة حق الرب والمسألة حق العبد ، وليس المراد قسمة كلماتها على السواء . وقد ذكر هذا الخطابي ، واستشهد بقول العرب : نصف السنة سفر ، ونصفها حضر ، قال : وليس على تساوي الزمانين فيهما ، لكن على انقسام الزمانين لهما ، وإن تفاوتت مدتاهما ، وبقول شريح - وقد قيل له : كيف أصبحت ؟ - قال : أصبحت ونصف الناس علي غضبان ، يريد أن الناس بين محكوم له ومحكوم عليه ، فالمحكوم عليه غضبان ، والمحكوم له راض عنه ، فهما حزبان مختلفان . ويقول الشاعر : إذا مت كان الناس نصفين شامت بموتي ومثن بالذي كنت أفعل ومراده أنهم ينقسمون قسمين . [ ص: 10 ] قلت : ومن هذا المعنى حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض " أنها نصف العلم " خرجه ابن ماجه ، فإن أحكام المكلفين نوعان : نوع يتعلق بالحياة ، ونوع يتعلق بما بعد الموت ، وهذا هو الفرائض . وقال ابن مسعود : الفرائض ثلث العلم . ووجه ذلك الحديث الذي خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : " العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة " . وروي عن مجاهد أنه قال : المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء ، ولعله أراد أن الوضوء قسمان : أحدهما مذكور في القرآن ، والثاني مأخوذ من السنة ، وهو المضمضة والاستنشاق ، أو أراد أن المضمضة والاستنشاق يطهران باطن الجسد ، وغسل سائر الأعضاء يطهر ظاهره ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، ومنه قول ابن مسعود : الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله . وجاء من رواية يزيد [ ص: 11 ] الرقاشي عن أنس مرفوعا : " الإيمان نصفان : نصف في الصبر ، ونصف في الشكر " فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، ولا ينال ذلك كله إلا بالصبر ، كان الصبر نصف الإيمان ، فهكذا يقال في الوضوء : إنه نصف الصلاة . وأيضا فالصلاة تكفر الذنوب والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه ، فصار شطر الصلاة بهذا الاعتبار أيضا ، كما في " صحيح مسلم " عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مؤمن مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه ، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن . وفي رواية له : من أتم الوضوء كما أمره الله ، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن [ ص: 12 ] وأيضا ، فالصلاة مفتاح الجنة ، والوضوء مفتاح الصلاة ، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث جابر مرفوعا ، وكل من الصلاة والوضوء موجب لفتح أبواب الجنة كما في " صحيح مسلم " عن عقبة بن عامر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ، يقبل عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة وعن عقبة ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء . وفي " الصحيحين " عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء . فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبا لفتح أبواب الجنة ، صار الوضوء نصف الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار . [ ص: 13 ] وأيضا ، فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن ، كما في حديث ثوبان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن . والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة ، كما خرجه العقيلي من حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خمس من جاء بهن مع إيمان ، دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - قال : وكان يقول : - وايم الله ، لا يفعل ذلك إلا مؤمن ، وصام رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وأدى الأمانة قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وخرج ابن ماجه من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات [ ص: 14 ] الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، وأداء الأمانة كفارة لما بينهن . قيل : وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن تحت كل شعرة جنابة وحديث أبي الدرداء الذي قبله جعل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة . وجاء في حديث خرجه البزار من رواية شبابة بن سوار : حدثنا مغيرة بن مسلم ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا : " الصلاة ثلاثة أثلاث : الطهور ثلث : والركوع ثلث ، والسجود ثلث ، فمن أداها بحقها ، قبلت منه ، وقبل منه سائر عمله ، ومن ردت عليه صلاته ، رد عليه سائر عمله " وقال : تفرد به المغيرة ، والمحفوظ عن أبي صالح ، عن كعب من قوله . فعلى هذا التقسيم الوضوء ثلث الصلاة ، إلا أن يجعل الركوع والسجود كالشيء الواحد ، لتقاربهما في الصورة ، فيكون الوضوء نصف الصلاة أيضا . ويحتمل أن يقال : خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلها تطهر القلب وتزكيه ، وأما الطهارة بالماء ، فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه ، فصارت خصال الإيمان قسمين : أحدهما يطهر الظاهر ، والآخر يطهر الباطن ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كله .

[ص: 32 ] الحديث الرابع والعشرون :

. عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر لكم ذنوبكم جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم : أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 [ ص: 33 ] هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر ، وفي آخره : قال سعيد بن عبد العزيز : كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه . وخرجه مسلم أيضا من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يسقه بلفظه ، ولكنه قال : وساق الحديث بنحو سياق أبي إدريس ، وحديث أبي إدريس أتم . وخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه ، من رواية شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديت ، فسلوني الهدى أهدكم ، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم ، وكلكم مذنب إلا من عافيت ، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني ، غفرت له ولا أبالي ، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة ، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم ، اجتمعوا في صعيد واحد ، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر ، فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ، ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له : كن فيكون وهذا لفظ الترمذي ، وقال : حديث حسن . وخرجه الطبراني بمعناه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن إسناده ضعيف . [ ص: 34 ] وحديث أبي ذر قال الإمام أحمد : هو أشرف حديث لأهل الشام . فقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " يعني : أنه منع نفسه من الظلم لعباده ، كما قال عز وجل : وما أنا بظلام للعبيد [ ق : 29 ] ، وقال : وما الله يريد ظلما للعباد [ غافر 31 ] ، وقال وما الله يريد ظلما للعالمين [ آل عمران : 108 ] ، وقال وما ربك بظلام للعبيد [ فصلت : 46 ] ، وقال : إن الله لا يظلم الناس شيئا [ يونس : 44 ] ، وقال إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] ، وقال : [ ص: 35 ] ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [ طه : 112 ] ، والهضم : أن ينقص من جزاء حسناته ، والظلم : أن يعاقب بذنوب غيره ، ومثل هذا كثير في القرآن . وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم ، ولكن لا يفعله فضلا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده . وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير موضعها . وأما من فسره بالتصرف في ملك الغير بغير إذنه - وقد نقل نحوه عن إياس بن معاوية وغيره - فإنهم يقولون : إن الظلم مستحيل عليه ، وغيره متصور في حقه ، لأن كل ما يفعله فهو تصرف في ملكه ، وبنحو ذلك أجاب أبو الأسود الدؤلي لعمران بن حصين حين سأله عن القدر . وخرج أبو داود ، وابن ماجه من حديث أبي سنان سعيد بن سنان ، عن وهب بن خالد الحمصي ، عن ابن الديلمي أنه سمع أبي بن كعب يقول : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم ، لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، وأنه أتى ابن مسعود ، فقال له مثل ذلك ، ثم أتى زيد بن ثابت ، فحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك . وفي هذا الحديث نظر ، ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم . وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم ، لقدر لهم ما يعذبهم عليه ، فيكون غير ظالم لهم حينئذ . [ ص: 36 ] وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى ، كما أنه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد ، وهي خلقه وتقديره ، فإنه لا يوصف إلا بأفعاله لا يوصف بأفعال عباده ، فإن أفعال عباده مخلوقاته ومفعولاته ، وهو لا يوصف بشيء منها ، إنما يوصف بما قام به من صفاته وأفعاله والله أعلم . وقوله " وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا " يعني : أنه تعالى حرم الظلم على عباده ، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم ، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره ، مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقا ، وهو نوعان : أحدهما : ظلم النفس ، وأعظمه الشرك ، كما قال تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق ، فعبده وتألهه ، فهو وضع الأشياء في غير موضعها ، وأكثر ما ذكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به المشركون ، كما قال عز وجل : والكافرون هم الظالمون [ البقرة : 254 ] ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر . والثاني : ظلم العبد لغيره ، وهو المذكور في هذا الحديث ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا . وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم النحر من يوم عرفة ، وفي اليوم الثاني من أيام التشريق ، وفي رواية : ثم قال : " اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ؛ إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " . وفي " الصحيحين " عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الظلم ظلمات يوم القيامة . وفيهما عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ هود : 102 ] . وفي " صحيح البخاري " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كانت عنده مظلمة لأخيه ، فليتحلله منها ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه .

[ص: 56 ] الحديث الخامس والعشرون :

. عن أبي ذر رضي الله عنه أيضا أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم ، قال : أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الديلي ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، وقد روي معناه عن أبي ذر من وجوه كثيرة بزيادة ونقصان ، وسنذكر بعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى . وفي هذا الحديث دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة ، وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم ، فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء ، ويحزنون على التخلف عن الخروج [ ص: 57 ] في الجهاد ، لعدم القدرة على آلته ، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه ، فقال : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [ التوبة : 92 ] . وفي هذا الحديث : أن الفقراء غبطوا أهل الدثور - والدثور : هي الأموال - مما يحصل لهم من أجر الصدقة بأموالهم ، فدلهم النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات يقدرون عليها . وفي " الصحيحين " عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال : " وما ذاك ؟ " قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من قد سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة " ، قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم علي ، [ ص: 58 ] وأبو ذر ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن عباس وغيرهم . ومعنى هذا أن الفقراء ظنوا أن لا صدقة إلا بالمال ، وهم عاجزون عن ذلك ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة . وفي " صحيح مسلم " عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل معروف صدقة . وخرجه البخاري من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم . فالصدقة تطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان ، حتى إن فضل الله الواصل منه إلى عباده صدقة منه عليهم . وقد كان بعض السلف ينكر ذلك ، ويقول إنما الصدقة ممن يطلب جزاءها وأجرها ، والصحيح خلاف ذلك ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة في السفر : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته خرجه مسلم ، وقال : " من كانت له صلاة بليل ، فغلب عليه نوم فنام عنها ، كتب الله له أجر صلاته ، [ ص: 59 ] وكان نومه صدقة من الله تصدق بها عليه " خرجه النسائي وغيره من حديث عائشة ، وخرجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء . وفي " مسندي " بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا : " ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده ، وما من الله على عبد مثل أن يلهمه ذكره " . وقال خالد بن معدان : إن الله يتصدق كل يوم بصدقة ، وما تصدق الله على أحد من خلقه بشيء خير من أن يتصدق عليه بذكره . والصدقة بغير المال نوعان : أحدهما : ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق ، فيكون صدقة عليهم ، وربما كان أفضل من الصدقة بالمال ، وهذا كالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فإنه دعاء إلى طاعة الله ، وكف عن معاصيه ، وذلك خير من النفع بالمال ، وكذلك تعليم العلم النافع ، وإقراء القرآن ، وإزالة الأذى عن الطريق ، والسعي في جلب النفع للناس ، ودفع الأذى عنهم . وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم . وخرج ابن مردويه بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر مرفوعا : " من كان له مال ، فليتصدق من ماله ، ومن كان له قوة ، فليتصدق من قوته ، ومن كان له علم ، فليتصدق من علمه " ولعله موقوف . [ ص: 60 ] وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة صدقة اللسان " قيل : يا رسول الله ، وما صدقة اللسان ؟ قال : " الشفاعة تفك بها الأسير ، وتحقن بها الدم ، وتجر بها المعروف والإحسان إلى أخيك ، وتدفع عنه الكريهة " . وقال عمرو بن دينار : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صدقة أحب إلى الله من قول ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى [ البقرة : 263 ] " خرجه ابن أبي حاتم . وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت طليق الوجه " خرجه ابن أبي الدنيا . وقال معاذ : تعليم العلم لمن لا يعلمه صدقة . وروي مرفوعا . ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس ، ففي " الصحيحين " عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيله " قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ قال : " أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا " قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : " تعين صانعا ، وتصنع لأخرق " . قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : " تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة . [ ص: 61 ] وقد روي في حديث أبي ذر زيادات أخرى ، فخرج الترمذي من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ، وأمرك بالمعروف ، ونهيك عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة " . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل : يا رسول الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها ؟ قال : إن أبواب الجنة لكثيرة : التسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته ، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف ، فهذا كله صدقة منك على نفسك . وخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر ، يتصدقون ولا نتصدق ، قال : " وأنت فيك صدقة : رفعك العظم عن الطريق صدقة ، وهدايتك الطريق صدقة ، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة ، وبيانك عن الأغتم صدقة ، ومباضعتك امرأتك صدقة " ، قلت : يا [ ص: 62 ] رسول الله ، نأتي شهوتنا ونؤجر ؟ ! قال : " أرأيت لو جعله في حرام ، أكان يأثم ؟ " قال : قلت : نعم ، قال : " أفتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير ؟ " وفي رواية أخرى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن فيك صدقة كثيرة ، فذكر فضل سمعك وفضل بصرك " وفي رواية أخرى للإمام أحمد : قال : " إن من أبواب الصدقة التكبير وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، وأستغفر الله ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعزل الشوكة عن الطريق والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه ، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها ، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث ، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف ، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ، ولك في جماعك زوجتك أجر " قلت : كيف يكون لي أجر في شهوتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو كان لك ولد ، فأدرك ورجوت خيره ، فمات ، أكنت تحتسب به ؟ قلت : نعم ، قال : فأنت خلقته ؟ قلت : بل الله خلقه ، قال : أفأنت هديته ؟ قلت : بل الله هداه ، قال : أفأنت كنت ترزقه ؟ قلت : بل الله كان يرزقه ، قال : كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه ، فإن شاء الله أحياه ، وإن شاء أماته ، ولك أجر " . وظاهر هذا السياق يقتضي أنه يؤجر على جماعه لأهله بنية طلب الولد الذي يترتب الأجر على تربيته وتأديبه في حياته ، ويحتسبه عند موته ، وأما إذا لم ينو شيئا بقضاء شهوته ، فهذا قد تنازع الناس في دخوله في هذا الحديث . [ ص: 63 ] وقد صح الحديث بأن نفقة الرجل على أهله صدقة ، ففي " الصحيحين " عن أبي مسعود الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نفقة الرجل على أهله صدقة وفي رواية لمسلم : " وهو يحتسبها " ، وفي لفظ للبخاري : " إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها ، فهو له صدقة " ، فدل على أنه إنما يؤجر فيها إذا احتسبها عند الله كما في حديث سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك خرجاه . وفي " صحيح مسلم " عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله ، ودينار ينفقه على فرس في سبيل الله ، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله قال أبو قلابة عند رواية هذا الحديث : بدأ بالعيال ، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به ، ويغنيهم الله به . وفيه أيضا عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن نفقتك على عيالك صدقة ، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة وهذا قد ورد مقيدا في الرواية الأخرى بابتغاء وجه الله . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : دينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار تصدقت به على [ ص: 64 ] مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك ، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك . وخرج الإمام أحمد ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا فقال رجل : عندي دينار ، فقال : " تصدق به على نفسك " قال عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على زوجتك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على ولدك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على خادمك " قال : عندي دينار آخر ، قال : أنت أبصر . وخرج الإمام أحمد من حديث المقدام بن معدي كرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أطعمت نفسك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك ، فهو لك صدقة وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة يطول ذكرها . وفي " الصحيحين " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من مسلم يغرس غرسا ، أو يزرع زرعا ، فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة ، إلا كان له صدقة . وفي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة ، وما سرق منه له صدقة ، وما أكل السبع منه ، فهو له صدقة ، وما أكلت الطير فهو له صدقة ، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة . وفي رواية له أيضا : " فيأكل منه إنسان ، ولا دابة ، ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة " . [ ص: 65 ] وفي " المسند " بإسناد ضعيف عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء ، أو غرس غراسا في غير ظلم ولا اعتداء ، إلا كان له أجرا جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن " . وذكر البخاري في " تاريخه " من حديث جابر مرفوعا : " من حفر ماء لم تشرب منه كبد حرى من جن ولا إنس ولا سبع ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة " . وظاهر هذه الأحاديث كلها يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما من غير قصد ولا نية ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " يدل بظاهره على أنه يؤجر في إتيان أهله من غير نية ، فإن المباضع لأهله كالزارع في الأرض التي يحرث ويبذر فيها ، وقد ذهب إلى هذا طائفة من العلماء ، ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشرب والجماع ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه . وهذا اللفظ الذي استدل به غير معروف ، إنما المعروف قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد : " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك " ، وهو مقيد بإخلاص النية لله ، فتحمل الأحاديث المطلقة عليه ؛ والله أعلم . ويدل عليه أيضا قول الله عز وجل : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [ النساء : 114 ] ، [ ص: 66 ] فجعل ذلك خيرا ، ولم يرتب عليه الأجر إلا مع نية الإخلاص . وأما إذا فعله رياء ، فإنه يعاقب عليه ، وإنما محل التردد إذا فعله بغير نية صالحة ولا فاسدة . وقد قال أبو سليمان الداراني : من عمل عمل خير من غير نية كفاه نية اختياره للإسلام على غيره من الأديان ، وظاهر هذا أنه يثاب عليه من غير نية بالكلية ، لأنه بدخوله في الإسلام مختار لأعمال الخير في الجملة ، فيثاب على كل عمل يعمله منها بتلك النية ، والله أعلم . وقوله : " أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال ، كان له أجر " . هذا يسمى عند الأصوليين قياس العكس ، ومنه قول ابن مسعود ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا أخرى ، قال : من مات يشرك بالله شيئا دخل النار ، وقلت : من مات لا يشرك بالله دخل الجنة . والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية : ما نفعه قاصر على فاعله ، كأنواع الذكر : من التكبير ، والتسبيح ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، وكذلك المشي إلى المساجد صدقة ، ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصلاة والصيام والحج والجهاد أنه صدقة ، وأكثر هذه الأعمال أفضل من الصدقات المالية ، لأنه إنما ذكر جوابا لسؤال الفقراء الذين سألوه عما يقاوم تطوع الأغنياء بأموالهم ، وأما الفرائض ، فإنهم قد كانوا كلهم مشتركين فيها . وقد تكاثرت النصوص بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيرها من [ ص: 67 ] الأعمال ، كما في حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " ذكر الله عز وجل " خرجه الإمام أحمد والترمذي ، وذكره مالك في " الموطأ " موقوفا على أبي الدرداء . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة ، كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك . وفيهما أيضا عن أبي أيوب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قالها عشر مرات ، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل . وخرج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا " قلت : [ ص: 68 ] يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : " لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . ويروى نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعا ، والصواب وقفه على معاذ من قوله . وخرج الطبراني من حديث أبي الوازع ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لو أن رجلا في حجره دراهم يقسمها ، وآخر يذكر الله ، كان الذاكر أفضل " . قلت : الصحيح عن أبي الوازع عن أبي برزة الأسلمي من قوله . خرجه جعفر الفريابي . وخرج أيضا من حديث أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من كبر مائة ، وسبح [ ص: 69 ] مائة ، وهلل مائة ، كانت خيرا له من عشر رقاب يعتقها ، ومن سبع بدنات ينحرها " . وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي الدرداء أنه قيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وعن أبي الدرداء أيضا ، قال : لأن أقول : الله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار . وكذلك قال سلمان الفارسي وغيره من الصحابة والتابعين : إن الذكر أفضل من الصدقة بعدده من المال . وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : سبحي الله مائة تسبيحة ، فإنها تعدل مائة رقبة من ولد إسماعيل ، واحمدي الله مائة تحميدة ، فإنها تعدل لك مائة فرس ملجمة مسرجة تحملين عليهن في سبيل الله ، وكبري الله مائة تكبيرة ، فإنها تعدل مائة بدنة مقلدة متقبلة ، وهللي الله مائة تهليلة - لا أحسبه إلا قال : - تملأ ما بين السماء والأرض ، ولا يرفع يومئذ لأحد مثل عملك إلا أن يأتي بمثل ما أتيت وخرجه أحمد أيضا وابن ماجه ، وعندهما : " وقولي : لا إله إلا الله مائة مرة ، لا تذر ذنبا ، ولا يسبقها العمل " . [ ص: 70 ] وخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا : قال : " ما من صدقة أفضل من ذكر الله عز وجل " . وخرج الفريابي بإسناد فيه نظر عن أبي أمامة مرفوعا : " من فاته الليل أن يكابده ، ويبخل بماله أن ينفقه ، وجبن من العدو أن يقاتله ، فليكثر من سبحان الله وبحمده ، فإنها أحب إلى الله عز وجل من جبل ذهب ، أو جبل فضة ينفقه في سبيل الله عز وجل " . وخرج البزار بإسناد مقارب من حديث ابن عباس مرفوعا قال في حديثه : " فليكثر ذكر الله " ، ولم يزد على ذلك ، وفي المعنى أحاديث أخر متعددة .

[ص: 71 ] الحديث السادس والعشرون:

عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته ، فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة ، وخرجه البزار من رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : للإنسان ثلاثمائة وستون عظما ، أو ستة وثلاثون سلامى ، عليه في كل يوم صدقة " قالوا : فمن لم يجد ؟ قال : "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر " قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : " يرفع عظما عن الطريق " قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : " فليعن ضعيفا " قالوا : فمن لم يستطع ذلك ؟ قال : فليدع الناس من شره . وخرج مسلم من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن ذكر الله ، وحمد الله ، وهلل الله ، وسبح الله ، وعزل حجرا عن طريق المسلمين ، أو عزل شوكة ، أو عزل عظما ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى أمسى من يومه وقد زحزح نفسه عن النار . [ ص: 72 ] وخرج مسلم أيضا من رواية أبي الأسود الديلمي عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى . وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا ، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة قالوا : ومن يطيق ذلك يا نبي الله ؟ قال : النخاعة في المسجد تدفنها ، والشيء تنحيه عن الطريق ، فإن لم تجد ، فركعتا الضحى تجزئك . وفي " الصحيحين " عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : على كل مسلم صدقة قالوا : فإن لم يجد ؟ قال : فيعمل بيده ، فينفع نفسه ويتصدق قالوا : فإن لم يستطع ، أو لم يفعل ؟ قال : يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليأمر بالمعروف قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليمسك عن الشر فإنه صدقة . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل منسم من ابن آدم صدقة كل يوم فقال رجل من القوم : ومن [ ص: 73 ] يطيق هذا ؟ قال : أمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، والحمل على الضعيف صدقة ، وكل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة . وخرجه البزار وغيره . وفي رواية : على كل ميسم من الإنسان صدقة كل يوم أو صلاة فقال رجل : هذا من أشد ما أتيتنا به ، فقال : إن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر صلاة أو صدقة ، وحملك عن الضعيف صلاة ، وإنحاؤك القذر عن الطريق صلاة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة . وفي رواية البزار : وإماطة الأذى عن الطريق صدقة أو قال : " صلاة " . قال بعضهم : يريد بالميسم كل عضو على حدة مأخوذ من الوسم : وهو العلامة ، إذ ما من عظم ولا عرق ولا عصب إلا وعليه أثر صنع الله ، فيجب على العبد الشكر على ذلك والحمد لله على خلقه سويا صحيحا ، وهذا هو المراد بقوله : عليه صلاة كل يوم ، لأن الصلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء . وخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل سلامى ، أو على كل عضو من بني آدم في كل يوم صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتا الضحى . ويروى من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل نفس في كل يوم صدقة قيل : فإن كان لا يجد شيئا ؟ قال : أليس بصيرا شهما فصيحا صحيحا ؟ قال : بلى ، قال : يعطي من قليله وكثيره ، وإن بصرك للمنقوص بصره صدقة ، وإن سمعك للمنقوص سمعه صدقة . وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي - حديث أبي ذر - الذي خرجه ابن [ ص: 74 ] حبان في " صحيحه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل : يا رسول الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها ؟ قال : إن أبواب الخير لكثيرة : التسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، والتهليل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته ، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف ، فهذا كله صدقة منك على نفسك . فقوله صلى الله عليه وسلم : على كل سلامى من الناس عليه صدقة قال أبو عبيد : السلامى في الأصل عظم يكون في فرسن البعير ، قال : فكأن معنى الحديث : على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة ، يشير أبو عبيد إلى أن السلامى اسم لبعض العظام الصغار التي في الإبل ، ثم عبر بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره . فمعنى الحديث عنده : على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة . وقال غيره : السلامى : عظم في طرف اليد والرجل ، وكنى بذلك عن جميع عظام الجسد ، والسلامى جمع ، وقيل : هو مفرد . وقد ذكر علماء الطب أن جميع عظام البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما سوى السمسمانيات ، وبعضهم يقول : هي ثلاثمائة وستون عظما ، يظهر منها للحس مائتان وخمسة وستون عظما ، والباقية صغار لا تظهر تسمى السمسمانية ، وهذه الأحاديث تصدق هذا القول ، ولعل السلامى عبر بها عن هذه العظام الصغار ، كما أنها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام ، ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد لهذا ، حيث قال فيها : " أو ستة وثلاثون سلامى " وقد [ ص: 75 ] خرجه غير البزار ، وقال فيه : " إن في ابن آدم ستمائة وستين عظما " وهذه الرواية غلط . وفي حديث عائشة وبريدة ذكر ثلاثمائة وستين مفصلا . ومعنى الحديث : أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده ، فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه ، ليكون ذلك شكرا لهذه النعمة . قال الله عز وجل : ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار : 6 - 8 ] . وقال عز وجل : قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ الملك : 23 ] ، وقال : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] وقال : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ البلد : 8 - 9 ] ، قال مجاهد : هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر ، وقرأ الفضل ليلة هذه الآية ، فبكى فسئل عن بكائه ، فقال : هل بت ليلة شاكرا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما ؟ هل بت ليلة شاكرا لله أن جعل لك لسانا تنطق به ؟ وجعل يعدد من هذا الضرب . وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلمان الفارسي ، قال : إن رجلا بسط له من الدنيا ، فانتزع ما في يديه ، فجعل يحمد الله عز وجل ، ويثني عليه ، حتى لم يكن له فراش إلا بوري ، فجعل يحمد الله ، ويثني عليه ، وبسط للآخر من الدنيا ، فقال لصاحب البوري : أرأيتك أنت على ما تحمد الله عز وجل ؟ قال : أحمد الله على ما لو أعطيت به ما أعطي الخلق لم أعطهم إياه ، قال : [ ص: 76 ] وما ذاك ؟ قال : أرأيت بصرك ؟ أرأيت لسانك ؟ أرأيت يديك ؟ أرأيت رجليك ؟ وبإسناده عن أبي الدرداء أنه كان يقول : الصحة غنى الجسد . وعن يونس بن عبيد أن رجلا شكا إليه ضيق حاله ، فقال له يونس : أيسرك أن لك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم ؟ قال الرجل : لا ، قال : فبيدك مائة ألف درهم ؟ قال : لا ، قال : فرجليك ؟ قال : لا ، قال : فذكره نعم الله عليه ، فقال يونس : أرى عندك مئين ألوف وأنت تشكو الحاجة . وعن وهب بن منبه ، قال : مكتوب في حكمة آل داود : العافية الملك الخفي . وعن بكر المزني قال : يا ابن آدم ، إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك ، فغمض عينيك . وفي بعض الآثار : كم من نعمة لله في عرق ساكن . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ . فهذه النعم مما يسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة ، ويطالب به كما قال تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر : 8 ] وخرج الترمذي وابن حبان [ ص: 77 ] من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم ، فيقول له : ألم نصح لك جسمك ، ونرويك من الماء البارد ؟ . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : النعيم الأمن والصحة . وروي عنه مرفوعا . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر : 8 ] ، قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الإسراء : 36 ] . وخرج الطبراني من رواية أيوب بن عتبة - وفيه ضعف - عن عطاء ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ قال : إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل ، لو وضع على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة من نعم الله ، فتكاد أن تستنفد ذلك كله ، إلا أن يتطاول الله برحمته . [ ص: 78 ] وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف أيضا عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يؤتى بالنعم يوم القيامة ، وبالحسنات والسيئات ، فيقول الله لنعمة من نعمه : خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها . وبإسناده عن وهب بن منبه قال : عبد الله عابد خمسين عاما ، فأوحى الله عز وجل إليه : إني قد غفرت لك ، قال : يا رب ، وما تغفر لي ولم أذنب ؟ فأذن الله عز وجل لعرق في عنقه ، فضرب عليه ، فلم ينم ، ولم يصل ، ثم سكن وقام ، فأتاه ملك ، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق ، فقال الملك : إن ربك عز وجل يقول : عبادتك خمسين سنة تعدل سكون ذلك العرق . وخرج الحاكم هذا المعنى مرفوعا من رواية سلمان بن هرم القرشي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن جبريل أخبره أن عابدا عبد الله على رأس جبل في البحر خمسمائة سنة ، ثم سأل ربه أن يقبضه وهو ساجد ، قال : فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا ، ونجد في العلم أنه يبعث يوم [ ص: 79 ] القيامة ، فيوقف بين يدي الله عز وجل ، فيقول الله عز وجل : أدخلو عبدي الجنة برحمتي ، فيقول العبد : يا رب ، بعملي ، ثلاث مرات ، ثم يقول الله للملائكة : قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله ، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة ، وبقيت نعم الجسد له ، فيقول : أدخلوا عبدي النار ، فيجر إلى النار ، فينادي ربه : برحمتك أدخلني الجنة ، برحمتك أدخلني الجنة ، فيدخله الجنة ، قال جبريل : إنما الأشياء برحمة الله يا محمد . وسلمان بن هرم ، قال العقيلي : هو مجهول وحديثه غير محفوظ . وروى الخرائطي بإسناد فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول للملائكة : انظروا في عمل عبدي ونعمتي عليه ، فينظرون فيقولون : ولا بقدر نعمة واحدة من نعمك عليه ، فيقول : انظروا في عمله سيئه وصالحه ، فينظرون فيجدونه كفافا ، فيقول : عبدي ، قد قبلت حسناتك ، وغفرت لك سيئاتك ، وقد وهبت لك نعمتي فيما بين ذلك . والمقصود : أن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه كما قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 34 ] وطلب منهم الشكر ، ورضي به منهم . قال سليمان التيمي : إن الله أنعم على العباد على قدره ، وكلفهم الشكر على قدرهم حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه ، وبالحمد بألسنتهم عليها ، كما خرجه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن غنام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال من قال : حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك ، فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشكر ، فقد [ ص: 80 ] أدى شكر ذلك اليوم ، ومن قالها حين يمسي أدى شكر ليلته . وفي رواية النسائي عن عبد الله بن عباس . وخرج الحاكم من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أنعم الله على عبد نعمة ، فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله شكرها قبل أن يشكرها ، وما أذنب عبد ذنبا ، فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أن يستغفره . وقال أبو عمرو الشيباني : قال موسى عليه السلام يوم الطور : يا رب ، إن أنا صليت فمن قبلك ، وإن أنا تصدقت فمن قبلك ، وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك ، فكيف أشكرك ؟ قال : الآن شكرتني . وعن الحسن قال : قال موسى عليه السلام : يا رب ، كيف يستطيع آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه ؟ خلقته بيدك ، ونفخت فيه من روحك ، وأسكنته جنتك ، وأمرت الملائكة فسجدوا له ، فقال : يا موسى ، علم أن ذلك مني ، فحمدني عليه ، فكان ذلك شكرا لما صنعته . [ ص: 81 ] وعن أبي الجلد قال : قرأت في مسألة داود أنه قال : أي رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك ؟ قال : فأتاه الوحي : أن يا داود ، أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فإني أرضى بذلك منك شكرا . قال : وقرأت في مسألة موسى : يا رب ، كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله ؟ قال : فأتاه الوحي : أن يا موسى ، الآن شكرتني . وقال بكر بن عبد الله ما قال : عبد قط : الحمد لله مرة ، إلا وجبت عليه نعمة بقوله : الحمد لله ، فما جزاء تلك النعمة ؟ جزاؤها أن يقول : الحمد لله ، فجاءت نعمة أخرى ، فلا تنفد نعماء الله . وقد روى ابن ماجه من حديث أنس مرفوعا : ما أنعم الله على عبد نعمة ، فقال : الحمد لله ، إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ . وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا أيضا . وروي هذا عن الحسن البصري من قوله . [ ص: 82 ] وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه : إني بأرض قد كثرت فيها النعم ، حتى لقد أشفقت على أهلها من ضعف الشكر ، فكتب إليه عمر : إني قد كنت أراك أعلم بالله مما أنت ، إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا كان حمده أفضل من نعمته ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل ، قال الله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ النمل : 15 ] ، وقال الله : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها إلى قوله : وقالوا الحمد لله [ الزمر : 73 ] وأي نعمة أفضل من دخول الجنة ؟ . وقد ذكر ابن أبي الدنيا في " كتاب الشكر " عن بعض العلماء أنه صوب هذا القول ، أعني قول من قال : إن الحمد أفضل من النعم ، وعن ابن عيينة أنه خطأ قائله ، وقال : لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب عز وجل . ولكن الصواب قول من صوبه ، فإن المراد بالنعم : النعم الدنيوية ، كالعافية والرزق والصحة ، ودفع المكروه ، ونحو ذلك ، والحمد لله هو من النعم الدينية ، وكلاهما نعمة من الله ، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده ، فإن النعم الدنيوية إن لم يقترن بها الشكر ، كانت بلية كما قال أبو حازم : كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية ، فإذا وفق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر ، كانت هذه النعمة خيرا من تلك النعم وأحب إلى الله عز وجل منها ، فإن الله [ ص: 83 ] يحب المحامد ، ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، ويشرب الشربة فيحمده عليها ، والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحب إليهم من أموالهم ، فهم يبذلونها طلبا للثناء ، والله عز وجل أكرم الأكرمين ، وأجود الأجودين ، فهو يبذل نعمه لعباده ، ويطلب منهم الثناء بها وذكرها ، والحمد عليها ، ويرضى منهم بذلك شكرا عليها ، وإن كان ذلك كله من فضله عليهم ، وهو غير محتاج إلى شكرهم ، لكنه يحب ذلك من عباده ، حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله فيه . ومن فضله سبحانه أنه نسب الحمد والشكر إليهم ، وإن كان من أعظم نعمه عليهم ، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال ، ثم استقرض منهم بعضه ، ومدحهم بإعطائه ، والكل ملكه ومن فضله ، ولكن كرمه اقتضى ذلك ، ومن هنا يعلم معنى الأثر الذي جاء مرفوعا وموقوفا : " الحمد لله حمدا يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده " . ولنرجع الآن إلى تفسير حديث : كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس . يعني : أن الصدقة على ابن آدم عن هذه الأعضاء في كل يوم من أيام الدنيا ، فإن اليوم قد يعبر به عن مدة أزيد من ذلك ، كما يقال : يوم صفين ، وكان مدة أيام ، وعن مطلق الوقت كما في قوله : ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم [ هود : 8 ] ، وقد يكون ذلك ليلا ونهارا ، فإذا قيل : كل يوم تطلع فيه الشمس ، علم أن هذه الصدقة على ابن آدم في كل يوم يعيش فيه من أيام الدنيا ، وظاهر الحديث يدل على أن هذا الشكر بهذه الصدقة واجب على المسلم كل يوم ، ولكن الشكر على درجتين : إحداهما : واجب ، وهو أن يأتي بالواجبات ، ويتجنب المحارم ، فهذا لا بد [ ص: 84 ] منه ، ويكفي في شكر هذه النعم ، ويدل على ذلك ما خرجه أبو داود من حديث أبي الأسود الديلي ، قال : كنا عند أبي ذر ، فقال : يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة ، فله بكل صلاة صدقة ، وصيام صدقة ، وحج صدقة ، وتسبيح صدقة ، وتكبير صدقة ، وتحميد صدقة ، فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأعمال الصالحات قال : يجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى وقد تقدم في حديث أبي موسى المخرج في " الصحيحين " : فإن لم يفعل ، فليمسك عن الشر ، فإنه له صدقة . وهذا يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئا من الشر ، وإنما يكون مجتنبا للشر إذا قام بالفرائض ، واجتنب المحارم ، فإن أعظم الشر ترك الفرائض ، ومن هنا قال بعض السلف : الشكر ترك المعاصي . وقال بعضهم : الشكر أن لا يستعان بشيء من النعم على معصية . وذكر أبو حازم الزاهد شكر الجوارح كلها وأن تكف عن المعاصي ، وتستعمل في الطاعات ، ثم قال : وأما من شكر بلسانه ، ولم يشكر بجميع أعضائه ، فمثله كمثل رجل له كساء ، فأخذ بطرفه ، فلم يلبسه ، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لينظر العبد في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك ، ليس من هذا شيء إلا وفيه نعمة من الله عز وجل ، حق على العبد أن يعمل بالنعم اللاتي هي في بدنه لله عز وجل [ ص: 85 ] في طاعته ، ونعمة أخرى في الرزق ، حق عليه أن يعمل لله عز وجل فيما أنعم عليه من الرزق في طاعته ، فمن عمل بهذا ، كان قد أخذ بحزم الشكر وأصله وفرعه . ورأى الحسن رجلا يتبختر في مشيته ، فقال : لله في كل عضو منه نعمة ، اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمك على معصيتك . الدرجة الثانية من الشكر : الشكر المستحب ، وهو أن يعمل العبد بعد أداء الفرائض واجتناب المحارم بنوافل الطاعات ، وهذه درجة السابقين المقربين ، وهي التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث التي سبق ذكرها ، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في الصلاة ، ويقوم حتى تنفطر قدماه ، فإذا قيل له : أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا شكورا . وقال بعض السلف : لما قال الله عز وجل : اعملوا آل داود شكرا [ سبأ : 13 ] ، لم يأت عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم مصل يصلي . وهذا مع أن بعض هذه الأعمال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم واجب : إما على الأعيان ، كالمشي إلى الصلاة عند من يرى وجوب الصلاة في الجماعات في المساجد ، وإما على الكفاية ، كالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإغاثة الملهوف ، والعدل بين الناس ، إما في الحكم بينهم ، أو في الإصلاح . وقد [ ص: 86 ] روي من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الصدقة إصلاح ذات البين . وهذه الأنواع التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، منها ما نفعه متعد كالإصلاح ، وإعانة الرجل على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها ، والكلمة الطيبة ، ويدخل فيها السلام ، وتشميت العاطس ، وإزالة الأذى عن الطريق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ودفن النخامة في المسجد ، وإعانة ذي الحاجة الملهوف ، وإسماع الأصم والبصر للمنقوص بصره ، وهداية الأعمى ، أو غيره الطريق . وجاء في بعض روايات حديث أبي ذر وبيانك عن الأرتم صدقة يعني : من لا يطيق الكلام ، إما لآفة في لسانه ، أو لعجمة في لغته ، فيبين عنه ما يحتاج إلى بيانه . ومنه ما هو قاصر النفع : كالتسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والمشي إلى الصلاة ، وصلاة ركعتي الضحى ، وإنما كانتا مجزئتين عن ذلك كله ، لأن في الصلاة استعمالا للأعضاء كلها في الطاعة والعبادة ، فتكون كافية في شكر نعمة سلامة هذه الأعضاء . وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرها استعمال لبعض أعضاء البدن خاصة ، فلا تكمل الصدقة بها حتى يأتي منها بعدد سلامى البدن ، وهي ثلاثمائة وستون كما في حديث عائشة رضي الله عنها . [ ص: 87 ] وفي " المسند " عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أتدرون أي الصدقة أفضل وخير ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : المنحة أن تمنح أخاك الدراهم ، أو ظهر الدابة ، أو لبن الشاة أو لبن البقرة . والمراد بمنحة الدراهم : قرضها ، وبمنحة ظهر الدابة إفقارها ، وهو إعارتها لمن يركبها ، وبمنحة لبن الشاة أو البقرة أن يمنحه بقرة أو شاة ليشرب لبنها ثم يعيدها إليه ، وإذا أطلقت المنيحة ، لم تنصرف إلا إلى هذا . وخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من منح منيحة لبن ، أو ورق ، أو أهدى زقاقا ، كان له مثل عتق رقبة وقال الترمذي : معنى قوله : من منح منيحة ورق إنما يعني به قرض الدراهم ، وقوله : وأهدى زقاقا إنما يعني به هداية الطريق ، وهو إرشاد السبيل . وخرجه البخاري من حديث حسان بن عطية ، عن أبي كبشة السلولي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربعون خصلة ، أعلاها منيحة العنز ، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها ، وتصديق موعودها ، إلا أدخله الله بها الجنة قال حسان : فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام ، وتشميت العاطس ، وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه ، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة . [ ص: 88 ] وفي " صحيح مسلم " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حق الإبل حلبها على الماء وإعارة دلوها ، وإعارة فحلها ، ومنيحتها ، وحمل عليها في سبيل الله . وخرج الإمام أحمد من حديث جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل معروف صدقة ، ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وأن تفرغ من دلوك في إنائه . وخرج الحاكم وغيره بزيادة ، وهي : وما أنفق المرء على نفسه وأهله ، كتب له به صدقة ، وما وقى به عرضه كتب له به صدقة ، وكل نفقة أنفقها مؤمن ، فعلى الله خلفها ضامن ، إلا نفقة في معصية أو بنيان . وفي " المسند " عن أبي جري الهجيمي ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعروف ، فقال : لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تعطي صلة الحبل ، ولو أن تعطي شسع النعل ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق ، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه ، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض . ومن أنواع الصدقة : كف الأذى عن الناس باليد واللسان ، كما في " الصحيحين " عن أبي ذر ، قلت : يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعا ، أو [ ص: 89 ] تصنع لأخرق قلت : أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة . وفي " صحيح ابن حبان " عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، دلني على عمل ، إذا عمل به العبد دخل به الجنة ، قال : يؤمن بالله قلت : يا رسول الله ، إن مع الإيمان عملا ؟ قال : يرضخ مما رزقه الله قلت : وإن كان معدما لا شيء له ؟ قال : يقول معروفا بلسانه ، قلت : فإن كان عييا لا يبلغ عنه لسانه ؟ قال : فيعين مغلوبا ، قلت : فإن كان ضعيفا لا قدرة له ؟ قال : فليصنع لأخرق ، قلت : فإن كان أخرق ؟ فالتفت إلي ، فقال : ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير ؟ فليدع الناس من أذاه ، قلت : يا رسول الله ، إن هذا كله ليسير ، قال : والذي نفسي بيده ، ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد بها ما عند الله ، إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى يدخل الجنة . فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلها إخلاص النية كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلة ، وهذا كما في قوله عز وجل : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [ النساء : 114 ] . وقد روي عن الحسن ، وابن سيرين أن فعل المعروف يؤجر عليه ، وإن لم يكن له فيه نية . سئل الحسن عن الرجل يسأله آخر حاجة وهو يبغضه ، فيعطيه حياء : هل له فيه أجر ؟ فقال : إن ذلك لمن المعروف ، وإن في المعروف لأجرا . خرجه حميد بن زنجويه . وسئل ابن سيرين عن الرجل يتبع الجنازة ، لا يتبعها حسبة ، يتبعها حياء من [ ص: 90 ] أهلها : أله في ذلك أجر ؟ فقال : أجر واحد ؟ بل له أجران : أجر لصلاته على أخيه ، وأجر لصلته الحي . خرجه أبو نعيم في " الحلية " . ومن أنواع الصدقة : أداء حقوق المسلم على المسلم ، وبعضها مذكور في الأحاديث الماضية ، ففي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس وفي رواية لمسلم : للمسلم على المسلم ست ، قيل : ما هن يا رسول الله ؟ قال : إذا لقيته تسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك ، فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه . وفي " الصحيحين " عن البراء قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع : بعيادة المريض ، واتباع الجنازة ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام . وفي رواية لمسلم : وإرشاد الضال ، بدل إبرار القسم . ومن أنواع الصدقة : المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم ، قال ابن عباس : من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه ، فله بكل خطوة صدقة . ومنها إنظار المعسر ، وفي " المسند " و " سنن ابن ماجه " عن بريدة مرفوعا : [ ص: 91 ] من أنظر معسرا ، فله بكل يوم صدقة ، قبل أن يحل الدين ، فإذا حل الدين ، فأنظره بعد ذلك ، فله بكل يوم مثله صدقة . ومنها الإحسان إلى البهائم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن سقيها : فقال : في كل كبد رطبة أجر ، وأخبر أن بغيا سقت كلبا يلهث من العطش ، فغفر لها . وأما الصدقة القاصرة على نفس العامل بها ، فمثل أنواع الذكر من التسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك تلاوة القرآن ، والمشي إلى المساجد ، والجلوس فيها لانتظار الصلاة ، أو لاستماع الذكر . ومن ذلك : التواضع في اللباس ، والمشي ، والهدي ، والتبذل في المهنة ، واكتساب الحلال ، والتحري فيه . ومنها أيضا : محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها ، والندم والتوبة من الذنوب السالفة ، والحزن عليها ، واحتقار النفس ، والازدراء عليها ، ومقتها في الله عز وجل ، والبكاء من خشية الله تعالى ، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أمور الآخرة ، وما فيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك مما يزيد الإيمان في القلب ، وينشأ عنه كثير من أعمال القلوب ؛ كالخشية ، والمحبة ، والرجاء ، والتوكل ، وغير ذلك . وقد قيل : إن هذا التفكر أفضل من نوافل الأعمال [ ص: 92 ] البدنية ، روي ذلك عن غير واحد من التابعين ، منهم سعيد بن المسيب ، والحسن وعمر بن عبد العزيز ، وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه . وقال كعب : لأن أبكي من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا .

[ ص: 93 ] الحديث السابع والعشرون .:

عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، فقال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس رواه مسلم .

وعن وابصة بن معبد قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جئت تسأل عن البر والإثم ؟ قلت : نعم ، قال : استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك .

الحاشية رقم: 1 قال الشيخ رحمه الله : حديث حسن رويناه في " مسندي " الإمامين أحمد والدارمي بإسناد حسن .

أما حديث النواس بن سمعان ، فخرجه مسلم من رواية معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس ، ومعاوية وعبد الرحمن ، وأبوه تفرد بتخريج حديثهم مسلم دون البخاري .

وأما حديث وابصة فخرجه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة ، عن الزبير بن عبد السلام ، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز ، عن وابصة بن معبد ، [ ص: 94 ] قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألت عنه ، فقال لي : ادن يا وابصة ، فدنوت منه ، حتى مست ركبتي ركبته ، فقال : يا وابصة أخبرك ما جئت تسأل عنه أو تسألني ؟ قلت : يا رسول الله أخبرني ، قال : جئت تسألني عن البر والإثم قلت : نعم ، فجمع أصابعه الثلاث ، فجعل ينكت بها في صدري ، ويقول : يا وابصة ، استفت نفسك ، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس ، والإثم : ما حاك في القلب ، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك . وفي رواية أخرى للإمام أحمد أن الزبير لم يسمعه من أيوب ، وقال : وحدثني جلساؤه ، وقد رأيته ، ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعفه : أحدهما : انقطاعه بين الزبير وأيوب ، فإنه رواه عن قوم لم يسمعهم .

والثاني : ضعف الزبير هذا ، قال الدارقطني : روى أحاديث مناكير ، وضعفه ابن حبان أيضا ، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام ، فأخطأ في اسمه ، وله طريق آخر عن وابصة خرجه الإمام أحمد أيضا من رواية معاوية بن صالح عن أبي عبد الله السلمي ، قال : سمعت وابصة ، فذكر الحديث مختصرا ، ولفظه : قال : البر ما انشرح له صدرك ، والإثم ما حاك في صدرك ، وإن أفتاك عنه الناس .

والسلمي هذا ، قال علي بن المديني : هو مجهول .

وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي ، وقال البزار : لا نعلم أحدا سماه ، كذا قال ، وقد سمي في بعض الروايات محمدا . قال عبد الغني بن سعيد الحافظ : لو قال قائل : إنه محمد بن سعيد المصلوب ، لما دفعت ذلك ، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة ، وهو مشهور بالكذب والوضع ، ولكنه لم يدرك وابصة ، والله أعلم .

[ ص: 95 ] وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة ، فخرجه الإمام أحمد ، وابن حبان في " صحيحه " من طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن أبي أمامة ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، ما الإثم ؟ قال : إذا حاك في صدرك شيء فدعه وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ، فإنه خرج حديث يحيى بن كثير عن زيد بن سلام ، وأثبت أحمد سماعه منه ، وإن أنكره ابن معين .

وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر : سمعت مسلم بن مشكم قال : سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول : قلت : يا رسول الله ، أخبرني ما يحل لي وما يحرم علي ، فقال : البر ما سكنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ، ولا يطمئن إليه القلب ، وإن أفتاك المفتون ، وهذا أيضا إسناد جيد ، وعبد الله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور ، وخرجه البخاري ، ومسلم بن مشكم ثقة مشهور أيضا .

وخرج الطبراني وغيره بإسناد ضعيف من حديث واثلة بن الأسقع قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أفتني عن أمر لا أسألك عنه أحدا بعدك ، قال : استفت نفسك قلت : كيف لي بذاك ؟ قال : تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وإن أفتاك المفتون ، قلت : وكيف بذاك ؟ قال : تضع يدك على قلبك ، فإن الفؤاد يسكن للحلال ولا يسكن للحرام . ويروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضا .

[ ص: 96 ] وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن سويد بن قيس أخبره عن عبد الرحمن بن معاوية : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما يحل لي مما يحرم علي ؟ وردد عليه ثلاث مرار ، كل ذلك يسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله ، فقال بأصابعه : ما أنكر قلبك فدعه . خرجه أبو القاسم البغوي في " معجمه " وقال : لا أدري عبد الرحمن بن معاوية سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ ولا أعلم له غير هذا الحديث . قلت : هو عبد الرحمن بن معاوية بن حديج جاء منسوبا في كتاب " الزهد " لابن المبارك ، وعبد الرحمن هذا تابعي مشهور ، فحديثه مرسل .

وقد صح عن ابن مسعود أنه قال : " الإثم حواز القلوب " . واحتج به الإمام أحمد ، ورواه عن جرير ، عن منصور ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال عبد الله : إياكم وحزاز القلوب ، وما حز في قلبك من شيء فدعه .

وقال أبو الدرداء : الخير في طمأنينة والشر في ريبة .

وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له : أرأيت شيئا يحيك في صدورنا ، لا ندري أحلال هو أم حرام ؟ فقال : وإياكم والحكاكات ، فإنهن الإثم ، والحز والحك متقاربان في المعنى ، والمراد : ما أثر في القلب ضيقا [ ص: 97 ] وحرجا ، ونفورا وكراهة .

فهذه الأحاديث مشتملة على تفسير البر والإثم ، وبعضها في تفسير الحلال والحرام ، فحديث النواس بن سمعان فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه البر بحسن الخلق ، وفسره في حديث وابصة وغيره بما اطمأن إليه القلب والنفس ، كما فسر الحلال بذلك في حديث أبي ثعلبة . وإنما اختلف تفسيره للبر ، لأن البر يطلق باعتبارين معينين : أحدهما : باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، وربما خص بالإحسان إلى الوالدين ، فيقال : بر الوالدين ، ويطلق كثيرا على الإحسان إلى الخلق عموما ، وقد صنف ابن المبارك كتابا سماه " كتاب البر والصلة " ، وكذلك في " صحيح البخاري " و " جامع الترمذي " : " كتاب البر والصلة " ، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموما ، ويقدم فيه بر الوالدين على غيرهما . وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : ثم أباك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم الأقرب فالأقرب .

ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . وفي " المسند " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن بر الحج ، فقال : إطعام الطعام ، [ ص: 98 ] وإفشاء السلام وفي رواية أخرى : وطيب الكلام .

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : البر شيء هين : وجه طليق وكلام لين .

وإذا قرن البر بالتقوى ، كما في قوله عز وجل : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] ، فقد يكون المراد بالبر معاملة الخلق بالإحسان ، وبالتقوى : معاملة الحق بفعل طاعته ، واجتناب محرماته ، وقد يكون أريد بالبر فعل الواجبات ، وبالتقوى : اجتناب المحرمات ، وقوله تعالى : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [ المائدة : 2 ] قد يراد بالإثم : المعاصي ، وبالعدوان : ظلم الخلق ، وقد يراد بالإثم : ما هو محرم في نفسه كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وبالعدوان : تجاوز ما أذن فيه إلى ما نهي عنه مما جنسه مأذون فيه ، كقتل ما أبيح قتله لقصاص ومن لا يباح ، وأخذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها ، ومجاوزة الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك .

والمعنى الثاني من معنى البر : أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة ، كقوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان ، فتلا هذه الآية .

[ ص: 99 ] فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبه الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والصبر على الأقدار ، كالمرض والفقر ، وعلى الطاعات ، كالصبر عند لقاء العدو .

وقد يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس شاملا لهذه الخصال كلها ، لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة ، والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه ، كما قال تعالى لرسوله وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] ، وقالت عائشة : كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن ، يعني أنه يتأدب بآدابه ، فيفعل أوامره ، ويتجنب نواهيه ، فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا يفارقه ، وهذا أحسن الأخلاق وأشرفها وأجملها .

وقد قيل : إن الدين كله خلق . وأما في حديث وابصة ، فقال : البر ما اطمأن إليه القلب ، واطمأنت إليه النفس وفي رواية : ما انشرح إليه الصدر ، وفسر الحلال بنحو ذلك في حديث أبي ثعلبة وغيره ، وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق ، والسكون إليه وقبوله ، وركز في الطباع محبة ذلك ، والنفور عن ضده .

وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حمار : إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا .

[ ص: 100 ] وقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله .

ولهذا سمى الله ما أمر به معروفا ، وما نهى عنه منكرا ، فقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] ، وقال في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ الأعراف : 157 ] وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئن بذكره ، فالقلب الذي دخله نور الإيمان ، وانشرح به وانفسح ، يسكن للحق ، ويطمئن به ويقبله ، وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله .

وقال معاذ بن جبل : أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، فقيل لمعاذ : ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال : ما هذه ؟ ولا يثنيك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورا ، خرجه أبو داود . وفي رواية له قال : بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول : ما أراد بهذه الكلمة ؟ فهذا يدل على أن الحق والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير ، بل يعرف الحق بالنور عليه ، فيقبله قلبه ، وينفر عن الباطل ، فينكره ولا يعرفه ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : سيكون في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لم [ ص: 101 ] تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم يعني : أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين ، ولا تعرفه ، وفي قوله : أنتم ولا آباؤكم إشارة إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين مع تقادم العهد وتطاول الزمان ، فهو الحق ، وأن ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر فلا خير فيه .

فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، فما إليه سكن القلب ، وانشرح إليه الصدر ، فهو البر والحلال ، وما كان خلاف ذلك ، فهو الإثم والحرام .

وقوله في حديث النواس : الإثم ما حاك في الصدر ، وكرهت أن يطلع عليه الناس إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجا ، وضيقا ، وقلقا ، واضطرابا ، فلم ينشرح له الصدر ، ومع هذا ، فهو عند الناس مستنكر ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه ، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه ، وهو ما استنكره الناس على فاعله وغير فاعله .

ومن هذا المعنى قول ابن مسعود : ما رآه المؤمنون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المومنون قبيحا ، فهو عند الله قبيح .

[ ص: 102 ] وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة : وإن أفتاك المفتون يعني : أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم ، وإن أفتاه غيره بأنه ليس ، بإثم فهذه مرتبة ثانية ، وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره ، وقد جعله أيضا إثما ، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان ، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي ، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي ، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه ، وإن لم ينشرح له صدره ، وهذا كالرخصة الشرعية ، مثل : الفطر في السفر ، والمرض ، وقصر الصلاة في السفر ، ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال ، فهذا لا عبرة به .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم ، فيمتنعون من فعله ، فيغضب من ذلك ، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، فكرهه من كرهه منهم ، وكما أمرهم بنحر هديهم ، والتحلل من عمرة الحديبية ، فكرهوه ، وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه ، وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم .

وفي الجملة ، فما ورد النص به ، فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله ، كما قال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب : 36 ] .

[ ص: 103 ] وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا ، فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به ، والتسليم له ، كما قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] .

وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة ، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان ، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء ، وحك في صدره لشبهة موجودة ، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه ، بل هو معروف باتباع الهوى ، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حك في صدره ، وإن أفتاه هؤلاء المفتون .

وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا ، أيضا قال المروزي في " كتاب الورع " قلت : لأبي عبد الله إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق ، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء ، فقال : أمرها أمر قذر متلوث ، قلت : فتكره العمل فيها ؟ قال : دع ذا عنك إن كان لا يقع في قلبك شيء ، قلت : قد وقع في قلبي منها ، فقال : قال : ابن مسعود : الإثم حواز القلوب . قلت : إنما هذا على المشاورة ؟ قال : أي شيء يقع في قلبك ؟ قلت : قد اضطرب علي قلبي ، قال : الإثم هو حواز القلوب .

وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين ، وفي شرح حديث الحسن بن علي : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وشرح حديث : إذا لم تستح فاصنع ما شئت شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا .

وقد ذكر طوائف من فقهاء الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه [ ص: 104 ] مسألة الإلهام : هل هو حجة أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافا بينهم ، وذكر طائفة من أصحابنا أن الكشف ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نص أحمد هاهنا بالرجوع إلى حواز القلوب ، وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي ، بل إلى مجرد رأي وذوق ، كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي .

فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب ، فقد دلت عليه النصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك ؟ لا سيما وقد نص على الرجوع إليه موافقة لهم . وقد سبق حديث : إن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ، فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه ، ومعرفته ، وبنفوره عن الكذب وإنكاره ، كما قال الربيع بن خثيم : إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه ، وظلمة كظلمة الليل تنكره .

وخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد ، وأبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم ، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد ، فأنا أبعدكم منه . وإسناده قد قيل : إنه على [ ص: 105 ] شرط مسلم ، لأنه خرج بهذا الإسناد بعينه حديثا ، لكن هذا الحديث معلول ، فإنه رواه بكير بن الأشج ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن عباس بن سهل ، عن أبي بن كعب من قوله ، قال البخاري : وهو أصح .

وروى يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ، ولا تنكرونه ، فصدقوا به ، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر ، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه ، فلا تصدقوا به ، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ، وهذا الحديث معلول أيضا ، وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب ، ورواه الحفاظ عنه عن سعيد مرسلا ، والمرسل أصح عند أئمة الحفاظ ، منهم ابن معين والبخاري ، وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة ، وقال : ما رأيت أحدا من علماء الحديث يثبت وصله .

وإنما تحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحتها - على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد ، الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكلام غيره ، ولحال رواة الأحاديث ، ونقلة الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم ، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته ، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها ، وخالصها ومشوبها ، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته ، ولا يقيم عليه دليلا لغيره ، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم ، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة .

وقد امتحن هذا منهم غير مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم ، فوجد الأمر على ذلك ، فقال السائل : أشهد أن هذا العلم إلهام . قال الأعمش : كان إبراهيم النخعي صيرفيا في الحديث ، كنت أسمع من الرجال فأعرض عليه ما سمعته . وقال عمرو بن قيس : ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينقد الدراهم ، فإن الدراهم فيها الزائف والبهرج وكذا الحديث .

وقال الأوزاعي : كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة ، فما عرفوا أخذنا ، وما أنكروا تركنا .

وقيل لعبد الرحمن بن مهدي : إنك تقول للشيء : هذا صحيح وهذا لم يثبت ، فعمن تقول ذلك ؟ فقال : أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك ، فقال : هذا جيد ، وهذا بهرج أكنت تسأله عمن ذلك ، أو تسلم الأمر إليه ؟ قال : لا ، بل كنت أسلم الأمر إليه ، قال : فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبر به .

وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضا ، وأنه قيل له : يا أبا عبد الله تقول : هذا الحديث منكر ، فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله ؟ قال : [ ص: 107 ] مثلنا كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها ، فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد ، أو أنه رديء .

وقال ابن مهدي : معرفة الحديث إلهام . وقال : إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة .

وقال أبو حاتم الرازي : مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار ، وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده ، فكذلك نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب ، وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه ، قال : وتعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره ، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش ، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره ، فإن خالفه في المائية والصلابة ، علم أنه زجاج ، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح مثله أن يكون كلام النبوة ، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم .

وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدا ، وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين ، ثم خلفه أيوب السختياني ، وأخذ ذلك عنه شعبة ، وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي ، وأخذ عنهما أحمد ، وعلي بن المديني ، وابن معين ، وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم .

وكان أبو زرعة في زمانه يقول : قل من يفهم هذا ، وما أعزه إذا دفعت هذا عن واحد واثنين ، فما أقل من تجد من يحسن هذا ! ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : ذهب الذي كان يحسن هذا - يعني أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا [ ص: 108 ] بالعراق واحد يحسن هذا . وقيل له بعد موت أبي زرعة : تعرف اليوم واحدا يعرف هذا ؟ قال : لا .

وجاء بعد هؤلاء جماعة ، منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني ، وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه " الموضوعات " : قد قل من يفهم هذا بل عدم . والله أعلم .

[ ص: 109 ] الحديث الثامن والعشرون .

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع ، فأوصنا ، قال : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة رواه أبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، زاد أحمد في رواية له ، وأبو داود : وحجر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العرباض بن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين ، قال : ولم يتركه البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما له ، وزعم الحاكم أن سبب تركهما له أنهما توهما أنه ليس له [ ص: 110 ] راو عن خالد بن معدان غير ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضا بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما .

قلت : ليس الأمر كما ظنه ، وليس الحديث على شرطهما ، فإنهما لم يخرجا لعبد الرحمن بن عمرو السلمي ، ولا لحجر الكلاعي شيئا ، وليسا ممن اشتهر بالعلم والرواية .

وأيضا فقد اختلف فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدم ، وروي عنه عن أبي بلال عن العرباض ، وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه أيضا وروي أيضا عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، عن العرباض ، خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه ، وزاد في حديثه : فقد تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وزاد في آخر الحديث : فإنما المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد انقاد .

وقد أنكر طائفة من الحفاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجة فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرجه الحاكم ، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : فإن المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد انقاد .

وخرجه ابن ماجه أيضا من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى بن أبي المطاع ، سمعت العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متصل ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرح فيه بالسماع ، وقد ذكر البخاري في " تاريخه " أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادا على هذه الرواية ، إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلط ، وممن ذكر ذلك أبو زرعة [ ص: 111 ] الدمشقي ، وحكاه عن دحيم ، وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم ، والبخاري رحمه الله يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد روي عن العرباض من وجوه أخر ، وروي من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن إسناد حديث بريدة لا يثبت ، والله أعلم .

فقول العرباض : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : " بليغة " ، وفي روايتهم أن ذلك بعد صلاة الصبح ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا [ النساء : 63 ] ، وقال : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] ، ولكنه كان لا يديم وعظهم ، بل يتخولهم به أحيانا ، كما في " الصحيحين " عن أبي وائل ، قال : كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نحب حديثك ونشتهيه ، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم ، فقال : ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملكم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا .

والبلاغة في الموعظة مستحسنة ، لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها ، والبلاغة : هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر خطبتها ، ولا يطيلها ، بل كان يبلغ ويوجز .

وفي " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة قال : كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 112 ] فكانت صلاته قصدا ، وخطبته قصدا .

وخرجه أبو داود ولفظه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة ، إنما هو كلمات يسيرات .

وخرجه مسلم من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمار فأوجز وأبلغ ، فلما نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفست ، قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن طول صلاة الرجل ، وقصر خطبته ، مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإن من البيان سحرا .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث الحاكم بن حزن ، قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فقام متوكئا على عصا أو قوس ، فحمد الله ، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات .

وخرج أبو داود عن عمرو بن العاص أن رجلا قام يوما ، فأكثر القول ، فقال عمرو : لو قصد في قوله ، لكان خيرا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لقد رأيت - أو أمرت - أن أتجوز في القول ، فإن الجواز هو خير .

[ص: 134 ] الحديث التاسع والعشرون :.

عن معاذ رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت . ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ : يعلمون [ السجدة : 16 - 17 ] ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ، قال : كف عليك هذا قلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 [ ص: 135 ] هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من رواية معمر عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن جبل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين : أحدهما : أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ ، وإن كان قد أدركه بالسن وكان معاذ بالشام ، وأبو وائل بالكوفة ، وما زال الأئمة - كأحمد وغيره - يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا ، وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء : قد أدركه ، وكان بالكوفة وأبو الدرداء بالشام ، يعني : أنه لم يصح له سماع منه . وقد حكى أبو زرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر ، أو نفوه ، فسماعه من معاذ أبعد .

والثاني : أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ ، خرجه الإمام أحمد مختصرا ، قال الدارقطني : وهو أشبه بالصواب ؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه .

قلت : رواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا ، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه ، وقد خرجه الإمام أحمد من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ، وخرجه الإمام أحمد أيضا من رواية عروة بن النزال أو النزال بن عروة ، وميمون بن أبي شبيب ، كلاهما عن معاذ ، ولم يسمع عروة ولا ميمون من معاذ ، وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة .

وقوله : " أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني عن النار " وقد تقدم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب [ ص: 136 ] وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذه المسألة ، وأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ .

وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنه قال : يا رسول الله ، إني أريد أن أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني ، قال : سل عما شئت ، قال : أخبرني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك غيره ، وهذا يدل على شدة اهتمام معاذ رضي الله عنه بالأعمال الصالحة ، وفيه دليل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة ، كما قال تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [ الزخرف : 72 ] .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله فالمراد - والله أعلم - أن العمل بنفسه لا يستحق به أحد الجنة لولا أن الله جعله - بفضله ورحمته - سببا لذلك والعمل بنفسه من رحمة الله وفضله على عبده ، فالجنة وأسبابها كل من فضل الله ورحمته .

وقوله : لقد سألت عن عظيم قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن مثل هذا : لئن كنت أوجزت المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، وذلك لأن دخول الجنة والنجاة من النار أمر عظيم جدا ، ولأجله أنزل الله الكتب ، وأرسل الرسل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : كيف تقول إذا صليت ؟ قال : أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حولها ندندن وفي رواية : هل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ، [ ص: 137 ] ونعوذ به من النار .

وقوله : وإنه ليسير على من يسره الله عليه : إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل ، فمن يسر الله عليه الهدى اهتدى ، ومن لم ييسره عليه ، لم ييسر له ذلك ؛ قال الله تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى [ الليل : 5 - 10 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : واهدني ويسر الهدى لي ، وأخبر الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال في دعائه : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري [ طه : 25 - 26 ] ، وكان ابن عمر يدعو : اللهم يسرني لليسرى ، وجنبني العسرى .

وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيه ترتيب دخول الجنة على [ ص: 138 ] الإتيان بأركان الإسلام الخمسة ، وهي : التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج .

[ص: 150 ] الحديث الثلاثون :

عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء ، فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها . حديث حسن ، رواه الدارقطني وغيره .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني ، وله علتان : إحداهما : أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة ، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما .

والثانية : أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة ، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله ، لكن قال الدارقطني : الأشبه بالصواب المرفوع ، قال : وهو أشهر .

وقد حسن الشيخ رحمه الله هذا الحديث ، وكذلك حسن قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في " أماليه " .

وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا من وجوه أخر ، خرجه البزار في [ ص: 151 ] " مسنده " والحاكم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا هذه الآية : وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال البزار : إسناده صالح .

وقد خرجه الطبراني والدارقطني من وجه آخر عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي ثعلبة ، وقال في آخره : رحمة من الله فاقبلوها ولكن إسناده ضعيف .

وخرجه الترمذي ، وابن ماجه من رواية سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ، فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه .

وقال الترمذي : رواه سفيان - يعني ابن عيينة - عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن سلمان من قوله ، قال : وكأنه أصح . وذكر في كتاب " العلل " عن البخاري أنه قال في الحديث المرفوع : ما أراه محفوظا ، وقال أحمد : هو منكر ، [ ص: 152 ] وأنكره ابن معين أيضا ، وقال أبو حاتم الرازي : هو خطأ ، رواه الثقات عن التيمي عن أبي عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ليس فيه سلمان .

قلت : وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر .

وخرجه ابن عدي من حديث ابن عمر مرفوعا وضعف إسناده .

ورواه أبو صالح المري ، عن الجريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عائشة مرفوعا وأخطأ في إسناده .

وروي عن الحسن مرسلا .

وخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ، ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل ، فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ الأنعام : 145 ] الآية ، وهذا موقوف .

وقال عبيد بن عمير : إن الله عز وجل أحل حلالا وحرم حراما ، وما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عفو .

فحديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام الله أربعة أقسام : فرائض ، ومحارم ، وحدود ، ومسكوت عنه ، وذلك يجمع أحكام الدين كلها .

[ ص: 153 ] قال أبو بكر السمعاني : هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين ، قال : وحكي عن بعضهم أنه قال : ليس في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد أجمع بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة ، قال : وحكي عن أبي واثلة المزني أنه قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين في أربع كلمات ، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة .

قال ابن السمعاني : فمن عمل بهذا الحديث ، فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأن من أدى الفرائض ، واجتنب المحارم ، ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسام الفضل ، وأوفى حقوق الدين ، لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث انتهى .

فأما الفرائض فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج .

وقد اختلف العلماء : هل الواجب والفرض بمعنى واحد أم لا ؟ فمنهم من قال : هما سواء ، وكل واجب بدليل شرعي بكتاب أو سنة أو إجماع أو غير ذلك من أدلة الشرع فهو فرض ، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي وغيرهم ، وحكي رواية عن أحمد ؛ لأنه قال : كل ما في الصلاة فهو فرض .

ومنهم من قال : بل الفرض ما ثبت بدليل مقطوع به ، والواجب ما ثبت بغير مقطوع به ، وهو قول الحنفية وغيرهم .

وأكثر النصوص عن أحمد تفرق بين الفرض والواجب ، فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال : لا يسمى فرضا إلا ما كان في كتاب الله تعالى ، وقال في صدقة الفطر : ما أجترئ أن أقول : إنها فرض ، مع أنه يقول بوجوبها ، فمن أصحابنا من قال : مراده أن الفرض ما يثبت بالكتاب ، والواجب ما ثبت بالسنة ، ومنهم من قال : أراد أن الفرض ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر ، والواجب ما ثبت من جهة الاجتهاد ، وساغ الخلاف في وجوبه .

[ ص: 154 ] ويشكل على هذا أن أحمد قال في رواية الميموني في بر الوالدين : ليس بفرض ، ولكن أقول : واجب ما لم يكن معصية ، وبر الوالدين مجمع على وجوبه ، وقد كثرت الأوامر به في الكتاب والسنة ، فظاهر هذا أنه لا يقول : فرض ، إلا ما ورد في الكتاب والسنة فرضا

[ص: 174 ] الحديث الحادي والثلاثون :.

عن سهل بن سعد الساعدي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله ، وأحبني الناس ، فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن إسناده حسن ، وفي ذلك نظر ، فإن خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمام أحمد : منكر الحديث ، وقال مرة : ليس بثقة ، يروي أحاديث بواطيل ، وقال ابن معين : ليس حديثه بشيء ، وقال مرة : كان كذابا يكذب ، حدث عن شعبة [ ص: 175 ] أحاديث موضوعة ، وقال البخاري وأبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : متروك الحديث ضعيف ، ونسبه صالح بن محمد ، وابن عدي إلى وضع الحديث ، وتناقض ابن حبان في أمره ، فذكره في كتاب " الثقات " وذكره في كتاب " الضعفاء " وقال : كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات ، لا يحل الاحتجاج بخبره ، وخرج العقيلي حديثه هذا وقال : ليس له أصل من حديث سفيان الثوري ، قال : وقد تابع خالدا عليه محمد بن كثير الصنعاني ، ولعله أخذه عنه ودلسه ، لأن المشهور به خالد هذا .

قال أبو بكر الخطيب : وتابعه أيضا أبو قتادة الحراني ومهران بن أبي عمر الرازي ، فرووه عن الثوري قال : وأشهرها حديث ابن كثير . كذا قال ، وهذا يخالف قول العقيلي : إن أشهرها حديث خالد بن عمرو ، وهذا أصح ، ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي ، ضعفه أحمد . وأبو قتادة ومهران تكلم فيهما أيضا ، لكن محمد بن كثير خير منهما ، فإنه ثقة عند كثير من الحفاظ .

وقد تعجب ابن عدي من حديثه هذا ، وقال ما أدري ما أقول فيه .

وذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث محمد بن كثير عن سفيان الثوري ، فذكر هذا الحديث ، فقال : هذا حديث باطل ، يعني بهذا الإسناد ، يشير إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير عن سفيان .

وقال ابن مشيش : سألت أحمد عن حديث سهل بن سعد ، فذكر هذا الحديث ، فقال أحمد : لا إله إلا الله - تعجبا منه - من يروي هذا ؟ قلت : [ ص: 176 ] خالد بن عمرو ، فقال : وقعنا في خالد بن عمرو ، ثم سكت ، ومراده الإنكار على من ذكر له شيئا من حديث خالد هذا ، فإنه لا يشتغل به .

وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " المواعظ " له عن خالد بن عمرو ، ثم قال : كنت منكرا لهذا الحديث ، فحدثني هذا الشيخ يعني عن وكيع : أنه سأله عنه ، ولولا مقالته هذه لتركته . وخرج ابن عدي هذا الحديث في ترجمة خالد بن عمرو ، وذكر رواية محمد بن كثير له أيضا ، وقال : هذا الحديث عن الثوري منكر ، وقال : ورواه زافر - يعني ابن سلمان - عن محمد بن عيينة أخي سفيان ، عن أبي حازم ، عن ابن عمر . انتهى ، وزافر ومحمد بن عيينة ، كلاهما ضعيف .

وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرسل : أخرجه أبو سليمان بن زبر الدمشقي في " مسند " إبراهيم بن أدهم من جمعه من رواية معاوية بن حفص ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن منصور ، عن ربعي بن حراش ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل يحبني الله عليه ، ويحبني الناس عليه ، فقال : أما العمل الذي يحبك الله عليه ، فازهد في الدنيا ، وأما العمل الذي يحبك الناس عليه ، فانظر هذا الحطام ، فانبذه إليهم .

[ ص: 177 ] وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذم الدنيا " من رواية علي بن بكار عن إبراهيم بن أدهم ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، ولم يذكر في إسناده منصورا ولا ربعيا ، وقال في حديثه : فانبذ إليهم ما في يديك من الحطام .

وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين : إحداهما : الزهد في الدنيا ، وأنه مقتض لمحبة الله عز وجل لعبده . والثانية : الزهد فيما في أيدي الناس ، فإنه مقتض لمحبة الناس .

فأما الزهد في الدنيا ، فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه ، وإلى ذم الرغبة في الدنيا ، قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 17 ] ، وقال تعالى : تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة [ الأنفال : 67 ] وقال تعالى في قصة قارون : فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون إلى قوله : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 79 - 83 ] ، وقال تعالى : وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع [ الرعد : 26 ] وقال قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا [ النساء : 77 ] .

وقال حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : [ ص: 178 ] ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 38 - 39 ] .

وقد ذم الله من كان يريد الدنيا بعمله وسعيه ونيته ، وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث " الأعمال بالنيات " .

والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله كثيرة جدا ، ففي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفيه ، فمر بجدي أسك ميت ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، فقال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه ، لأنه أسك ، فكيف وهو ميت ؟ فقال : والله ، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم .

وفيه أيضا عن المستورد الفهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بماذا ترجع .

وخرج الترمذي من حديث سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة ماء صححه .

[ ص: 179 ] ومعنى الزهد في الشيء : الإعراض عنه لاستقلاله ، واحتقاره ، وارتفاع الهمة عنه ، يقال : شيء زهيد ، أي : قليل حقير .

وقد تكلم السلف ومن بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا ، وتنوعت عباراتهم عنه ، وورد في ذلك حديث مرفوع خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمرو بن واقد منكر الحديث .

قلت : الصحيح وقفه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب " الزهد " ، حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا خالد بن صبيح ، حدثنا يونس بن حلبس قال : قال أبو مسلم الخولاني : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك ، وإذا أصبت بمصيبة ، كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك .

وخرجه ابن أبي الدنيا من راوية محمد بن مهاجر ، عن يونس بن ميسرة ، قال : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون حالك في [ ص: 180 ] المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء ، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء .

ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب ، لا من أعمال الجوارح ، ولهذا كان أبو سليمان يقول : لا تشهد لأحد بالزهد ، فإن الزهد في القلب .

أحدها : أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه ، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته ، فإن الله ضمن أرزاق عباده ، وتكفل بها ، كما قال : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] ، وقال : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ، وقال : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه [ العنكبوت : 17 ] .

وقال الحسن : إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل .

وروي عن ابن مسعود قال : إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا ليس في البيت دقيق . وقال مسروق : إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم : ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم . وقال الإمام أحمد : أسر أيامي إلي يوم أصبح وليس عندي شيء .

وقيل لأبي حازم الزاهد : ما مالك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر : الثقة بالله ، واليأس مما في أيدي الناس .

وقيل له : أما تخاف الفقر ؟ فقال : أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؟ !

[ ص: 181 ] ودفع إلى علي بن الموفق ورقة ، فقرأها فإذا فيها : يا علي بن الموفق أتخاف الفقر وأنا ربك ؟ .

وقال الفضيل بن عياض : أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل . وقال : القنوع هو الزاهد وهو الغني .

فمن حقق اليقين ، وثق بالله في أموره كلها ، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ، ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة ، وكان من أغنى الناس ، وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار : كفى بالموت واعظا ، وكفى باليقين غنى ، وكفى بالعبادة شغلا .

وقال ابن مسعود : اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ، ولا تحمد أحدا على رزق الله ، ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله ، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ، فإن الله تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمه - جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .

وفي حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا [ صادقا ] حتى أعلم أنه لا يمنعني رزقا قسمته لي ، ورضني من المعيشة بما قسمت لي .

وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول : اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا ، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت [ ص: 182 ] علينا ، ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا .

روينا من حديث ابن عباس مرفوعا ، قال : من سره أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده .

والثاني : أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال ، أو ولد أو غير ذلك - أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له ، وهذا أيضا ينشأ من كمال اليقين .

وقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها ، كما قال علي رضي الله عنه : من زهد الدنيا ، هانت عليه المصيبات .

والثالث : أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق ، وهذا من علامات الزهد في الدنيا ، واحتقارها ، وقلة الرغبة فيها ، فإن من عظمت الدنيا عنده أحب [ ص: 183 ] المدح وكره الذم ، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم ، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح ، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق ، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه ، وامتلائه من محبة الحق ، وما فيه رضا مولاه ، كما قال ابن مسعود : اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله . وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم .

وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا ، وكلها ترجع إلى ما تقدم ، كقول الحسن : الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال : هو أفضل مني ، وهذا يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها ، ولهذا يقال : الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة ، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس ، فهو الزاهد حقا ، وهذا هو الذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق ، وكقول وهيب بن الورد : الزهد في الدنيا أن لا تأسى على ما فات منها ، ولا تفرح بما آتاك منها ، قال ابن السماك : هذا هو الزاهد المبرز في زهده .

وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصها ، وهو مثل استواء حال المصيبة وعدمها كما سبق .

وسئل بعضهم - أظنه الإمام أحمد - عمن معه مال ، هل يكون زاهدا ؟ قال : إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه ، أو كما قال .

وسئل الزهري عن الزاهد فقال : من لم يغلب الحرام صبره ، ولم يشغل الحلال شكره ، وهذا قريب مما قبله ، فإن معناه أن الزاهد في الدنيا إذا قدر [ ص: 184 ] منها على حرام ، صبر عنه ، فلم يأخذه ، وإذا حصل له منها حلال ، لم يشغله عن الشكر ، بل قام بشكر الله عليه .

وقال أحمد بن أبي الحوارى : قلت لسفيان بن عيينة : من الزاهد في الدنيا ؟ قال : من إذا أنعم عليه شكر ، وإذا ابتلي صبر ، فقلت : يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر ، وإذا ابتلي فصبر ، وحبس النعمة ، كيف يكون زاهدا ؟ فقال : اسكت ، من لم تمنعه النعماء من الشكر ، ولا البلوى من الصبر ، فذلك الزاهد .

وقال ربيعة : رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها ، ووضعها في حقها .

وقال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ، ولا بلبس العباء . وقال : كان من دعائهم : اللهم زهدنا في الدنيا ، ووسع علينا منها ، ولا تزوها عنا ، فترغبنا فيها . وكذا قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا : قصر الأمل ، وقال مرة : قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس .

ووجه هذا أن قصر الأمل يوجب محبة لقاء الله ، بالخروج من الدنيا ، وطول الأمل يقتضي محبة البقاء فيها ، فمن قصر أمله ، فقد كره البقاء في الدنيا ، وهذا نهاية الزهد فيها ، والإعراض عنها ، واستدل ابن عيينة لهذا القول بقوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين إلى قوله : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة [ البقرة : 94 - 96 ] الآية .

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الضحاك بن مزاحم قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله ، من أزهد الناس ؟ فقال : من لم ينس القبر والبلى ، وترك زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعد غدا من أيامه وعد [ ص: 185 ] نفسه من الموتى وهذا مرسل .

وقد قسم كثير من السلف الزهد أقساما : فمنهم من قال : أفضل الزهد الزهد في الشرك ، وفي عبادة ما عبد من دون الله ، ثم الزهد في الحرام كله من المعاصي ، ثم الزهد في الحلال ، وهو أقل أقسام الزهد ، فالقسمان الأولان من هذا الزهد ، كلاهما واجب ، والثالث : ليس بواجب ، فإن أعظم الواجبات الزهد في الشرك ، ثم في المعاصي كلها . وكان بكر المزني يدعو لإخوانه : زهدنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات ، فعلم أن الله يراه فتركه .

وقال ابن المبارك : قال سلام بن أبي مطيع : الزهد على ثلاثة وجوه : واحد أن يخلص العمل لله عز وجل والقول ، ولا يراد بشيء منه الدنيا ، والثاني : ترك ما لا يصلح ، والعمل بما يصلح ، والثالث : الحلال أن يزهد فيه وهو تطوع ، وهو أدناها .

وهذا قريب مما قبله ، إلا أنه جعل الدرجة الأولى من الزهد الزهد في الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل ، وهو الشرك الأصغر ، والحامل عليه محبة المدح في الدنيا ، والتقدم عند أهلها ، وهو من نوع محبة العلو فيها والرياسة .

وقال إبراهيم بن أدهم : الزهد ثلاثة أصناف : فزهد فرض ، وزهد فضل ، وزهد سلامة ، فالزهد الفرض : الزهد في الحرام ، والزهد الفضل : الزهد في الحلال ، والزهد السلامة : الزهد في الشبهات .

[ص: 207 ] الحديث الثاني والثلاثون . :

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار حديث حسن ، رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا ، ورواه مالك في " الموطإ " عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، فأسقط أبا سعيد ، وله طرق يقوى بعضها ببعض .

الحاشية رقم: 1 حديث أبي سعيد لم يخرجه ابن ماجه ، وإنما خرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة ، حدثنا الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرار ، من ضار ضره الله ، ومن شاق شق الله عليه وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ، وقال البيهقي : تفرد به عثمان عن [ ص: 208 ] الدراوردي ، وخرجه مالك في " الموطإ " عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلا .

قال ابن عبد البر لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث ، قال : ولا يسند من وجه صحيح ، ثم خرجه من رواية عبد الملك بن معاذ النصيبي ، عن الدراوردي موصولا ، والدراوردي كان الإمام أحمد يضعف ما حدث به من حفظه ، ولا يعبأ به ، ولا شك في تقديم قول مالك على قوله . وقال خالد بن سعد الأندلسي الحافظ : لم يصح حديث : لا ضرر ولا ضرار مسندا .

وأما ابن ماجه ، فخرجه من رواية فضيل بن سليمان ، حدثنا موسى بن عقبة ، حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار ، وهذا من جملة صحيفة تروى بهذا الإسناد ، وهي منقطعة مأخوذة من كتاب ، قاله ابن المديني وأبو زرعة وغيرهما ، وإسحاق بن يحيى قيل : هو ابن طلحة ، وهو ضعيف لم يسمع من عبادة ، قاله أبو زرعة وابن أبي حاتم والدارقطني في موضع ، وقيل : إنه إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة ، ولم يسمع أيضا من عبادة ، قاله الدارقطني أيضا . [ ص: 209 ] وذكره ابن عدي في كتابه " الضعفاء " ، وقال : عامة أحاديثه غير محفوظة ، وقيل : إن موسى بن عقبة لم يسمع منه ، وإنما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه ، وأبو عياش لا يعرف .

وخرجه ابن ماجه أيضا من وجه آخر من رواية جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار وجابر الجعفي ضعفه الأكثرون ، وخرجه الدارقطني من رواية إبراهيم بن إسماعيل ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة وإبراهيم ضعفه جماعة ، وروايات داود عن عكرمة مناكير .

وخرج الدارقطني من حديث الواقدي ، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت ، عن أبي الرجال ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ، ولا ضرار والواقدي متروك ، وشيخه مختلف في تضعيفه . وخرجه الطبراني من وجهين ضعيفين أيضا عن القاسم عن عائشة .

وخرج الطبراني أيضا من رواية محمد بن سلمة عن أبي إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وهذا إسناد مقارب وهو غريب ، لكن خرجه أبو داود في " المراسيل " من رواية عبد الرحمن بن مغراء عن ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع مرسلا ، وهذا أصح .

وخرج الدارقطني من رواية أبي بكر بن عياش ، قال : أراه عن ابن عطاء ، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرورة ، ولا يمنعن [ ص: 210 ] أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه ، وهذا الإسناد فيه شك ، وابن عطاء : هو يعقوب ، وهو ضعيف .

وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا إضرار قال ابن عبد البر : إسناده غير صحيح .

قلت : كثير هذا يصحح حديثه الترمذي ويقول البخاري في بعض حديثه : هو أصح حديث في الباب ، وحسن حديثه إبراهيم بن المنذر الحزامي ، وقال : هو خير من مراسيل ابن المسيب ، وكذلك حسنه ابن أبي عاصم ، وترك حديثه آخرون ، منهم الإمام أحمد وغيره ، فهذا ما حضرنا من ذكر طرق أحاديث هذا الباب .

وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن بعض طرقه تقوى ببعض ، وهو كما قال ، وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني : إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قويت .

وقال الشافعي في المرسل : إنه إذا أسند من وجه آخر ، أو أرسله من يأخذ العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل الأول فإنه يقبل .

وقال الجوزجاني : إذا كان الحديث المسند من رجل غير مقنع - يعني : لا يقنع برواياته - وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار ، استعمل واكتفي به ، وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه .

وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث ، وقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار . [ ص: 211 ] وقال أبو عمرو بن الصلاح : هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه ، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه ، وقد تقبله جماهير أهل العلم ، واحتجوا به ، وقول أبي داود : إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف والله أعلم .

وفي المعنى أيضا حديث أبي صرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ضار ضار الله به ، ومن شاق شاق الله عليه خرجه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن غريب .

وخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف عن أبي بكر الصديق ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به .

وقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار . هذه الرواية الصحيحة ، ضرار بغير همزة ، وروي " إضرار " بالهمزة ، ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدارقطني ، بل وفي بعض نسخ الموطإ ، وقد أثبت بعضهم هذه الرواية وقال : ضر وأضر بمعنى واحد ، وأنكرها آخرون ، وقالوا : لا صحة لها .

[ ص: 212 ] واختلفوا : هل بين اللفظين - أعني الضر والضرار - فرق أم لا ؟ فمنهم من قال : هما بمعنى واحد على وجه التأكيد ، والمشهور أن بينهما فرقا ، ثم قيل : إن الضرر هو الاسم ، والضرار الفعل ، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع ، وإدخال الضرر بغير حق كذلك .

وقيل : الضرر : أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به ، والضرار : أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به ، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع ، ورجح هذا القول طائفة ، منهم ابن عبد البر ، وابن الصلاح .

وقيل : الضرر : أن يضر بمن لا يضره ، والضرار : أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز .

وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضرر والضرار بغير حق .

فأما إدخال الضرر على أحد بحق ، إما لكونه تعدى حدود الله ، فيعاقب بقدر جريمته ، أو كونه ظلم غيره ، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل ، فهذا غير مراد قطعا ، وإنما المراد : إلحاق الضرر بغير حق ، وهذا على نوعين : أحدهما : أن لا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير ، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه ، وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع : منها في الوصية ، قال الله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] ، وفي حديث أبي هريرة المرفوع : إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضره الموت ، فيضار في الوصية ، فيدخل النار ، ثم تلا : تلك حدود الله إلى قوله : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها [ النساء : 13 - 14 ] ، وقد خرجه الترمذي وغيره بمعناه .

[ ص: 213 ] وقال ابن عباس : الإضرار : في الوصية من الكبائر ، ثم تلا هذه الآية .

والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له ، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث .

وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث ، فتنقص حقوق الورثة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : الثلث والثلث كثير .

ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث ، لم ينفذ ما وصى به إلا بإجازة الورثة ، وسواء قصد المضارة أو لم يقصد ، وأما إن قصد المضارة بالوصية لأجنبي بالثلث ، فإنه يأثم بقصده المضارة ، وهل ترد وصيته إذا ثبت بإقراره أم لا ؟ حكى ابن عطية رواية عن مالك أنها ترد ، وقيل : إنه قياس مذهب أحمد .

[ص: 226 ] الحديث الثالث والثلاثون :

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر . حديث حسن ، رواه البيهقي وغيره هكذا ، وبعضه في " الصحيحين " .

الحاشية رقم: 1 أصل هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه .

وخرجاه أيضا من رواية نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه .

واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساقه ابن الصلاح قبله في الأحاديث الكليات ، وقال : رواه البيهقي بإسناد حسن .

[ ص: 227 ] وخرجه الإسماعيلي في " صحيحه " من رواية الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ، ولكن البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب .

وروى الشافعي : أنبأ مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي قال الشافعي : وأحسبه - ولا أثبته - أنه قال : واليمين على المدعى عليه .

وروى محمد بن عمر بن لبابة الفقيه الأندلسي عن عثمان بن أيوب الأندلسي - ووصفه بالفضل - عن غازي بن قيس ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث ، قال : لكن البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر وغازي بن قيس الأندلسي كبير صالح ، سمع من مالك وابن جريج وطبقتهما ، وسقط من هذا الإسناد ابن جريج والله أعلم .

وقد استدل الإمام أحمد وأبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ، وهذا يدل على أن هذا اللفظ عندهما صحيح محتج به ، وفي المعنى أحاديث كثيرة ، ففي " الصحيحين " عن الأشعث بن قيس ، قال : كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاهداك أو يمينه ، قلت : إذا يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر ، لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ، ثم اقترأ هذه الآية : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] . وفي رواية لمسلم بعد قوله : " إذا يحلف " ، قال : ليس لك إلا ذلك . وخرجه أيضا مسلم بمعناه من حديث وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وخرج الترمذي من حديث العرزمي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، وقال : في إسناده مقال ، والعرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه . وخرجه الدارقطني من رواية مسلم بن خالد الزنجي - وفيه ضعف عن [ ص: 229 ] ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة . ورواه الحافظ عن ابن جرير ، عن عمرو مرسلا .

وخرجه أيضا من رواية مجاهد عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم الفتح : المدعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة ، وخرجه الطبراني ، وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وفي إسناده كلام . وخرج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة .

وروى حجاج الصواف ، عن حميد بن هلال ، عن زيد بن ثابت ، قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما رجل طلب عند رجل طلبة ، فإن المطلوب هو أولى باليمين .

وخرجه أبو عبيد والبيهقي ، وإسناده ثقات ، إلا أن حميد بن هلال ما أظنه لقي زيد بن ثابت ، وخرجه الدارقطني ، وزاد فيه " بغير شهداء " .

وخرج النسائي من حديث ابن عباس ، قال : جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على الآخر حقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي : أقم بينتك فقال : يا رسول الله ، ما لي بينة ، فقال للآخر : احلف بالله الذي لا إله إلا هو : ما له عليك أو عندك شيء .

وقد روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : أن البينة على المدعي ، [ ص: 230 ] واليمين على من أنكر . وقضى بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبي بن كعب ولم ينكراه .

وقال قتادة : فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام : هو أن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر .

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، قال : ومعنى قوله : البينة على المدعي يعني : يستحق بها ما ادعى ، لأنها واجبة يؤخذ بها ، ومعنى قوله : اليمين على المدعى عليه أي : يبرأ بها ، لأنها واجبة عليه ، يؤخذ بها على كل حال . انتهى .

[ص: 243 ] الحديث الرابع والثلاثون :

عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي سعيد ومن رواية إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، عن أبي سعيد وعنده في حديث طارق قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل ، فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ثم روى هذا الحديث .

وقد روى معناه من وجه آخر ، فخرجه مسلم من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي ، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . [ ص: 244 ] وروى سالم المرادي عن عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم ، لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله بلسانه ويده وقلبه ، فذلك الذي سبقت له السوابق ، ورجل عرف دين الله فصدق به ، وللأول عليه سابقة ، ورجل عرف دين الله ، فسكت ، فإن رأى من يعمل بخير أحبه عليه ، وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه ، فذلك الذي ينجو على إبطائه وهذا غريب ، وإسناده منقطع .

وخرج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي - وهو ضعيف جدا - عن مولى لعمر ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : توشك هذه الأمة أن تهلك إلا ثلاثة نفر : رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه ، فإن جبن بيده ، فبلسانه وقلبه ، فإن جبن بلسانه وبيده فبقلبه .

وخرج أيضا من رواية الأوزاعي عن عمير بن هانئ ، عن علي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون بعدي فتن لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيد ولا بلسان ، قلت : يا رسول الله ، وكيف ذاك ؟ قال : ينكرونه بقلوبهم ، قلت : يا رسول الله ، وهل ينقص ذلك إيمانهم شيئا ؟ قال : لا ، إلا كما ينقص القطر من الصفا ، وهذا الإسناد منقطع . وخرج الطبراني معناه من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف .

[ ص: 245 ] فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه ، وأما إنكاره بالقلب لا بد منه ، فمن لم ينكر قلبه المنكر ، دل على ذهاب الإيمان من قلبه .

وقد روى عن أبي جحيفة ، قال : قال علي : إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه المعروف ، وينكر قلبه المنكر ، نكس فجعل أعلاه أسفله .

وسمع ابن مسعود رجلا يقول : هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، فقال ابن مسعود هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر ، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك .

[ص: 257 ] الحديث الخامس والثلاثون :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه ، ولا يحقره ، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة ، وأبو سعيد هذا لا يعرف اسمه ، وقد روى عنه غير واحد ، وذكره ابن حبان في " ثقاته " وقال ابن المديني : هو مجهول .

وروى هذا الحديث سفيان الثوري ، فقال فيه : سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ووهم في قوله : " سعيد بن يسار " إنما هو : أبو سعيد مولى ابن كريز ، قاله أحمد ويحيى والدارقطني ، وقد روي بعضه من وجه آخر . وخرجه الترمذي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم ، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله ، كل المسلم على [ ص: 258 ] المسلم حرام : عرضه وماله ودمه ، التقوى هاهنا ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم .

وخرج أبو داود من قوله : كل المسلم إلى آخره .

وخرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تحاسدوا ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا .

وخرجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة .

وخرج الإمام أحمد من حديث واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وعرضه ، وماله ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ، والتقوى هاهنا - وأومأ بيده إلى القلب - وحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم . [ ص: 259 ] وخرج أبو داود آخره فقط .

وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه " . وخرجه الإمام أحمد ولفظه " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، وبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم .

وفي " الصحيحين " عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا .

ويروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعا وموقوفا .

[ ص: 260 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا يعني : لا يحسد بعضكم بعضا ، والحسد مركوز في طباع البشر ، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل .

ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام ، فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل ، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه ، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه ، وهو شرهما وأخبثهما ، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه ، وهو كان ذنب إبليس حيث كان حسد آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة بأن خلقه الله بيده ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه في جواره ، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها ، ويروى عن ابن عمر أن إبليس قال لنوح : اثنتان بهما أهلك بني آدم : الحسد ، وبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما ، والحرص [ وبالحرص ] أبيح آدم الجنة كلها ، فأصبت حاجتي منه بالحرص . خرجه ابن أبي الدنيا .

وقد وصف الله اليهود بالحسد في مواضع من كتابه القرآن ، كقوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ البقرة : 109 ] ، وقوله : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ النساء : 54 ] .

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الزبير بن العوام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، والبغضاء هي الحالقة ، حالقة الدين لا حالقة الشعر ، والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم .

[ ص: 261 ] وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إياكم والحسد ، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، أو قال : العشب .

وخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : سيصيب أمتي داء الأمم ، قالوا : يا نبي الله ، وما داء الأمم ؟ قال : الأشر والبطر ، والتكاثر والتنافس في الدنيا ، والتباغض ، والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج .

[ ص: 262 ] وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره ، لم يعمل بمقتضى حسده ، ولم يبغ على المحسود بقول ولا بفعل . وقد روي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك ، وروي مرفوعا من وجوه ضعيفة ، وهذا على نوعين : أحدهما : أن لا يمكنه إزالة ذلك الحسد من نفسه ، فيكون مغلوبا على ذلك ، فلا يأثم به .

والثاني : من يحدث نفسه بذلك اختيارا ، ويعيده ويبديه في نفسه مستروحا إلى تمني زوال نعمة أخيه ، فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية ، وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء ، وربما يذكر في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، لكن هذا يبعد أن يسلم من البغي على المحسود ، ولو بالقول ، فيأثم بذلك .

وقسم آخر إذا حسد لم يتمن زوال نعمة المحسود ، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله ، ويتمنى أن يكون مثله ، فإن كانت الفضائل دنيوية ، فلا خير في ذلك ، كما قال الذين يريدون الحياة الدنيا : ياليت لنا مثل ما أوتي قارون [ القصص : 79 ] ، وإن كانت فضائل دينية ، فهو حسن ، وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم الشهادة في سبيل الله عز وجل . وفي " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم ، قال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، وهذا هو الغبطة ، وسماه حسدا من باب الاستعارة .

[ ص: 263 ] وقسم آخر إذا وجد في نفسه الحسد ، سعى في إزالته ، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه ، والدعاء له ، ونشر فضائله ، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرا منه وأفضل ، وهذا من أعلى درجات الإيمان ، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه

[ص: 284 ] الحديث السادس والثلاثون :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له به طريقا إلى الجنة ، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، واعترض عليه غير واحد من الحفاظ في تخريجه ، منهم الفضل الهروي والدارقطني ، فإن أسباط بن محمد رواه عن الأعمش ؛ قال : حدثت عن أبي صالح ، فتبين أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر من حدثه به عنه ، ورجح الترمذي وغيره هذه الرواية ، وزاد بعض أصحاب الأعمش في [ ص: 285 ] متن الحديث : ومن أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة .

وخرجا في " الصحيحين " من حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم ، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة .

وخرج الطبراني من حديث كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من نفس عن مؤمن كربة من كربه ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر على مؤمن عورته ، ستر الله عورته ، ومن فرج عن مؤمن كربة ، فرج الله عنه كربته .

وخرج الإمام أحمد من حديث مسلمة بن مخلد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من ستر مسلما في الدنيا ، ستره الله في الدنيا والآخرة ، ومن نجى مكروبا ، فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته .

فقوله صلى الله عليه وسلم : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل ، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى ، كقوله صلى الله عليه وسلم : إنما يرحم الله من عباده الرحماء ، [ ص: 286 ] وقوله : إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا .

والكربة : هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب ، وتنفيسها أن يخفف عنه منها ، مأخوذ من تنفيس الخناق ، كأنه يرخى له الخناق حتى يأخذ نفسا ، والتفريج أعظم من ذلك ، وهو أن يزيل عنه الكربة ، فتفرج عنه كربته ، ويزول همه وغمه ، فجزاء التنفيس التنفيس ، وجزاء التفريج التفريج ، كما في حديث ابن عمر ، وقد جمع بينهما في حديث كعب بن عجرة .

وخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا : أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع ، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن سقى مؤمنا على ظمإ ، سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن كسا مؤمنا على عري ، كساه الله من خضر الجنة . وخرجه الإمام أحمد بالشك في رفعه ، وقيل : إن الصحيح وقفه .

[ ص: 287 ] وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال : يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط ، وأجوع ما كانوا قط ، وأظمأ ما كانوا قط ، وأنصب ما كانوا قط ، فمن كسا لله عز وجل كساه الله ، ومن أطعم لله عز وجل أطعمه الله ، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ، ومن عفا لله عز وجل أعفاه الله .

وخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا : أن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار ، فيناديه رجل من أهل النار : يا فلان ، هل تعرفني ؟ فيقول : لا والله ما أعرفك ، من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررت بي في دار الدنيا ، فاستسقيتني شربة من ماء ، فسقيتك ، قال : قد عرفت ، قال : فاشفع لي بها عند ربك ، قال : فيسأل الله عز وجل ، ويقول : شفعني فيه ، فيأمر به ، فيخرجه من النار .

وقوله : كربة من كرب يوم القيامة ، ولم يقل : من كرب الدنيا والآخرة كما قيل في التيسير والستر ، وقد قيل في مناسبة ذلك : إن الكرب هي الشدائد العظيمة ، وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا ، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر ، فإن أحدا لا يكاد يخلو في الدنيا من ذلك ، ولو بتعسر الحاجات المهمة . وقيل : لأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء ، فادخر الله جزاء تنفيس الكرب عنده ، لينفس به كرب الآخرة ، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس منهم ، فيبلغ الناس من الغم [ ص: 288 ] والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس بعضهم لبعض : ألا ترون ما بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم ؟ ، وذكر حديث الشفاعة ، خرجاه بمعناه من حديث أبي هريرة .

وخرجا من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تحشرون حفاة عراة غرلا ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك .

وخرجا من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : يوم يقوم الناس لرب العالمين [ المطففين : 6 ] ، قال : يقوم أحدهم في الرشح إلى أنصاف أذنيه .

وخرجا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم ولفظه للبخاري ، ولفظ مسلم : إن العرق ليذهب في الأرض سبعين باعا ، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم .

وخرج مسلم من حديث المقداد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين ، فتصهرهم الشمس ، فيكونون في [ ص: 289 ] العرق قدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه إلجاما .

وقال ابن مسعود : الأرض كلها يوم القيامة نار ، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، فيعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قدر قامة ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه ، وما مسه الحساب ، قال : فمم ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : مما يرى الناس يصنع بهم .

وقال أبو موسى : الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة ، وأعمالهم تظلهم أو تضحيهم .

وفي " المسند " من حديث عقبة بن عامر مرفوعا : كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس .

[ ص: 311 ] الحديث السابع والثلاثون :

. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال : إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من رواية الجعد أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء العطاردي ، عن ابن عباس وفي رواية لمسلم زيادة في آخر الحديث ، وهي : أو محاها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك . وفي هذا المعنى أحاديث متعددة ، فخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة ، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها ، فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي ، فاكتبوها له حسنة ، وإن أراد أن يعمل حسنة ، فلم يعملها ، فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وهذا لفظ البخاري ، وفي رواية لمسلم : قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن [ ص: 312 ] يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعملها ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها له بمثلها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قالت الملائكة : رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - قال : ارقبوه ، فإن عملها ، فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها ، فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جراي . قال رسول الله صلى عليه وسلم : إذا أحسن أحدكم إسلامه ، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، وفي رواية بعد قوله : إلى سبعمائة ضعف : إلى ما يشاء الله . وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله : من عمل حسنة ، فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن عمل سيئة ، فجزاؤها مثلها أو أغفر . وفيه أيضا عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من هم بحسنة ، فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة ، فلم يعملها لم يكتب عليه شيء ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة . وفي " المسند " عن خريم بن فاتك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من هم بحسنة ، [ ص: 313 ] فلم يعملها ، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه ، وحرص عليها ، كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ، ومن عملها كتبت له واحدة ، ولم تضاعف عليه ، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها ، ومن أنفق نفقة في سبيل الله ، كانت له بسبعمائة ضعف . وفي المعنى أحاديث أخر متعددة . فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات ، والسيئات ، والهم بالحسنة والسيئة ، فهذه أربعة أنواع : النوع الأول : عمل الحسنات ، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات ، وقد دل عليه قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام : 160 ] . وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له ، فدل عليه قوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [ البقرة : 261 ] ، فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف . وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود ، قال : جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، فقال : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة . وفي " المسند " بإسناد فيه نظر عن أبي عبيدة بن الجراح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، وعياله ، أو عاد مريضا ، أو ماز أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها . [ ص: 314 ] وخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف . وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أرسل نفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته ، فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله ، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية : والله يضاعف لمن يشاء [ البقرة : 261 ] . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لما نزلت هذه الآية : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل [ البقرة : 261 ] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب زد أمتي ، فأنزل الله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ البقرة : 245 ] ، فقال : رب زد أمتي فأنزل الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ الزمر : 10 ] . [ ص: 315 ] وخرج الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة ثم تلا أبو هريرة : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ النساء : 40 ] . وقال : " إذا قال الله أجرا عظيما ، فمن يقدر قدره ؟ " وروي عن أبي هريرة موقوفا . وخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة . ومن حديث تميم الداري مرفوعا : من قال : أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا أحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد عشر مرات ، كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة ، وفي كلا الإسنادين ضعف . [ ص: 316 ] وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا : من قال : سبحان الله ، كتب الله له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرين ألف حسنة .

[ص: 330 ] الحديث الثامن والثلاثون :

. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى قال من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، . رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب ، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة ، حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث بطوله ، وزاد في آخره : وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته . وهو من غرائب " الصحيح " تفرد به ابن كرامة عن خالد ، وليس في " مسند أحمد " مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه أحمد وغيره ، وقالوا : له مناكير ، وعطاء الذي في إسناده قيل : إنه ابن أبي رباح ، وقيل : إنه ابن يسار ، وإنه وقع في بعض نسخ " الصحيح " منسوبا كذلك . [ ص: 331 ] وقد روي هذا الحديث من وجوه أخر لا تخلو كلها عن مقال فرواه عبد الواحد بن ميمون أبو حمزة مولى عروة بن الزبير عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من آذى لي وليا ، فقد استحل محاربتي ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء فرائضي ، وإن عبدي ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت عينه التي يبصر بها ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وفؤاده الذي يعقل به ، ولسانه الذي يتكلم به ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن موته ، وذلك أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته . خرجه ابن أبي الدنيا وغيره ، وخرجه الإمام أحمد بمعناه . وذكر ابن عدي أنه تفرد به عبد الواحد هذا عن عروة ، وعبد الواحد هذا قال فيه البخاري : منكر الحديث ، ولكن خرجه الطبراني : حدثنا هارون بن كامل ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا إبراهيم بن سويد المدني ، حدثني أبو حرزة يعقوب بن مجاهد ، أخبرني عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وهذا إسناده جيد ، ورجاله كلهم ثقات مخرج لهم في " الصحيح " سوى شيخ الطبراني ، فإنه لا يحضرني الآن معرفة حاله ، ولعل الرواي قال : حدثنا أبو حمزة ، يعني عبد الواحد بن ميمون ، فخيل للسامع أنه قال : أبو حرزة ، ثم سماه [ ص: 332 ] من عنده بناء على وهمه والله أعلم . وخرج الطبراني وغيره من رواية عثمان بن أبي عاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله عز وجل : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، ابن آدم ، إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك ، ولا يزال عبدي يتحبب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فأكون قلبه الذي يعقل به ، ولسانه الذي ينطق به ، وبصره الذي يبصر به ، فإذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته ، وإذا استنصرني نصرته ، وأحب عبادة عبدي إلي النصيحة . عثمان وعلي بن يزيد ضعيفان . قال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث : هو منكر جدا . وقد روي من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف ، خرجه الإسماعيلي في " مسند علي " . وروي من حديث ابن عباس بسند ضعيف ، وخرجه الطبراني ، وفيه زيادة في لفظه ، ورويناه من وجه آخر عن ابن عباس وهو ضعيف أيضا . وخرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني ، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي ، عن هشام الكناني ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل ، عن ربه تعالى قال : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وما [ ص: 333 ] ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابا من العبادة ، فأكفه عنه لا يدخله عجب ، فيفسده ذلك ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتنفل إلي حتى أحبه ، ومن أحببته ، كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ، دعاني فأجبته ، وسألني فأعطيته ، ونصح لي فنصحت له ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، وإن بسطت له أفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته ، لأفسده ذلك ، إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني عليم خبير . والخشني وصدقة ضعيفان ، وهشام لا يعرف ، وسئل ابن معين عن هشام هذا : من هو ؟ قال : لا أحد ، يعني : لا يعتبر به . وقد خرج البزار بعض الحديث من طريق صدقة عن عبد الكريم الجزري ، عن أنس . وخرج الطبراني من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة ، عن زر بن حبيش ، سمعت حذيفة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى أوحى إلي : يا أخا المرسلين ، ويا أخا المنذرين أنذر قومك لا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة ، فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها ، فأكون سمعه الذي يسمع به ، وأكون بصره الذي يبصر به ، ويكون من أوليائي وأصفيائي ، ويكون جاري من النبيين والصديقين والشهداء في الجنة . وهذا إسناد جيد وهو غريب جدا . [ ص: 334 ] ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري ، وقد قيل : إنه أشرف حديث روي في ذكر الأولياء . قوله عز وجل : من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب يعني : فقد أعلمته بأني محارب له ، حيث كان محاربا لي بمعاداة أوليائي ، ولهذا جاء في حديث عائشة : فقد استحل محاربتي وفي حديث أبي أمامة وغيره : فقد بارزني بالمحاربة ، وخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذ بن جبل ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : إن يسير الرياء شرك ، وإن من عادى لله وليا ، فقد بارز الله بالمحاربة ، وإن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يدعوا ، ولم يعرفوا ، [ قلوبهم ] مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة . فأولياء الله تجب موالاتهم ، وتحرم معاداتهم ، كما أن أعداءه تجب معاداتهم ، وتحرم موالاتهم ، قال تعالى : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ الممتحنة : 1 ] ، وقال : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون [ المائدة : 55 - 56 ] ، ووصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه بأنهم أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ، وروى الإمام أحمد في كتاب " الزهد " بإسناده عن وهب بن منبه ، قال : إن الله تعالى قال لموسى عليه [ ص: 335 ] السلام حين كلمه : اعلم أن من أهان لي وليا أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني وعرض نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ؟ أو يظن الذي يعازني أن يعجزني ؟ أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، فلا أكل نصرتهم إلى غيري " .

[ص: 361 ] الحديث التاسع والثلاثون :

عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه . حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه ابن حبان في " صحيحه " والدارقطني ، وعندهما : عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر ، ورواته كلهم محتج بهم في " الصحيحين " وقد خرجه الحاكم ، وقال : صحيح على شرطهما . كذا قال ، ولكن له علة ، وقد أنكره الإمام أحمد جدا ، وقال : ليس يروى فيه إلا عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا . وقيل لأحمد : إن الوليد بن مسلم روى عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله ، فأنكره أيضا . [ ص: 362 ] وذكر لأبي حاتم الرازي حديث الأوزاعي ، وحديث مالك ، وقيل له : إن الوليد روى أيضا عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فقال أبو حاتم : هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة ، وقال : لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء ، وإنما سمعه من رجل لم يسمه ، أتوهم أنه عبد الله بن عامر ، أو إسماعيل بن مسلم ، قال : ولا يصح هذا الحديث ، ولا يثبت إسناده . قلت : وقد روي عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير مرسلا من غير ذكر ابن عباس ، وروى يحيى بن سليم ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : بلغني أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني ، وهذا المرسل أشبه . وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا رواه مسلم بن خالد الزنجي عن سعيد العلاف ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني . وسعيد العلاف : هو سعيد بن أبي صالح ، قال أحمد : هو مكي ، قيل له : كيف حاله ؟ قال : لا أدري وما علمت أحدا روى عنه غير مسلم بن خالد ، قال أحمد : وليس هذا مرفوعا ، إنما هو عن ابن عباس قوله . نقل ذلك عنه مهنا ، ومسلم بن خالد ضعفوه . [ ص: 363 ] وروي من وجه ثالث من رواية بقية بن الوليد ، عن علي الهمداني ، عن أبي جمرة عن ابن عباس مرفوعا ، خرجه حرب ، ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تساوي شيئا . وروي من وجه رابع خرجه ابن عدي من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبد الرحيم هذا ضعيف . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر ، وقد تقدم أن الوليد بن مسلم رواه عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، وصححه الحاكم وغربه ، وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك ، كما أنكره الإمام أحمد وأبو حاتم ، وكانا يقولان عن الوليد : إنه كثير الخطأ . ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود ، قال روى الوليد بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل ، منها عن نافع أربعة . قلت : والظاهر أن منها هذا الحديث ، والله أعلم . وخرجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعت أبا الأشعث يحدث عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي عن ثلاثة : عن الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه . ويزيد بن ربيعة ضعيف جدا . [ ص: 364 ] وخرج ابن أبي حاتم من رواية أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان والاستكراه قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] . وأبو بكر الهذلي متروك الحديث . وخرجه ابن ماجه ، ولكن عنده عن شهر ، عن أبي ذر الغفاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولم يذكر كلام الحسن . وأما الحديث المرسل عن الحسن ، فرواه عنه هشام بن حسان ، ورواه منصور ، وعوف عن الحسن من قوله ، لم يرفعه ، ورواه جعفر بن جسر بن فرقد ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعا ، وجعفر وأبوه ضعيفان . [ ص: 365 ] قال محمد بن نصر المروزي : ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به حكاه البيهقي . وفي " صحيح مسلم " عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال الله : قد فعلت . وعن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنها لما نزلت ، قال : نعم ، وليس واحد منهما مصرحا برفعه . وخرج الدارقطني من رواية ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، وما أكرهوا عليه ، إلا أن يتكلموا به أو يعملوا ، وهو لفظ غريب . وقد خرجه النسائي ولم يذكر الإكراه . وكذا رواه ابن عيينة عن مسعر ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزاد فيه : وما استكرهوا عليه خرجه ابن ماجه . وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عيينة ، ولم يتابعه عليها أحد . والحديث مخرج من رواية قتادة في " الصحيحين " والسنن والمسانيد بدونها . [ ص: 366 ] ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع ، فقوله : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان إلى آخره تقديره : إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ ، أو ترك ذلك عنهم ، فإن " تجاوز " لا يتعدى بنفسه . وقوله : الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه . فأما الخطأ والنسيان ، فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما ، قال الله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] ، وقال : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] . وفي " الصحيحين " عن عمرو بن العاص سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا حكم الحاكم ، فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ ، فله أجر . وقال الحسن : لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين - يعني داود وسليمان - لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعمله ، وعذر هذا باجتهاده : يعني قوله : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] الآية . وأما الإكراه فصرح القرآن أيضا بالتجاوز عنه ، قال تعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] ، وقال تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة [ آل عمران : 28 ] الآية .

[ص: 376 ] الحديث الأربعون :

. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ، فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل . وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت ، فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري عن علي بن المديني ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، حدثنا الأعمش ، حدثني مجاهد ، عن ابن عمر ، فذكره ، وقد تكلم غير واحد من الحفاظ في لفظة : " حدثنا مجاهد " وقالوا : هي غير ثابتة ، وأنكروها على ابن المديني وقالوا : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من مجاهد ، إنما سمعه من ليث بن أبي سليم عنه ، وقد ذكره العقيلي وغيره ، وخرجه الترمذي من حديث ليث عن مجاهد ، وزاد فيه : وعد نفسك من أهل القبور ، وزاد في كلام ابن عمر : فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا . وخرجه ابن ماجه ولم يذكر قول ابن عمر . وخرج الإمام أحمد والنسائي من [ ص: 377 ] حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة ، عن ابن عمر قال : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي ، وقال : اعبد الله كأنك تراه ، وكن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل . وعبدة بن أبي لبابة أدرك ابن عمر ، واختلف في سماعه منه . وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا ، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا ، فيطمئن فيها ، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر : يهيئ جهازه للرحيل . وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال : يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 39 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها . ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنه قال لهم : اعبروها ولا تعمروها ، وروي عنه أنه قال : من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنيا ، فلا تتخذوها قرارا . ودخل رجل على أبي ذر ، فجعل يقلب بصره في بيته ، فقال : يا أبا ذر ، أين متاعكم ؟ قال : إن لنا بيتا نوجه إليه ، قال : إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا ، قال : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه . [ ص: 378 ] ودخلوا على بعض الصالحين ، فقلبوا بصرهم في بيته ، فقالوا له : إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل ، فقال : أمرتحل ؟ لا أرتحل ولكن أطرد طردا . وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ، ولكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل . قال بعض الحكماء : عجبت ممن الدنيا مولية عنه ، والآخرة مقبلة إليه يشغل بالمدبرة ، ويعرض عن المقبلة . وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : إن الدنيا ليست بدار قراركم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب الله على أهلها منها الظعن ، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب ، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى . وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطنا ، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين : إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة ، همه التزود للرجوع إلى وطنه ، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة ، بل هو ليله ونهاره ، يسير إلى بلد الإقامة ، فلهذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين . فأحدهما : أن يترك المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة ، لكن في بلد غربة ، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة ، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه ، وإنما هو مقيم في الدنيا ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه ، قال الفضيل بن عياض : المؤمن في الدنيا مهموم حزين ، همه مرمة جهازه . ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى [ ص: 379 ] وطنه ، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم ، ولا يجزع من الذل عندهم ، قال الحسن : المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزها ، له شأن ، وللناس شأن . لما خلق آدم عليه السلام أسكن هو وزوجته الجنة ، ثم أهبطا منها ووعدا بالرجوع إليها ، وصالح ذريتهما ، فالمؤمن أبدا يحن إلى وطنه الأول ، وحب الوطن من الإيمان ، كما قيل : كم منزل للمرء يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل ولبعض شيوخنا : فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم كان عطاء السليمي يقول في دعائه : اللهم ارحم في الدنيا غربتي ، وارحم في القبر وحشتي ، وارحم موقفي غدا بين يديك . قال الحسن : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إنما مثلي ومثلكم [ ص: 380 ] ومثل الدنيا ، كقوم سلكوا مفازة غبراء ، حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر ، أو ما بقي ، أنفدوا الزاد ، وحسروا الظهر ، وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة ، فأيقنوا بالهلكة ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء ، فقالوا : إن هذا قريب عهد بريف ، وما جاءكم هذا إلا من قريب ، فلما انتهى إليهم ، قال : علام أنتم ؟ قالوا : على ما ترى ، قال : أرأيتكم إن هديتكم على ماء رواء ، ورياض خضر ، ما تعملون ؟ قالوا : لا نعصيك شيئا ، قال : أعطوني عهودكم ومواثيقكم بالله ، قال فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئا ، قال : فأوردهم ماء ، ورياضا خضرا ، فمكث فيهم ما شاء الله ، ثم قال : يا هؤلاء الرحيل ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى ماء ليس كمائكم ، وإلى رياض ليست كرياضكم ، فقال جل القوم - وهم أكثرهم - : والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده ، وما نصنع بعيش خير من هذا ؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم - : ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئا وقد صدقكم في أول حديثه ، فوالله ليصدقنكم في آخره ، قال : فراح فيمن اتبعه ، وتخلف بقيتهم ، فنزل بهم عدو ، فأصبحوا بين أسير وقتيل خرجه ابن أبي الدنيا ، وخرجه الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه مختصرا . [ ص: 381 ] فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته ، فإنه أتاهم والعرب إذ ذاك أذل الناس ، وأقلهم ، وأسوؤهم عيشا في الدنيا وحالا في الآخرة ، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة ، وظهر لهم من براهين صدقه ، كما ظهر من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة ، وقد نفد ماؤهم ، وهلك ظهرهم ، برؤيته في حلة مترجلا يقطر رأسه ماء ، ودلهم على الماء والرياض المعشبة ، فاستدلوا بهيئته وحاله على صدق مقاله ، فاتبعوه ، ووعد من اتبعه بفتح بلاد فارس والروم ، وأخذ كنوزهما وحذرهم من الاغترار بذلك ، والوقوف معه ، وأمرهم بالتجزي من الدنيا بالبلاغ ، وبالجد والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها ، فوجدوا ما وعدهم به كله حقا ، فلما فتحت عليهم الدنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثر الناس بجمعها واكتنازها ، والمنافسة فيها ، ورضوا بالإقامة فيها ، والتمتع بشهواتها ، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجد والاجتهاد في طلبها ، وقبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب الآخرة والاستعداد لها . فهذه الطائفة القليلة نجت ، ولحقت نبيها في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدنيا ، وقبلت وصيته ، وامتثلت ما أمر به . وأما أكثر الناس ، فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها ، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتى فاجأهم الموت بغتة على هذه الغرة ، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير . وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي : الدنيا خمر الشيطان ، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادما مع الخاسرين . الحال الثاني : أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم ألبتة ، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره ، وهو الموت . ومن كانت هذه حاله في الدنيا ، فهمته تحصيل الزاد للسفر ، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا ، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه [ ص: 382 ] أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب . قيل لمحمد بن واسع : كيف أصبحت ؟ قال : ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة ؟ . وقال الحسن : إنما أنت أيام مجموعة ، كلما مضى يوم مضى بعضك . وقال : ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك ، يوضعك النهار إلى الليل ، والليل إلى النهار ، حتى يسلمانك إلى الآخرة ، فمن أعظم منك يابن آدم خطرا ، وقال : الموت معقود في نواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم . قال داود الطائي : إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها ، فافعل ، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزود لسفرك ، واقض ما أنت قاض من أمرك ، فكأنك بالأمر قد بغتك . وكتب بعض السلف إلى أخ له : يا أخي يخيل لك أنك مقيم ، بل أنت دائب السير ، تساق مع ذلك سوقا حثيثا ، الموت موجه إليك ، والدنيا تطوى من ورائك ، وما مضى من عمرك ، فليس بكار عليك يوم التغابن . سبيلك في الدنيا سبيل مسافر ولا بد من زاد لكل مسافر ولا بد للإنسان من حمل عدة ولا سيما إن خاف صولة قاهر قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره ، وشهره يهدم [ ص: 383 ] سنته ، وسنته تهدم عمره ، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله ، وتقوده حياته إلى موته . وقال الفضيل بن عياض لرجل : كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة ، قال : فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ ، فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال الفضيل : أتعرف تفسيره تقول : أنا لله عبد وإليه راجع ، فمن علم أنه لله عبد ، وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوف ، ومن علم أنه موقوف ، فليعلم أنه مسئول ، ومن علم أنه مسئول ، فليعد للسؤال جوابا ، فقال الرجل : فما الحيلة ؟ قال يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى ، فإنك إن أسأت فيما بقي ، أخذت بما مضى وبما بقي ، وفي هذا المعنى يقول بعضهم : وإن امرأ قد سار ستين حجة إلى منهل من ورده لقريب قال بعض الحكماء : من كانت الليالي والأيام مطاياه ، سارت به وإن لم يسر ، وفي هذا قال بعضهم : وما هذه الأيام إلا مراحل يحث بها داع إلى الموت قاصد وأعجب شيء - لو تأملت - أنها منازل تطوى والمسافر قاعد وقال آخر : أيا ويح نفسي من نهار يقودها إلى عسكر الموتى وليل يذودها قال الحسن : لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار ، وتقريب الآجال ، هيهات قد صحبا نوحا وعادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا ، فأصبحوا أقدموا على ربهم ، ووردوا على أعمالهم ، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين ، لم يبلهما ما مرا به ، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى . [ ص: 384 ] وكتب الأوزاعي إلى أخ له : أما بعد ، فقد أحيط بك من كل جانب ، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة ، فاحذر الله والمقام بين يديه ، وأن يكون آخر عهدك به ، والسلام . نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل ولم أر مثل الموت حقا كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شامل ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل وأما وصية ابن عمر رضي الله عنهما ، فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه ، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل ، وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح ، وإذا أصبح لم ينتظر المساء ، بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك ، وبهذا فسر غير واحد من العلماء الزهد في الدنيا ، قال المروزي : قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد - أي شيء الزهد في الدنيا ؟ قال : قصر الأمل ، من إذا أصبح قال : لا أمسي ، قال : وهكذا قال سفيان . قيل لأبي عبد الله : بأي شيء نستعين على قصر الأمل ؟ قال : ما ندري إنما هو توفيق . قال الحسن : اجتمع ثلاثة من العلماء ، فقالوا لأحدهم : ما أملك ؟ قال : ما أتى علي شهر إلا ظننت أني سأموت فيه ، قال : فقال صاحباه : إن هذا لأمل ، فقالا لأحدهم : فما أملك ؟ قال : ما أتت علي جمعة إلا ظننت أني سأموت فيها ، قال : فقال صاحباه : إن هذا لأمل ، فقالا للآخر : فما أملك ؟ قال : ما أمل من نفسه في يد غيره ؟ . قال داود الطائي : سألت عطوان بن عمر التيمي ، قلت : ما قصر الأمل ؟ [ ص: 385 ] قال : ما بين تردد النفس ، فحدث بذلك الفضيل بن عياض ، فبكى ، وقال : يقول : يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه ، لقد كان عطوان من الموت على حذر . وقال بعض السلف : ما نمت نوما قط ، فحدثت نفسي أني أستيقظ منه . وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحوه ، وكان يبكي كلما أصبح أو أمسى ، فسئلت امرأته عن بكائه ، فقالت : يخاف - والله - إذا أمسى أن يصبح ، وإذا أصبح أن يمسي . وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله : أستودعكم الله ، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبه إذا أراد النوم . وقال بكر المزني : إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب ، فليفعل ، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا ، ويصبح في أهل الآخرة . وكان أويس إذا قيل له : كيف الزمان عليك ؟ قال : كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح ، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي فيبشر بالجنة أو النار ؟ . وقال عون بن عبد الله : ما أنزل الموت كنه منزلته من عد غدا من أجله ، كم من مستقبل يوما يستكمله ، وكم من مؤمل لغد لا يدركه ، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره ، لبغضتم الأمل وغروره ، وكان يقول : إن من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره . [ ص: 386 ] وكانت امرأة متعبدة بمكة إذا أمست قالت : يا نفس ، الليلة ليلتك ، لا ليلة لك غيرها ، فاجتهدت ، فإذا أصبحت ، قالت : يا نفس اليوم يومك ، لا يوم لك غيره ، فاجتهدت . وقال بكر المزني : إذا أردت أن تنفعك صلاتك فقل : لعلي لا أصلي غيرها ، وهذا مأخوذ مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صل صلاة مودع . وأقام معروف الكرخي الصلاة ، ثم قال لرجل : تقدم فصل بنا ، فقال الرجل : إني إن صليت بكم هذه الصلاة ، لم أصل بكم غيرها ، فقال معروف : وأنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى ؟ نعوذ بالله من طول الأمل ، فإنه يمنع خير العمل . وطرق بعضهم باب أخ له ، فسأل عنه ، فقيل له : ليس هو في البيت ، فقال : متى يرجع ؟ فقالت له جارية من البيت : من كانت نفسه في يد غيره ، من يعلم متى يرجع ، ولأبي العتاهية من جملة أبيات : وما أدري وإن أملت عمرا لعلي حين أصبح لست أمسي ألم تر أن كل صباح يوم وعمرك فيه أقصر منه أمس [ ص: 387 ] وهذا البيت الثاني أخذه مما روي عن أبي الدرداء والحسن أنهما قالا : ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ، ومما أنشد بعض السلف : إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا فإنما الربح والخسران في العمل

[ص: 393 ] الحديث الحادي والأربعون .:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به الحاشية رقم: 1 قال الشيخ رحمه الله : حديث حسن صحيح ، رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح ! . يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق ، وكتابه هذا هو كتاب " الحجة على تارك المحجة " يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة . وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب " الأربعين " وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه ، وخرجته الأئمة في مسانيدهم ، ثم خرجه عن الطبراني : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن حاتم المرادي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عقبة بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ولا يزيغ عنه . ورواه الحافظ أبو بكر بن عاصم الأصبهاني [ ص: 394 ] عن ابن واره ، عن نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره عن ابن سيرين ، فذكره . وليس عنده لا يزيغ عنه ، قال الحافظ أبو موسى المديني : هذا الحديث مختلف فيه على نعيم ، وقيل فيه : حدثنا بعض مشيختنا ، حدثنا هشام أو غيره . قلت : تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه ، منها : أنه حديث يتفرد به نعيم بن حماد المروزي ، ونعيم هذا وإن كان وثقه جماعة من الأئمة ، وخرج له البخاري ، فإن أئمة الحديث كانوا يحسنون به الظن ، لصلابته في السنة ، وتشدده في الرد على أهل الأهواء ، وكانوا ينسبونه إلى أنه يهم ، ويشبه عليه في بعض الأحاديث ، فلما كثر عثورهم على مناكيره ، حكموا عليه بالضعف ، فروى صالح بن محمد الحافظ عن ابن معين أنه سئل عنه فقال : ليس بشيء ولكنه صاحب سنة ، قال صالح : وكان يحدث من حفظه ، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها . وقال أبو داود : عند نعيم نحو عشرين حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل ، وقال النسائي : ضعيف . وقال مرة : ليس ثقة . وقال مرة : قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين في أحاديث كثيرة ، فصار في حد من لا يحتج به . وقال أبو زرعة الدمشقي : يصل أحاديث يوقفها الناس ، يعني أنه يرفع الموقوفات ، وقال أبو عروبة الحراني : هو مظلم الأمر ، وقال أبو سعيد بن يونس : روى أحاديث مناكير عن الثقات ، ونسبه آخرون إلى أنه كان يضع الحديث ، وأين كان أصحاب عبد الوهاب الثقفي ، وأصحاب هشام بن حسان ، وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى ينفرد به نعيم ؟ . ومنها : أنه قد اختلف على نعيم في إسناده ، فروي عنه ، عن الثقفي ، عن هشام ، وروي عنه عن الثقفي ، حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره ، وعلى هذه الرواية ، يكون الشيخ الثقفي غير معروف عينه ، وروي عنه ، عن الثقفي ، حدثنا [ ص: 395 ] بعض مشيختنا ، حدثنا هشام أو غيره ، فعلى هذه الرواية ، فالثقفي رواه عن شيخ مجهول ، وشيخه رواه عن غير معين ، فتزداد الجهالة في إسناده . ومنها : أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري ، ويقال فيه : يعقوب بن أوس أيضا ، وقد خرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه حديثا عن عبد الله بن عمرو ، ويقال : عبد الله بن عمر ، وقد اضطرب في إسناده ، وقد وثقه العجلي ، وابن سعد ، وابن حبان ، وقال ابن خزيمة : روى عنه ابن سيرين مع جلالته ، وقال ابن عبد البر : هو مجهول . وقال الغلابي في " تاريخه " : يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمرو ، وإنما يقول : قال عبد الله بن عمرو ، فعلى هذا تكون رواياته عن عبد الله بن عمرو منقطعة والله أعلم . وأما معنى الحديث ، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها ، فيحب ما أمر به ، ويكره ما نهى عنه . وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع . قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] . وقال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب : 36 ] . وذم سبحانه من كره ما أحبه الله ، أو أحب ما كرهه الله ، قال : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ محمد : 9 ] ، وقال تعالى : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ محمد : 28 ] . فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه ، فإن زادت المحبة ، حتى أتى بما ندب إليه منه ، كان ذلك [ ص: 396 ] فضلا ، وأن يكره ما كرهه الله تعالى كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه ، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها ، كان ذلك فضلا . وقد ثبت في " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله . والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات ، قال عز وجل : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [ التوبة : 24 ] . وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [ آل عمران : 31 ] قال الحسن : قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إنا نحب ربنا حبا شديدا ، فأحب الله أن يجعل لحبه علما ، فأنزل الله هذه الآية . وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار . فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه ، أوجب له ذلك أن يحب بقلبه [ ص: 397 ] ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى ما يرضى الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك ، فإن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله ، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله ، مع وجوبه والقدرة عليه ، دل ذلك على نقص محبته الواجبة ، فعليه أن يتوب من ذلك ، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة . قال أبو يعقوب النهرجوري : كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره ، فدعواه باطلة ، وكل محب ليس يخاف الله ، فهو مغرور . وقال يحيى بن معاذ : ليس بصادق من ادعى محبة الله عز وجل ولم يحفظ حدوده . وسئل رويم عن المحبة ، فقال الموافقة : في جميع الأحوال ، وأنشد : ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا ولبعض المتقدمين : تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه ، وقال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله [ القصص : 50 ] .

[ص: 400 ] الحديث الثاني والأربعون .:

عن أنس بن مالك رضي عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى : يابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني ، غفرت لك ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة . رواه الترمذي وقال : حديث حسن . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد به الترمذي خرجه من طريق كثير بن فائد ، حدثنا سعيد بن عبيد ، سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول : حدثنا أنس ، فذكره ، وقال : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه . انتهى . وإسناده لا بأس به ، وسعيد بن عبيد هو الهنائي ، قال أبو حاتم : شيخ . وذكره ابن حبان في " الثقات " ، ومن زعم أنه غير الهنائي ، فقد وهم ، وقال الدارقطني : تفرد به كثير بن فائد ، عن سعيد مرفوعا ، ورواه سلم بن قتيبة ، عن سعيد بن عبيد ، فوقفه على أنس . قلت : قد روي عنه مرفوعا وموقوفا ، وتابعه على رفعه أبو سعيد أيضا مولى بني هاشم ، فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا أيضا ، وقد روي أيضا من حديث ثابت ، عن أنس مرفوعا ، ولكن قال أبو حاتم : هو منكر . وقد روي أيضا من حديث أبي ذر خرجه الإمام أحمد من رواية شهر بن [ ص: 401 ] حوشب ، عن معديكرب ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل فذكره بمعناه ، ورواه بعضهم عن شهر ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي ذر وقيل : عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يصح هذا القول . وروي من حديث ابن عباس خرجه الطبراني من رواية قيس بن الربيع ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي بعضه من وجوه أخر ، فخرج مسلم في " صحيحه " من حديث المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله تعالى : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا ، تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة . وخرج الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي ، قال : دخلت على أنس [ ص: 402 ] فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والذي نفسي بيده ، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله ، لغفر لكم . فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة : أحدها : الدعاء مع الرجاء ، فإن الدعاء مأمور به ، وموعود عليه بالإجابة ، كما قال تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [ غافر : 60 ] . وفي " السنن الأربعة " عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الدعاء هو العبادة ثم تلا هذه الآية . وفي حديث آخر خرجه الطبراني مرفوعا : من أعطي الدعاء ، أعطي الإجابة ، لأن الله تعالى يقول : ادعوني أستجب لكم . وفي حديث آخر : ما كان الله ليفتح على عبد باب الدعاء ، ويغلق عنه باب الإجابة . لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه ، وانتفاء موانعه ، وقد تتخلف إجابته ، لانتفاء بعض شروطه ، أو وجود بعض موانعه ، وقد سبق ذكر [ ص: 403 ] بعض شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر . ومن أعظم شرائطه : حضور القلب ، ورجاء الإجابة من الله تعالى ، كما خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه . وفي " المسند " عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن هذه القلوب أوعية ، فبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء من ظهر قلب غافل . ولهذا نهي العبد أن يقول في دعائه : اللهم اغفر لي إن شئت ، ولكن ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له . ونهي أن يستعجل ، ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة ، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه ولو طالت المدة ، فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء . وجاء في الآثار : إن العبد إذا دعا ربه وهو يحبه ، قال : يا جبريل ، لا تعجل بقضاء حاجة عبدي ، فإني أحب أن أسمع صوته ، وقال تعالى : وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين [ الأعراف : 56 ] . [ ص: 404 ] فما دام العبد يلح في الدعاء ، ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء ، فهو قريب من الإجابة ، ومن أدمن قرع الباب ، يوشك أن يفتح له . وفي " صحيح الحاكم " عن أنس مرفوعا : لا تعجزوا عن الدعاء ، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد .

[ص: 419 ] الحديث الثالث والأربعون .:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر . خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث الذي زعم بعض شراح هذه الأربعين أن الشيخ رحمه الله أغفله ، فإنه مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها ، وهذا الحديث خرجاه من رواية وهيب ، وروح بن القاسم ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس وخرجه مسلم من رواية معمر ، ويحيى بن أيوب ، عن ابن طاوس أيضا . وقد رواه الثوري ، وابن عيينة وابن جريج وغيرهم ، عن ابن طاوس عن أبيه مرسلا من غير ذكر ابن عباس ، ورجح النسائي إرساله . وقد اختلف العلماء في معنى قوله : ألحقوا الفرائض بأهلها : فقالت طائفة : المراد بالفرائض الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ، والمراد : أعطوا الفرائض المقدرة لمن سماها الله لهم ، فما بقي بعد هذه الفروض ، فيستحقه أولى الرجال ، والمراد بالأولى الأقرب ، كما يقال : هذا [ ص: 420 ] يلي هذا ، أي يقرب منه ، فأقرب الرجال هو أقرب العصبات ، فيستحق الباقي بالتعصيب ، وبهذا المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة ، منهم الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، نقله عنهما إسحاق بن منصور ، وعلى هذا ، فإذا اجتمع بنت وأخت وعم وابن عم أو ابن أخ ، فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة ، وهذا قول ابن عباس ، وكان يتمسك بهذا الحديث ، ويقر بأن الناس كلهم على خلافه ، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضا . وقال إسحاق : إذا كان مع البنت والأخت عصبة ، فالعصبة أولى ، وإن لم يكن معها أحد ، فالأخت لها الباقي ، وحكي عن ابن مسعود أنه قال : البنت عصبة من لا عصبة له ، ورد بعضهم هذا ، وقال : لا يصح عن ابن مسعود . وكان ابن الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس ، ثم رجعا عنه . وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخت مع البنت عصبة لها ما فضل ، منهم عمر ، وعلي ، وعائشة ، وزيد ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وتابعهم سائر العلماء . وروى عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج : سألت ابن طاوس عن ابنة وأخت ، فقال : كان أبي يذكر عن ابن عباس ، عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئا ، وكان طاوس لا يرضى بذلك الرجل ، قال : وكان أبي يشك فيها ، ولا يقول فيها شيئا ، وقد كان يسأل عنها . والظاهر - والله أعلم - أن مراد طاوس هو هذا الحديث ، فإن ابن عباس لم يكن عنده نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ميراث الأخت مع البنت ، إنما كان يتمسك بمثل عموم هذا الحديث . وما ذكره طاوس أن ابن عباس رواه عن رجل وأنه لا يرضاه ، فابن عباس أكثر رواياته للحديث عن الصحابة ، والصحابة كلهم عدول قد رضي الله عنهم ، [ ص: 421 ] وأثنى عليهم ، فلا عبرة بعد ذلك بعدم رضا طاوس . وفي " صحيح " البخاري عن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل ، قال : جاء رجل إلى أبي موسى ، فسأله عن ابنة وابنة ابن ، وأخت لأب وأم ، فقال : للابنة النصف ، وللأخت ما بقي وائت ابن مسعود فسيتابعني ، فأتى ابن مسعود ، فذكر ذلك له ، فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي ، فللأخت ، قال : فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . وفيه أيضا عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد ، قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للابنة ، والنصف للأخت ، ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يذكره . وخرجه أبو داود من وجه آخر عن الأسود ، وزاد فيه : ونبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حي . واستدل ابن عباس لقوله بقول الله عز وجل : قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك [ النساء : 176 ] وكان يقول : أأنتم أعلم أم الله ؟ يعني أن الله لم يجعل لها النصف إلا مع عدم الولد ، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت . والصواب قول عمر والجمهور ، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك ؛ لأن المراد بقوله : فلها نصف ما ترك بالفرض ، وهذا مشروط بعدم الولد [ ص: 422 ] بالكلية ، ولهذا قال بعده : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك [ النساء : 176 ] يعني بالفرض ، والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى ، فكذلك الأختان فصاعدا إنما يستحقون الثلثين مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى ، فإن كان هناك ولد ، فإن كان ذكرا ، فهو مقدم على الإخوة مطلقا ذكورهم وإناثهم ، وإن لم يكن هناك ولد ذكر ، بل أنثى فالباقي بعد فرضها يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق ، فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها ؛ فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات كالعم وابنه ؟ وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطا لها ، فيتعين تقديمها عليه ، لامتناع مشاركته لها ، فمفهوم الآية أن الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض ، وهذا حق ليس مفهوما أن الأخت تسقط بالبنت ، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها ، يدل عليه قوله تعالى : وهو يرثها إن لم يكن لها ولد [ النساء : 176 ] ، وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثى لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات ، وإنما وجود الولد الأنثى يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته كله ، فكما أن الولد إن كان ذكرا ، منع الأخ من الميراث ، وإن كان أنثى ، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها ، وإن منعه حيازة الميراث ، فكذلك الولد إن كان ذكرا منع الأخت الميراث بالكلية ، وإن كان أنثى منعت الأخت أن يفرض لها النصف ، ولم يمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها والله أعلم .

[ص: 438 ] الحديث الرابع والأربعون .:

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية عمرة عن عائشة ، وخرج مسلم أيضا من رواية عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، وخرجاه أيضا من رواية عروة عن عائشة من قولها ، وخرجاه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه الترمذي من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة ، وأن الرضاع يحرم ما يحرمه النسب ، ولنذكر المحرمات من النسب كلهن حتى يعلم بذلك ما يحرم من الرضاع ، فنقول : الولادة والنسب قد يؤثران التحريم في النكاح ، وهو على قسمين : أحدهما : تحريم مؤبد على الانفراد ، وهو نوعان [ ص: 439 ] أحدهما : ما يحرم بمجرد النسب ، فيحرم على الرجل أصوله وإن علون ، وفروعه وإن سفلن ، وفروع أصله الأدنى وإن سفلن ، فروع أصوله البعيدة دون فروعهن ، فيدخل في أصوله أمهاته وإن علون من جهة أبيه وأمه ، وفي فروعه بناته وبنات أولاده وإن سفلن ، وفي فروع أصله الأدنى أخواته من الأبوين ، أو من أحدهما ، وبناتهن وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلن ، ودخل في فروع أصوله البعيدة العمات والخالات وعمات الأبوين وخالاتهما وإن علون ، فلم يبق من الأقارب حلالا للرجل سوى فروع أصوله البعيدة ، وهن بنات العم وبنات العمات ، وبنات الخال ، وبنات الخالات . والنوع الثاني : ما يحرم من النسب مع سبب آخر ، وهو المصاهرة ؛ فيحرم على الرجل حلائل آبائه ، وحلائل أبنائه ، وأمهات نسائه ، وبنات نسائه المدخول بهن ؛ فيحرم على الرجل أم امرأته وأمهاتها من جهة الأم والأب وإن علون ، ويحرم عليه بنات امرأته ، وهن الربائب وبناتهن وإن سفلن ، وكذلك بنات بني زوجته وهن بنات الربائب نص عليه الشافعي وأحمد ، ولا يعلم فيه خلاف . ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه ، وإن علا وبامرأة ابنه وإن سفل ، ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهر ، لأن تحريمهن من جهة نسب الرجل مع سبب المصاهرة . وأما أمهات نسائه وبناتهن ، فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسب المرأة ، فلم يخرج التحريم بذلك عن أن يكون بالنسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة ، فإن التحريم بالسبب المجرد ، والنسب المضاف إلى المصاهرة يشترك فيه الرجال والنساء ؛ فيحرم على المرأة أن تتزوج أصولها وإن علوا ، وفروعها وإن سفلوا ، وفروع أصولها الأدنى وإن سفلوا من إخوتها ، وأولاد الإخوة وإن سفلوا ، وفروع أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم ، فهذا كله بالنسب المجرد . [ ص: 440 ] وأما بالنسب المضاف إلى المصاهرة ، فيحرم عليها نكاح أبي زوجها وإن علا ، ونكاح ابنه وإن سفل بمجرد العقد ، ويحرم عليها زوج ابنتها وإن سفلت بالعقد ، وزوج أمها وإن علت ، لكن بشرط الدخول بها .

ص: 445 ] الحديث الخامس والأربعون .:

عن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ؟ قال : لا ، هو حرام ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : قاتل الله اليهود ، إن الله حرم عليهم الشحوم ، فأجملوه ، ثم باعوه ، فأكلوا ثمنه خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 [ ص: 446 ] هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر . وفي رواية لمسلم أن يزيد قال : كتب إلي عطاء ، فذكره ، ولهذا قال أبو حاتم الرازي : لا أعلم يزيد بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئا ، يعني أنه إنما يروي عنه كتابه ، وقد رواه أيضا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد بن عبدة ، عن عبد الله بن عمر وعن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وفي " الصحيحين " عن ابن عباس قال : بلغ عمر أن رجلا باع خمرا ، فقال : قاتله الله ، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم ، فجملوها فباعوها ، وفي رواية : وأكلوا أثمانها . وخرجه أبو داود من حديث عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وزاد فيه : وإن الله إذا حرم أكل شيء ، حرم عليهم ثمنه ، وخرجه ابن أبي شيبة ، ولفظه : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قاتل الله يهودا ، حرمت عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا ثمنها . وفي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : لما أنزلت الآيات من آخر سورة البقرة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاقترأهن على الناس ، ثم نهى عن التجارة في الخمر ، وفي رواية لمسلم : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا ، خرج [ ص: 447 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فحرم التجارة في الخمر . وخرج مسلم من حديث أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حرم الخمر ، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء ، فلا يشرب ولا يبع . فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة ، فسفكوها . وخرجه أيضا من حديث ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل علمت أن الله قد حرمها ؟ قال : لا ، قال : فسار إنسانا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم ساررته ؟ قال : أمرته ببيعها ، قال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، قال : ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها . فالحاصل من هذه الأحاديث كلها أن ما حرم الله الانتفاع به ، فإنه يحرم بيعه وأكل ثمنه ، كما جاء مصرحا به في الرواية المتقدمة : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ، وهذه كلمة عامة جامعة تطرد في كل ما كان المقصود من الانتفاع به حراما ، وهو قسمان : أحدهما : ما كان الانتفاع به حاصلا مع بقاء عينه ، كالأصنام ، فإن منفعتها المقصودة منها الشرك بالله ، وهو أعظم المعاصي على الإطلاق ، ويلتحق بذلك ما كانت منفعته محرمة ، ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال ، وكذلك الصور المحرمة ، وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور ، وكذلك شراء الجواري للغناء . [ ص: 448 ] وفي " المسند " عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين ، وأمرني أن أمحق المزامير والكنارات - يعني البرابط والمعازف - والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية ، وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم ، معذبا أو مغفورا له ، ولا يسقيها صبيا صغيرا إلا سقيته مكانها من حميم جهنم معذبا أو مغفورا له ، ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيتها إياه في حظيرة القدس ، ولا يحل بيعهن ولا شراؤهن ، ولا تعليمهن ، ولا تجارة فيهن ، وأثمانهن حرام [ يعني ] المغنيات . وخرجه الترمذي ، ولفظه : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ، ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام ، في مثل ذلك أنزل الله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] الآية ، وخرجه ابن ماجه أيضا ، وفي إسناد الحديث مقال ، وقد روي نحوه من حديث عمر وعلي بإسنادين فيهما ضعف أيضا . ومن يحرم الغناء كأحمد ومالك ، فإنهما يقولان : إذا بيعت الأمة المغنية ، تباع على أنها ساذجة ، ولا يؤخذ لغنائها ثمن ، ولو كانت الجارية ليتيم ، ونص ذلك أحمد ، ولا يمنع الغناء من أصل بيع العبد والأمة ؛ لأن الانتفاع به في غير الغناء حاصل بالخدمة وغيرها ، وهو من أعظم مقاصد الرقيق . نعم ، لو علم [ ص: 449 ] أن المشتري لا يشتريه إلا للمنفعة المحرمة منه ، لم يجز بيعه له عند الإمام أحمد وغيره من العلماء ، كما لا يجوز بيع العصير ممن يتخذه خمرا ، ولا بيع السلاح في الفتنة ، ولا بيع الرياحين والأقداح لمن يعلم أنه يشرب عليها الخمر ، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة . والقسم الثاني : ما ينتفع به مع إتلاف عينه فإذا كان المقصود الأعظم منه محرما ، فإنه يحرم بيعه كما يحرم بيع الخنزير والخمر والميتة ، مع أن في بعضها منافع غير محرمة ، كأكل الميتة للمضطر ، ودفع الغصة بالخمر ، وإطفاء الحريق به ، والخرز بشعر الخنزير عند قوم ، والانتفاع بشعره وجلده عند من يرى ذلك ، ولكن لما كانت هذه المنافع غير مقصودة ، لم يعبأ بها ، وحرم البيع بكون المقصود الأعظم من الخنزير والميتة أكلهما ، ومن الخمر شربها ، ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك ، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى لما قيل له : أرأيت شحوم الميتة ، فإنها يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ، فقال : لا ، هو حرام

ص: 456 ] الحديث السادس والأربعون :.

عن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ، فسأله عن أشربة تصنع بها ، فقال : وما هي ؟ قال : البتع والمزر ، فقيل لأبي بردة : وما البتع ؟ قال : نبيذ العسل ، والمزر نبيذ الشعير ، فقال : كل مسكر حرام خرجه البخاري . الحاشية رقم: 1 وخرجه مسلم ، ولفظه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله ، إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له : المزر من الشعير ، وشراب يقال له : البتع من العسل ، فقال : كل مسكر حرام . وفي رواية لمسلم : فقال : كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام ، وفي رواية له قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال : أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة . فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات ، المغطية للعقل ، وقد ذكر الله في كتابه العلة المقتضية لتحريم المسكرات ، وكان أول ما حرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة لما صلى بعض المهاجرين وقرأ في صلاته ، فخلط في قراءته ، فنزل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] ، وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 457 ] ينادي لا يقرب الصلاة سكران ، ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ المائدة : 90 - 91 ] . فذكر سبحانه علة تحريم الخمر والميسر وهو القمار ، وهو أن الشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء ، فإن من سكر اختل عقله ، فربما تسلط على أذى الناس في أنفسهم وأموالهم ، وربما بلغ إلى القتل ، وهي أم الخبائث ، فمن شربها قتل النفس وزنا ، وربما كفر . وقد روي هذا المعنى عن عثمان وغيره ، وروي مرفوعا أيضا . ومن قامر فربما قهر ، وأخذ ماله قهرا ، فلم يبق له شيء ، فيشتد حقده على من أخذ ماله . وكل ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراما ، وأخبر سبحانه أن الشيطان يصد بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة ، فإن السكران يزول عقله أو يختل ، فلا يستطيع أن يذكر الله ، ولا أن يصلي ، ولهذا قال طائفة من السلف : إن شارب الخمر تمر عليه ساعة لا يعرف فيها ربه ، والله سبحانه إنما خلق الخلق ليعرفوه ، ويذكروه ، ويعبدوه ، ويطيعوه ، فما أدى إلى الامتناع من ذلك ، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته ، كان محرما ، وهو السكر ، وهذا بخلاف النوم ، فإن الله تعالى جبل العباد عليه ، واضطرهم إليه ، ولا قوام لأبدانهم إلا به ، إذ هو راحة لهم من السعي والنصب ، فهو من [ ص: 458 ] أعظم نعم الله على عباده ، فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة ، ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه ، كان نومه عونا له على الصلاة والذكر ، ولهذا قال من قال من الصحابة : إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي . وكذلك الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فإن صاحبه يعكف بقلبه عليه ، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه ، ولهذا قال علي لما مر على قوم يلعبون بالشطرنج : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ فشبههم بالعاكفين على التماثيل . وجاء في الحديث : إن مدمن الخمر كعابد وثن ، فإنه يتعلق قلبه بها ، فلا يكاد يمكنه أن يدعها كما لا يدع عابد الوثن عبادته . وهذا كله مضاد لما خلق الله العباد لأجله من تفريغ قلوبهم لمعرفته ، ومحبته ، وخشيته ، وذكره ، ومناجاته ، ودعائه ، والابتهال إليه ، فما حال بين العبد وبين ذلك ، ولم يكن بالعبد إليه ضرورة ، بل كان ضررا محضا عليه ، كان محرما ، وقد روي عن علي أنه قال لمن رآهم يلعبون بالشطرنج : ما لهذا خلقتم . ومن هنا يعلم أن الميسر محرم ، سواء كان بعوض أو بغير عوض ، وإن الشطرنج كالنرد أو شر منه ، لأنها تشغل أصحابها عن ذكر الله وعن [ ص: 459 ] الصلاة أكثر من النرد . والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل مسكر حرام ، وكل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام . وقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرجا في " الصحيحين " عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ولفظ مسلم : وكل مسكر حرام . وخرج أيضا من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع ، فقال : كل شراب أسكر فهو حرام وفي رواية لمسلم : كل شراب مسكر حرام وقد صحح هذا الحديث أحمد ويحيى بن معين وأصحابه واحتجا به ، ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته ، وأنه أثبت شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر . وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه ، فلا يثبت ذلك عنه . وخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل [ ص: 460 ] مسكر حرام . وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار ، وهو مذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وهو مما اجتمع على القول به أهل المدينة كلهم . وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة ، وقالوا : إن الخمر إنما هي خمر العنب خاصة ، وما عداها ، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر ، ولا يحرم ما دونه ، وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم ، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورا لهم ، وفيهم خلق من أئمة العلم والدين . قال ابن المبارك : ما وجدت في النبيذ رخصة عن أحد صحيح إلا عن إبراهيم ، يعني النخعي ، وكذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصح ، وقد صنف كتاب " الأشربة " ولم يذكر فيه شيئا من الرخصة ، وصنف كتابا في المسح على الخفين ، وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره ، فقيل له : كيف لم تجعل في كتاب الأشربة الرخصة كما جعلت في المسح ؟ فقال : ليس في الرخصة في السكر حديث صحيح . ومما يدل على أن كل مسكر خمر أن تحريم الخمر إنما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عما عندهم من الأشربة ، ولم يكن بها خمر العنب ، فلو لم [ ص: 461 ] تكن آية تحريم الخمر شاملة لما عندهم ، لما كان فيها بيان لما سألوا عنه ، ولكان محل السبب خارجا من عموم الكلام ، وهو ممتنع ، ولما نزل تحريم الخمر أراقوا ما عندهم من الأشربة ، فدل على أنهم فهموا أنه من الخمر المأمور باجتنابه . وفي " صحيح البخاري " عن أنس قال : حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا ، وعامة خمرنا البسر والتمر . وعنه أنه قال : إني لأسقي أبا طلحة ، وأبا دجانة ، وسهيل بن بيضاء خليط بسر وتمر إذ حرمت الخمر ، فقذفتها ، وأنا ساقيهم وأصغرهم ، وإنا نعدها يومئذ الخمر . وفي " الصحيحين " عنه قال : ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ . وفي " صحيح مسلم " عنه قال : لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر ، وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عمر ، قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما منها شراب العنب . وفي " الصحيحين " عن الشعبي ، عن ابن عمر ، قال : قام عمر على المنبر ، فقال : أما بعد ، نزل تحريم الخمر وهي من خمس : العنب ، والتمر ، والعسل [ ص: 462 ] والحنطة ، والشعير ، والخمر : ما خامر العقل . وخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر الترمذي أن قول من قال : عن الشعبي عن ابن عمر ، عن عمر - أصح ، وكذا قال ابن المديني . وروى أبو إسحاق عن أبي بردة قال : قال عمر : ما خمرته فعتقته ، فهو خمر ، وأنى كانت لنا الخمر خمر العنب . وفي " مسند " الإمام أحمد عن المختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفتة وقال : كل مسكر حرام قلت له : صدقت السكر حرام ، فالشربة والشربتان على طعامنا ؟ قال : المسكر قليله وكثيره حرام وقال : الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة ، فما خمرت من ذلك فهو الخمر ، خرجه أحمد عن عبد الله بن إدريس : سمعت المختار بن فلفل يقول فذكره ، وهذا إسناد على شرط مسلم . وفي " صحيح مسلم " ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة ، وهذا صريح في أن نبيذ التمر خمر . وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره ، كما خرجه أبو داود ، وابن [ ص: 463 ] ماجه ، والترمذي ، وحسنه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام . وخرج أبو داود ، والترمذي ، وحسنه من حديث عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق ، فملء الكف منه حرام ، وفي رواية الحسوة منه حرام ، وقد احتج به أحمد وذهب إليه . وسئل عمن قال : إنه لا يصح ؟ فقال : هذا رجل مغل ، يعني أنه قد غلا في مقالته . وقد خرج النسائي هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة يطول ذكرها . وروى ابن عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، حدثني أبو وهيب الجيشاني ، عن وفد أهل اليمن أنهم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن أشربة تكون باليمن ، قال : فسموا له البتع من العسل ، والمزر من الشعير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تسكرون منها ؟ قالوا : إن أكثرنا سكرنا ، قال : فحرام قليله ما أسكر كثيره خرجه القاضي إسماعيل . وقد كانت الصحابة تحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : كل مسكر حرام على تحريم جميع أنواع المسكرات ، ما كان موجودا منها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما حدث بعده ، كما سئل ابن عباس عن الباذق ، فقال : سبق محمد الباذق ، فما أسكر ، [ ص: 464 ] فهو حرام ، خرجه البخاري ، يشير إلى أنه إن كان مسكرا ، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة

ص: 467 ] الحديث السابع والأربعون :

عن المقدام بن معدي كرب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام ، وخرجه النسائي من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده ، وخرجه ابن ماجه من وجه آخر عنه وله طرق أخرى . وقد روي هذا الحديث مع ذكر سببه ، فروى أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث عبد الرحمن بن المرقع ، قال : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وهي مخضرة من الفواكه ، فواقع الناس الفاكهة ، فمغثتهم الحمى ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الحمى رائد الموت وسجن الله في [ ص: 468 ] الأرض ، وهي قطعة من النار ، فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان ، فصبوها عليكم بين الصلاتين يعني المغرب والعشاء ، قال : ففعلوا ذلك ، فذهبت عنهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرا من بطن ، فإن كان لا بد ، فاجعلوا ثلثا للطعام ، وثلثا للشراب ، وثلثا للريح . وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها . وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في " كتاب " أبي خيثمة ، قال : لو استعمل الناس هذه الكلمات ، سلموا من الأمراض والأسقام ، ولتعطلت المارستانات ودكاكين الصيادلة ، وإنما قال هذا ؛ لأن أصل كل داء التخم ، كما قال بعضهم : أصل كل داء البردة ، وروي مرفوعا ولا يصح رفعه . وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب : الحمية رأس الدواء ، والبطنة رأس [ ص: 469 ] الداء ، ورفعه بعضهم ولا يصح أيضا . وقال الحارث أيضا : الذي قتل البرية ، وأهلك السباع في البرية إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام . وقال غيره : لو قيل لأهل القبور : ما كان سبب آجالكم ؟ قالوا : التخم . فهذا بعض منافع تقليل الغذاء ، وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته . وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب ، وقوة الفهم ، وانكسار النفس ، وضعف الهوى والغضب ، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك . قال الحسن : يابن آدم كل في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلث بطنك يتنفس لتتفكر . وقال المروذي : جعل أبو عبد الله ، يعني أحمد يعظم أمر الجوع والفقر ، فقلت له : يؤجر الرجل في ترك الشهوات ، فقال : وكيف لا يؤجر ، وابن عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع ؟ قال : ما أرى . وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه ، فروى بإسناده عن ابن سيرين ، قال : قال رجل لابن عمر : ألا أجيئك بجوارش ؟ قال : [ ص: 470 ] وأي شيء هو ؟ قال : شيء يهضم الطعام إذا أكلته ، قال : ما شبعت منذ أربعة أشهر ، وليس ذاك أني لا أقدر عليه ، ولكن أدركت أقواما يجوعون أكثر مما يشبعون . وبإسناده عن نافع ، قال : جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : جوارش : شيء يهضم به الطعام ، قال : ما أصنع به ؟ إني ليأتي علي الشهر ما أشبع فيه من الطعام . وبإسناده عن رجل قال : قلت لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن رقت مضغتك ، وكبر سنك ، وجلساؤك لا يعرفون لك حقك ولا شرفك ، فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئا يلطفونك إذا رجعت إليهم ، قال : ويحك ، والله ما شبعت منذ إحدى عشرة سنة ، ولا اثنتي عشرة سنة ، ولا ثلاث عشرة سنة ، ولا أربع عشرة سنة مرة واحدة ، فكيف بي وإنما بقي مني كظمء الحمار . وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنه كان يدع كثيرا من الشبع مخافة الأشر . وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " بإسناده عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما شبعت منذ أسلمت . [ ص: 471 ] وروى بإسناده عن محمد بن واسع ، قال : من قل طعمه فهم وأفهم ، وصفا ، ورق ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد . وعن أبي عبيدة الخواص ، قال : حتفك في شبعك ، وحظك في جوعك ، وإذا أنت شبعت ثقلت ، فنمت ، استمكن منك العدو فجثم عليك ، وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد . وعن عمرو بن قيس ، قال : إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب . وعن سلمة بن سعيد قال : إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله . وعن بعض العلماء قال : إذا كنت بطينا ، فاعدد نفسك زمنا حتى تخمص . وعن ابن الأعرابي قال : كانت العرب تقول : ما بات رجل بطينا فتم عزمه . وعن أبي سليمان الداراني قال : إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة ، فلا تأكل حتى تقضيها ، فإن الأكل يغير العقل . وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه ، وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه . قال : وحدثني الحسن بن عبد الرحمن ، قال : قال الحسن أو غيره : كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلة ، وهي بليتكم إلى يوم القيامة . قال : وكان يقال : من ملك بطنه ، ملك الأعمال الصالحة كلها ، وكان يقال : لا تسكن الحكمة معدة ملأى . [ ص: 472 ] وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان يقال : قلة الطعم عون على التسرع إلى الخيرات . وعن قثم العابد قال : كان يقال : ما قل طعم امرئ قط إلا رق قلبه ، ونديت عيناه . وعن عبد الله بن مرزوق قال : لم نر للأشر مثل دوام الجوع ، فقال له أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : وما دوامه عندك ؟ قال : دوامه أن لا تشبع أبدا . قال : وكيف يقدر من كان في الدنيا على هذا ؟ قال : ما أيسر ذلك يا أبا عبد الرحمن على أهل ولايته ومن وفقه لطاعته ، لا يأكل إلا دون الشبع هو دوام الجوع . ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعام على بعض أصحابه ، فقال له : أكلت حتى لا أستطيع أن آكل ، فقال الحسن : سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل ؟ ! . وروى أيضا بإسناده عن أبي عمران الجوني ، قال : كان يقال : من أحب أن ينور قلبه ، فليقل طعمه . وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إلي سفيان الثوري : إن أردت أن يصح جسمك ، ويقل نومك ، فأقل من الأكل . وعن ابن السماك قال : خلا رجل بأخيه ، فقال : أي أخي ، نحن أهون على الله من أن يجيعنا ، إنما يجيع أولياءه . وعن عبد الله بن الفرج قال : قلت لأبي سعيد التميمي : الخائف يشبع ؟ [ ص: 473 ] قال : لا ، قلت : المشتاق يشبع ؟ قال : لا . وعن رياح القيسي أنه قرب إليه طعام ، فأكل منه ، فقيل له : ازدد فما أراك شبعت ، فصاح صيحة وقال : كيف أشبع أيام الدنيا وشجرة الزقوم طعام الأثيم بين يدي ؟ فرفع الرجل الطعام من بين يديه ، وقال : أنت في شيء ونحن في شيء . قال المروذي : قال لي رجل : كيف ذاك المتنعم ؟ يعني أحمد ، قلت له : وكيف هو متنعم ؟ قال : أليس يجد خبزا يأكل ، وله امرأة يسكن إليها ، ويطؤها ، فذكرت ذلك لأبي عبد الله فقال : صدق ، وجعل يسترجع ، وقال : إنا لنشبع . وقال بشر بن الحارث : ما شبعت منذ خمسين سنة ، وقال : ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال ، لأنه إذا شبع من الحلال ، دعته نفسه إلى الحرام ، فكيف من هذه الأقذار ؟ . وعن إبراهيم بن أدهم قال : من ضبط بطنه ضبط دينه ، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة ، وإن معصية الله بعيدة من الجائع ، قريبة من الشبعان ، والشبع يميت القلب ، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك . وقال ثابت البناني : بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام ، فرأى عليه معاليق من كل شيء ، فقال له يحيى : يا إبليس ، ما هذه المعاليق التي أرى عليك ؟ قال : هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيء ؟ قال : ربما شبعت ، فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر ، قال : فهل غير هذا ؟ قال : لا ، قال : لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا ، قال : فقال إبليس : لله علي أن لا أنصح مسلما أبدا . [ ص: 474 ] وقال أبو سليمان الداراني : إن النفس إذا جاعت وعطشت ، صفا القلب ورق ، وإذا شبعت ورويت ، عمي القلب ، وقال : مفتاح الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل ، وإن الله ليعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة ، فلا يعطي إلا من أحب خاصة ، ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلي من أن آكلها ثم أقوم من أول الليل إلى آخره . وقال الحسن بن يحيى الخشني : من أراد أن تغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه ، وقال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت بهذا أبا سليمان فقال : إنما جاء الحديث : " ثلث طعام وثلث شراب " وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم ، فربحوا سدسا . وقال محمد بن النضر الحارثي : الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأشر . وعن الشافعي ، قال : ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة اطرحتها ، لأن الشبع يثقل البدن ، ويزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة . وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام ، وقال : حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه . وفي " الصحيحين " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء والمراد أن المؤمن [ ص: 475 ] يأكل بأدب الشرع ، فيأكل في معى واحد والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنهم ، فيأكل في سبعة أمعاء . وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه ، فقال : طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة فأحسن ما أكل المؤمن في ثلث بطنه ، وشرب في ثلث ، وترك للنفس ثلثا ، كما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام ، فإن كثرة الشرب تجلب النوم ، وتفسد الطعام . قال سفيان : كل ما شئت ولا تشرب ، فإذا لم تشرب ، لم يجئك النوم . وقال بعض السلف : كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل ، فإذا كان عند فطرهم ، قام عليهم قائم فقال : لا تأكلوا كثيرا ، فتشربوا كثيرا ، فتناموا كثيرا ، فتخسروا كثيرا . وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيرا ، ويتقللون من أكل الشهوات ، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام ، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها . ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك - مع قدرته على الطعام - وكذلك كان أبوه من قبله . [ ص: 476 ] ففي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض . ولمسلم : قالت : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض . وخرج البخاري عن أبي هريرة قال : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قبض . وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير . وفي " صحيح مسلم " عن عمر أنه خطب ، فذكر ما أصاب الناس من الدنيا ، فقال : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه . وخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال . وخرجه ابن ماجه بإسناده عن سليمان بن صرد ، قال : أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمكثنا ثلاث ليال لا نقدر - أو لا يقدر - على طعام . [ ص: 477 ] وبإسناده عن أبي هريرة ، قال أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطعام سخن فأكل ، فلما فرغ قال : الحمد لله ، ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا . وقد ذم الله ورسوله من اتبع الشهوات ، قال تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب [ مريم : 59 - 60 ] . وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن . وفي " المسند " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا سمينا فجعل يومئ بيده إلى بطنه ويقول : لو كان هذا في غير هذا ، لكان خيرا لك . وفي " المسند " عن أبي برزة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ، ومضلات الهوى . وفي " مسند البزار " وغيره عن فاطمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : شرار أمتي [ ص: 478 ] الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدقون في الكلام . وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر ، قال : تجشأ رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : كف عنا جشاءك ، فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة . وخرجه ابن ماجه من حديث سلمان أيضا بنحوه ، وخرجه الحاكم من [ ص: 479 ] حديث أبي جحيفة ، وفي أسانيدها كلها مقال . وروى يحيى بن منده في كتاب " مناقب الإمام أحمد " بإسناد له عن الإمام أحمد أنه سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس فقال : ثلث للطعام : هو القوت ، وثلث للشراب : هو القوى ، وثلث للنفس : هو الروح والله أعلم .

ص: 480 ] الحديث الثامن والأربعون .

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أربع من كن فيه كان منافقا ، ومن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص . وخرجاه في " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان . وفي رواية لمسلم : وصلى وزعم أنه مسلم وفي رواية له أيضا : من علامات المنافق ثلاثة . وقد روي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر . وهذا الحديث قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم حدثوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذبوه ، وائتمنهم على سره فخانوه ، ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه ، وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء ، وأنه قال : حدثني به جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر أن الحسن [ ص: 481 ] رجع إلى قول عطاء هذا لما بلغه عنه ، وهذا كذب ، والمحرم هذا شيخ كذاب معروف بالكذب . وقد روي عن عطاء هذا من وجهين آخرين ضعيفين أنه أنكر على الحسن قوله : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وقال : قد حدث إخوة يوسف فكذبوا ، ووعدوا فأخلفوا ، وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين ، وهذا لا يصح عن عطاء ، والحسن لم يقل هذا من عنده وإنما بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فالحديث ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - لا شك في ثبوته وصحته ، والذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه ، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين : أحدهما : النفاق الأكبر ، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه ، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم ، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار . والثاني : النفاق الأصغر ، وهو نفاق العمل ، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ، ويبطن ما يخالف ذلك . وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث ، وهي خمسة : أحدها : أن يحدث بحديث لمن يصدقه به وهو كاذب له ، وفي " المسند " [ ص: 482 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق ، وأنت به كاذب . قال الحسن : كان يقال : النفاق اختلاف السر والعلانية ، والقول والعمل ، والمدخل والمخرج ، وكان يقال : أس النفاق الذي بني عليه الكذب . والثاني : إذا وعد أخلف ، وهو على نوعين : أحدهما : أن يعد ومن نيته أن لا يفي بوعده ، وهذا أشر الخلف ، ولو قال : أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل ، كان كذبا وخلفا ، قاله الأوزاعي .

ص: 496 ] الحديث التاسع والأربعون .

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " والحاكم ، وقال الترمذي : حسن صحيح . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه هؤلاء كلهم من رواية عبد الله بن هبيرة ، سمع أبا تميم الجيشاني ، سمع عمر بن الخطاب يحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو تميم وعبد الله بن هبيرة خرج لهما مسلم ، ووثقهما غير واحد ، وأبو تميم ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهاجر إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه . وقد روي هذا الحديث من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن في إسناده من لا يعرف حاله . قاله أبو حاتم الرازي . وهذا الحديث أصل في التوكل ، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها [ ص: 497 ] الرزق ، قال الله عز وجل : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 2 - 3 ] ، وقد قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية على أبي ذر ، وقال له : لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم يعني : لو حققوا التقوى والتوكل ؛ لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم . وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث ابن عباس : احفظ الله يحفظك . قال بعض السلف : بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه ، فكم من عبد من عباده قد فوض إليه أمره ، فكفاه منه ما أهمه ، ثم قرأ : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وحقيقة التوكل : هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ، وكلة الأمور كلها إليه ، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه . قال سعيد بن جبير : التوكل جماع الإيمان . وقال وهب بن منبه : الغاية القصوى التوكل . قال الحسن : إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته . وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من سره أن يكون أقوى الناس ، فليتوكل على الله . [ ص: 498 ] وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه : اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك ، وأنه كان يقول : اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته . واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها ، وجرت سنته في خلقه بذلك ، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل ، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له ، والتوكل بالقلب عليه إيمان به ، كما قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم [ النساء : 71 ] ، وقال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [ الأنفال : 60 ] ، وقال : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . وقال سهل التستري : من طعن في الحركة - يعني في السعي والكسب - فقد طعن في السنة ، ومن طعن في التوكل ، فقد طعن في الإيمان ، فالتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والكسب سنته ، فمن عمل على حاله ، فلا يتركن سنته .

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ . الحاشية رقم: 1 وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . وخرجه الترمذي ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفردون ؟ قال : المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا . وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه ، فقال : يا معاذ أين السابقون ؟ فقلت : قد مضوا وتخلف أناس . فقال : يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله عز وجل خرجه جعفر الفريابي . [ ص: 512 ] ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث ، فإنه لما سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ، ويولعون به ، فإن الاستهتار بالشيء : هو الولوع به والشغف ، حتى لا يكاد يفارق ذكره ، وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم ، فقال فيه : الذين أهتروا في ذكر الله وفسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام ، كما في الحديث : المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران . قال : والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي ، إما عن القرن أو عن المخالطة ، والله أعلم . ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة : ليس السابق اليوم من سبق بعيره ، وإنما السابق من غفر له . وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أحب أن يرتع في رياض الجنة ، فليكثر ذكر الله عز وجل . [ ص: 513 ] وخرج الإمام أحمد والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات الصاحات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون . وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عباس مرفوعا : اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون : إنكم تراءون . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، وقيل : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . [ ص: 514 ] وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ ، [ عن أبيه ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله فقال : أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، قال : فأي الصائمين أعظم ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أكثرهم لله ذكرا : ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل . وقد خرجه ابن المبارك ، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه . وقال أبو الدرداء : الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله ، يدخل أحدهما الجنة وهو يضحك ، وقيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وقال معاذ : لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل . [ ص: 515 ] وقال ابن مسعود في قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وخرجه الحاكم مرفوعا وصححه ، والمشهور وقفه . وقال زيد بن أسلم : قال موسى عليه السلام : يا رب ، قد أنعمت علي كثيرا ، فدلني على أن أشكرك كثيرا ، قال : اذكرني كثيرا ، فإن ذكرتني كثيرا ، فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني . وقال الحسن : أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا . وقال أحمد بن أبي الحواري : حدثني أبو المخارق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش ، فقلت : من هذا ؟ ملك ؟ قيل : لا ، قلت : نبي ؟ قيل : لا ، قلت : من هو ؟ قال : هذا رجل كان لسانه رطبا من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم يستسب والديه قط . وقال ابن مسعود : قال موسى عليه السلام : رب أي الأعمال أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني فلا تنساني . وقال أبو إسحاق بن ميثم : بلغني أن موسى عليه السلام ، قال : رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : أكثرهم لي ذكرا . وقال كعب : من أكثر ذكر الله ، برئ من النفاق ، ورواه مؤمل ، عن حماد بن سلمة ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا [ ص: 516 ] وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعا : من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان . ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ، فمن أكثر ذكر الله ، فقد باينهم في أوصافهم ، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله ، وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد ، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله ، فهو من الخاسرين . قال الربيع بن أنس ، عن بعض أصحابه : علامة حب الله كثرة ذكره ، فإنك لن تحب شيئا إلا أكثرت ذكره . وقال فتح الموصلي : المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين ، قال ذو النون : من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر ، قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه . قال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان ، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله . وكان بعض السلف يقول في مناجاته : إذا سئم البطالون من بطالتهم ، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك . قال أبو جعفر المحولي : ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته . وقد ذكرنا قول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه ، والمعنى : في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه ، وسواء كان على [ ص: 517 ] طهارة أو على حدث . وقال مسعر : كانت دواب البحر في البحر تسكن ، ويوسف عليه السلام في السجن لا يسكن عن ذكر الله عز وجل . وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به . وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن ، فلما مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح . وقيل لعمير بن هانئ : ما نرى لسانك يفتر ، فكم تسبح كل يوم ؟ قال مائة ألف تسبيحة ، إلا أن تخطئ الأصابع ، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت فلما بلغت القبر ، اختلست من أيدي الرجال . وكان الحسن البصري كثيرا ما يقول إذا لم يحدث ، ولم يكن له شغل : سبحان الله العظيم ، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال : إن صاحبكم لفقيه ، ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيت في الجنة . وكان عامة كلام ابن سيرين : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده . كان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون ، نزل إلى البحر ، وقام [ ص: 518 ] في الماء يذكر الله مع دواب البحر . نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال : فكنت كلما استيقظت من الليل ، وجدته يذكر الله ، فأغتم ، ثم أعزي نفسي بهذه الآية : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه ، فلو كلف أن ينسى تذكره لما قدر ، ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر . كيف ينسى المحب ذكر حبيب اسمه في فؤاده مكتوب كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول : أحد أحد ، فإذا قالوا له : قل : واللات والعزى ، قال : لا أحسنه . يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل كلما قويت المعرفة ، صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة ، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه : الله الله ، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح ، كما يلهمون النفس ، وتصير " لا إله إلا الله " لهم ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، كان الثوري ينشد : لا لأني أنساك أكثر ذكرا ك ولكن بذاك يجري لساني إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه ، وتضاعف قلقه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود : اقرأ علي القرآن ، قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ عليه ، ففاضت عيناه . [ ص: 519 ] سمع الشبلي قائلا يقول : يا ألله يا جواد ، فاضطرب : وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري النبض ينزعج عند ذكر المحبوب : إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ترنح نشوان وحن طروب ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الأنفال : 2 ] . وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه . قال أبو الجلد : أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتني ، فاذكرني ، وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا ، وإذا ذكرتني ، فاجعل لسانك من وراء قلبك . وصف علي يوما الصحابة ، فقال : كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في اليوم الشديد الريح ، وجرت دموعهم على ثيابهم . قال زهير البابي : إن لله عبادا ذكروه ، فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا ، وقوم ذكروه ، فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة ، فلو حرقوا بالنار ، لم يجدوا مس النار ، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقا من خوفه ، وقوم ذكروه ، فحالت ألوانهم غبرا ، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا . [ ص: 520 ] صلى أبو يزيد الظهر ، فلما أراد أن يكبر ، لم يقدر إجلالا لاسم الله ، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه . كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يرى جميع ذلك من عنده ، وكان يقول : ما أظن محقا يذكر الله عن غير غفلة ، ثم يبقى حيا إلا الأنبياء ، فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم . إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت مفاصلها من هول ما تتذكر وقف أبو زيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول : لا إله إلا الله ، فما قدر إجلالا وهيبة ، فلما كان عند الصباح نزل ، فبال الدم . وما ذكرتكم إلا نسيتكم نسيان إجلال لا نسيان إهمال إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا أجللت مثلكم يخطر على بالي الذكر لذة قلوب العارفين . قال الله عز وجل : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد : 28 ] . قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل . وفي بعض الكتب السالفة : يقول الله عز وجل : معشر الصديقين بي فافرحوا ، وبذكري فتنعموا . وفي أثر آخر سبق ذكره : وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها . وعن ابن عمر قال : أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها ، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها . قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره ، وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته ، [ ص: 521 ] قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره ، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه ، ولا طابت الجنة إلا برؤيته . أبدا نفوس الطالبيـ ــن إلى طلولكم تحن وكذا القلوب بذكركم بعد المخافة تطمئن جنت بحبكم ومن يهوى الحبيب ولا يجن بحياتكم يا سادتي جودوا بوصلكم ومنوا قد سبق حديث : اذكروا الله حتى يقولوا : مجنون ولبعضهم : لقد أكثرت من ذكرا ك حتى قيل وسواس كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر ، فرآه بعض الناس فأنكر حاله ، فقال لأصحابه : أمجنون صاحبكم ؟ فسمعه أبو مسلم ، فقال لا يا أخي ، ولكن هذا دواء الجنون . وحرمة الود ما لي عنكم عوض وليس لي في سواكم سادتي غرض وقد شرطت على قوم صحبتهم بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا ومن حديثي بكم قالوا : به مرض فقلت : لا زال عني ذلك المرض المحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر ، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم . قال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين كلموا الله كثيرا ، وكلموا الناس قليلا ، قالوا : كيف نكلم الله كثيرا ؟ قال : اخلوا بمناجاته ، اخلوا بدعائه . وكان بعض السلف يصلي كل يوم ألف ركعة حتى أقعد من رجليه ، فكان [ ص: 522 ] يصلي جالسا ألف ركعة ، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ، ويقول : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وكان بعضهم يصوم الدهر ، فإذا كان وقت الفطور ، قال : أحس نفسي تخرج لاشتغالي عن الذكر بالأكل . قيل لمحمد بن النضر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني . كتمت اسم الحبيب من العباد ورددت الصبابة في فؤادي فواشوقا إلى بلد خلي لعلي باسم من أهوى أنادي فإذا قوي حال المحب ومعرفته ، لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل ، فهو بين الخلق بجسمه ، وقلبه معلق بالمحل الأعلى ، كما قال علي رضي الله عنه في وصفهم : صحبوا الدنيا بأجساد أوراحها معلقة بالمحل الأعلى ، وفي هذا المعنى قيل : جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن وقال غيره : ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وهذه كانت حال الرسل والصديقين ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ الأنفال : 45 ] . [ ص: 523 ] وفي " الترمذي " مرفوعا : يقول الله عز وجل : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه . وقال تعالى : فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم [ النساء : 103 ] يعني الصلاة في حال الخوف ، ولهذا قال : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ النساء : 103 ] ، وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الجمعة : 10 ] ، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله ، وكثرة ذكره . ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند " و " الترمذي " ، و " سنن ابن ماجه " عن عمر مرفوعا : من دخل سوقا يصاح فيها ويباع ، فقال : لا إله إلا وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة . وفي حديث آخر : ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين ، وذاكر الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس . [ ص: 524 ] قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ما دام قلب الرجل يذكر الله ، فهو في صلاة ، وإن كان في السوق وإن حرك به شفتيه فهو أفضل . وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة . والتقى رجلان منهم في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى نذكر الله في غفلة الناس ، فخلوا في موضع ، فذكرا الله ، ثم تفرقا ، ثم مات أحدهما ، فلقيه الآخر في منامه ، فقال له : أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق ؟--Hussein2016 (نقاش) 21:59، 24 مايو 2016 (ت ع م)ردّ

  1. جامع_العلوم_والحكم_لإبن_رجب_الحنبلى

رابط الصفحة

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=506810766167869&id=242242652624683

🌻🌻🌻مقدمة المؤلف 🌻🌻🌻

[ص: 53 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، وجعل أمتنا - ولله الحمد - خير أمة ، وبعث فينا منا يتلو علينا آياته ، ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة . أحمده على نعمه الجمة ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله للعالمين رحمة ، وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا ، فأوضح لنا كل الأمور المهمة ، وخصه بجوامع الكلم ، فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة ، أو شطر كلمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، صلاة تكون لنا نورا من كل ظلمة ، وسلم تسليما كثيرا . أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم ، وخصه ببدائع الحكم . كما في " الصحيحين " ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بجوامع الكلم قال الزهري : جوامع الكلم - فيما بلغنا - أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ، ونحو ذلك . [ ص: 54 ] خرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عمرو بن العاص ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع ، فقال : " أنا محمد النبي الأمي " . قال ذلك ثلاث مرات . " ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " ، وذكر الحديث . وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إنى أوتيت جوامع الكلم وخواتمه ، واختصر لي اختصارا " . وخرج الدارقطني من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت جوامع الكلم ، واختصر لي الحديث اختصارا . وروينا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق القرشي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " فقلنا : يا رسول الله ، علمنا مما علمك الله عز وجل ، قال : فعلمنا التشهد . [ ص: 55 ] ‌ وفي " صحيح مسلم " ، عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ، عن البتع والمزر ، قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه ، فقال : أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة . وروى هشام بن عمار في كتاب " المبعث " بإسناده ، عن أبي سلام الحبشي ، قال : حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " فضلت على من قبلي بست ولا فخر " فذكر منها : قال : " وأعطيت جوامع الكلم ، وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءا بالليل إلى الصباح ، فجمعها لي ربي في آية واحدة سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( الحديد : 1 ) . فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : أحدهما : ما هو في القرآن ، كقوله عز وجل : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ( النحل : 90 ) قال الحسن : لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به ، ولا شرا إلا نهت عنه . والثاني : ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم ، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه [ ص: 56 ] صلى الله عليه وسلم . وقد جمع العلماء جموعا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة ، فصنف الحافظ أبو بكر بن السني كتابا سماه : " الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة " وجمع القاضي أبو عبد الله القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابا سماه : " الشهاب في الحكم والآداب " ، وصنف على منواله قوم آخرون ، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة . وأشار الخطابي في أول كتابه " غريب الحديث " إلى يسير من الأحاديث الجامعة . وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسا سماه " الأحاديث الكلية " جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال : إن مدار الدين عليها ، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة ، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا . ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا يحيى النووي رحمة الله عليه أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح ، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثا ، وسمى كتابه " بالأربعين " ، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها ، وكثر حفظها ، ونفع الله بها ببركة نية جامعها ، وحسن قصده رحمه الله . وقد تكرر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث المشار إليها ، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع كتاب يتضمن شرح ما ييسره الله تعالى من معانيها ، وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها ، وإياه أسأل العون على ما قصدت ، والتوفيق لصلاح النية والقصد فيما أردت ، وأعول في أمري كله عليه ، وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه . وقد كان بعض من شرح هذه الأربعين قد تعقب على جامعها رحمه الله تركه [ ص: 57 ] لحديث : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر قال : لأنه الجامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم ، فكان ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة ، كما ذكر حديث البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر لجمعه لأحكام القضاء . فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ رحمه الله ، وأن أضم إلى ذلك كله أحاديث أخر من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلوم والحكم ، حتى تكمل عدة الأحاديث كلها خمسين حديثا ، وهذه تسمية الأحاديث المزيدة على ما ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه : حديث : ألحقوا الفرائض بأهلها حديث : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب حديث : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه حديث : كل مسكر حرام حديث : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن حديث : أربع من كن فيه كان منافقا حديث : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير حديث : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل . وسميته : [ ص: 58 ] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم . واعلم أنه ليس غرضي إلا شرح الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية ، فلذلك لا أتقيد بكلام الشيخ رحمه الله في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها ، وإنما آتي بالمعنى الذي يدل على ذلك ؛ لأني قد أعلمتك أنه ليس لي غرض إلا في شرح معاني كلمات النبي صلى الله عليه وسلم الجوامع ، وما يتضمنه من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع . وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده ؛ ليعلم بذلك صحته وقوته وضعفه ، وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ ، وإن لم يكن في الباب غيره ، أو لم يكن يصح فيه غيره ، نبهت على ذلك كله ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

[ ص: 59 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحديث الأول

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن أبي وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، [ ص: 60 ] وليس له طريق تصح غير هذا الطريق ، كذا قال علي بن المديني وغيره . وقال الخطابي : لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في ذلك ، مع أنه قد روي من حديث أبي سعيد وغيره ، وقد قيل إنه قد روي من طرق كثيرة ، لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ . ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير ، فقيل : رواه عنه أكثر من مائتي راو ، وقيل : رواه عنه سبعمائة راو ، ومن أعيانهم : مالك ، والثوري ، [ ص: 61 ] والأوزاعي ، وابن المبارك ، والليث بن سعد وحماد بن زيد ، وشعبة ، وابن عيينة ، وغيرهم . واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول ، وبه صدر البخاري كتابه " الصحيح " وأقامه مقام الخطبة له ، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله ، فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي : لو صنفت كتابا في الأبواب ، لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب ، وعنه أنه قال : من أراد أن يصنف كتابا ، فليبدأ بحديث " الأعمال بالنيات " . وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها ، فروي عن الشافعي أنه قال : هذا الحديث ثلث العلم ، ويدخل في سبعين بابا من الفقه . وعن الإمام أحمد قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات وحديث عائشة : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين . وقال الحاكم : حدثونا عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه أنه ذكر قوله عليه الصلاة والسلام : الأعمال بالنيات وقوله : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، وقوله : من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد فقال : ينبغي أن يبدأ بهذه الأحاديث في كل تصنيف ، فإنها أصول الأحاديث [ ص: 62 ] وعن إسحاق بن راهويه قال : أربعة أحاديث هي من أصول الدين : حديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث : الحلال بين والحرام بين ، وحديث إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه ، وحديث : من صنع في أمرنا شيئا ليس منه فهو رد . وروى عثمان بن سعيد ، عن أبي عبيد ، قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ، وجمع أمر الدنيا كله في كلمة : إنما الأعمال بالنيات يدخلان في كل باب . وعن أبي داود ، قال نظرت في الحديث المسند ، فإذا هو أربعة آلاف حديث ، ثم نظرت ، فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث : حديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين ، وحديث عمر : إنما الأعمال بالنيات ، وحديث أبي هريرة : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . قال : فكل حديث من هذه ربع العلم . وعن أبي داود أيضا ، قال كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث ، انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب - يعني كتاب " السنن " - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث : أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ، والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، والثالث : قوله صلى الله عليه وسلم لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا [ ص: 63 ] يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، والرابع : قوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين . وفي رواية أخرى عنه أنه قال : الفقه يدور على خمسة أحاديث : الحلال بين والحرام بين ، وقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ، وقوله الأعمال بالنيات ، وقوله الدين النصيحة ، وقوله : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم . وفي رواية عنه ، قال : أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث : حديث عمر الأعمال بالنيات ، وحديث : الحلال بين والحرام بين ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، وحديث : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس . وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي : عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البريه اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه فقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ، وفي رواية : الأعمال بالنيات . وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح ، وليس غرضنا هاهنا توجيه ذلك ، ولا بسط القول فيه . وقد اختلف في تقدير قوله : الأعمال بالنيات ، فكثير من المتأخرين يزعم [ ص: 64 ] أن تقديره : الأعمال صحيحة أو معتبرة ومقبولة بالنيات ، وعلى هذا فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية ، فأما ما لا يفتقر إلى النية كالعادات من الأكل والشرب ، واللبس وغيرها ، أو مثل رد الأمانات والمضمونات ، كالودائع والغصوب ، فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية ، فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة هاهنا . وقال آخرون : بل الأعمال هاهنا على عمومها ، لا يخص منها شيء . وحكاه بعضهم عن الجمهور ، وكأنه يريد به جمهور المتقدمين ، وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري ، وأبي طالب المكي وغيرهما من المتقدمين ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد . قال في رواية حنبل : أحب لكل من عمل عملا من صلاة ، أو صيام ، أو صدقة ، أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات ، فهذا يأتي على كل أمر من الأمور . وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد - عن النية في العمل ، قلت كيف النية ؟ قال : يعالج نفسه ، إذا أراد عملا لا يريد به الناس . وقال أحمد بن داود الحربي : قال حدث يزيد بن هارون بحديث عمر : الأعمال بالنيات ، وأحمد جالس ، فقال أحمد ليزيد : يا أبا خالد ، هذا الخناق . وعلى هذا القول فقيل : تقدير الكلام : الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات ، فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سبب عملها ووجودها ، ويكون قوله بعد ذلك : وإنما لكل امرئ ما نوى إخبارا عن حكم الشرع ، وهو أن حظ العامل من عمله نيته ، فإن كانت صالحة ، فعمله صالح ، فله أجره ، وإن كانت فاسدة ، فعمله فاسد ، فعليه وزره . ويحتمل أن يكون التقدير في قوله : الأعمال بالنيات : الأعمال صالحة ، [ ص: 65 ] أو فاسدة ، أو مقبولة ، أو مردودة ، أو مثاب عليها ، أو غير مثاب عليها بالنيات ، فيكون خبرا عن حكم شرعي ، وهو أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النيات وفسادها ، كقوله : صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالخواتيم أي : إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمه بحسب الخاتمة . وقوله بعد ذلك : وإنما لكل امرئ ما نوى إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به ، فإن نوى خيرا حصل له خير ، وإن نوى به شرا حصل له شر ، وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولى ، فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده ، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة ، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة ، وقد تكون نيته مباحة ، فيكون العمل مباحا ، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب ، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه ، المقتضية لوجوده ، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي بها صار العمل صالحا ، أو فاسدا ، أو مباحا .

[ ص: 93 ] الحديث الثاني :

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال يا محمد ، أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " . قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : " أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك " . قال : فأخبرني عن الساعة ؟ . قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . قال : فأخبرني عن أمارتها ؟ . قال : " أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " . [ ص: 94 ] ثم انطلق ، فلبثت مليا ، ثم قال لي : " يا عمر ، أتدري من السائل ؟ . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه ، فخرجه من طريق كهمس عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ، ويتقفرون العلم ، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف . فقال : إذا لقيت أولئك ، فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم برآء مني ، [ ص: 95 ] والذي يحلف به عبد الله بن عمر ، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا ، فأنفقه ، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث بطوله . ثم خرجه من طرق أخرى ، بعضها يرجع إلى عبد الله بن بريدة ، وبعضها يرجع إلى يحيى بن يعمر ، وذكر أن في بعض ألفاظها زيادة ونقصا . وخرجه ابن حبان في " صحيحه " من طريق سليمان التيمي ، عن يحيى بن يعمر ، وقد خرجه مسلم من هذا الطريق ، إلا أنه لم يذكر لفظه ، وفيه زيادات منها : في الإسلام ، قال : " وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة ، وأن تتم الوضوء [ وتصوم رمضان ] " قال : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مسلم ؟ قال : نعم . وقال في الإيمان : " وتؤمن بالجنة والنار والميزان " ، وقال فيه : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مؤمن ؟ قال : " نعم " . وقال في آخره : " هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم ، خذوا عنه ، والذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه ، وما عرفته حتى ولى " . وخرجنا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس ، فأتاه رجل ، فقال : ما الإيمان ؟ فقال : " الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ، وبلقائه ، ورسله ، وتؤمن بالبعث الآخر " . قال : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال : " الإسلام : أن تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " [ ص: 96 ] قال : يا رسول الله ، ما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لا تراه ، فإنه يراك " . قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ " قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك ، عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها ، فذاك من أشراطها ، وإذا رأيت العراة الحفاة رؤوس الناس ، فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان ، فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ( لقمان : 34 ) . قال : ثم أدبر الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علي بالرجل " ، فأخذوا ليردوه ، فلم يروا شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " . وخرجه مسلم بسياق أتم من هذا ، وفيه في خصال الإيمان : " وتؤمن [ ص: 97 ] بالقدر كله " وقال في الإحسان : " أن تخشى الله كأنك تراه " . وخرجه الإمام أحمد في " مسنده " من حديث شهر بن حوشب ، عن ابن عباس . ومن حديث شهر بن حوشب أيضا ، عن ابن عامر أو أبي عامر ، أو أبي مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديثه قال : ونسمع رجع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى الذي يكلمه ، ولا نسمع كلامه ، وهذا يرده حديث عمر الذي خرجه مسلم وهو أصح . وقد روي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما . وهو حديث عظيم جدا ، يشتمل على شرح الدين كله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " بعد أن شرح درجة الإسلام ، ودرجة الإيمان ، ودرجة الإحسان ، فجعل ذلك كله دينا . واختلفت الرواية في تقديم الإسلام على الإيمان وعكسه ففي حديث [ ص: 98 ] عمر الذي خرجه مسلم أنه بدأ بالسؤال عن الإسلام ، وفي حديث الترمذي وغيره أنه بدأ بالسؤال عن الإيمان ، كما في حديث أبي هريرة ، وجاء في بعض روايات حديث عمر أنه سأله عن الإحسان بين الإسلام والإيمان . فأما الإسلام ، فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل ، وأول ذلك : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وهو عمل اللسان ، ثم إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا . وهي منقسمة إلى عمل بدني : كالصلاة والصوم ، وإلى عمل مالي : وهو إيتاء الزكاة ، وإلى ما هو مركب منهما ، كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة . وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك الاعتمار ، والغسل من الجنابة ، وإتمام الوضوء ، وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام . وإنما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها كما سيأتي شرح ذلك في حديث ابن عمر بني الإسلام على خمس في موضعه إن شاء الله تعالى . وقوله في بعض الروايات : فإذا فعلت ذلك ، فأنا مسلم ؟ قال : " نعم " يدل على أن من كمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس ، صار مسلما حقا ، مع أن من أقر بالشهادتين ، صار مسلما حكما ، فإذا دخل في الإسلام بذلك ، ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام ، ومن ترك الشهادتين ، خرج من الإسلام ، وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء ، وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس ، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى [ ص: 99 ] ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده . وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : أن تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف . وفي " صحيح الحاكم " عن أبي هريرة ، عن النبي قال : إن للإسلام [ ص: 100 ] صوى ومنارا كمنار الطريق من ذلك : أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم ، فمن انتقص منهن شيئا ، فهو سهم من الإسلام تركه ، ومن يتركهن ، فقد نبذ الإسلام وراء ظهره . وخرجه ابن مردويه من حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : للإسلام ضياء وعلامات كمنار الطريق ، فرأسها وجماعها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإتمام الوضوء ، والحكم بكتاب الله وسنة نبيه ، وطاعة ولاة الأمر ، وتسليمكم على أنفسكم ، وتسليمكم على أهليكم إذا دخلتم بيوتكم ، وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتموهم وفي إسناده ضعف ، ولعله موقوف . وصح من حديث أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، قال : الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، وحج البيت سهم ، والجهاد سهم ، وصوم رمضان سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وخاب من لا سهم له . وخرجه البزار مرفوعا ، والموقوف أصح . [ ص: 101 ] ورواه بعضهم عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم خرجه أبو يعلى الموصلي وغيره ، والموقوف على حذيفة أصح . قاله الدارقطني وغيره . وقوله : " الإسلام سهم " يعني الشهادتين ، لأنهما علم الإسلام ، وبهما يصير الإنسان مسلما . وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى . ويدل على هذا أيضا ما خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث العرباض بن سارية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ضرب الله مثلا صراطا مستقيما [ ص: 102 ] وعلى جنبتي الصراط سوران ، فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ، ادخلوا الصراط جميعا ، ولا تعوجوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب ، قال ويحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه . والصراط : الإسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة : محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط : كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم زاد الترمذي : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( يونس : 25 ) . ففي هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى بالاستقامة عليه ، ونهى عن تجاوز حدوده ، وأن من ارتكب شيئا من المحرمات ، فقد تعدى حدوده .

[ ص: 144 ] الحديث الثالث :

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر ، وخرجه مسلم من طريقين آخرين ، عن ابن عمر ، وله طرق أخرى عنه . وقد روي هذا الحديث من رواية جرير بن عبد الله البجلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرج حديثه الإمام أحمد . وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكر الإسلام . [ ص: 145 ] والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس ، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه ، وقد خرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة " ولفظه : بني الإسلام على خمس دعائم فذكره . والمقصود تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس ، فلا يثبت البنيان بدونها ، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان ، فإذا فقد منها شيء ، نقص البنيان وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك ، بخلاف نقض هذه الدعائم الخمس ؛ فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال ، وكذلك يزول بفقد الشهادتين ، والمراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله . وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقا : " بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله " وذكر بقية الحديث . وفي رواية لمسلم : " على خمس : على أن يوحد الله " وفي رواية له : " على أن يعبد الله ويكفر بما دونه " . وبهذا يعلم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق تقريره في الحديث الماضي . وأما إقام الصلاة ، فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها ، فقد خرج من الإسلام ، ففي " صحيح مسلم " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ، وروي مثله من حديث بريدة [ ص: 146 ] وثوبان وأنس وغيرهم . وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تترك الصلاة متعمدا ، فمن تركها متعمدا ، فقد خرج من الملة . وفي حديث معاذ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولا يثبت إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه وقال عمر : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، وقال سعد [ ص: 147 ] وعلي بن أبي طالب : من تركها ، فقد كفر . وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر غير الصلاة . وقال أيوب السختياني : ترك الصلاة كفر ، لا يختلف فيه . وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف ، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق ، وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم ! وقال محمد بن نصر المروزي : هو قول جمهور أهل الحديث . وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه كافر بذلك وروي ذلك ، عن سعيد بن جبير ونافع والحكم ، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ، وهو قول ابن حبيب من المالكية . وخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، الحج في كل عام ؟ قال : لو قلت : نعم ، لوجب عليكم ولو وجب عليكم ، ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم . [ ص: 148 ] وخرج الالكائي من طريق مؤمل ، قال : حدثنا حماد بن زيد بن عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، ولا أحسبه إلا رفعه قال : عرى الإسلام ، وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله ، والصلاة ، وصوم رمضان . من ترك منهن واحدة ، فهو بها كافر ، حلال الدم ، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل بذلك دمه ، وتجده كثير المال فلا يزكي ، فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد موقوفا مختصرا ، ورواه سعيد بن زيد أخو حماد ، عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعا ، وقال : ومن ترك منهن واحدة ، فهو بالله كافر ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل ، وقد حل دمه وماله ولم يذكر ما بعده . وقد روي عن عمر ضرب الجزية على من لم يحج ، وقال : ليسوا بمسلمين . وعن ابن مسعود أن تارك الزكاة ليس بمسلم ، وعن أحمد رواية : أن ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج . وقال ابن عيينة : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ، وليس سواء ، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر . وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا بنعت النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ، ولم يعملوا بشرائعه . [ ص: 149 ] وقد استدل أحمد وإسحاق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم ، وترك السجود لله أعظم . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل إبليس يبكي ويقول : يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود ، فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار . واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض ، وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض كما في " مسند الإمام أحمد " عن زياد بن نعيم الحضرمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع فرضهن الله في الإسلام فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا : الصلاة ، والزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت وهذا مرسل ، وقد روي عن زياد ، عن عمارة بن حزم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئا دون شيء : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وبالجنة والنار ، والحياة بعد الموت هذه واحدة ، والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة ، والزكاة طهور من الذنوب ، ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة ، فمن فعل هؤلاء ، ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدا [ ص: 150 ] لم يقبل الله منه الإيمان ، ولا الصلاة ، ولا الزكاة ، فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج ، فلم يحج ، ولم يوص بحجة ، ولم يحج عنه بعض أهله ، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها ذكره ابن أبي حاتم وقال سألت أبي عنه فقال : هذا حديث منكر يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخرساني . قلت : الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر ، وعطاء من أجلاء علماء الشام . وقال ابن مسعود : من لم يزك ، فلا صلاة له ، ونفي القبول هنا لا يراد به نفي الصحة ، ولا وجوب الإعادة بتركه ، وإنما يراد بذلك انتفاء الرضا به ، ومدح عامله ، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى ، والمباهاة به للملائكة . فمن قام بهذه الأركان على وجهها ، حصل له القبول بهذا المعنى ، ومن قام ببعضها دون بعض ، لم يحصل له ذلك ، وإن كان لا يعاقب على ما أتى به منها عقوبة تاركه ، بل تبرأ به ذمته ، وقد يثاب عليه أيضا . ومن هاهنا يعلم أن ارتكاب بعض المحرمات التي ينقص بها الإيمان تكون مانعة من قبول بعض الطاعات ، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما وقال : من أتى عرافا فصدقه بما يقول ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما وقال : أيما عبد أبق من مواليه ، لم تقبل له صلاة . [ ص: 151 ] وحديث ابن عمر يستدل به على أن الاسم إذا شمل أشياء متعددة ، لم يزل زوال الاسم بزوال بعضها ، فيبطل بذلك قول من قال : إن الإيمان لو دخلت فيه الأعمال للزم أن يزول بزوال عمل مما دخل في مسماه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الخمس دعائم الإسلام ومبانيه ، وفسر بها الإسلام في حديث جبريل ، وفي حديث طلحة بن عبيد الله الذي فيه أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ، ففسره له بهذه الخمس . ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون : لو زال من الإسلام خصلة واحدة ، أو أربع خصال سوى الشهادتين ، لم يخرج بذلك من الإسلام . وقد روى بعضهم أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام ، لا عن الإسلام ، وهذه اللفظة لم تصح عند أئمة الحديث ونقاده ، منهم أبو زرعة الرازي ، ومسلم بن الحجاج ، وأبو جعفر العقيلي وغيرهم . وقد ضرب العلماء مثل الإيمان بمثل شجرة لها أصل وفروع وشعب ، فاسم الشجرة يشتمل على ذلك كله ، ولو زال شيء من شعبها وفروعها لم يزل عنه اسم الشجرة ، وإنما يقال هي شجرة ناقصة أو غيرها أتم منها . وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك في قوله تعالى : ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ( إبراهيم : 24 ) . والمراد بالكلمة كلمة التوحيد ، وبأصلها التوحيد الثابت في القلوب ، وأكلها : هو الأعمال الصالحة الناشئة منه . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمسلم بالنخلة ولو زال شيء من فروع [ ص: 152 ] النخلة ، أو من ثمرها ، لم يزل بذلك عنها اسم النخلة بالكلية ، وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر . ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا ، مع أن الجهاد أفضل الأعمال ، وفي رواية أن ابن عمر قيل له : فالجهاد ؟ قال الجهاد حسن ، ولكن هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه الإمام أحمد . وفي حديث معاذ بن جبل إن رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، وذروة سنامه : أعلى شيء فيه ، ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بني عليها ، وذلك لوجهين : أحدهما : أن الجهاد فرض كفاية عند جمهور العلماء ، ليس بفرض عين بخلاف هذه الأركان . والثاني : أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر ، بل إذا نزل عيسى عليه السلام ، ولم يبق حينئذ ملة غير ملة الإسلام ، فحينئذ تضع الحرب أوزارها ، ويستغني عن الجهاد بخلاف هذه الأركان ، فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك ، والله أعلم .

[ص: 153 ] الحديث الرابع :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث متفق على صحته ، وتلقته الأمة بالقبول ، رواه الأعمش عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود ، ومن طريقه خرجه الشيخان في " صحيحيهما " وقد روي عن محمد بن زيد الأسفاطي ، قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ، فقلت : يا رسول الله ، حديث ابن مسعود الذي حدث عنك ، فقال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق . فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي لا إله غيره حدثته به أنا " يقوله ثلاثا ، ثم قال غفر الله للأعمش كما حدث به ، وغفر الله [ ص: 154 ] لمن حدث به قبل الأعمش ، ولمن حدث به بعده . وقد روي عن ابن مسعود من وجوه أخر . فقوله صلى الله عليه وسلم : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة قد روي تفسيره عن ابن مسعود ؛ روى الأعمش ، عن خيثمة ، عن ابن مسعود قال : إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعرة وظفر ، فتمكث أربعين يوما ، ثم تنحدر في الرحم ، فتكون علقة . قال : فذلك جمعها . خرجه ابن أبي حاتم وغيره . وروي تفسير الجمع مرفوعا بمعنى آخر ، فخرج الطبراني وابن منده في كتاب " التوحيد " من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى إذا أراد خلق عبد ، فجامع الرجل المرأة ، طار ماؤه في كل عرق وعضو منها ، فإذا كان يوم السابع جمعه الله ، ثم أحضره في كل عرق له دون آدم : في أي صورة ما شاء ركبك قال ابن منده : إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما [ ص: 155 ] وخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني من رواية مطهر بن الهيثم ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لجده يا فلان ما ولد لك ؟ قال يا رسول الله ، وما عسى أن يولد لي ؟ إما غلام وإما جارية ، قال : فمن يشبه ؟ قال من عسى أن يشبه ؟ يشبه أمه أو أباه ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولن كذا . إن النطفة إذا استقرت في الرحم ، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ، أما قرأت هذه الآية في أي صورة ما شاء ركبك ( الانفطار : 8 ) قال : سلكك وهذا إسناد ضعيف ومطهر بن الهيثم ضعيف جدا : وقال البخاري : هو حديث لم يصح وذكر بإسناده عن موسى بن علي ، عن أبيه أن أباه لم يسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق يعني : أنه لا صحبة له . ويشهد لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له : ولدت امرأتي غلاما أسود قال : لعله نزعه عرق . و قوله ثم يكون علقة مثل ذلك يعني : أربعين يوما ، والعلقة قطعة من دم . ثم يكون مضغة مثل ذلك يعني : أربعين يوما . والمضغة : قطعة من لحم . ثم يرسل الله إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مائة وعشرين يوما ، في ثلاثة أطوار ، في كل أربعين يوما منها يكون في طور ، فيكون في الأربعين الأولى نطفة ، ثم في [ ص: 156 ] الأربعين الثانية علقة ، ثم في الأربعين الثالثة ، مضغة ثم بعد المائة وعشرين يوما ينفخ الملك فيه الروح ، ويكتب له هذه الأربع الكلمات . وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار كقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ( الحج : 5 ) . وذكر هذه الأطوار الثلاثة : النطفة والعلقة والمضغة في مواضع متعددة من القرآن ، وفي مواضع أخر ذكر زيادة عليها ، فقال في سورة المؤمنون ( 12 - 14 ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين . فهذه سبع تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه . وكان ابن عباس يقول : خلق ابن آدم من سبع ، ثم يتلو هذه الآية . وسئل عن العزل ، فقرأ هذه الآية ثم قال ، فهل يخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة ؟ وفي رواية عنه قال : وهل تموت نفس حتى تمر على هذا الخلق ؟ . وروي عن رفاعة بن رافع قال : جلس إلي عمر وعلي والزبير وسعد ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكروا العزل ، فقالوا لا بأس به ، فقال رجل : إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى فقال علي : لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع : تكون سلالة من طين ، ثم تكون نطفة ، ثم تكون علقة ، ثم تكون مضغة ، ثم تكون عظاما ، ثم تكون لحما ، ثم تكون خلقا آخر ، فقال عمر : صدقت أطال الله بقاءك . رواه الدارقطني في " المؤتلف والمختلف " . [ ص: 157 ] وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها ما لم ينفخ فيه الروح ، وجعلوه كالعزل ، وهو قول ضعيف ؛ لأن الجنين ولد انعقد ، وربما تصور وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية ، وإنما تسبب إلى منع انعقاده ، وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا أراد الله خلقه ، كما قال النبي لما سئل عن العزل : قال : لا عليكم أن لا تعزلوا إنه ليس من نفس منفوسة إلا أن الله خلقها . وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة ، لم يجز للمرأة إسقاطه ؛ لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة ، فإنها لم تنعقد بعد ، وقد لا تنعقد ولدا . وقد ورد في بعض الروايات في حديث ابن مسعود ذكر العظام وأنه يكون عظما أربعين يوما ، فخرج الإمام أحمد من رواية علي بن زيد سمعت أبا عبيدة يحدث قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تغير ، فإذا مضت الأربعون ، صارت علقة ، ثم مضغة كذلك ، ثم عظاما كذلك ، فإذا أراد الله تعالى أن يسوي خلقه ، بعث الله إليها ملكا ، وذكر بقية الحديث . ويروى من حديث عاصم عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم ، تكون أربعين ليلة نطفة ، ثم تكون علقة أربعين ليلة ، ثم تكون عظاما أربعين ليلة ، ثم يكسو الله العظام لحما . ورواية الإمام أحمد تدل على أن الجنين لا يكسى اللحم إلا بعد مائة وستين [ ص: 158 ] يوما ، وهذا غلط بلا ريب ، فإنه بعد مائة وعشرين يوما ينفخ فيه الروح بلا ريب كما سيأتي ذكره ، وعلي بن زيد : هو ابن جدعان لا يحتج به ، وقد ورد في حديث حذيفة بن أسيد ما يدل على خلق العظام واللحم في أول الأربعين الثانية ، ففي " صحيح مسلم " عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها ، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب أجله ؟ فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول يا رب رزقه ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص . وظاهر هذا الحديث يدل على أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أول الأربعين الثانية ، فيلزم من ذلك أن يكون في الأربعين الثانية لحما وعظاما . وقد تأول بعضهم ذلك على أن الملك يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء ، فيجعل بعضها للجلد ، وبعضها للحم ، وبعضها للعظام ، فيقدر ذلك كله قبل وجوده . وهذا خلاف ظاهر الحديث ، بل ظاهره أن يصورها ويخلق هذه الأجزاء كلها ، وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام ، قد يكون هذا في بعض الأجنة دون بعض . وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على أن التصوير يكون للنطفة أيضا في اليوم السابع ، وقد قال الله عز وجل إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ( الإنسان : 2 ) وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها . قال ابن مسعود : أمشاجها : عروقها [ ص: 159 ] وقد ذكر علماء الطب ما يوافق ذلك ، وقالوا : إن المني إذا وقع في الرحم ، حصل له زبدية ورغوة ستة أيام أو سبعة ، وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم ، ثم بعد ذلك تستمد منه ، وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام ، وقد يتقدم يوما ويتأخر يوما ، ثم بعد ستة أيام - وهو الخامس عشر من وقت العلوق - ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة ، ثم تتميز الأعضاء تميزا ظاهرا ، ويتنحى بعضها عن ممارسة بعض ، وتمتد رطوبة النخاع ، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تميزا يستبين في بعض ، ويخفى في بعض . قالوا : وأقل مدة يتصور الذكر فيها ثلاثون يوما ، والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يوما ، وقد يتصور في خمسة وأربعين يوما ، قالوا : ولم يوجد في الأسقاط ذكر تم قبل ثلاثين يوما ، ولا أنثى قبل أربعين يوما ، فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد في التخليق في الأربعين الثانية ، ومصيره لحما فيها أيضا . وقد حمل بعضهم حديث ابن مسعود على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين الأولى وصف المني ، وفي الأربعين الثانية وصف العلقة ، وفي الأربعين الثالثة وصف المضغة ، وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره ، وليس في حديث ابن مسعود ذكر وقت تصوير الجنين . وقد روي عن ابن مسعود نفسه ما يدل على أن تصويره قد يقع قبل الأربعين [ ص: 160 ] الثالثة أيضا ، فروى الشعبي عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفه ، فقال : أي رب ، مخلقة أم غير مخلقة ؟ فإن قيل : غير مخلقة ، لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام ، وإن قيل مخلقة ، قال : أي رب ، أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ، ما الأجل وما الأثر ؟ ، وبأي أرض تموت ؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله ، فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله ، فيقال : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة ، قال : فتخلق ، فتعيش في أجلها وتأكل في رزقها ، وتطأ في أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ، ماتت ، فدفنت في ذلك ، ثم تلا الشعبي هذه الآية : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ( الحج : 5 ) . فإذا بلغت مضغة ، نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن كانت غير مخلقة ، قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست نسمة . خرجه ابن أبي حاتم وغيره . وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود أن لا تصوير قبل ثمانين يوما ، فروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ( آل عمران : 6 ) قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام ، طارت في الجسد أربعين يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن تخلق ، بعث الله ملكا يصورها ، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه ، فيخلطه في المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصورها كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ؟ أشقي أو سعيد ؟ وما رزقه ، وما عمره ، وما أثره ، وما مصائبه ؟ فيقول الله تبارك وتعالى ، ويكتب الملك ، فإذا مات ذلك الجسد ، دفن حيث [ ص: 161 ] أخذ ذلك التراب ، خرجه ابن جرير الطبري في " تفسيره " ولكن السدي مختلف في أمره ، وكان الإمام أحمد ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد ، كما كان هو وغيره ينكرون على الواقدي جمعه الأسانيد المتعددة للحديث الواحد . وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية ، وتأولوا حديث ابن مسعود المرفوع عليها ، وقالوا : أقل ما يتبين خلق الولد أحد وثمانون يوما ، لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة ، ولا يتخلق قبل أن يكون مضغة . وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي بناء على هذا الأصل : إنه لا تنقضي العدة ، ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلقة ، وأقل ما يمكن أن يتخلق ويتصور في أحد وثمانين يوما . وقال أحمد في العلقة : هي دم لا يستبين فيها الخلق ، فإن كانت المضغة غير مخلقة ، فهل تنقضي بها العدة ، وتصير أم الولد بها مستولدة ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد ، وإن لم يظهر فيها التخطيط ، ولكن كان خفيا لا يعرفه إلا أهل الخبرة من النساء ، فشهدن بذلك ، قبلت شهادتين ، ولا فرق بين أن يكون بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء ، ونص على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه ، ونقل عنه ابنه صالح في الطفل يتبين خلقه . [ ص: 162 ] قال الشعبي : إذا نكس في الخلق الرابع ، كان مخلقا ، انقضت به العدة ، وعتقت به الأمة ، إذا كان لأربعة أشهر ، وكذا نقل عنه حنبل : إذا أسقطت أم الولد ، فإن كان خلقة تامة عتقت ، وانقضت به العدة إذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح ، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه ، وقد قال أحمد في رواية عنه : إذا تبين خلقه ، ليس فيه اختلاف أنها تعتق بذلك إذا كانت أمة ، ونقل عنه أيضا جماعة في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها ، وهو قول النخعي ، وحكى قولا للشافعي ، ومن أصحابنا من طرد هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدة به أيضا . وهذا كله مبني على أنه يمكن التخليق في العلقة كما قد يستدل على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدم إلا أن يقال : حديث حذيفة إنما يدل على أنه يتخلق إذا صار لحما وعظما ، وأن ذلك قد يقع في الأربعين الثانية ، لا في حال كونه علقة ، وفي ذلك نظر ، والله أعلم . وما ذكره الأطباء يدل على أن العلقة تتخلق وتتخطط ، وكذلك القوابل من النسوة يشهدن بذلك ، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال كون الجنين نطفة أيضا ، والله تعالى أعلم

[ص: 176 ] الحديث الخامس :

عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضي الله عنها وألفاظه مختلفة ، ومعناها متقارب ، وفي بعض ألفاظه : " من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد " . وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام ، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث : الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها ، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب ، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله ، فهو مردود على عامله ، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله ، فليس من الدين في شيء . وسيأتي حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين [ ص: 177 ] المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة . وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : " إن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها " وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه ، ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردها . فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع ، فهو مردود ، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود ، والمراد بأمره هاهنا : دينه وشرعه ، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد . فالمعنى إذا : أن من كان عمله خارجا عن الشرع ليس متقيدا بالشرع ، فهو مردود . وقوله : " ليس عليه أمرنا " إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة ، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها ، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع موافقا لها ، فهو مقبول ، ومن كان خارجا عن ذلك ، فهو مردود .

[ص: 193 ] الحديث السادس :

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص ، والمعنى واحد أو متقارب . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وعمار بن ياسر ، وجابر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب . [ ص: 194 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس معناه : أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه ، وكذلك الحرام المحض ، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس ، هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ وأما الراسخون في العلم ، فلا يشتبه عليهم ذلك ، ويعلمون من أي القسمين هي . فأما الحلال المحض : فمثل أكل الطيبات من الزروع ، والثمار وبهيمة الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان ، أو الصوف أو الشعر ، وكالنكاح ، والتسري وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع ، أو بميراث ، أو هبة ، أو غنيمة . والحرام المحض : مثل أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، ولباس الحرير للرجال ، ومثل الأكساب المحرمة كالربا والميسر وثمن مالا يحل بيعه ، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك . وأما المشتبه : فمثل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه ، إما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير ، والضب ، وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها ، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة والتورق ونحو [ ص: 195 ] ذلك ، وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة . وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب ، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام ، كما قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( النحل : 89 ) قال مجاهد وغيره : كل شيء أمروا به أو نهوا عنه ، وقال تعالى في آخر سورة النساء ( الآية : 176 ) التي بين فيها كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع : يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم وقال تعالى : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ( الأنعام : 119 ) ، وقال تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ( التوبة : 115 ) ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) وما قبض صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له ولأمته الدين ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة : 3 ) . وقال صلى الله عليه وسلم تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . وقال أبو ذر : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما . [ ص: 196 ] ولما شك الناس في موته صلى الله عليه وسلم ، قال عمه العباس رضي الله عنه : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا واضحا ، وأحل الحلال وحرم الحرام ، ونكح وطلق ، وحارب وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه بمخبطه ، ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم .

[ص: 215 ] الحديث السابع :

عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدين النصيحة ثلاثا قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن تميم الداري ، وقد روي عن سهيل وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرجه الترمذي من هذا الوجه ، فمن العلماء من صححه من الطريقين جميعا ، ومنهم من قال : إن الصحيح حديث تميم ، والإسناد الآخر وهم . وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر ، وثوبان ، وابن عباس ، وغيرهم . وقد ذكرنا في أول الكتاب عن أبي داود أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه . [ ص: 216 ] وقال الحافظ أبو نعيم : هذا الحديث له شأن ، ذكر محمد بن أسلم الطوسي أنه أحد أرباع الدين . وخرجه الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لا يهتم بأمر المسلمين ، فليس منهم ، ومن لم يمس ويصبح ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ، ولعامة المسلمين فليس منهم . وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي . وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموما ، وفي بعضها النصح لولاة أمورهم ، وفي بعضها : نصح ولاة الأمور لرعاياهم . فأما الأول - وهو النصح للمسلمين - عموما ، ففي " الصحيحين " عن جرير بن عبد الله قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حق المؤمن على المؤمن ست فذكر منها : وإذا استنصحك فانصح له . وروي هذا الحديث من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفي " المسند " عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا [ ص: 217 ] استنصح أحدكم أخاه ، فلينصح له . وأما الثاني : وهو النصح لولاة الأمور ، ونصحهم لرعاياهم ، ففي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يرضى لكم ثلاثا : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم . وفي " المسند " وغيره عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في خطبته بالخيف من منى ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين وقد روى هذه الخطبة عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو سعيد الخدري . وقد روي من حديث أبي سعيد بلفظ آخر خرجه الدارقطني في " الأفراد " بإسناد جيد ، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : [ ص: 218 ] النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين . وفي " الصحيحين " عن معقل بن يسار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يسترعيه الله رعية ثم لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل الجنة . وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السلام أنهم نصحوا لأممهم كما أخبر الله بذلك عن نوح ، وعن صالح وقال : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ( التوبة : 91 ) يعني : أن من تخلف عن الجهاد لعذر ، فلا حرج عليه بشرط أن يكون ناصحا لله ورسوله في تخلفه ، فإن المنافقين كانوا يظهرون الأعذار كاذبين ، ويتخلفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين النصيحة ، فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل ، وسمى ذلك كله دينا ، فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها ، وهو مقام الإحسان ، فلا يكمل النصح لله بدون ذلك ، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة ، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرمات والمكروهات على هذا الوجه أيضا . وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أرأيتم لو كان لأحدكم عبدان ، فكان أحدهما يطيعه إذا أمره ، ويؤدي إليه إذا ائتمنه ، وينصح له إذا غاب عنه ، وكان الآخر يعصيه إذا أمره ، ويخونه إذا ائتمنه ، ويغشه إذا غاب عنه كانا سواء ؟ قالوا : لا ، قال : فكذاكم أنتم عند الله عز وجل خرجه ابن أبي الدنيا . [ ص: 219 ] وخرج الإمام أحمد معناه من حديث أبي الأحوص عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الفضيل بن عياض : الحب أفضل من الخوف ، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك ، والآخر يخافك ، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدا كنت أو غائبا لحبه إياك ، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف ويغشك إذا غبت ولا ينصحك . قال عبد العزيز بن رفيع : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : ما الخالص من العمل ؟ قال : ما لا تحب أن يحمدك الناس عليه ، قالوا : فما النصح لله ؟ قال : أن تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس ، وإن عرض لك أمران : أحدهما لله ، والآخر للدنيا ، بدأت بحق الله تعالى . قال الخطابي : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له ، قال : وأصل النصح في اللغة الخلوص ، يقال : نصحت العسل : إذا خلصته من الشمع . فمعنى النصيحة لله سبحانه : صحة الاعتقاد في وحدانيته ، وإخلاص النية [ ص: 220 ] في عبادته ، والنصيحة لكتابه : الإيمان به ، والعمل بما فيه ، والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ، ونهى عنه ، والنصيحة لعامة المسلمين : إرشادهم إلى مصالحهم . انتهي . وقد حكى الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه " تعظيم قدر الصلاة " عن بعض أهل العلم أنه فسر هذا الحديث بما لا مزيد على حسنه ، ونحن نحكيه هاهنا بلفظه . قال محمد بن نصر : قال بعض أهل العلم : جماع تفسير النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له من كان ، وهي على وجهين : أحدهما فرض ، والآخر نافلة ، فالنصيحة المفترضة لله : هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض ، ومجانبة ما حرم . وأما النصيحة التي هي نافلة ، فهي إيثار محبته على محبة نفسه ، وذلك أن يعرض أمران ، أحدهما لنفسه ، والآخر لربه ، فيبدأ بما كان لربه ، ويؤخر ما كان لنفسه ، فهذه جملة تفسير النصيحة لله ، الفرض منه والنافلة ، ولذلك تفسير ، وسنذكر بعضه ليفهم بالتفسير من لا يفهم بالجملة . فالفرض منها مجانبة نهيه ، وإقامة فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقا له ، فإن عجر عن الإقامة بفرضه لآفة حلت به من مرض ، أو حبس ، أو غير ذلك ، عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلة المانعة له ، قال الله عز وجل ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل ( التوبة : 91 ) ، فسماهم محسنين لنصيحتهم لله بقلوبهم لما منعوا من الجهاد بأنفسهم . وقد ترفع الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات ، ولا يرفع عنه النصح لله ، فلو كان من المرض بحال لا يمكنه عمل بشيء من جوارحه بلسان ولا [ ص: 221 ] غيره ، غير أن عقله ثابت ، لم يسقط عنه النصح لله بقلبه وهو أن يندم على ذنوبه ، وينوي إن صح أن يقوم بما افترض الله عليه ، ويجتنب ما نهاه عنه ، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه . وكذلك النصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوجبه على الناس عن أمر ربه ، ومن النصح الواجب لله أن لا يرضى بمعصية العاصي ، ويحب طاعة من أطاع الله ورسوله . وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض ، فبذل المجهود بإيثار الله على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح حتى لا يكون في الناصح فضل عن غيره ، لأن الناصح إذا اجتهد ، لم يؤثر نفسه عليه ، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته ، فكذلك الناصح لربه ، ومن تنفل لله بدون الاجتهاد ، فهو ناصح على قدر عمله ، غير مستحق للنصح بكماله .

[ص: 226 ] الحديث الثامن :

عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمر . وقوله إلا بحق الإسلام هذه اللفظة تفرد بها البخاري دون مسلم . وقد روي معنى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ففي " صحيح البخاري " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وصلوا صلاتنا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها . وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويشهدوا أن لا إله إلا [ ص: 227 ] الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل . وخرجه ابن ماجه مختصرا . وخرج نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضا ، ولكن المشهور من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكر : إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة ففي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله عز وجل وفي رواية لمسلم : حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به . وخرجه مسلم أيضا من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث أبي هريرة الأول وزاد في آخره : ثم قرأ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ( الغاشية : 21 ) . [ ص: 228 ] وخرج أيضا من حديث أبي مالك الأشجعي ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل . وقد روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : كان هذا في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة ، وهذا ضعيف جدا ، وفي صحته عن سفيان نظر ، فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وبعضهم تأخر إسلامه . ثم قوله عصموا مني دماءهم وأموالهم يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورا بالقتال ، ويقتل من أبى الإسلام ، وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة ، ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ، ويعصم دمه بذلك ، ويجعله مسلما ، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال : لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف ، واشتد نكيره عليه . ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة ، بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام ، واشترطوا أن لا يزكوا ، ففي مسند الإمام أحمد ، عن جابر قال : اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيتصدقون ويجاهدون . وفيه أيضا عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين ، فقبل منه . [ ص: 229 ] وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث ، وقال : يصح الإسلام على الشرط الفاسد ، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها ، واستدل أيضا بأن حكيم بن حزام قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما . قال أحمد : معناه أن يسجد من غير ركوع . وخرج محمد بن نصر المروزي بإسناد ضعيف جدا عن أنس قال : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل من أجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وكانتا فريضتين على من أقر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام ، وذلك قول الله عز وجل : فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( المجادلة : 13 ) وهذا لا يثبت ، وعلى تقدير ثبوته ، فالمراد منه أنه لم يكن يقر أحدا دخل في الإسلام [ ص: 230 ] على ترك الصلاة والزكاة وهذا حق ، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر معاذا لما بعثه إلى اليمن أن يدعوهم أولا إلى الشهادتين ، وقال : إن هم أطاعوك لذلك ، فأعلمهم بالصلاة ثم بالزكاة ومراده أن من صار مسلما بدخوله في الإسلام أمر بعد ذلك بإقام الصلاة ، ثم بإيتاء الزكاة ، وكان من سأله عن الإسلام يذكر له مع الشهادتين بقية أركان الإسلام ، كما قال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام ، وكما قال للأعرابي الذي جاءه ثائر الرأس يسأله عن الإسلام . وبهذا الذي قررناه يظهر الجمع بين ألفاظ أحاديث هذا الباب ، ويتبين أن كلها حق ، فإن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما ، ويصير بذلك مسلما ، فإذا دخل في الإسلام ، فإن أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وقام بشرائع الإسلام ، فله ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وإن أخل بشيء من هذه الأركان ، فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا . وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين ، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع ، وفي هذا نظر ، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار تدل على خلاف هذا ، وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليا يوم خيبر ، فأعطاه الراية وقال : امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي شيئا ، ثم وقف ، فصرخ : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس ؟ فقال : قاتلهم على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عصمة للنفوس والأموال إلا بحقها ، ومن حقها الامتناع من الصلاة والزكاة بعد الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم

[ ص: 238 ] الحديث التاسع :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما نهيتكم عنه ، فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ، كلاهما عن أبي هريرة ، وخرجاه من رواية أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه . وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم [ ص: 239 ] بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء ، فدعوه . وخرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرا ، وقال فيه : فنزل قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( المائدة : 101 ) . وقد روي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج ، وقالوا : أفي كل عام ؟ . وفي " الصحيحين " عن أنس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : من أبي ؟ فقال : " فلان " فنزلت هذه الآية لا تسألوا عن أشياء . وفيهما أيضا عن قتادة ، عن أنس قال : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة ، فغضب ، فصعد المنبر ، فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته ، فقام رجل كان إذا لاحى الرجال دعي إلى غير أبيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " ثم أنشأ عمر ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، نعوذ بالله من الفتن . وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ [ ص: 240 ] فأنزل الله هذه الآية ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . وخرج ابن جرير الطبري في " تفسيره " من حديث أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارا وجهه ، حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل ، فقال : أين أنا ؟ فقال " في النار " فقام إليه آخر فقال : من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " فقام عمر فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا ، قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وروي أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس ، فقال : يا قوم كتب عليكم الحج فقام رجل ، فقال يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، فقال : والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذن لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإذا أمرتكم بشيء ، فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء ، فانتهوا عنه ، فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن ، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه . فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه ما يسوء [ ص: 241 ] السائل جوابه مثل سؤال السائل ؛ هل هو في النار أو في الجنة ، وهل أبوه ما ينسب إليه أو غيره ، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء ، كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم . وقريب من ذلك سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت ، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب ، وقال عكرمة وغيره : إن الآية نزلت في ذلك . ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده ، ولم يطلعهم عليه ، كالسؤال عن وقت الساعة ، وعن الروح . ودلت أيضا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببا لنزول التشديد فيه ، كالسؤال عن الحج : هل يجب كل عام أم لا ؟ وفي " الصحيح " عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته . ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللعان كره المسائل وعابها حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال .

[ص: 258 ] الحديث العاشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ( المؤمنون : 51 ) ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ( البقرة : 172 ) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر : أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ؟ . رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، وخرجه الترمذي ، وقال : حسن غريب .

وفضيل بن مرزوق ثقة وسط خرج له مسلم دون البخاري .

وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله طيب هذا قد جاء أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، جواد يحب الجود خرجه الترمذي ، وفي إسناده مقال والطيب هنا : معناه الطاهر .

والمعنى أن الله تعالى مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها ، وهذا كما في [ ص: 259 ] قوله : والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون ( النور : 26 ) ، والمراد : المنزهون من أدناس الفواحش وأوضارها .

وقوله " لا يقبل إلا طيبا " قد ورد معناه في حديث الصدقة ، ولفظه : لا يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا . . . . . . . والمراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيبا حلالا .

وقد قيل : إن المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله : " لا يقبل الله إلا طيبا " أعم من ذلك ، وهو أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبا طاهرا من المفسدات كلها ، كالرياء والعجب ، ولا من الأموال إلا ما كان طيبا حلالا ، فإن الطيب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات ، فكل هذه تنقسم إلى طيب وخبيث .

وقد قيل : إنه يدخل في قوله تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ( المائدة : 100 ) هذا كله .

وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث ، فقال : ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ( إبراهيم : 24 ) ، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ( إبراهيم : 26 ) ، وقال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب ( فاطر : 10 ) ، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث .

وقد قيل : إنه يدخل في ذلك الأقوال والأعمال والاعتقادات أيضا ، ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب ، بقوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ( النحل : 32 ) وإن الملائكة تقول عند الموت : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، وإن الملائكة تسلم عليهم عند دخولهم الجنة ، يقولون [ ص: 260 ] لهم : طبتم ، وقد ورد في الحديث أن المؤمن إذا زار أخاه في الله تقول له الملائكة : " طبت ، وطاب ممشاك ، وتبوأت من الجنة منزلا " .

فالمؤمن كله طيب قلبه ولسانه وجسده بما سكن في قلبه من الإيمان ، وظهر على لسانه من الذكر ، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان ، وداخلة في اسمه فهذه الطيبات كلها يقبلها الله عز وجل .

ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه ، وأن يكون من حلال ، فبذلك يزكو عمله .

وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال ، وإن أكل الحرام ، يفسد العمل ، ويمنع قبوله ، فإنه قال بعد تقريره : " إن الله لا يقبل إلا طيبا " إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم .

والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال ، وبالعمل الصالح ، فما دام الأكل حلالا ، فالعمل الصالح مقبول ، فإذا كان الأكل غير حلال ، فكيف يكون العمل مقبولا ؟ .

وما ذكره بعد ذلك من الدعاء ، وأنه كيف يتقبل مع الحرام ، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام . وقد خرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن ابن عباس ، قال : تليت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ( البقرة : 168 ) ، فقام سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا سعد [ ص: 261 ] أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من سحت ، فالنار أولى به .

وفي " مسند " الإمام أحمد بإسناد فيه نظر أيضا عن ابن عمر قال : " من اشترى ثوبا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام ، لم يقبل الله له صلاة ما كان عليه " ، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال : صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويروى من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا معناه أيضا ، خرجه البزار وغيره بإسناد ضعيف جدا .

وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ، ووضع رجله في الغرز ، فنادى : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لبيك وسعديك وزادك حلال ، وراحلتك حلال ، وحجك مبرور غير مأزور ، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة ، فوضع رجله في [ ص: 262 ] الغرز ، فنادى لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك ، زادك حرام ، ونفقتك حرام ، وحجك غير مبرور " . ويروى من حديث عمر بنحوه بإسناد ضعيف أيضا .

وروى أبو يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام .

[ص: 278 ] الحديث الحادي عشر :

عن الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه النسائي والترمذي ، وقال : حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " والحاكم من حديث بريد بن أبي مريم ، عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي ، وصححه الترمذي ، وأبو الحوراء السعدي ، قال الأكثرون : اسمه ربيعة بن شيبان ، ووثقه النسائي وابن حبان ، وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء اسمه ربيعة بن شيبان ، ومال إلى التفرقة بينهما ، وقال الجوزجاني : أبو الحوراء مجهول لا يعرف .

وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر ، وعند الترمذي [ ص: 279 ] وغيره زيادة في هذا الحديث وهي " فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة " ولفظ ابن حبان : " فإن الخير طمأنينة ، وإن الشر ريبة " .

وقد خرجه الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على أنس .

وخرجه الطبراني من رواية مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، قال الدارقطني : وإنما يروى هذا من قول ابن عمر ، وعن عمر ، ويروى عن مالك من قوله . انتهى .

ويروى بإسناد ضعيف ، عن عثمان بن عطاء الخراساني - وهو ضعيف - ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " قال : وكيف لي بالعلم بذلك ؟ قال : " إذا أردت أمرا ، فضع يدك على صدرك ، فإن القلب يضطرب للحرام ، ويسكن للحلال ، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة " . وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلا .

وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه : قيل له : فمن الورع ؟ قال : " الذي يقف عند الشبهة " [ ص: 280 ] وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة : منهم عمر ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وعن ابن مسعود ، قال : ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك ؟ ! وقال عمر : دعوا الربا والريبة ، يعني : ما ارتبتم فيه ، وإن لم تتحققوا أنه ربا .

ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب : بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك .

وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : إذا كان العبد ورعا ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .

وقال الفضيل : يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

وقال حسان بن أبي سنان : ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء ، فدعه . وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله .

قال ابن المبارك : كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز : إن قصب السكر أصابته آفة ، فاشتر السكر فيما قبلك ، فاشتراه من رجل ، فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا ، قال : فأتى صاحب السكر ، فقال : يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي ، فلم أعلمك ، فأقلني فيما اشتريت منك ، فقال له الآخر : قد أعلمتني الآن ، وقد طيبته لك ، قال : فرجع فلم يحتمل قلبه ، فأتاه ، فقال : يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه ، فأحب أن تسترد هذا البيع ، قال : فما زال به حتى رده عليه .

[ ص: 281 ] وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له : أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب .

وقال هشام بن حسان : ترك محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا .

وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه ، فأتاه كتابه : إني قدمت البصرة ، فوجدت الطعام مبغضا فحبسته ، فزاد الطعام ، فازددت فيه كذا وكذا ، فكتب إليه الحجاج : إنك قد خنتنا ، وعملت بخلاف ما أمرناك به ، فإذا أتاك كتابي ، فتصدق بجميع ثمن الطعام على فقراء البصرة ، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك .

وتنزه يزيد بن زريع عن خمسائة ألف من ميراث أبيه ، فلم يأخذه ، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين ، وكان يزيد يعمل الخوص ، ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله .

وكان المسور بن مخرمة قد احتكر طعاما كثيرا ، فرأى سحابا في الخريف فكرهه ، فقال : ألا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين ؟ فآلى أن لا يربح فيه شيئا ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال له عمر : جزاك الله خيرا .

وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارا منهيا عنه ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لدخوله في ربح ما لم يضمن ، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أحمد في رواية [ ص: 282 ] عنه فيمن أجر ما استأجره بربح : إنه يتصدق بالربح ، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب : إنه يتصدق به ، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل صلاحها بشرط القطع ، ثم تركها حتى بدا صلاحها : إنه يتصدق بالزيادة ، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب ، لأن الصدقة بالشبهات مستحب .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم ، فقالت : إنما هي أيام قلائل فما رابك ، فدعه يعني ما اشتبه عليك : هل هو حلال أو حرام ، فاتركه ، فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو .

[ص: 287 ] الحديث الثاني عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه حديث حسن ، رواه الترمذي وغيره .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي ، وابن ماجه من رواية الأوزاعي ، عن قرة بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم ، وقال الترمذي : غريب ، وقد حسنه الشيخ المصنف رحمه الله ، لأن رجال إسناده ثقات ، وقرة بن عبد الرحمن بن حيويل وثقه قوم وضعفه آخرون ، وقال ابن عبد البر : هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات ، وهذا موافق لتحسين الشيخ له ، وأما أكثر الأئمة ، فقالوا : ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد وإنما هو محفوظ عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، كذلك رواه الثقات ، عن الزهري ، منهم مالك في الموطأ ، ويونس ، ومعمر ، وإبراهيم بن سعد إلا أنه قال : " من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه " وممن قال : إنه لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، [ ص: 288 ] والبخاري ، والدارقطني ، وقد خلط الضعفاء في إسناده على الزهري تخليطا فاحشا ، والصحيح فيه المرسل ، ورواه عبد الله بن عمر العمري ، عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي ، وخرجه الإمام أحمد في " مسنده " من هذا الوجه ، والعمري ليس بالحافظ ، وخرجه أيضا من وجه آخر عن الحسين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وضعفه البخاري في " تاريخه " من هذا الوجه أيضا ، وقال : لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر وكلها ضعيفة .

وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب ، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح ، عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال : جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث : قول النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وقوله صلى الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له في الوصية : لا تغضب وقوله صلى الله عليه وسلم : المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه .

ومعنى هذا الحديث : أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل ، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ؛ ومعنى يعنيه : أنه تتعلق عنايته به ، ويكون من مقصده ومطلوبه ، والعناية : شدة الاهتمام بالشيء ، يقال عناه يعنيه : إذا اهتم به وطلبه ، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس ، بل بحكم الشرع والإسلام ولهذا جعله من حسن الإسلام ، فإذا حسن إسلام المرء ، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال [ ص: 289 ] والأفعال ، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام .

وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات ، كما قال صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وإذا حسن الإسلام ، اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات ، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها ، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه ، وبلغ إلى درجة الإحسان ، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإن الله يراه ، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه ، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه ، فقد حسن إسلامه ، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ، ويشتغل بما يعنيه فيه ، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه كما وصى صلى الله عليه وسلم رجلا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه . وفي " المسند " والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا : " الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما حوى ، وتحفظ البطن وما وعى ، ولتذكر الموت والبلى ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله حق الحياء " . [ ص: 290 ] قال بعضهم : استحي من الله على قدر قربه منك ، وخف الله على قدر قدرته عليك .

وقال بعض العارفين : إذا تكلمت ، فاذكر سمع الله لك ، وإذا سكت ، فاذكر نظره إليك .

وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع : كقوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق : 16 ، 17 ، 17 ] ، وقوله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ يونس : 61 ] ، وقال تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ( الزخرف : 80 ) .

وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة ( ق ) .

[ ص: 291 ] وفي " المسند " من حديث الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه .

وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم ؟ قال له : مرهم بإفشاء السلام ، وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم .

وفي " صحيح ابن حبان " عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام : وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن تكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكر فيها في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو مرمة لمعاش ، أو لذة في غير محرم ؛ وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه .

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : من عد كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه . وهو كما قال ، فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله ، فيجازف فيه ، ولا يتحرى ، وقد خفي هذا على معاذ بن جبل حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنؤاخذ بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ .

[ ص: 292 ] وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم ، فقال : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ( النساء : 114 ) .

وخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث أم حبيبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكر الله عز وجل .

وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري ، فقال سفيان : وما تعجبكم من هذا ، أليس قد قال الله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ؟ ( النساء : 114 ) أليس قد قال الله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ( النبأ : 38 ) .

وخرج الترمذي من حديث أنس قال : توفي رجل من أصحابه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - فقال رجل : أبشر بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا تدري ، فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه [ ص: 293 ] متعددة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي بعضها : أنه قتل شهيدا .

وخرج أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث شهاب بن مالك وكان وفد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له امرأة : يا رسول الله ألا تسلم علينا ؟ فقال : إنك من قبيل يقللن الكثير ، وتمنع ما لا يغنيها ، وتسأل عما لا يعنيها .

وخرجه العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أكثر الناس ذنوبا أكثرهم كلاما فيما لا يعنيه " .

قال عمرو بن قيس الملائي : مر رجل بلقمان والناس عنده ، فقال له : ألست عبد بني فلان ؟ قال بلى ، قال : الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا ؟ قال : بلى ، فقال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني .

وقال وهب بن منبه : كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء ، فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء ، [ ص: 294 ] فقالا له : يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة ؟ قال : بيسير من الدنيا : فطمت نفسي عن الشهوات ، وكففت لساني عما لا يعنيني ، ورغبت فيما دعاني إليه ، ولزمت الصمت ، فإن أقسمت على الله ، أبر قسمي ، وإن سألته أعطاني .

دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل ، فسألوه ، عن سبب تهلل وجهه ، فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين : كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، وكان قلبي سليما للمسلمين .

وقال مورق العجلي : أمر أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه أبدا ، قالوا : وما هو ؟ قال : الكف عما لا يعنيني . رواه ابن أبي الدنيا .

وروى أسد بن موسى ، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فدخل عبد الله بن سلام ، فقام إليه ناس ، فأخبروه ، وقالوا : أخبرنا بأوثق عملك في نفسك ، قال : إن عملي لضعيف ، وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر ، وتركي ما لا يعنيني .

وروى أبو عبيدة عن الحسن قال : من علامة إعراض الله تعالى ، عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه ، وقال سهل بن عبد الله التستري : من تكلم فيما [ ص: 295 ] لا يعنيه ، حرم الصدق ، وقال معروف : كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل .

[ص: 302 ] الحديث الثالث عشر :

عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث قتادة ، عن أنس ، ولفظ مسلم " حتى يحب لجاره أو لأخيه " بالشك .

وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير " .

وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في " الصحيحين " ، وأن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته ، فإن الإيمان كثيرا ما ينفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، وقوله : لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه . [ ص: 303 ] وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر : هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان ، أم لا يسمى مؤمنا ؟ وإنما يقال : هو مسلم ، وليس بمؤمن على قولين ، وهما روايتان عن الإمام أحمد .

فأما من ارتكب الصغائر ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، بل هو مؤمن ناقص الإيمان ، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك .

والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له : مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن عبد الله ، وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم ، والقول بأنه مسلم ، ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة .

وقال ابن عباس : الزاني ينزع منه نور الإيمان . وقال أبو هريرة : ينزع منه الإيمان ، فيكون فوقه كالظلة ، فإن تاب عاد إليه .

وقال عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء : الإيمان كالقميص ، يلبسه الإنسان تارة ، ويخلعه تارة أخرى ، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره ، والمعنى : أنه إذا كمل خصال الإيمان ، لبسه ، فإذا نقص منها شيء نزعه ، وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء .

والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، فإذا زال ذلك عنه ، فقد نقص إيمانه بذلك . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة : أحب للناس ما تحب لنفسك [ ص: 304 ] تكن مسلما خرجه الترمذي وابن ماجه .

وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان ، قال : أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله ، قال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : أن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيرا أو تصمت .

وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على هذه الخصلة ؛ ففي " مسند " الإمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسد القسري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتحب الجنة " ؟ قلت : نعم ، قال : " فأحب لأخيك ما تحب لنفسك " .

وفي " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه .

وفيه أيضا عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم .

[ ص: 305 ] وإنما نهاه عن ذلك ، لما رأى من ضعفه ، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف ، وإنما كان يتولى أمور الناس ، لأن الله قواه على ذلك ، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته ، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم .

وقد روي عن علي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إني أرضى لك ما أرضى لنفسي ، وأكره لك ما أكره لنفسي ، لا تقرأ القرآن وأنت جنب ، ولا أنت راكع ، ولا أنت ساجد .

وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له ، فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه ، وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق تفسير ذلك في موضعه . [ ص: 306 ] وقد ذكرنا فيما تقدم حديث النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر خرجاه في " الصحيحين " ، وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن ، ويحزنه ما يحزنه .

وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير ، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد ، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير ، أو يساويه فيه ، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله ، وينفرد بها عنهم ، والإيمان يقتضي خلاف ذلك ، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء .

وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلو في الأرض ولا الفساد ، فقال : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ( القصص : 83 ) . وروى ابن جرير بإسناد فيه نظر عن علي رضي الله عنه قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين . وكذا روي عن الفضيل بن عياض في هذه الآية ، قال : لا يحب أن يكون نعله أجود من نعل غيره ، ولا شراكه أجود من شراك غيره .

وقد قيل : إن هذا محمول على أنه إذا أراد الفخر على غيره لا مجرد التجمل ، قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية : العلو في الأرض : [ ص: 307 ] التكبر ، وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها ، والفساد : العمل بالمعاصي .

وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه من الناس أحد في الجمال ، فخرج الإمام أحمد رحمه الله والحاكم في " صحيحه " من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما ، أليس ذلك هو البغي ؟ فقال : " لا ، ليس ذلك بالبغي ، ولكن البغي من بطر - أو قال : - سفه الحق وغمص الناس " .

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه ، وفي حديثه : " الكبر " بدل " البغي " .

فنفى أن يكون كراهته لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا ، وفسر الكبر والبغي ببطر الحق ، وهو التكبر عليه ، والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ، ومن هنا قال بعض السلف : التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به ، وإن كان صغيرا ، فمن قبل الحق ممن جاء به ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وسواء كان يحبه أو لا يحبه ، فهو متواضع ، ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه ، فهو متكبر .

[ص: 311 ] الحديث الرابع عشر :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، وفي رواية لمسلم : " التارك للإسلام " بدل قوله : " لدينه " وفي هذا المعنى أحاديث متعددة : فخرج مسلم من حديث عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن مسعود .

وخرج الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس . وفي رواية للنسائي : " رجل زنى بعد [ ص: 312 ] إحصانه ، فعليه الرجم ، أو قتل عمدا ، فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه ، فعليه القتل " .

وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم ، وقد ذكرنا حديث أنس فيما تقدم ، وفيه تفسير أن هذه الثلاث خصال هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين .

فأما زنا الثيب ، فأجمع المسلمون على أن حده الرجم حتى يموت ، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية ، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه : " والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله ، والله عزيز حكيم " .

وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن من قوله تعالى : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ( المائدة : 15 ) ، قال : فمن كفر بالرجم ، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، [ ص: 313 ] ثم تلا هذه الآية وقال : كان الرجم مما أخفوا . أخرجه النسائي ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

ويستنبط أيضا من قوله تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا إلى قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ المائدة : 44 - 49 ] وقال الزهري : بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني أحكم بما في التوارة " وأمر بهما فرجما .

وخرج مسلم في " صحيحه " من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين ، وقال في حديثه : فأنزل الله : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر [ المائدة : 41 ] وأنزل : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] في الكفار كلها .

وخرجه الإمام أحمد وعنده : فأنزل الله : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله : إن أوتيتم هذا فخذوه [ المائدة : 41 ] يقولون : ائتوا محمدا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد ، فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] قال : في اليهود .

وروي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين ، وفي حديثه قال : فأنزل الله :

[ ص: 314 ] فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم إلى قوله : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ المائدة : 42 ] .

وكان الله تعالى قد أمر أولا بحبس النساء الزواني إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ، ثم جعل الله لهن سبيلا ، ففي " صحيح مسلم " عن عبادة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم .

وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء ، وأوجبوا جلد الثيب مائة ، ثم رجمه كما فعل علي بشراحة الهمدانية ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يشير إلى أن كتاب الله فيه جلد الزانيين من غير تفصيل بين ثيب وبكر ، وجاءت السنة برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضا ، [ ص: 315 ] وهذا القول هو المشهور ، عن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق ، وهو قول الحسن وطائفة من السلف .

وقالت طائفة منهم : إن كان الثيبان شيخين رجما وجلدا ، وإن كانا شابين ، رجما بغير جلد ، لأن ذنب الشيخ أقبح ، لا سيما بالزنا ، وهذا قول أبي بن كعب ، وروي عنه مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، وهو رواية عن أحمد وإسحاق أيضا .

[ ص: 332 ] الحديث الخامس عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه رواه البخاري ومسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة ، وفي بعض ألفاظها : " فلا يؤذي جاره " وفي بعض ألفاظها : " فليحسن قرى ضيفه " وفي بعضها : " فليصل رحمه " بدل ذكر الجار .

وخرجاه أيضا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود ، [ ص: 333 ] وعبد الله بن عمرو ، وأبي أيوب الأنصاري وابن عباس وغيرهم من الصحابة .

فقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " فليفعل كذا وكذا ، يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان ، وقد سبق أن الأعمال تدخل في الإيمان ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالصبر والسماحة ، قال الحسن : المراد : الصبر عن المعاصي ، والسماحة بالطاعة .

وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله ، كأداء الواجبات وترك المحرمات ، ومن ذلك قول الخير ، والصمت عن غيره .

وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف ، وإكرام الجار ، والكف عن أذاه ، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن : أحدهما قول الخير والصمت عما سواه ، وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي ، قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : " هل تملك لسانك ؟ " قلت : ما أملك إذا لم أملك لساني ؟ قال : " فهل تملك يدك ؟ " قلت : فما أملك إذا لم أملك يدي ؟ قال : " فلا تقل بلسانك إلا معروفا ، ولا تبسط يدك إلا إلى خير " . [ ص: 334 ] وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان ، كما في " المسند " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه .

وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنك لن تزال سالما ما سكت ، فإذا تكلمت ، كتب لك أو عليك . وفي " مسند " الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صمت نجا .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها ، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب .

وخرج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي هريرة ، ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار . [ ص: 335 ] وفي " صحيح البخاري " ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم .

وخرج الإمام أحمد من حديث سليمان بن سحيم ، عن أمه ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة ، فيتباعد بها أبعد من صنعاء " .

وخرج الإمام أحمد ، والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارث قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه .

وقد ذكرنا فيما سبق حديث أم حبيبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وذكر الله عز وجل .

فقوله صلى الله عليه وسلم : فليقل خيرا أو ليصمت أمر بقول الخير ، وبالصمت عما عداه ، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه ، بل إما [ ص: 336 ] أن يكون خيرا ، فيكون مأمورا بقوله ، وإما أن يكون غير خير ، فيكون مأمورا بالصمت عنه ، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا .

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث معاذ بن جبل ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا معاذ ثكلتك أمك وهل تقول شيئا إلا وهو لك أو عليك .

وقد قال الله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق : 17 - 18 ] وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات ، والذي عن شماله يكتب السيئات ، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف . وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم يصلي ، فإنه يناجي ربه والملك عن يمينه .

وروي من حديث حذيفة مرفوعا : " إن عن يمينه كاتب الحسنات " .

واختلفوا : هل يكتب كل ما يتكلم به ، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب ؟ على قولين مشهورين . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يكتب كل ما [ ص: 337 ] تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله : أكلت وشربت ذهبت وجئت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان فيه من خير أو شر ، وألقى سائره ، فذلك قوله تعالى : يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [ الرعد : 39 ] .

وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : ركب رجل الحمار ، فعثر به ، فقال : تعس الحمار ، فقال صاحب اليمين : ما هي حسنة أكتبها ، وقال صاحب الشمال : ما هي سيئة فأكتبها ، فأوحى الله إلى صاحب الشمال : ما ترك صاحب اليمين من شيء ، فاكتبه ، فأثبت في السيئات " تعس الحمار " .

وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة ، فهو سيئة ، وإن كان لا يعاقب عليها ، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها ، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر ، ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلا ، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه ، وهو نوع عقوبة .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار ، وكان لهم حسرة .

وخرجه الترمذي ولفظه : ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ، ولم [ ص: 338 ] يصلوا على نبيهم ، إلا كان عليهم ترة ، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم .

وفي رواية لأبي داود والنسائي : من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ، ومن اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة زاد النسائي : ومن قام مقاما لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة وخرج أيضا من حديث أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يجلسون مجلسا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة ، وإن دخلوا الجنة .

وقال مجاهد : ما جلس قوم مجلسا ، فتفرقوا قبل أن يذكروا الله ، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة ، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم ، وما جلس قوم مجلسا ، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا ، إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك ، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم .

وقال بعض السلف : يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره ، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات .

وخرجه الطبراني من حديث عائشة مرفوعا : " ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير ، إلا حسر عندها يوم القيامة " .

[ ص: 339 ] فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام ، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به ، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لابد منه . وقد روي عن ابن مسعود قال : إياكم وفضول الكلام ، حسب امرئ ما بلغ حاجته . وعن النخعي قال : يهلك الناس في فضول المال والكلام .

وأيضا قال فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب كما في " الترمذي " من حديث ابن عمر مرفوعا : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب ، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي " .

وقال عمر : من كثر كلامه ، كثر سقطه ، ومن كثر سقطه ، كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه ، كانت النار أولى به وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر [ ص: 340 ] مرفوعا بإسناد ضعيف .

وقال محمد بن عجلان : إنما الكلام أربعة : أن تذكر الله ، وتقرأ القرآن ، وتسأل عن علم فتخبر به ، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك .

وقال رجل لسلمان : أوصني ، قال : لا تكلم ، قال : ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم ، قال : فإن تكلمت ، فتكلم بحق أو اسكت .

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد .

وقال ابن مسعود : والله الذي لا إله إلا هو ، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان وقال وهب بن منبه : أجمعت الحكماء على أن رأس الحكم الصمت .

وقال شميط بن عجلان : يا ابن آدم ، إنك ما سكت ، فأنت سالم ، فإذا تكلمت ، فخذ حذرك ، إما لك وإما عليك وهذا باب يطول استقصاؤه .

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير ، والسكوت عما ليس بخير ، وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلا قال : يا رسول الله ، علمني عملا يدخلني الجنة ، فذكر الحديث وفيه قال : فأطعم الجائع ، [ ص: 341 ] واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك ، فكف لسانك إلا من خير .

فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق ، ولا السكوت كذلك ، بل لابد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر ، وكان السلف كثيرا يمدحون الصمت عن الشر ، وعما لا يعني لشدته على النفس ، وذلك يقع فيه الناس كثيرا ، فكانوا يعالجون أنفسهم ، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم .

قال الفضيل بن عياض : ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان ، ولو أصبحت يهمك لسانك ، أصبحت في غم شديد ، وقال : سجن اللسان سجن المؤمن ، ولو أصبحت يهمك لسانك ، أصبحت في غم شديد .

وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه : إن كان الكلام من فضة ، فإن الصمت من ذهب ، فقال : معناه : لو كان الكلام بطاعة الله من فضة ، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب . وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات ، وقد سبق القول في هذا مستوفى .

وتذاكروا عند الأحنف بن قيس ، أيهما أفضل الصمت أو النطق ؟ فقال قوم : الصمت أفضل ، فقال الأحنف : النطق أفضل ، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه ، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه .

وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله : الصامت على علم كالمتكلم على علم ، فقال عمر : إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم [ ص: 342 ] أفضلهما يوم القيامة حالا ، وذلك أن منفعته للناس ، وهذا صمته لنفسه ، فقال له : يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق ؟ فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدا .

ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يوما فرق الناس ، وبكوا ، فقطع خطبته ، فقيل له : لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به ، فقال عمر : إن القول فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول .

وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وسمعته يتكلم في هذه المسألة ، وأظن أني فاوضته فيها وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت ، وأظن أنه وقع في أثناء الكلام ذكر سليمان بن عبد الملك ، وأن عمر قال ذلك له ، وقد روي عن سليمان بن عبد الملك أنه قال : الصمت منام العقل ، والنطق يقظته ، ولا يتم حال إلا بحال ، يعني : لابد من الصمت والكلام .

وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته ، وكان أحد الحكماء : إذا كان المرء يحدث في مجلس ، فأعجبه الحديث فليسكت ، وإن كان ساكتا ، فأعجبه السكوت ، فليحدث ، وهذا حسن فإن من كان كذلك ، كان سكوته وحديثه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ، ومن كان كذلك ، كان جديرا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته ، لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل .

وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال : " علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا ، فإذا كان كذلك ، لم ينسني على حال ، وإذ كان كذلك ، مننت عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني ، فإذا نسيني ، حركت قلبه ، فإن تكلم تكلم لي ، وإن سكت ، سكت لي ، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي " خرجه إبراهيم بن الجنيد .

[ ص: 343 ] وبكل حال ، فالتزام الصمت مطلقا ، واعتقاده قربة إما مطلقا ، أو في بعض العبادات ، كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام الصمت . وخرج الإسماعيلي من حديث علي قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في العكوف ، وفي " سنن أبي داود " من حديث علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا صمات يوم إلى الليل . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة : إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال : صوم الصمت حرام .

[ص: 361 ] الحديث السادس عشر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني ، قال : لا تغضب فردد مرارا قال : لا تغضب رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي الحصين الأسدي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، ولم يخرجه مسلم ، لأن الأعمش رواه ، عن أبي صالح ، واختلف عليه في إسناده فقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، كقول أبي حصين ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، وعند يحيى بن معين أن هذا هو الصحيح ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو جابر ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن رجل من الصحابة غير مسمى . وخرج الترمذي هذا الحديث من طريق أبي حصين أيضا ولفظه : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه ، قال : لا تغضب فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول : لا تغضب وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ولا تكثر علي قال : لا تغضب . فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال [ ص: 362 ] الخير ، ليحفظها عنه خشية أن لا يحفظها لكثرتها ، فوصاه النبي أن لا يغضب ، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب ، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر ، وأن التحرز منه جماع الخير . ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو الدرداء ، فقد خرج الطبراني من حديث أبي الدرداء قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : لا تغضب ولك الجنة . وقد روى الأحنف بن قيس عن عمه جارية بن قدامة أن رجلا قال : يا رسول الله قل لي قولا ، وأقلل علي لعلي أعقله ، " قال لا تغضب " فأعاد عليه مرارا كل ذلك يقول : " لا تغضب " خرجه الإمام أحمد وفي رواية له أن جارية بن قدامة قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . فهذا يغلب على الظن أن السائل هو جارية بن قدامة ، ولكن ذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال : هكذا قال هشام ، يعني : أن هشاما ذكر في الحديث أن جارية سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يحيى : وهم يقولون : إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال العجلي وغيره : إنه تابعي وليس بصحابي . وخرج الإمام أحمد من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن [ ص: 363 ] رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : لا تغضب قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله ورواه مالك في " الموطأ " عن الزهري ، عن حميد مرسلا . وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل ؟ قال : لا تغضب . وقول الصحابي : ففكرت فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الغضب يجمع الشر كله يشهد لما ذكرناه أن الغضب جماع الشر ، قال جعفر بن محمد : الغضب مفتاح كل شر . وقيل لابن المبارك : اجمع لنا حسن الخلق في كلمة ، قال : ترك الغضب . وكذا فسر الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب ، وقد روي ذلك مرفوعا ، خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " من حديث أبي العلاء بن الشخير أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ فقال : " حسن الخلق " ثم أتاه عن يمينه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل فقال : " حسن الخلق " ، ثم أتاه عن شماله فقال : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : حسن الخلق ثم أتاه من بعده ، يعني : من خلفه ، فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " مالك لا تفقه ! حسن الخلق هو أن لا تغضب إن استطعت " . وهذا مرسل . فقوله صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه : لا تغضب يحتمل أمرين : [ ص: 364 ] أحدهما : أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى ، والصفح والعفو ، وكظم الغيظ ، والطلاقة والبشر ، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه . والثاني : أن يكون المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك ، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمر والناهي له ، ولهذا المعنى قال الله عز وجل ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف : 154 ] فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شر الغضب ، وربما سكن غضبه ، وذهب عاجلا ، فكأنه حينئذ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في القرآن بقوله عز وجل وإذا ما غضبوا هم يغفرون [ الشورى : 37 ] ، وبقوله عز وجل : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] .

[ ص: 379 ] الحديث السابع عشر :

عن أبي يعلى شداد بن أوس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن شداد بن أوس ، وتركه البخاري ، لأنه لم يخرج في " صحيحه " لأبي الأشعث شيئا وهو شامي ثقة . وقد روي نحوه من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل محسن فأحسنوا ، فإذا قتل أحدكم ، فليحسن مقتوله ، وإذا ذبح ، فليحد شفرته ، وليرح ذبيحته خرجه ابن عدي . وخرج الطبراني من حديث أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا حكمتم فاعدلوا ، وإذا قلتم فأحسنوا ، فإن الله محسن يحب المحسنين . [ ص: 380 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب " السير " عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء أو قال : " على كل خلق " هكذا خرجها مرسلة ، وبالشك في " كل شيء " أو " كل خلق " وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإحسان ، فيكون كل شيء أو كل مخلوق هو المكتوب عليه ، والمكتوب هو الإحسان . وقيل : إن المعنى أن الله كتب الإحسان إلى كل شيء ، أو في كل شيء ، أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء ، فيكون المكتوب عليه غير مذكور ، وإنما المذكور المحسن إليه . ولفظ " الكتابة " يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافا لبعضهم ، وإنما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم إما شرعا ، كقوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ النساء : 103 ] ، وقوله : كتب عليكم الصيام [ البقرة : 182 ] ، كتب عليكم القتال [ البقرة : 216 ] ، أو فيما هو واقع قدرا لا محالة ، كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ المجادلة : 21 ] ، وقوله : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [ الأنبياء : 105 ] ، وقوله : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [ ص: 381 ] [ المجادلة : 22 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضان : إني خشيت أن يكتب عليكم وقال : " أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي " ، وقال : كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، فهو مدرك ذلك لا محالة . وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان ، وقد أمر الله تعالى به ، فقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] وقال : أحسنوا إن الله يحب المحسنين [ البقرة : 195 ] . وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره . وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها . وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال ، لكن إحسان كل شيء بحسبه ، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة : الإتيان بها على وجه كمال واجباتها ، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب ، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب . [ ص: 382 ] والإحسان في ترك الحرمات : الانتهاء عنها ، وترك ظاهرها وباطنها ، كما قال تعالى : وذروا ظاهر الإثم وباطنه [ الأنعام : 120 ] . فهذا القدر من الإحسان فيها واجب .

[ص: 395 ] الحديث الثامن عشر :

عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، وفي بعض النسخ : حسن صحيح . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن أبي ذر ، وخرجه أيضا بهذا الإسناد ، عن ميمون ، عن معاذ ، وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنه قال : حديث أبي ذر أصح . فهذا الحديث قد اختلف في إسناده وقيل فيه : عن حبيب ، عن ميمون : أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بذلك ، مرسلا ، ورجح الدارقطني هذا المرسل . وقد حسن الترمذي هذا الحديث ، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه ، فبعيد ، ولكن الحاكم خرجه ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وهو وهم من وجهين : أحدهما : أن ميمون بن أبي شبيب ، ويقال : ابن شبيب لم يخرج له البخاري في " صحيحه " شيئا ، ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه حديثا عن [ ص: 396 ] المغيرة بن شعبة . والثاني : أن ميمون بن أبي شبيب لم يصح سماعه من أحد من الصحابة ، قال الفلاس : ليس في شيء من رواياته عن الصحابة " سمعت " ولم أخبر أن أحدا يزعم أنه سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو حاتم الرازي : روايته عن أبي ذر وعائشة غير متصلة . وقال أبو داود : لم يدرك عائشة ، ولم ير عليا ، وحينئذ فلم يدرك معاذا بطريق الأولى . وروى البخاري وشيخه علي بن المديني ، وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أن الحديث لا يتصل إلا بصحة اللقي ، وكلام الإمام أحمد يدل على ذلك ، ونص عليه الشافعي في " الرسالة " وهذا كله خلاف رأي مسلم رحمه الله . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى بهذه الوصية معاذا وأبا ذر من وجوه أخر ، فخرج البزار من حديث أبي لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم ، فقال : يا رسول الله أوصني ، قال : أفش السلام ، وابذل الطعام ، واستحي من الله استحياء رجل ذي هيئة من أهلك ، وإذا أسأت فأحسن ، وليحسن خلقك ما استطعت . وخرج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن [ ص: 397 ] معاذ بن جبل أراد سفرا ، فقال : يا رسول الله أوصني قال : اعبد الله ، ولا تشرك به شيئا " قال : يا رسول الله زدني ، قال : " إذا أسأت فأحسن " قال : يا رسول الله زدني ، قال : " استقم ولتحسن خلقك " . وخرج الإمام أحمد من حديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته ، وإذا أسأت فأحسن ، ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط سوطك ، ولا تقبض أمانة ، ولا تقض بين اثنين . وخرج أيضا من وجه آخر عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله علمني عملا يقربني من الجنة ويباعدني من النار ، قال : إذا عملت سيئة ، فاعمل حسنة ، فإنها عشر أمثالها قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : هي أحسن الحسنات . وخرج ابن عبد البر في " التمهيد " بإسناد فيه نظر عن أنس قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن ، فقال : " يا معاذ اتق الله ، وخالق الناس بخلق حسن ، وإذا عملت سيئة ، فأتبعها حسنة " فقال : قلت : يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات ؟ قال : " هي من أكبر الحسنات " . وقد رويت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ من حديث ابن عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف . ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ، وابن حبان في " صحيحه " . [ ص: 398 ] فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده ، فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته ، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين . قال تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [ النساء : 131 ] . وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه . وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل ، كقوله تعالى : واتقوا الله الذي إليه تحشرون [ المائدة : 96 ] ، وقوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [ الحشر : 18 ] ، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى ، فالمعنى : اتقوا سخطه وغضبه ، وهو أعظم ما يتقى ، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي ، قال تعالى : ويحذركم الله نفسه [ آل عمران : 28 ] ، وقال تعالى : هو أهل التقوى وأهل المغفرة [ المدثر : 56 ] ، فهو سبحانه أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه ، لما يستحقه من الإجلال والإكرام ، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش ، وشدة البأس . وفي الترمذي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية هو أهل التقوى وأهل المغفرة [ المدثر : 56 ] قال : قال الله تعالى : " أنا أهل أن أتقى ، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له " . [ ص: 399 ] وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه ، كالنار ، أو إلى زمانه ، كيوم القيامة ، كما قال تعالى : واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ آل عمران : 131 ] ، وقال تعالى : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين [ البقرة : 24 ] ، وقال تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا [ البقرة : 48 ، 123 ] .

[ص: 459 ] الحديث التاسع عشر :

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف .

رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

وفي رواية غير الترمذي : احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية حنش الصنعاني ، عن ابن عباس وخرجه الإمام أحمد من حديث حنش الصنعاني مع إسنادين آخرين منقطعين ولم يميز لفظ بعضها من بعض ، ولفظ حديثه : يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات [ ص: 460 ] ينفعك الله بهن ؟ " فقلت : بلى ، فقال : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله ، لم يقدروا عليه ، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا عليه ، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا .

وهذا اللفظ أتم من اللفظ الذي ذكره الشيخ رحمه الله ، وعزاه إلى غير الترمذي ، واللفظ الذي ذكره الشيخ رواه عبد بن حميد في " مسنده " بإسناد ضعيف عن عطاء ، عن ابن عباس ، وكذلك عزاه ابن الصلاح في " الأحاديث الكلية " التي هي أصل أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بن حميد وغيره .

وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي ومولاه عكرمة ، وعطاء بن أبي رباح ، وعمرو بن دينار ، وعبيد الله بن عبد [ ص: 461 ] الله ، وعمر مولى غفرة ، وابن أبي مليكة وغيرهم .

وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي ، كذا قال ابن منده وغيره . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري ، وسهل بن سعد ، وعبد الله بن جعفر ، وفي أسانيدها كلها ضعف . [ ص: 462 ] وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة ، وبعضها أصلح من بعض ، وبكل حال ، فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة .

وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء : تدبرت هذا الحديث ، فأدهشني وكدت أطيش ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث ، وقلة التفهم لمعناه .

قلت : وقد أفردت لشرحه جزءا كبيرا ونحن نذكر هاهنا مقاصده على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى .

قوله صلى الله عليه وسلم : " احفظ الله " يعني : احفظ حدوده ، وحقوقه ، وأوامره ، ونواهيه ، وحفظ ذلك : هو الوقوف عند أوامره بالامتثال ، وعند نواهيه بالاجتناب ، وعند حدوده ، فلا يتجاوز ما أمر به ، وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك ، فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه ، وقال عز وجل : هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب [ ق : 32 - 33 ] وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله ، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها .

ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها ، فقال : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ البقرة : 238 ] ، ومدح المحافظين عليها بقوله : والذين هم على صلاتهم يحافظون [ المعارج : 34 ] . [ ص: 463 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حافظ عليها ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي حديث آخر : من حافظ عليهن ، كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة .

وكذلك الطهارة ، فإنها مفتاح الصلاة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .

ومما يؤمر بحفظه الأيمان ، قال الله عز وجل : واحفظوا أيمانكم [ المائدة : 89 ] ، فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرا ، ويهمل كثير منهم ما يجب بها ، فلا يحفظه ، ولا يلتزمه .

[ص: 496 ] الحديث العشرون :

عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت رواه البخاري .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش ، عن أبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأظن مسلما لم يخرجه ، لأنه قد رواه قوم ، فقالوا : عن ربعي ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف في إسناده ، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال : عن أبي مسعود ، منهم البخاري ، وأبو زرعة الرازي ، والدارقطني وغيرهم ، ويدل على صحة ذلك [ ص: 497 ] أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه .

وخرجه الطبراني من حديث أبي الطفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .

فقوله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن ، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام ، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة . وفي بعض الروايات قال : " لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا " . خرجها حميد بن زنجويه وغيره .

وقوله " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " في معناه قولان : أحدهما : أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء ، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه ، وأهل هذه المقالة لهم طريقان :

أحدهما : أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد ، والمعنى : إذا لم يكن حياء ، فاعمل ما شئت ، فالله يجازيك عليه ، كقوله : اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير [ فصلت : 40 ] ، وقوله : فاعبدوا ما شئتم من دونه [ الزمر : 15 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من باع الخمر ، فليشقص الخنازير " يعني ليقطعها إما لبيعها [ ص: 498 ] أو لأكلها ، وأمثلته متعددة ، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس بن ثعلب .

والطريق الثاني : أنه أمر ، ومعناه الخبر ، والمعنى : أن من لم يستحي ، صنع ما شاء ، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء ، فمن لم يكن له حياء ، انهمك في كل فحشاء ومنكر ، وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم : من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ، فإن لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار ، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله ، وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي ، وغيرهم ، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول .

وروى ابن أبي لهيعة عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أبغض الله عبدا ، نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا بغيضا متبغضا ، ونزع منه الأمانة ، فإذا نزع منه الأمانة ، نزع منه الرحمة ، وإذا نزع منه الرحمة ، نزع منه ربقة الإسلام ، فإذا نزع منه ربقة الإسلام ، لم تلقه إلا شيطانا مريدا " . خرجه حميد بن زنجويه ، وخرجه ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا أيضا .

وعن سلمان الفارسي قال : إن الله إذا أراد بعبد هلاكا ، نزع منه الحياء ، فإذا [ ص: 499 ] نزع منه الحياء ، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا ، فإذا كان مقيتا ممقتا ، نزع منه الأمانة ، فلم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا كان خائنا مخونا ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظا غليظا ، فإذا كان فظا غليظا ، نزع ربق الإيمان من عنقه ، فإذا نزع ربق الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا .

وعن ابن عباس قال : الحياء والإيمان في قرن ، فإذا نزع الحياء ، تبعه الآخر . خرجه كله حميد بن زنجويه في كتاب " الأدب " .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان كما في " الصحيحين " عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول : إنك لتستحيي ، كأنه يقول : قد أضر بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإن الحياء من الإيمان . [ ص: 500 ] وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة قال : " الحياء شعبة من الإيمان " .

وفي " الصحيحين " عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية لمسلم قال : " الحياء خير كله " ، أو قال : " الحياء كله خير " .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث الأشج العصري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فيك لخلقين يحبهما الله " ، قلت : ما هما ؟ قال : " الحلم والحياء " قلت : أقديما كان أو حديثا ؟ قال " بل قديما " قلت : الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله .

وقال : إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل فاستسقى ، فأتى بماء فشرب ، فستره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا ؟ قال : [ ص: 501 ] " الحياء خلة أوتوها ومنعتموها " .

واعلم أن الحياء نوعان : أحدهما : ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب ، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الحياء لا يأتي إلا بخير " فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها ، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من استحيا ، اختفى ، ومن اختفى ، اتقى ، ومن اتقى وقي .

وقال الجراح بن عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام - : تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع . وعن بعضهم قال : رأيت المعاصي نذالة ، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة .

النوع الثاني : ما كان مكتسبا من معرفة الله ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده ، واطلاعه عليهم ، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فهذا من أعلى خصال الإيمان ، بل هو من أعلى درجات الإحسان ، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " استحي من الله كما تستحيي رجلا من صالح عشيرتك " .

وفي حديث ابن مسعود : " الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ؛ ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من الله " خرجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا . [ ص: 502 ] وقد يتولد من الله الحياء من مطالعة نعمه ورؤية التقصير في شكرها ، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي ، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح ، والأخلاق الدنيئة ، فصار كأنه لا إيمان له . وقد روي من مراسيل الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحياء حياءان : طرف من الإيمان ، والآخر عجز " ولعله من كلام الحسن ، وكذلك قال بشير بن كعب العدوي لعمران بن حصين : إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله ، ومنه ضعف ، فغضب عمران وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه ؟ والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه ، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل ، وترك القبيح ، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده ، فليس هو من الحياء ، إنما هو ضعف وخور ، وعجز ومهانة ، والله أعلم . [ ص: 503 ] والقول الثاني : في معنى قوله : " إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت " أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه ، وأن المعنى : إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحيا من فعله لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنع منه حينئذ ما شئت ، وهذا قول جماعة من الأئمة ، منهم إسحاق المروزي الشافعي ، وحكي مثله عن الإمام أحمد ، ووقع كذلك في بعض نسخ " مسائل أبي داود " المختصرة عنه ، ولكن الذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل ، وكذلك حكاه عنه الخلال في كتاب " الأدب " ، ومن هذا قول بعض السلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أن لا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم : الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

وروى عبد الرازق في كتابه عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل من مزينة قال : قيل : يا رسول الله ، ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم ؟ قال : " الخلق الحسن " قال : فما شر ما أوتي المسلم ؟ قال : " إذا كرهت أن يرى عليك شيء في نادي القوم ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وفي " صحيح ابن حبان " عن أسامة بن شريك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كره منك شيئا ، فلا تفعله إذا خلوت " .

وخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري قال : قلت : يا رسول الله [ ص: 504 ] ما تمام البر ؟ قال : " أن تعمل في السر عمل العلانية " . وخرجه أيضا من حديث أبي عامر السكوني ، قال : قلت : يا رسول الله ، فذكره .

وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ في كتاب " أدب المحدث " بإسناده عن حرملة بن عبد الله ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأزداد من العلم ، فقمت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تأمرني أن أعمل به ؟ قال : " ائت المعروف ، واجتنب المنكر ، وانظر الذي سمعته أذنك من الخير يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فأته ، وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم ، فاجتنبه " قال : فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئا : إتيان المعروف ، واجتناب المنكر .

وخرج ابن سعد في " طبقاته " بمعناه .

وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولا آخر حكاه عن جرير : قال معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير ، فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء ، يقول : فلا يمنعنك الحياء من المضي لما أردت ، كما جاء في الحديث : " إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي ، فقال : إنك ترائي ، فزدها طولا " ثم قال أبو عبيد : وهذا [ ص: 505 ] الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير ، ولا على هذا يحمله الناس .

قلت : لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظ الحديث : إذا استحييت مما لا يستحيا منه ، فافعل ما شئت ، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه ، والله أعلم .

[ص: 506 ] الحديث الحادي والعشرون .:

عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك ، قال : قل آمنت بالله ، ثم استقم رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان وسفيان : هو ابن عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة ، وكان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف .

وقد روي عن سفيان بن عبد الله من وجوه أخر بزيادات ، فخرجه الإمام أحمد ، والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز ، وعند الترمذي : من رواية عبد الرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبد الله قال : قلت : يا رسول الله ، حدثني بأمر أعتصم به ، قال : قل : ربي الله ، ثم استقم قلت : يا رسول الله ، ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، قال هذا ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وخرجه الإمام أحمد ، والنسائي من رواية عبد الله بن سفيان الثقفي ، عن أبيه أن رجلا قال : يا رسول الله ، مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك [ ص: 507 ] قال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم قلت : فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه .

قول سفيان بن عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم : " قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك " طلب منه أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل آمنت بالله ، ثم استقم وفي الرواية الأخرى : " قل : ربي الله ، ثم استقم " هذا منتزع من قوله عز وجل : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ فصلت : 30 ] ، وقوله عز وجل : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ الأحقاف : 13 - 14 ] .

وخرج النسائي في " تفسيره " من رواية سهيل بن أبي حزم : حدثنا ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فقال : " قد قالها الناس ، ثم كفروا ، فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة " . وخرجه الترمذي ، ولفظه : فقال : " قد قالها الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها ، فهو ممن استقام " ، وقال : حسن غريب ، وسهيل تكلم فيه من قبل حفظه . [ ص: 508 ] وقال أبو بكر الصديق في تفسير ثم استقاموا قال : لم يشركوا بالله شيئا . وعنه قال : لم يلتفتوا إلى إله غيره . وعنه قال : ثم استقاموا على أن الله ربهم .

وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال : هذه أرخص آية في كتاب الله قالوا ربنا الله ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله . وروي نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال ، وزيد بن أسلم ، والسدي وعكرمة وغيرهم . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فقال : لم يروغوا روغان الثعلب .

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ثم استقاموا قال : استقاموا على أداء فرائضه .

وعن أبي العالية ، قال : ثم أخلصوا له الدين والعمل .

وعن قتادة قال : استقاموا على طاعة الله ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية [ ص: 509 ] قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة .

ولعل من قال : إن المراد الاستقامة على التوحيد إنما أراد التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار ، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله ، فإن الإله هو المعبود الذي يطاع ، فلا يعصى خشية وإجلالا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلا ودعاء ، والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد ، لأنها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان ، قال الله عز وجل : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الجاثية : 23 ] قال الحسن وغيره : هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه ، فهذا ينافي الاستقامة على التوحيد .

وأما على رواية من روى : " قل : آمنت بالله " فالمعنى أظهر ، لأن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث ، وقال الله عز وجل : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير [ هود : 112 ] ، فأمره أن يستقيم هو ومن تاب معه ، وأن لا يجاوزوا ما أمروا به ، وهو الطغيان ، وأخبر أنه بصير بأعمالكم ، مطلع عليها ، قال تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم [ الشورى : 15 ] قال قتادة : أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقيم على أمر الله وقال الثوري على القرآن ، وعن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رئي ضاحكا خرجه ابن أبي حاتم وذكر القشيري وغيره عن بعضهم : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال له : يا رسول الله ، قلت : " شيبتني هود وأخواتها " فما شيبك [ ص: 510 ] منها ؟ قال : " قوله : فاستقم كما أمرت .

وقال عز وجل : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه [ فصلت : 6 ] .

وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عموما كما قال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ الشورى : 13 ] ، وأمر بإقام الصلاة في غير موضع من كتابه ، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين

[ ص: 513 ] الحديث الثاني والعشرون .:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت إذا صليت المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئا ، أأدخل الجنة ؟ قال : نعم رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر ، وزاد في آخره قال : والله لا أزيد على ذلك شيئا . وخرجه أيضا من رواية الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال : قال النعمان بن قوقل : يا رسول الله ، أرأيت إذا صلي6ت المكتوبة ، وحرمت الحرام ، وأحللت الحلال ، ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم " .

وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله ، وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه ، ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه ، ويكون الحلال هاهنا عبارة عما ليس بحرام فيدخل فيه الواجب والمستحب والمباح ، ويكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه ، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره ، ويجتنب المحرمات . وقد روي عن طائفة من السلف ، منهم ابن مسعود وابن عباس في قوله عز وجل : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به [ البقرة : 121 ] ، قالوا : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه . [ ص: 514 ] والمراد بالتحليل والتحريم : فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا الحديث . وقد قال الله في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله [ التوبة : 37 ] والمراد : أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاما ، فيحلونه بذلك ، ويمتنعون من القتال فيه عاما ، فيحرمونه بذلك .

وقال الله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا [ المائدة : 87 - 88 ] وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدنيا وتقشفا ، وبعضهم حرم ذلك على نفسه ، إما بيمين حلف بها ، أو بتحريمه على نفسه ، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر ، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا تحريم ، فسمى الجميع تحريما ، حيث قصد الامتناع منه إضرارا بالنفس ، وكفا لها عن شهواتها . ويقال في الأمثال : فلان لا يحلل ولا يحرم ، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ، ولا يقف عند ما أبيح له ، وإن كان يعتقد تحريم الحرام ، فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحاشى منه محللا له وإن كان لا يعتقد حله .

وبكل حال ، فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات ، وانتهى عن المحرمات دخل الجنة وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى ، أو ما هو قريب منه ، كما خرجه النسائي ، وابن حبان ، والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، [ ص: 515 ] ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة ، يدخل من أيها شاء ثم تلا : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ النساء : 31 ] .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من عبد الله ، لا يشرك به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة - .

وفي " المسند " عن ابن عباس أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له الصلوات الخمس ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، فلما فرغ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، لا أزيد ولا أنقص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صدق دخل الجنة وخرجه الطبراني من وجه آخر ، وفي حديثه قال : والخامسة لا أرب لي فيها يعني الفواحش ثم قال : لأعملن بها ، ومن أطاعني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

[ ص: 516 ] وفي " صحيح البخاري " عن أبي أيوب أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم وخرجه مسلم إلا أن عنده أنه قال : أخبرني بعمل يدنيني من الجنة ويباعدني من النار . وعنده في رواية : فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تمسك بما أمر به ، دخل الجنة " .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : والذي بعثك بالحق ، لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه ، فلما ولى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا .

وفي " الصحيحين " عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة ؟ فقال : الصلوات الخمس ، إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الصيام ؟ فقال : شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام ، فقال : والذي أكرمك بالحق ، لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق - أو دخل الجنة إن صدق - ولفظه للبخاري .

[ ص: 517 ] وفي " صحيح مسلم " عن أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه ، وزاد فيه " حج البيت من استطاع إليه سبيلا " فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن صدق ليدخلن الجنة " .

ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على الصلاة المكتوبة ، والزكاة المفروضة ، وصيام رمضان ، وحج البيت شيئا من التطوع ، ليس مراده أنه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك ، وهذه الأحاديث لم يذكر فيها اجتناب المحرمات ، لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة .

وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : أيها الناس ، اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم وقال : حسن صحيح ، وخرجه الإمام أحمد ، وعنده " اعبدوا ربكم " بدل قوله " اتقوا الله " . وخرجه بقي بن مخلد في " مسنده " من وجه آخر ، ولفظ حديثه : " صلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وحجوا بيتكم ، وأدوا زكاة أموالكم ، طيبة بها أنفسكم ، تدخلوا جنة ربكم " .

وخرج الإمام أحمد بإسناده عن ابن المنتفق ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات ، فقلت : ثنتان أسألك عنهما : ما ينجيني من النار ، وما يدخلني الجنة ؟ فقال : لئن كنت أوجزت في المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، فاعقل عني إذن : اعبد الله لا تشرك به شيئا ، وأقم الصلاة المكتوبة ، وأد الزكاة المفروضة ، وصم [ ص: 518 ] رمضان ، وما تحب أن يفعله بك الناس ، فافعله بهم ، وما تكره أن يأتي إليك الناس ، فذر الناس منه .

وفي رواية له أيضا قال : " اتق الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، ولم تزد على ذلك " وقيل : إن هذا الصحابي هو وافد بن المنتفق ، واسمه لقيط .

فهذه الأعمال أسباب مقتضية لدخول الجنة ، وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع ، ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن مرة الجهني ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليت الخمس ، وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه " .

[ ص: 519 ] وقد ورد ترتب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال كالصلاة ، ففي الحديث المشهور : من صلى الصلوات لوقتها ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي الحديث الصحيح : من صلى البردين دخل الجنة ، وهذا كله من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه ، وانتفاء موانعه ؛ ويدل هذا على ما خرجه الإمام أحمد عن بشير بن الخصاصية ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فشرط علي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أوتي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله ، فقلت : يا رسول الله ، فأما اثنتان فوالله ما أطيقهما : الجهاد والصدقة ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حركها ، وقال : " فلا جهاد ولا صدقة ؟ فبم تدخل الجنة إذا ؟ " قلت : يا رسول الله أبايعك ، فبايعته عليهن كلهن ففي هذا الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه [ ص: 520 ] الخصال بدون الزكاة والجهاد .

[ص: 5 ] الحديث الثالث والعشرون :

عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله ، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث أخرجه مسلم من رواية يحيى بن أبي كثير أن زيد بن سلام حدثه أن سلاما حدثه عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، فذكر الحديث . وفي أكثر نسخ صحيح مسلم " والصبر ضياء " وفي بعضها : " والصيام ضياء " . وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلام ، فأنكره يحيى بن معين ، وأثبته الإمام أحمد ، وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه . وخرج هذا الحديث النسائي ، وابن ماجه من رواية معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي [ ص: 6 ] مالك ، فزاد في إسناده عبد الرحمن بن غنم ، ورجح هذه الرواية بعض الحفاظ ، وقال : معاوية بن سلام أعلم بحديث أخيه زيد من يحيى بن أبي كثير ، ويقوي ذلك أنه قد روي عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك من وجه آخر ، وحينئذ فتكون رواية مسلم منقطعة . وفي حديث معاوية بعض المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير ، فإن لفظ حديثه عند ابن ماجه : إسباغ الوضوء شطر الإيمان ، والحمد لله ملء الميزان ، والتسبيح والتكبير ملء السماء والأرض ، والصلاة نور ، والزكاة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها " . وخرج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه مسلم ، ولفظ حديثه : " الوضوء شطر الإيمان " وباقي حديثه مثل سياق مسلم . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث رجل من بني سليم ، قال : عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده : " التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض ، والصوم نصف الصبر ، والطهور نصف الإيمان " . [ ص: 7 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " فسر بعضهم الطهور هاهنا بترك الذنوب ، كما في قوله تعالى : إنهم أناس يتطهرون [ الأعراف : 82 ] ، وقوله : وثيابك فطهر [ المدثر : 4 ] ، وقوله : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] . وقال الإيمان نوعان : فعل وترك ، فنصفه فعل المأمورات ، ونصفه ترك المحظورات ، وهو تطهير النفس بترك المعاصي ، وهذا القول محتمل لولا أن رواية " الوضوء شطر الإيمان " ترده ، وكذلك رواية إسباغ الوضوء . وأيضا ففيه نظر من جهة المعنى ، فإن كثيرا من الأعمال تطهر النفس من الذنوب السابقة ، كالصلاة ، فكيف لا تدخل في اسم الطهور ، ومتى دخلت الأعمال ، أو بعضها ، في اسم الطهور ، لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان . والصحيح الذي عليه الأكثرون : أن المراد بالطهور هاهنا : التطهير بالماء من الإحداث ، وكذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء ، وكذلك خرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما ، وعلى هذا فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيمان . فمنهم من قال : المراد بالشطر الجزء ، لا أنه النصف بعينه ، فيكون الطهور جزءا من الإيمان ، وهذا فيه ضعف ، لأن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في النصف ، ولأن في حديث الرجل من سليم : " الطهور نصف الإيمان " كما سبق . ومنهم من قال : المعنى أنه يضاعف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان ، لكن من غير تضعيف ، وفي هذا نظر وبعد . [ ص: 8 ] ومنهم من قال : الإيمان يكفر الكبائر كلها ، والوضوء يكفر الصغائر ، فهو شطر الإيمان بهذا الاعتبار ، وهذا يرده حديث : " من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية " وقد سبق ذكره . منهم من قال : الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان ، فصار نصف الإيمان ، وهذا ضعيف . ومنهم من قال : المراد بالإيمان هاهنا : الصلاة ، كما في قوله عز وجل : وما كان الله ليضيع إيمانكم [ البقرة : 143 ] ، والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس ، فإذا كان المراد بالإيمان الصلاة ، فالصلاة لا تقبل إلا بطهور ، فصار الطهور شطر الصلاة بهذا الاعتبار ، حكى هذا التفسير محمد بن نصر [ ص: 9 ] المروزي في " كتاب الصلاة " عن إسحاق بن راهويه عن يحيى بن آدم ، وأنه قال في معنى قولهم " لا أدري " نصف العلم : إن العلم إنما هو " أدري ولا أدري " ، فأحدهما نصف الآخر . قلت : كل شيء كان تحته نوعان : فأحدهما نصف له ، وسواء كان عدد النوعين على السواء ، أو أحدهما أزيد من الآخر ، ويدل على هذا حديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " والمراد : قراءة الصلاة ، ولهذا فسرها بالفاتحة ، والمراد أنها مقسومة للعبادة والمسألة ، فالعبادة حق الرب والمسألة حق العبد ، وليس المراد قسمة كلماتها على السواء . وقد ذكر هذا الخطابي ، واستشهد بقول العرب : نصف السنة سفر ، ونصفها حضر ، قال : وليس على تساوي الزمانين فيهما ، لكن على انقسام الزمانين لهما ، وإن تفاوتت مدتاهما ، وبقول شريح - وقد قيل له : كيف أصبحت ؟ - قال : أصبحت ونصف الناس علي غضبان ، يريد أن الناس بين محكوم له ومحكوم عليه ، فالمحكوم عليه غضبان ، والمحكوم له راض عنه ، فهما حزبان مختلفان . ويقول الشاعر : إذا مت كان الناس نصفين شامت بموتي ومثن بالذي كنت أفعل ومراده أنهم ينقسمون قسمين . [ ص: 10 ] قلت : ومن هذا المعنى حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض " أنها نصف العلم " خرجه ابن ماجه ، فإن أحكام المكلفين نوعان : نوع يتعلق بالحياة ، ونوع يتعلق بما بعد الموت ، وهذا هو الفرائض . وقال ابن مسعود : الفرائض ثلث العلم . ووجه ذلك الحديث الذي خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : " العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة " . وروي عن مجاهد أنه قال : المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء ، ولعله أراد أن الوضوء قسمان : أحدهما مذكور في القرآن ، والثاني مأخوذ من السنة ، وهو المضمضة والاستنشاق ، أو أراد أن المضمضة والاستنشاق يطهران باطن الجسد ، وغسل سائر الأعضاء يطهر ظاهره ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، ومنه قول ابن مسعود : الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله . وجاء من رواية يزيد [ ص: 11 ] الرقاشي عن أنس مرفوعا : " الإيمان نصفان : نصف في الصبر ، ونصف في الشكر " فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، ولا ينال ذلك كله إلا بالصبر ، كان الصبر نصف الإيمان ، فهكذا يقال في الوضوء : إنه نصف الصلاة . وأيضا فالصلاة تكفر الذنوب والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه ، فصار شطر الصلاة بهذا الاعتبار أيضا ، كما في " صحيح مسلم " عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مؤمن مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه ، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن . وفي رواية له : من أتم الوضوء كما أمره الله ، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن [ ص: 12 ] وأيضا ، فالصلاة مفتاح الجنة ، والوضوء مفتاح الصلاة ، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث جابر مرفوعا ، وكل من الصلاة والوضوء موجب لفتح أبواب الجنة كما في " صحيح مسلم " عن عقبة بن عامر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ، يقبل عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة وعن عقبة ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء . وفي " الصحيحين " عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء . فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبا لفتح أبواب الجنة ، صار الوضوء نصف الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار . [ ص: 13 ] وأيضا ، فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن ، كما في حديث ثوبان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن . والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة ، كما خرجه العقيلي من حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خمس من جاء بهن مع إيمان ، دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - قال : وكان يقول : - وايم الله ، لا يفعل ذلك إلا مؤمن ، وصام رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وأدى الأمانة قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وخرج ابن ماجه من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات [ ص: 14 ] الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، وأداء الأمانة كفارة لما بينهن . قيل : وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن تحت كل شعرة جنابة وحديث أبي الدرداء الذي قبله جعل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة . وجاء في حديث خرجه البزار من رواية شبابة بن سوار : حدثنا مغيرة بن مسلم ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا : " الصلاة ثلاثة أثلاث : الطهور ثلث : والركوع ثلث ، والسجود ثلث ، فمن أداها بحقها ، قبلت منه ، وقبل منه سائر عمله ، ومن ردت عليه صلاته ، رد عليه سائر عمله " وقال : تفرد به المغيرة ، والمحفوظ عن أبي صالح ، عن كعب من قوله . فعلى هذا التقسيم الوضوء ثلث الصلاة ، إلا أن يجعل الركوع والسجود كالشيء الواحد ، لتقاربهما في الصورة ، فيكون الوضوء نصف الصلاة أيضا . ويحتمل أن يقال : خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلها تطهر القلب وتزكيه ، وأما الطهارة بالماء ، فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه ، فصارت خصال الإيمان قسمين : أحدهما يطهر الظاهر ، والآخر يطهر الباطن ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كله .

[ص: 32 ] الحديث الرابع والعشرون :

. عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر لكم ذنوبكم جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم : أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 [ ص: 33 ] هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر ، وفي آخره : قال سعيد بن عبد العزيز : كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه . وخرجه مسلم أيضا من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يسقه بلفظه ، ولكنه قال : وساق الحديث بنحو سياق أبي إدريس ، وحديث أبي إدريس أتم . وخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه ، من رواية شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديت ، فسلوني الهدى أهدكم ، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم ، وكلكم مذنب إلا من عافيت ، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني ، غفرت له ولا أبالي ، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة ، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم ، اجتمعوا في صعيد واحد ، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر ، فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ، ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له : كن فيكون وهذا لفظ الترمذي ، وقال : حديث حسن . وخرجه الطبراني بمعناه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن إسناده ضعيف . [ ص: 34 ] وحديث أبي ذر قال الإمام أحمد : هو أشرف حديث لأهل الشام . فقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " يعني : أنه منع نفسه من الظلم لعباده ، كما قال عز وجل : وما أنا بظلام للعبيد [ ق : 29 ] ، وقال : وما الله يريد ظلما للعباد [ غافر 31 ] ، وقال وما الله يريد ظلما للعالمين [ آل عمران : 108 ] ، وقال وما ربك بظلام للعبيد [ فصلت : 46 ] ، وقال : إن الله لا يظلم الناس شيئا [ يونس : 44 ] ، وقال إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] ، وقال : [ ص: 35 ] ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [ طه : 112 ] ، والهضم : أن ينقص من جزاء حسناته ، والظلم : أن يعاقب بذنوب غيره ، ومثل هذا كثير في القرآن . وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم ، ولكن لا يفعله فضلا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده . وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير موضعها . وأما من فسره بالتصرف في ملك الغير بغير إذنه - وقد نقل نحوه عن إياس بن معاوية وغيره - فإنهم يقولون : إن الظلم مستحيل عليه ، وغيره متصور في حقه ، لأن كل ما يفعله فهو تصرف في ملكه ، وبنحو ذلك أجاب أبو الأسود الدؤلي لعمران بن حصين حين سأله عن القدر . وخرج أبو داود ، وابن ماجه من حديث أبي سنان سعيد بن سنان ، عن وهب بن خالد الحمصي ، عن ابن الديلمي أنه سمع أبي بن كعب يقول : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم ، لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، وأنه أتى ابن مسعود ، فقال له مثل ذلك ، ثم أتى زيد بن ثابت ، فحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك . وفي هذا الحديث نظر ، ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم . وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم ، لقدر لهم ما يعذبهم عليه ، فيكون غير ظالم لهم حينئذ . [ ص: 36 ] وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى ، كما أنه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد ، وهي خلقه وتقديره ، فإنه لا يوصف إلا بأفعاله لا يوصف بأفعال عباده ، فإن أفعال عباده مخلوقاته ومفعولاته ، وهو لا يوصف بشيء منها ، إنما يوصف بما قام به من صفاته وأفعاله والله أعلم . وقوله " وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا " يعني : أنه تعالى حرم الظلم على عباده ، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم ، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره ، مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقا ، وهو نوعان : أحدهما : ظلم النفس ، وأعظمه الشرك ، كما قال تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق ، فعبده وتألهه ، فهو وضع الأشياء في غير موضعها ، وأكثر ما ذكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به المشركون ، كما قال عز وجل : والكافرون هم الظالمون [ البقرة : 254 ] ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر . والثاني : ظلم العبد لغيره ، وهو المذكور في هذا الحديث ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا . وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم النحر من يوم عرفة ، وفي اليوم الثاني من أيام التشريق ، وفي رواية : ثم قال : " اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ؛ إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " . وفي " الصحيحين " عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الظلم ظلمات يوم القيامة . وفيهما عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ هود : 102 ] . وفي " صحيح البخاري " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كانت عنده مظلمة لأخيه ، فليتحلله منها ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه .

[ص: 56 ] الحديث الخامس والعشرون :

. عن أبي ذر رضي الله عنه أيضا أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم ، قال : أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر . رواه مسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الديلي ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، وقد روي معناه عن أبي ذر من وجوه كثيرة بزيادة ونقصان ، وسنذكر بعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى . وفي هذا الحديث دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة ، وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم ، فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء ، ويحزنون على التخلف عن الخروج [ ص: 57 ] في الجهاد ، لعدم القدرة على آلته ، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه ، فقال : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [ التوبة : 92 ] . وفي هذا الحديث : أن الفقراء غبطوا أهل الدثور - والدثور : هي الأموال - مما يحصل لهم من أجر الصدقة بأموالهم ، فدلهم النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات يقدرون عليها . وفي " الصحيحين " عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال : " وما ذاك ؟ " قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من قد سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة " ، قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم علي ، [ ص: 58 ] وأبو ذر ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن عباس وغيرهم . ومعنى هذا أن الفقراء ظنوا أن لا صدقة إلا بالمال ، وهم عاجزون عن ذلك ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة . وفي " صحيح مسلم " عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل معروف صدقة . وخرجه البخاري من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم . فالصدقة تطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان ، حتى إن فضل الله الواصل منه إلى عباده صدقة منه عليهم . وقد كان بعض السلف ينكر ذلك ، ويقول إنما الصدقة ممن يطلب جزاءها وأجرها ، والصحيح خلاف ذلك ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة في السفر : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته خرجه مسلم ، وقال : " من كانت له صلاة بليل ، فغلب عليه نوم فنام عنها ، كتب الله له أجر صلاته ، [ ص: 59 ] وكان نومه صدقة من الله تصدق بها عليه " خرجه النسائي وغيره من حديث عائشة ، وخرجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء . وفي " مسندي " بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا : " ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده ، وما من الله على عبد مثل أن يلهمه ذكره " . وقال خالد بن معدان : إن الله يتصدق كل يوم بصدقة ، وما تصدق الله على أحد من خلقه بشيء خير من أن يتصدق عليه بذكره . والصدقة بغير المال نوعان : أحدهما : ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق ، فيكون صدقة عليهم ، وربما كان أفضل من الصدقة بالمال ، وهذا كالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فإنه دعاء إلى طاعة الله ، وكف عن معاصيه ، وذلك خير من النفع بالمال ، وكذلك تعليم العلم النافع ، وإقراء القرآن ، وإزالة الأذى عن الطريق ، والسعي في جلب النفع للناس ، ودفع الأذى عنهم . وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم . وخرج ابن مردويه بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر مرفوعا : " من كان له مال ، فليتصدق من ماله ، ومن كان له قوة ، فليتصدق من قوته ، ومن كان له علم ، فليتصدق من علمه " ولعله موقوف . [ ص: 60 ] وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة صدقة اللسان " قيل : يا رسول الله ، وما صدقة اللسان ؟ قال : " الشفاعة تفك بها الأسير ، وتحقن بها الدم ، وتجر بها المعروف والإحسان إلى أخيك ، وتدفع عنه الكريهة " . وقال عمرو بن دينار : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صدقة أحب إلى الله من قول ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى [ البقرة : 263 ] " خرجه ابن أبي حاتم . وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت طليق الوجه " خرجه ابن أبي الدنيا . وقال معاذ : تعليم العلم لمن لا يعلمه صدقة . وروي مرفوعا . ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس ، ففي " الصحيحين " عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيله " قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ قال : " أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا " قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : " تعين صانعا ، وتصنع لأخرق " . قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : " تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة . [ ص: 61 ] وقد روي في حديث أبي ذر زيادات أخرى ، فخرج الترمذي من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ، وأمرك بالمعروف ، ونهيك عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة " . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل : يا رسول الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها ؟ قال : إن أبواب الجنة لكثيرة : التسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته ، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف ، فهذا كله صدقة منك على نفسك . وخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر ، يتصدقون ولا نتصدق ، قال : " وأنت فيك صدقة : رفعك العظم عن الطريق صدقة ، وهدايتك الطريق صدقة ، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة ، وبيانك عن الأغتم صدقة ، ومباضعتك امرأتك صدقة " ، قلت : يا [ ص: 62 ] رسول الله ، نأتي شهوتنا ونؤجر ؟ ! قال : " أرأيت لو جعله في حرام ، أكان يأثم ؟ " قال : قلت : نعم ، قال : " أفتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير ؟ " وفي رواية أخرى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن فيك صدقة كثيرة ، فذكر فضل سمعك وفضل بصرك " وفي رواية أخرى للإمام أحمد : قال : " إن من أبواب الصدقة التكبير وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، وأستغفر الله ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعزل الشوكة عن الطريق والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه ، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها ، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث ، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف ، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ، ولك في جماعك زوجتك أجر " قلت : كيف يكون لي أجر في شهوتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو كان لك ولد ، فأدرك ورجوت خيره ، فمات ، أكنت تحتسب به ؟ قلت : نعم ، قال : فأنت خلقته ؟ قلت : بل الله خلقه ، قال : أفأنت هديته ؟ قلت : بل الله هداه ، قال : أفأنت كنت ترزقه ؟ قلت : بل الله كان يرزقه ، قال : كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه ، فإن شاء الله أحياه ، وإن شاء أماته ، ولك أجر " . وظاهر هذا السياق يقتضي أنه يؤجر على جماعه لأهله بنية طلب الولد الذي يترتب الأجر على تربيته وتأديبه في حياته ، ويحتسبه عند موته ، وأما إذا لم ينو شيئا بقضاء شهوته ، فهذا قد تنازع الناس في دخوله في هذا الحديث . [ ص: 63 ] وقد صح الحديث بأن نفقة الرجل على أهله صدقة ، ففي " الصحيحين " عن أبي مسعود الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نفقة الرجل على أهله صدقة وفي رواية لمسلم : " وهو يحتسبها " ، وفي لفظ للبخاري : " إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها ، فهو له صدقة " ، فدل على أنه إنما يؤجر فيها إذا احتسبها عند الله كما في حديث سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك خرجاه . وفي " صحيح مسلم " عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله ، ودينار ينفقه على فرس في سبيل الله ، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله قال أبو قلابة عند رواية هذا الحديث : بدأ بالعيال ، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به ، ويغنيهم الله به . وفيه أيضا عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن نفقتك على عيالك صدقة ، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة وهذا قد ورد مقيدا في الرواية الأخرى بابتغاء وجه الله . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : دينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار تصدقت به على [ ص: 64 ] مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك ، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك . وخرج الإمام أحمد ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا فقال رجل : عندي دينار ، فقال : " تصدق به على نفسك " قال عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على زوجتك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على ولدك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " تصدق به على خادمك " قال : عندي دينار آخر ، قال : أنت أبصر . وخرج الإمام أحمد من حديث المقدام بن معدي كرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أطعمت نفسك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك ، فهو لك صدقة وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة يطول ذكرها . وفي " الصحيحين " عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من مسلم يغرس غرسا ، أو يزرع زرعا ، فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة ، إلا كان له صدقة . وفي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة ، وما سرق منه له صدقة ، وما أكل السبع منه ، فهو له صدقة ، وما أكلت الطير فهو له صدقة ، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة . وفي رواية له أيضا : " فيأكل منه إنسان ، ولا دابة ، ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة " . [ ص: 65 ] وفي " المسند " بإسناد ضعيف عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء ، أو غرس غراسا في غير ظلم ولا اعتداء ، إلا كان له أجرا جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن " . وذكر البخاري في " تاريخه " من حديث جابر مرفوعا : " من حفر ماء لم تشرب منه كبد حرى من جن ولا إنس ولا سبع ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة " . وظاهر هذه الأحاديث كلها يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما من غير قصد ولا نية ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " يدل بظاهره على أنه يؤجر في إتيان أهله من غير نية ، فإن المباضع لأهله كالزارع في الأرض التي يحرث ويبذر فيها ، وقد ذهب إلى هذا طائفة من العلماء ، ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشرب والجماع ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه . وهذا اللفظ الذي استدل به غير معروف ، إنما المعروف قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد : " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك " ، وهو مقيد بإخلاص النية لله ، فتحمل الأحاديث المطلقة عليه ؛ والله أعلم . ويدل عليه أيضا قول الله عز وجل : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [ النساء : 114 ] ، [ ص: 66 ] فجعل ذلك خيرا ، ولم يرتب عليه الأجر إلا مع نية الإخلاص . وأما إذا فعله رياء ، فإنه يعاقب عليه ، وإنما محل التردد إذا فعله بغير نية صالحة ولا فاسدة . وقد قال أبو سليمان الداراني : من عمل عمل خير من غير نية كفاه نية اختياره للإسلام على غيره من الأديان ، وظاهر هذا أنه يثاب عليه من غير نية بالكلية ، لأنه بدخوله في الإسلام مختار لأعمال الخير في الجملة ، فيثاب على كل عمل يعمله منها بتلك النية ، والله أعلم . وقوله : " أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال ، كان له أجر " . هذا يسمى عند الأصوليين قياس العكس ، ومنه قول ابن مسعود ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا أخرى ، قال : من مات يشرك بالله شيئا دخل النار ، وقلت : من مات لا يشرك بالله دخل الجنة . والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية : ما نفعه قاصر على فاعله ، كأنواع الذكر : من التكبير ، والتسبيح ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، وكذلك المشي إلى المساجد صدقة ، ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصلاة والصيام والحج والجهاد أنه صدقة ، وأكثر هذه الأعمال أفضل من الصدقات المالية ، لأنه إنما ذكر جوابا لسؤال الفقراء الذين سألوه عما يقاوم تطوع الأغنياء بأموالهم ، وأما الفرائض ، فإنهم قد كانوا كلهم مشتركين فيها . وقد تكاثرت النصوص بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيرها من [ ص: 67 ] الأعمال ، كما في حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " ذكر الله عز وجل " خرجه الإمام أحمد والترمذي ، وذكره مالك في " الموطأ " موقوفا على أبي الدرداء . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة ، كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك . وفيهما أيضا عن أبي أيوب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قالها عشر مرات ، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل . وخرج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا " قلت : [ ص: 68 ] يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : " لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . ويروى نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعا ، والصواب وقفه على معاذ من قوله . وخرج الطبراني من حديث أبي الوازع ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لو أن رجلا في حجره دراهم يقسمها ، وآخر يذكر الله ، كان الذاكر أفضل " . قلت : الصحيح عن أبي الوازع عن أبي برزة الأسلمي من قوله . خرجه جعفر الفريابي . وخرج أيضا من حديث أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من كبر مائة ، وسبح [ ص: 69 ] مائة ، وهلل مائة ، كانت خيرا له من عشر رقاب يعتقها ، ومن سبع بدنات ينحرها " . وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي الدرداء أنه قيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وعن أبي الدرداء أيضا ، قال : لأن أقول : الله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار . وكذلك قال سلمان الفارسي وغيره من الصحابة والتابعين : إن الذكر أفضل من الصدقة بعدده من المال . وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : سبحي الله مائة تسبيحة ، فإنها تعدل مائة رقبة من ولد إسماعيل ، واحمدي الله مائة تحميدة ، فإنها تعدل لك مائة فرس ملجمة مسرجة تحملين عليهن في سبيل الله ، وكبري الله مائة تكبيرة ، فإنها تعدل مائة بدنة مقلدة متقبلة ، وهللي الله مائة تهليلة - لا أحسبه إلا قال : - تملأ ما بين السماء والأرض ، ولا يرفع يومئذ لأحد مثل عملك إلا أن يأتي بمثل ما أتيت وخرجه أحمد أيضا وابن ماجه ، وعندهما : " وقولي : لا إله إلا الله مائة مرة ، لا تذر ذنبا ، ولا يسبقها العمل " . [ ص: 70 ] وخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا : قال : " ما من صدقة أفضل من ذكر الله عز وجل " . وخرج الفريابي بإسناد فيه نظر عن أبي أمامة مرفوعا : " من فاته الليل أن يكابده ، ويبخل بماله أن ينفقه ، وجبن من العدو أن يقاتله ، فليكثر من سبحان الله وبحمده ، فإنها أحب إلى الله عز وجل من جبل ذهب ، أو جبل فضة ينفقه في سبيل الله عز وجل " . وخرج البزار بإسناد مقارب من حديث ابن عباس مرفوعا قال في حديثه : " فليكثر ذكر الله " ، ولم يزد على ذلك ، وفي المعنى أحاديث أخر متعددة .

[ص: 71 ] الحديث السادس والعشرون:

عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته ، فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة ، وخرجه البزار من رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : للإنسان ثلاثمائة وستون عظما ، أو ستة وثلاثون سلامى ، عليه في كل يوم صدقة " قالوا : فمن لم يجد ؟ قال : "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر " قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : " يرفع عظما عن الطريق " قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : " فليعن ضعيفا " قالوا : فمن لم يستطع ذلك ؟ قال : فليدع الناس من شره . وخرج مسلم من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن ذكر الله ، وحمد الله ، وهلل الله ، وسبح الله ، وعزل حجرا عن طريق المسلمين ، أو عزل شوكة ، أو عزل عظما ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى أمسى من يومه وقد زحزح نفسه عن النار . [ ص: 72 ] وخرج مسلم أيضا من رواية أبي الأسود الديلمي عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى . وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا ، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة قالوا : ومن يطيق ذلك يا نبي الله ؟ قال : النخاعة في المسجد تدفنها ، والشيء تنحيه عن الطريق ، فإن لم تجد ، فركعتا الضحى تجزئك . وفي " الصحيحين " عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : على كل مسلم صدقة قالوا : فإن لم يجد ؟ قال : فيعمل بيده ، فينفع نفسه ويتصدق قالوا : فإن لم يستطع ، أو لم يفعل ؟ قال : يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليأمر بالمعروف قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليمسك عن الشر فإنه صدقة . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل منسم من ابن آدم صدقة كل يوم فقال رجل من القوم : ومن [ ص: 73 ] يطيق هذا ؟ قال : أمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، والحمل على الضعيف صدقة ، وكل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة . وخرجه البزار وغيره . وفي رواية : على كل ميسم من الإنسان صدقة كل يوم أو صلاة فقال رجل : هذا من أشد ما أتيتنا به ، فقال : إن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر صلاة أو صدقة ، وحملك عن الضعيف صلاة ، وإنحاؤك القذر عن الطريق صلاة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة . وفي رواية البزار : وإماطة الأذى عن الطريق صدقة أو قال : " صلاة " . قال بعضهم : يريد بالميسم كل عضو على حدة مأخوذ من الوسم : وهو العلامة ، إذ ما من عظم ولا عرق ولا عصب إلا وعليه أثر صنع الله ، فيجب على العبد الشكر على ذلك والحمد لله على خلقه سويا صحيحا ، وهذا هو المراد بقوله : عليه صلاة كل يوم ، لأن الصلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء . وخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل سلامى ، أو على كل عضو من بني آدم في كل يوم صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتا الضحى . ويروى من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : على كل نفس في كل يوم صدقة قيل : فإن كان لا يجد شيئا ؟ قال : أليس بصيرا شهما فصيحا صحيحا ؟ قال : بلى ، قال : يعطي من قليله وكثيره ، وإن بصرك للمنقوص بصره صدقة ، وإن سمعك للمنقوص سمعه صدقة . وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي - حديث أبي ذر - الذي خرجه ابن [ ص: 74 ] حبان في " صحيحه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل : يا رسول الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها ؟ قال : إن أبواب الخير لكثيرة : التسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، والتهليل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته ، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف ، فهذا كله صدقة منك على نفسك . فقوله صلى الله عليه وسلم : على كل سلامى من الناس عليه صدقة قال أبو عبيد : السلامى في الأصل عظم يكون في فرسن البعير ، قال : فكأن معنى الحديث : على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة ، يشير أبو عبيد إلى أن السلامى اسم لبعض العظام الصغار التي في الإبل ، ثم عبر بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره . فمعنى الحديث عنده : على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة . وقال غيره : السلامى : عظم في طرف اليد والرجل ، وكنى بذلك عن جميع عظام الجسد ، والسلامى جمع ، وقيل : هو مفرد . وقد ذكر علماء الطب أن جميع عظام البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما سوى السمسمانيات ، وبعضهم يقول : هي ثلاثمائة وستون عظما ، يظهر منها للحس مائتان وخمسة وستون عظما ، والباقية صغار لا تظهر تسمى السمسمانية ، وهذه الأحاديث تصدق هذا القول ، ولعل السلامى عبر بها عن هذه العظام الصغار ، كما أنها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام ، ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد لهذا ، حيث قال فيها : " أو ستة وثلاثون سلامى " وقد [ ص: 75 ] خرجه غير البزار ، وقال فيه : " إن في ابن آدم ستمائة وستين عظما " وهذه الرواية غلط . وفي حديث عائشة وبريدة ذكر ثلاثمائة وستين مفصلا . ومعنى الحديث : أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده ، فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه ، ليكون ذلك شكرا لهذه النعمة . قال الله عز وجل : ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار : 6 - 8 ] . وقال عز وجل : قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ الملك : 23 ] ، وقال : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] وقال : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ البلد : 8 - 9 ] ، قال مجاهد : هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر ، وقرأ الفضل ليلة هذه الآية ، فبكى فسئل عن بكائه ، فقال : هل بت ليلة شاكرا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما ؟ هل بت ليلة شاكرا لله أن جعل لك لسانا تنطق به ؟ وجعل يعدد من هذا الضرب . وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلمان الفارسي ، قال : إن رجلا بسط له من الدنيا ، فانتزع ما في يديه ، فجعل يحمد الله عز وجل ، ويثني عليه ، حتى لم يكن له فراش إلا بوري ، فجعل يحمد الله ، ويثني عليه ، وبسط للآخر من الدنيا ، فقال لصاحب البوري : أرأيتك أنت على ما تحمد الله عز وجل ؟ قال : أحمد الله على ما لو أعطيت به ما أعطي الخلق لم أعطهم إياه ، قال : [ ص: 76 ] وما ذاك ؟ قال : أرأيت بصرك ؟ أرأيت لسانك ؟ أرأيت يديك ؟ أرأيت رجليك ؟ وبإسناده عن أبي الدرداء أنه كان يقول : الصحة غنى الجسد . وعن يونس بن عبيد أن رجلا شكا إليه ضيق حاله ، فقال له يونس : أيسرك أن لك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم ؟ قال الرجل : لا ، قال : فبيدك مائة ألف درهم ؟ قال : لا ، قال : فرجليك ؟ قال : لا ، قال : فذكره نعم الله عليه ، فقال يونس : أرى عندك مئين ألوف وأنت تشكو الحاجة . وعن وهب بن منبه ، قال : مكتوب في حكمة آل داود : العافية الملك الخفي . وعن بكر المزني قال : يا ابن آدم ، إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك ، فغمض عينيك . وفي بعض الآثار : كم من نعمة لله في عرق ساكن . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ . فهذه النعم مما يسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة ، ويطالب به كما قال تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر : 8 ] وخرج الترمذي وابن حبان [ ص: 77 ] من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم ، فيقول له : ألم نصح لك جسمك ، ونرويك من الماء البارد ؟ . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : النعيم الأمن والصحة . وروي عنه مرفوعا . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر : 8 ] ، قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الإسراء : 36 ] . وخرج الطبراني من رواية أيوب بن عتبة - وفيه ضعف - عن عطاء ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ قال : إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل ، لو وضع على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة من نعم الله ، فتكاد أن تستنفد ذلك كله ، إلا أن يتطاول الله برحمته . [ ص: 78 ] وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف أيضا عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يؤتى بالنعم يوم القيامة ، وبالحسنات والسيئات ، فيقول الله لنعمة من نعمه : خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها . وبإسناده عن وهب بن منبه قال : عبد الله عابد خمسين عاما ، فأوحى الله عز وجل إليه : إني قد غفرت لك ، قال : يا رب ، وما تغفر لي ولم أذنب ؟ فأذن الله عز وجل لعرق في عنقه ، فضرب عليه ، فلم ينم ، ولم يصل ، ثم سكن وقام ، فأتاه ملك ، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق ، فقال الملك : إن ربك عز وجل يقول : عبادتك خمسين سنة تعدل سكون ذلك العرق . وخرج الحاكم هذا المعنى مرفوعا من رواية سلمان بن هرم القرشي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن جبريل أخبره أن عابدا عبد الله على رأس جبل في البحر خمسمائة سنة ، ثم سأل ربه أن يقبضه وهو ساجد ، قال : فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا ، ونجد في العلم أنه يبعث يوم [ ص: 79 ] القيامة ، فيوقف بين يدي الله عز وجل ، فيقول الله عز وجل : أدخلو عبدي الجنة برحمتي ، فيقول العبد : يا رب ، بعملي ، ثلاث مرات ، ثم يقول الله للملائكة : قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله ، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة ، وبقيت نعم الجسد له ، فيقول : أدخلوا عبدي النار ، فيجر إلى النار ، فينادي ربه : برحمتك أدخلني الجنة ، برحمتك أدخلني الجنة ، فيدخله الجنة ، قال جبريل : إنما الأشياء برحمة الله يا محمد . وسلمان بن هرم ، قال العقيلي : هو مجهول وحديثه غير محفوظ . وروى الخرائطي بإسناد فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول للملائكة : انظروا في عمل عبدي ونعمتي عليه ، فينظرون فيقولون : ولا بقدر نعمة واحدة من نعمك عليه ، فيقول : انظروا في عمله سيئه وصالحه ، فينظرون فيجدونه كفافا ، فيقول : عبدي ، قد قبلت حسناتك ، وغفرت لك سيئاتك ، وقد وهبت لك نعمتي فيما بين ذلك . والمقصود : أن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه كما قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 34 ] وطلب منهم الشكر ، ورضي به منهم . قال سليمان التيمي : إن الله أنعم على العباد على قدره ، وكلفهم الشكر على قدرهم حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه ، وبالحمد بألسنتهم عليها ، كما خرجه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن غنام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال من قال : حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك ، فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشكر ، فقد [ ص: 80 ] أدى شكر ذلك اليوم ، ومن قالها حين يمسي أدى شكر ليلته . وفي رواية النسائي عن عبد الله بن عباس . وخرج الحاكم من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أنعم الله على عبد نعمة ، فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله شكرها قبل أن يشكرها ، وما أذنب عبد ذنبا ، فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أن يستغفره . وقال أبو عمرو الشيباني : قال موسى عليه السلام يوم الطور : يا رب ، إن أنا صليت فمن قبلك ، وإن أنا تصدقت فمن قبلك ، وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك ، فكيف أشكرك ؟ قال : الآن شكرتني . وعن الحسن قال : قال موسى عليه السلام : يا رب ، كيف يستطيع آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه ؟ خلقته بيدك ، ونفخت فيه من روحك ، وأسكنته جنتك ، وأمرت الملائكة فسجدوا له ، فقال : يا موسى ، علم أن ذلك مني ، فحمدني عليه ، فكان ذلك شكرا لما صنعته . [ ص: 81 ] وعن أبي الجلد قال : قرأت في مسألة داود أنه قال : أي رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك ؟ قال : فأتاه الوحي : أن يا داود ، أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فإني أرضى بذلك منك شكرا . قال : وقرأت في مسألة موسى : يا رب ، كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله ؟ قال : فأتاه الوحي : أن يا موسى ، الآن شكرتني . وقال بكر بن عبد الله ما قال : عبد قط : الحمد لله مرة ، إلا وجبت عليه نعمة بقوله : الحمد لله ، فما جزاء تلك النعمة ؟ جزاؤها أن يقول : الحمد لله ، فجاءت نعمة أخرى ، فلا تنفد نعماء الله . وقد روى ابن ماجه من حديث أنس مرفوعا : ما أنعم الله على عبد نعمة ، فقال : الحمد لله ، إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ . وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا أيضا . وروي هذا عن الحسن البصري من قوله . [ ص: 82 ] وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه : إني بأرض قد كثرت فيها النعم ، حتى لقد أشفقت على أهلها من ضعف الشكر ، فكتب إليه عمر : إني قد كنت أراك أعلم بالله مما أنت ، إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا كان حمده أفضل من نعمته ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل ، قال الله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ النمل : 15 ] ، وقال الله : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها إلى قوله : وقالوا الحمد لله [ الزمر : 73 ] وأي نعمة أفضل من دخول الجنة ؟ . وقد ذكر ابن أبي الدنيا في " كتاب الشكر " عن بعض العلماء أنه صوب هذا القول ، أعني قول من قال : إن الحمد أفضل من النعم ، وعن ابن عيينة أنه خطأ قائله ، وقال : لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب عز وجل . ولكن الصواب قول من صوبه ، فإن المراد بالنعم : النعم الدنيوية ، كالعافية والرزق والصحة ، ودفع المكروه ، ونحو ذلك ، والحمد لله هو من النعم الدينية ، وكلاهما نعمة من الله ، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده ، فإن النعم الدنيوية إن لم يقترن بها الشكر ، كانت بلية كما قال أبو حازم : كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية ، فإذا وفق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر ، كانت هذه النعمة خيرا من تلك النعم وأحب إلى الله عز وجل منها ، فإن الله [ ص: 83 ] يحب المحامد ، ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، ويشرب الشربة فيحمده عليها ، والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحب إليهم من أموالهم ، فهم يبذلونها طلبا للثناء ، والله عز وجل أكرم الأكرمين ، وأجود الأجودين ، فهو يبذل نعمه لعباده ، ويطلب منهم الثناء بها وذكرها ، والحمد عليها ، ويرضى منهم بذلك شكرا عليها ، وإن كان ذلك كله من فضله عليهم ، وهو غير محتاج إلى شكرهم ، لكنه يحب ذلك من عباده ، حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله فيه . ومن فضله سبحانه أنه نسب الحمد والشكر إليهم ، وإن كان من أعظم نعمه عليهم ، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال ، ثم استقرض منهم بعضه ، ومدحهم بإعطائه ، والكل ملكه ومن فضله ، ولكن كرمه اقتضى ذلك ، ومن هنا يعلم معنى الأثر الذي جاء مرفوعا وموقوفا : " الحمد لله حمدا يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده " . ولنرجع الآن إلى تفسير حديث : كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس . يعني : أن الصدقة على ابن آدم عن هذه الأعضاء في كل يوم من أيام الدنيا ، فإن اليوم قد يعبر به عن مدة أزيد من ذلك ، كما يقال : يوم صفين ، وكان مدة أيام ، وعن مطلق الوقت كما في قوله : ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم [ هود : 8 ] ، وقد يكون ذلك ليلا ونهارا ، فإذا قيل : كل يوم تطلع فيه الشمس ، علم أن هذه الصدقة على ابن آدم في كل يوم يعيش فيه من أيام الدنيا ، وظاهر الحديث يدل على أن هذا الشكر بهذه الصدقة واجب على المسلم كل يوم ، ولكن الشكر على درجتين : إحداهما : واجب ، وهو أن يأتي بالواجبات ، ويتجنب المحارم ، فهذا لا بد [ ص: 84 ] منه ، ويكفي في شكر هذه النعم ، ويدل على ذلك ما خرجه أبو داود من حديث أبي الأسود الديلي ، قال : كنا عند أبي ذر ، فقال : يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة ، فله بكل صلاة صدقة ، وصيام صدقة ، وحج صدقة ، وتسبيح صدقة ، وتكبير صدقة ، وتحميد صدقة ، فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأعمال الصالحات قال : يجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى وقد تقدم في حديث أبي موسى المخرج في " الصحيحين " : فإن لم يفعل ، فليمسك عن الشر ، فإنه له صدقة . وهذا يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئا من الشر ، وإنما يكون مجتنبا للشر إذا قام بالفرائض ، واجتنب المحارم ، فإن أعظم الشر ترك الفرائض ، ومن هنا قال بعض السلف : الشكر ترك المعاصي . وقال بعضهم : الشكر أن لا يستعان بشيء من النعم على معصية . وذكر أبو حازم الزاهد شكر الجوارح كلها وأن تكف عن المعاصي ، وتستعمل في الطاعات ، ثم قال : وأما من شكر بلسانه ، ولم يشكر بجميع أعضائه ، فمثله كمثل رجل له كساء ، فأخذ بطرفه ، فلم يلبسه ، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لينظر العبد في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك ، ليس من هذا شيء إلا وفيه نعمة من الله عز وجل ، حق على العبد أن يعمل بالنعم اللاتي هي في بدنه لله عز وجل [ ص: 85 ] في طاعته ، ونعمة أخرى في الرزق ، حق عليه أن يعمل لله عز وجل فيما أنعم عليه من الرزق في طاعته ، فمن عمل بهذا ، كان قد أخذ بحزم الشكر وأصله وفرعه . ورأى الحسن رجلا يتبختر في مشيته ، فقال : لله في كل عضو منه نعمة ، اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمك على معصيتك . الدرجة الثانية من الشكر : الشكر المستحب ، وهو أن يعمل العبد بعد أداء الفرائض واجتناب المحارم بنوافل الطاعات ، وهذه درجة السابقين المقربين ، وهي التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث التي سبق ذكرها ، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في الصلاة ، ويقوم حتى تنفطر قدماه ، فإذا قيل له : أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا شكورا . وقال بعض السلف : لما قال الله عز وجل : اعملوا آل داود شكرا [ سبأ : 13 ] ، لم يأت عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم مصل يصلي . وهذا مع أن بعض هذه الأعمال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم واجب : إما على الأعيان ، كالمشي إلى الصلاة عند من يرى وجوب الصلاة في الجماعات في المساجد ، وإما على الكفاية ، كالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإغاثة الملهوف ، والعدل بين الناس ، إما في الحكم بينهم ، أو في الإصلاح . وقد [ ص: 86 ] روي من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أفضل الصدقة إصلاح ذات البين . وهذه الأنواع التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، منها ما نفعه متعد كالإصلاح ، وإعانة الرجل على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها ، والكلمة الطيبة ، ويدخل فيها السلام ، وتشميت العاطس ، وإزالة الأذى عن الطريق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ودفن النخامة في المسجد ، وإعانة ذي الحاجة الملهوف ، وإسماع الأصم والبصر للمنقوص بصره ، وهداية الأعمى ، أو غيره الطريق . وجاء في بعض روايات حديث أبي ذر وبيانك عن الأرتم صدقة يعني : من لا يطيق الكلام ، إما لآفة في لسانه ، أو لعجمة في لغته ، فيبين عنه ما يحتاج إلى بيانه . ومنه ما هو قاصر النفع : كالتسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والمشي إلى الصلاة ، وصلاة ركعتي الضحى ، وإنما كانتا مجزئتين عن ذلك كله ، لأن في الصلاة استعمالا للأعضاء كلها في الطاعة والعبادة ، فتكون كافية في شكر نعمة سلامة هذه الأعضاء . وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرها استعمال لبعض أعضاء البدن خاصة ، فلا تكمل الصدقة بها حتى يأتي منها بعدد سلامى البدن ، وهي ثلاثمائة وستون كما في حديث عائشة رضي الله عنها . [ ص: 87 ] وفي " المسند " عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أتدرون أي الصدقة أفضل وخير ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : المنحة أن تمنح أخاك الدراهم ، أو ظهر الدابة ، أو لبن الشاة أو لبن البقرة . والمراد بمنحة الدراهم : قرضها ، وبمنحة ظهر الدابة إفقارها ، وهو إعارتها لمن يركبها ، وبمنحة لبن الشاة أو البقرة أن يمنحه بقرة أو شاة ليشرب لبنها ثم يعيدها إليه ، وإذا أطلقت المنيحة ، لم تنصرف إلا إلى هذا . وخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من منح منيحة لبن ، أو ورق ، أو أهدى زقاقا ، كان له مثل عتق رقبة وقال الترمذي : معنى قوله : من منح منيحة ورق إنما يعني به قرض الدراهم ، وقوله : وأهدى زقاقا إنما يعني به هداية الطريق ، وهو إرشاد السبيل . وخرجه البخاري من حديث حسان بن عطية ، عن أبي كبشة السلولي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربعون خصلة ، أعلاها منيحة العنز ، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها ، وتصديق موعودها ، إلا أدخله الله بها الجنة قال حسان : فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام ، وتشميت العاطس ، وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه ، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة . [ ص: 88 ] وفي " صحيح مسلم " عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حق الإبل حلبها على الماء وإعارة دلوها ، وإعارة فحلها ، ومنيحتها ، وحمل عليها في سبيل الله . وخرج الإمام أحمد من حديث جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل معروف صدقة ، ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وأن تفرغ من دلوك في إنائه . وخرج الحاكم وغيره بزيادة ، وهي : وما أنفق المرء على نفسه وأهله ، كتب له به صدقة ، وما وقى به عرضه كتب له به صدقة ، وكل نفقة أنفقها مؤمن ، فعلى الله خلفها ضامن ، إلا نفقة في معصية أو بنيان . وفي " المسند " عن أبي جري الهجيمي ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعروف ، فقال : لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تعطي صلة الحبل ، ولو أن تعطي شسع النعل ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق ، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه ، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض . ومن أنواع الصدقة : كف الأذى عن الناس باليد واللسان ، كما في " الصحيحين " عن أبي ذر ، قلت : يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعا ، أو [ ص: 89 ] تصنع لأخرق قلت : أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة . وفي " صحيح ابن حبان " عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، دلني على عمل ، إذا عمل به العبد دخل به الجنة ، قال : يؤمن بالله قلت : يا رسول الله ، إن مع الإيمان عملا ؟ قال : يرضخ مما رزقه الله قلت : وإن كان معدما لا شيء له ؟ قال : يقول معروفا بلسانه ، قلت : فإن كان عييا لا يبلغ عنه لسانه ؟ قال : فيعين مغلوبا ، قلت : فإن كان ضعيفا لا قدرة له ؟ قال : فليصنع لأخرق ، قلت : فإن كان أخرق ؟ فالتفت إلي ، فقال : ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير ؟ فليدع الناس من أذاه ، قلت : يا رسول الله ، إن هذا كله ليسير ، قال : والذي نفسي بيده ، ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد بها ما عند الله ، إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى يدخل الجنة . فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلها إخلاص النية كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلة ، وهذا كما في قوله عز وجل : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [ النساء : 114 ] . وقد روي عن الحسن ، وابن سيرين أن فعل المعروف يؤجر عليه ، وإن لم يكن له فيه نية . سئل الحسن عن الرجل يسأله آخر حاجة وهو يبغضه ، فيعطيه حياء : هل له فيه أجر ؟ فقال : إن ذلك لمن المعروف ، وإن في المعروف لأجرا . خرجه حميد بن زنجويه . وسئل ابن سيرين عن الرجل يتبع الجنازة ، لا يتبعها حسبة ، يتبعها حياء من [ ص: 90 ] أهلها : أله في ذلك أجر ؟ فقال : أجر واحد ؟ بل له أجران : أجر لصلاته على أخيه ، وأجر لصلته الحي . خرجه أبو نعيم في " الحلية " . ومن أنواع الصدقة : أداء حقوق المسلم على المسلم ، وبعضها مذكور في الأحاديث الماضية ، ففي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس وفي رواية لمسلم : للمسلم على المسلم ست ، قيل : ما هن يا رسول الله ؟ قال : إذا لقيته تسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك ، فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه . وفي " الصحيحين " عن البراء قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع : بعيادة المريض ، واتباع الجنازة ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام . وفي رواية لمسلم : وإرشاد الضال ، بدل إبرار القسم . ومن أنواع الصدقة : المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم ، قال ابن عباس : من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه ، فله بكل خطوة صدقة . ومنها إنظار المعسر ، وفي " المسند " و " سنن ابن ماجه " عن بريدة مرفوعا : [ ص: 91 ] من أنظر معسرا ، فله بكل يوم صدقة ، قبل أن يحل الدين ، فإذا حل الدين ، فأنظره بعد ذلك ، فله بكل يوم مثله صدقة . ومنها الإحسان إلى البهائم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن سقيها : فقال : في كل كبد رطبة أجر ، وأخبر أن بغيا سقت كلبا يلهث من العطش ، فغفر لها . وأما الصدقة القاصرة على نفس العامل بها ، فمثل أنواع الذكر من التسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك تلاوة القرآن ، والمشي إلى المساجد ، والجلوس فيها لانتظار الصلاة ، أو لاستماع الذكر . ومن ذلك : التواضع في اللباس ، والمشي ، والهدي ، والتبذل في المهنة ، واكتساب الحلال ، والتحري فيه . ومنها أيضا : محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها ، والندم والتوبة من الذنوب السالفة ، والحزن عليها ، واحتقار النفس ، والازدراء عليها ، ومقتها في الله عز وجل ، والبكاء من خشية الله تعالى ، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أمور الآخرة ، وما فيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك مما يزيد الإيمان في القلب ، وينشأ عنه كثير من أعمال القلوب ؛ كالخشية ، والمحبة ، والرجاء ، والتوكل ، وغير ذلك . وقد قيل : إن هذا التفكر أفضل من نوافل الأعمال [ ص: 92 ] البدنية ، روي ذلك عن غير واحد من التابعين ، منهم سعيد بن المسيب ، والحسن وعمر بن عبد العزيز ، وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه . وقال كعب : لأن أبكي من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا .

[ ص: 93 ] الحديث السابع والعشرون .:

عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، فقال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس رواه مسلم .

وعن وابصة بن معبد قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جئت تسأل عن البر والإثم ؟ قلت : نعم ، قال : استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك .

الحاشية رقم: 1 قال الشيخ رحمه الله : حديث حسن رويناه في " مسندي " الإمامين أحمد والدارمي بإسناد حسن .

أما حديث النواس بن سمعان ، فخرجه مسلم من رواية معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس ، ومعاوية وعبد الرحمن ، وأبوه تفرد بتخريج حديثهم مسلم دون البخاري .

وأما حديث وابصة فخرجه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة ، عن الزبير بن عبد السلام ، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز ، عن وابصة بن معبد ، [ ص: 94 ] قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألت عنه ، فقال لي : ادن يا وابصة ، فدنوت منه ، حتى مست ركبتي ركبته ، فقال : يا وابصة أخبرك ما جئت تسأل عنه أو تسألني ؟ قلت : يا رسول الله أخبرني ، قال : جئت تسألني عن البر والإثم قلت : نعم ، فجمع أصابعه الثلاث ، فجعل ينكت بها في صدري ، ويقول : يا وابصة ، استفت نفسك ، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس ، والإثم : ما حاك في القلب ، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك . وفي رواية أخرى للإمام أحمد أن الزبير لم يسمعه من أيوب ، وقال : وحدثني جلساؤه ، وقد رأيته ، ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعفه : أحدهما : انقطاعه بين الزبير وأيوب ، فإنه رواه عن قوم لم يسمعهم .

والثاني : ضعف الزبير هذا ، قال الدارقطني : روى أحاديث مناكير ، وضعفه ابن حبان أيضا ، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام ، فأخطأ في اسمه ، وله طريق آخر عن وابصة خرجه الإمام أحمد أيضا من رواية معاوية بن صالح عن أبي عبد الله السلمي ، قال : سمعت وابصة ، فذكر الحديث مختصرا ، ولفظه : قال : البر ما انشرح له صدرك ، والإثم ما حاك في صدرك ، وإن أفتاك عنه الناس .

والسلمي هذا ، قال علي بن المديني : هو مجهول .

وخرجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي ، وقال البزار : لا نعلم أحدا سماه ، كذا قال ، وقد سمي في بعض الروايات محمدا . قال عبد الغني بن سعيد الحافظ : لو قال قائل : إنه محمد بن سعيد المصلوب ، لما دفعت ذلك ، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة ، وهو مشهور بالكذب والوضع ، ولكنه لم يدرك وابصة ، والله أعلم .

[ ص: 95 ] وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة ، فخرجه الإمام أحمد ، وابن حبان في " صحيحه " من طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن أبي أمامة ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، ما الإثم ؟ قال : إذا حاك في صدرك شيء فدعه وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ، فإنه خرج حديث يحيى بن كثير عن زيد بن سلام ، وأثبت أحمد سماعه منه ، وإن أنكره ابن معين .

وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر : سمعت مسلم بن مشكم قال : سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول : قلت : يا رسول الله ، أخبرني ما يحل لي وما يحرم علي ، فقال : البر ما سكنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ، ولا يطمئن إليه القلب ، وإن أفتاك المفتون ، وهذا أيضا إسناد جيد ، وعبد الله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور ، وخرجه البخاري ، ومسلم بن مشكم ثقة مشهور أيضا .

وخرج الطبراني وغيره بإسناد ضعيف من حديث واثلة بن الأسقع قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أفتني عن أمر لا أسألك عنه أحدا بعدك ، قال : استفت نفسك قلت : كيف لي بذاك ؟ قال : تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وإن أفتاك المفتون ، قلت : وكيف بذاك ؟ قال : تضع يدك على قلبك ، فإن الفؤاد يسكن للحلال ولا يسكن للحرام . ويروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضا .

[ ص: 96 ] وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن سويد بن قيس أخبره عن عبد الرحمن بن معاوية : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما يحل لي مما يحرم علي ؟ وردد عليه ثلاث مرار ، كل ذلك يسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله ، فقال بأصابعه : ما أنكر قلبك فدعه . خرجه أبو القاسم البغوي في " معجمه " وقال : لا أدري عبد الرحمن بن معاوية سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ ولا أعلم له غير هذا الحديث . قلت : هو عبد الرحمن بن معاوية بن حديج جاء منسوبا في كتاب " الزهد " لابن المبارك ، وعبد الرحمن هذا تابعي مشهور ، فحديثه مرسل .

وقد صح عن ابن مسعود أنه قال : " الإثم حواز القلوب " . واحتج به الإمام أحمد ، ورواه عن جرير ، عن منصور ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال عبد الله : إياكم وحزاز القلوب ، وما حز في قلبك من شيء فدعه .

وقال أبو الدرداء : الخير في طمأنينة والشر في ريبة .

وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له : أرأيت شيئا يحيك في صدورنا ، لا ندري أحلال هو أم حرام ؟ فقال : وإياكم والحكاكات ، فإنهن الإثم ، والحز والحك متقاربان في المعنى ، والمراد : ما أثر في القلب ضيقا [ ص: 97 ] وحرجا ، ونفورا وكراهة .

فهذه الأحاديث مشتملة على تفسير البر والإثم ، وبعضها في تفسير الحلال والحرام ، فحديث النواس بن سمعان فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه البر بحسن الخلق ، وفسره في حديث وابصة وغيره بما اطمأن إليه القلب والنفس ، كما فسر الحلال بذلك في حديث أبي ثعلبة . وإنما اختلف تفسيره للبر ، لأن البر يطلق باعتبارين معينين : أحدهما : باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، وربما خص بالإحسان إلى الوالدين ، فيقال : بر الوالدين ، ويطلق كثيرا على الإحسان إلى الخلق عموما ، وقد صنف ابن المبارك كتابا سماه " كتاب البر والصلة " ، وكذلك في " صحيح البخاري " و " جامع الترمذي " : " كتاب البر والصلة " ، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموما ، ويقدم فيه بر الوالدين على غيرهما . وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : ثم أباك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم الأقرب فالأقرب .

ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . وفي " المسند " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن بر الحج ، فقال : إطعام الطعام ، [ ص: 98 ] وإفشاء السلام وفي رواية أخرى : وطيب الكلام .

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : البر شيء هين : وجه طليق وكلام لين .

وإذا قرن البر بالتقوى ، كما في قوله عز وجل : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] ، فقد يكون المراد بالبر معاملة الخلق بالإحسان ، وبالتقوى : معاملة الحق بفعل طاعته ، واجتناب محرماته ، وقد يكون أريد بالبر فعل الواجبات ، وبالتقوى : اجتناب المحرمات ، وقوله تعالى : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [ المائدة : 2 ] قد يراد بالإثم : المعاصي ، وبالعدوان : ظلم الخلق ، وقد يراد بالإثم : ما هو محرم في نفسه كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وبالعدوان : تجاوز ما أذن فيه إلى ما نهي عنه مما جنسه مأذون فيه ، كقتل ما أبيح قتله لقصاص ومن لا يباح ، وأخذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها ، ومجاوزة الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك .

والمعنى الثاني من معنى البر : أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة ، كقوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان ، فتلا هذه الآية .

[ ص: 99 ] فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبه الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والصبر على الأقدار ، كالمرض والفقر ، وعلى الطاعات ، كالصبر عند لقاء العدو .

وقد يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس شاملا لهذه الخصال كلها ، لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة ، والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه ، كما قال تعالى لرسوله وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] ، وقالت عائشة : كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن ، يعني أنه يتأدب بآدابه ، فيفعل أوامره ، ويتجنب نواهيه ، فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا يفارقه ، وهذا أحسن الأخلاق وأشرفها وأجملها .

وقد قيل : إن الدين كله خلق . وأما في حديث وابصة ، فقال : البر ما اطمأن إليه القلب ، واطمأنت إليه النفس وفي رواية : ما انشرح إليه الصدر ، وفسر الحلال بنحو ذلك في حديث أبي ثعلبة وغيره ، وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق ، والسكون إليه وقبوله ، وركز في الطباع محبة ذلك ، والنفور عن ضده .

وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حمار : إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا .

[ ص: 100 ] وقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله .

ولهذا سمى الله ما أمر به معروفا ، وما نهى عنه منكرا ، فقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] ، وقال في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ الأعراف : 157 ] وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئن بذكره ، فالقلب الذي دخله نور الإيمان ، وانشرح به وانفسح ، يسكن للحق ، ويطمئن به ويقبله ، وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله .

وقال معاذ بن جبل : أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، فقيل لمعاذ : ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال : ما هذه ؟ ولا يثنيك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورا ، خرجه أبو داود . وفي رواية له قال : بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول : ما أراد بهذه الكلمة ؟ فهذا يدل على أن الحق والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير ، بل يعرف الحق بالنور عليه ، فيقبله قلبه ، وينفر عن الباطل ، فينكره ولا يعرفه ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : سيكون في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لم [ ص: 101 ] تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم يعني : أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين ، ولا تعرفه ، وفي قوله : أنتم ولا آباؤكم إشارة إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين مع تقادم العهد وتطاول الزمان ، فهو الحق ، وأن ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر فلا خير فيه .

فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، فما إليه سكن القلب ، وانشرح إليه الصدر ، فهو البر والحلال ، وما كان خلاف ذلك ، فهو الإثم والحرام .

وقوله في حديث النواس : الإثم ما حاك في الصدر ، وكرهت أن يطلع عليه الناس إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجا ، وضيقا ، وقلقا ، واضطرابا ، فلم ينشرح له الصدر ، ومع هذا ، فهو عند الناس مستنكر ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه ، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه ، وهو ما استنكره الناس على فاعله وغير فاعله .

ومن هذا المعنى قول ابن مسعود : ما رآه المؤمنون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المومنون قبيحا ، فهو عند الله قبيح .

[ ص: 102 ] وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة : وإن أفتاك المفتون يعني : أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم ، وإن أفتاه غيره بأنه ليس ، بإثم فهذه مرتبة ثانية ، وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره ، وقد جعله أيضا إثما ، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان ، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي ، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي ، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه ، وإن لم ينشرح له صدره ، وهذا كالرخصة الشرعية ، مثل : الفطر في السفر ، والمرض ، وقصر الصلاة في السفر ، ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال ، فهذا لا عبرة به .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم ، فيمتنعون من فعله ، فيغضب من ذلك ، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، فكرهه من كرهه منهم ، وكما أمرهم بنحر هديهم ، والتحلل من عمرة الحديبية ، فكرهوه ، وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه ، وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم .

وفي الجملة ، فما ورد النص به ، فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله ، كما قال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب : 36 ] .

[ ص: 103 ] وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا ، فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به ، والتسليم له ، كما قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] .

وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة ، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان ، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء ، وحك في صدره لشبهة موجودة ، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه ، بل هو معروف باتباع الهوى ، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حك في صدره ، وإن أفتاه هؤلاء المفتون .

وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا ، أيضا قال المروزي في " كتاب الورع " قلت : لأبي عبد الله إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق ، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء ، فقال : أمرها أمر قذر متلوث ، قلت : فتكره العمل فيها ؟ قال : دع ذا عنك إن كان لا يقع في قلبك شيء ، قلت : قد وقع في قلبي منها ، فقال : قال : ابن مسعود : الإثم حواز القلوب . قلت : إنما هذا على المشاورة ؟ قال : أي شيء يقع في قلبك ؟ قلت : قد اضطرب علي قلبي ، قال : الإثم هو حواز القلوب .

وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير : الحلال بين والحرام بين ، وفي شرح حديث الحسن بن علي : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وشرح حديث : إذا لم تستح فاصنع ما شئت شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا .

وقد ذكر طوائف من فقهاء الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه [ ص: 104 ] مسألة الإلهام : هل هو حجة أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافا بينهم ، وذكر طائفة من أصحابنا أن الكشف ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نص أحمد هاهنا بالرجوع إلى حواز القلوب ، وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي ، بل إلى مجرد رأي وذوق ، كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي .

فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب ، فقد دلت عليه النصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك ؟ لا سيما وقد نص على الرجوع إليه موافقة لهم . وقد سبق حديث : إن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ، فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه ، ومعرفته ، وبنفوره عن الكذب وإنكاره ، كما قال الربيع بن خثيم : إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه ، وظلمة كظلمة الليل تنكره .

وخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد ، وأبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم ، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد ، فأنا أبعدكم منه . وإسناده قد قيل : إنه على [ ص: 105 ] شرط مسلم ، لأنه خرج بهذا الإسناد بعينه حديثا ، لكن هذا الحديث معلول ، فإنه رواه بكير بن الأشج ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن عباس بن سهل ، عن أبي بن كعب من قوله ، قال البخاري : وهو أصح .

وروى يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ، ولا تنكرونه ، فصدقوا به ، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر ، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه ، فلا تصدقوا به ، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ، وهذا الحديث معلول أيضا ، وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب ، ورواه الحفاظ عنه عن سعيد مرسلا ، والمرسل أصح عند أئمة الحفاظ ، منهم ابن معين والبخاري ، وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة ، وقال : ما رأيت أحدا من علماء الحديث يثبت وصله .

وإنما تحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحتها - على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد ، الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكلام غيره ، ولحال رواة الأحاديث ، ونقلة الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم ، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته ، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها ، وخالصها ومشوبها ، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته ، ولا يقيم عليه دليلا لغيره ، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم ، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة .

وقد امتحن هذا منهم غير مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم ، فوجد الأمر على ذلك ، فقال السائل : أشهد أن هذا العلم إلهام . قال الأعمش : كان إبراهيم النخعي صيرفيا في الحديث ، كنت أسمع من الرجال فأعرض عليه ما سمعته . وقال عمرو بن قيس : ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينقد الدراهم ، فإن الدراهم فيها الزائف والبهرج وكذا الحديث .

وقال الأوزاعي : كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة ، فما عرفوا أخذنا ، وما أنكروا تركنا .

وقيل لعبد الرحمن بن مهدي : إنك تقول للشيء : هذا صحيح وهذا لم يثبت ، فعمن تقول ذلك ؟ فقال : أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك ، فقال : هذا جيد ، وهذا بهرج أكنت تسأله عمن ذلك ، أو تسلم الأمر إليه ؟ قال : لا ، بل كنت أسلم الأمر إليه ، قال : فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبر به .

وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضا ، وأنه قيل له : يا أبا عبد الله تقول : هذا الحديث منكر ، فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله ؟ قال : [ ص: 107 ] مثلنا كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها ، فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد ، أو أنه رديء .

وقال ابن مهدي : معرفة الحديث إلهام . وقال : إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة .

وقال أبو حاتم الرازي : مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار ، وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده ، فكذلك نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب ، وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه ، قال : وتعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره ، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش ، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره ، فإن خالفه في المائية والصلابة ، علم أنه زجاج ، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح مثله أن يكون كلام النبوة ، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم .

وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدا ، وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين ، ثم خلفه أيوب السختياني ، وأخذ ذلك عنه شعبة ، وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي ، وأخذ عنهما أحمد ، وعلي بن المديني ، وابن معين ، وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم .

وكان أبو زرعة في زمانه يقول : قل من يفهم هذا ، وما أعزه إذا دفعت هذا عن واحد واثنين ، فما أقل من تجد من يحسن هذا ! ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : ذهب الذي كان يحسن هذا - يعني أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا [ ص: 108 ] بالعراق واحد يحسن هذا . وقيل له بعد موت أبي زرعة : تعرف اليوم واحدا يعرف هذا ؟ قال : لا .

وجاء بعد هؤلاء جماعة ، منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني ، وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه " الموضوعات " : قد قل من يفهم هذا بل عدم . والله أعلم .

[ ص: 109 ] الحديث الثامن والعشرون .

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع ، فأوصنا ، قال : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة رواه أبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، زاد أحمد في رواية له ، وأبو داود : وحجر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العرباض بن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين ، قال : ولم يتركه البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما له ، وزعم الحاكم أن سبب تركهما له أنهما توهما أنه ليس له [ ص: 110 ] راو عن خالد بن معدان غير ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضا بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما .

قلت : ليس الأمر كما ظنه ، وليس الحديث على شرطهما ، فإنهما لم يخرجا لعبد الرحمن بن عمرو السلمي ، ولا لحجر الكلاعي شيئا ، وليسا ممن اشتهر بالعلم والرواية .

وأيضا فقد اختلف فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدم ، وروي عنه عن أبي بلال عن العرباض ، وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه أيضا وروي أيضا عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، عن العرباض ، خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه ، وزاد في حديثه : فقد تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وزاد في آخر الحديث : فإنما المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد انقاد .

وقد أنكر طائفة من الحفاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجة فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرجه الحاكم ، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : فإن المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما قيد انقاد .

وخرجه ابن ماجه أيضا من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى بن أبي المطاع ، سمعت العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متصل ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرح فيه بالسماع ، وقد ذكر البخاري في " تاريخه " أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادا على هذه الرواية ، إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلط ، وممن ذكر ذلك أبو زرعة [ ص: 111 ] الدمشقي ، وحكاه عن دحيم ، وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم ، والبخاري رحمه الله يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد روي عن العرباض من وجوه أخر ، وروي من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن إسناد حديث بريدة لا يثبت ، والله أعلم .

فقول العرباض : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : " بليغة " ، وفي روايتهم أن ذلك بعد صلاة الصبح ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا [ النساء : 63 ] ، وقال : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] ، ولكنه كان لا يديم وعظهم ، بل يتخولهم به أحيانا ، كما في " الصحيحين " عن أبي وائل ، قال : كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نحب حديثك ونشتهيه ، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم ، فقال : ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملكم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا .

والبلاغة في الموعظة مستحسنة ، لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها ، والبلاغة : هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر خطبتها ، ولا يطيلها ، بل كان يبلغ ويوجز .

وفي " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة قال : كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 112 ] فكانت صلاته قصدا ، وخطبته قصدا .

وخرجه أبو داود ولفظه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة ، إنما هو كلمات يسيرات .

وخرجه مسلم من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمار فأوجز وأبلغ ، فلما نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفست ، قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن طول صلاة الرجل ، وقصر خطبته ، مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإن من البيان سحرا .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث الحاكم بن حزن ، قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فقام متوكئا على عصا أو قوس ، فحمد الله ، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات .

وخرج أبو داود عن عمرو بن العاص أن رجلا قام يوما ، فأكثر القول ، فقال عمرو : لو قصد في قوله ، لكان خيرا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لقد رأيت - أو أمرت - أن أتجوز في القول ، فإن الجواز هو خير .

[ص: 134 ] الحديث التاسع والعشرون :.

عن معاذ رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت . ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ : يعلمون [ السجدة : 16 - 17 ] ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ، قال : كف عليك هذا قلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

الحاشية رقم: 1 [ ص: 135 ] هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من رواية معمر عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن جبل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين : أحدهما : أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ ، وإن كان قد أدركه بالسن وكان معاذ بالشام ، وأبو وائل بالكوفة ، وما زال الأئمة - كأحمد وغيره - يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا ، وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء : قد أدركه ، وكان بالكوفة وأبو الدرداء بالشام ، يعني : أنه لم يصح له سماع منه . وقد حكى أبو زرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر ، أو نفوه ، فسماعه من معاذ أبعد .

والثاني : أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ ، خرجه الإمام أحمد مختصرا ، قال الدارقطني : وهو أشبه بالصواب ؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه .

قلت : رواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا ، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه ، وقد خرجه الإمام أحمد من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ، وخرجه الإمام أحمد أيضا من رواية عروة بن النزال أو النزال بن عروة ، وميمون بن أبي شبيب ، كلاهما عن معاذ ، ولم يسمع عروة ولا ميمون من معاذ ، وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة .

وقوله : " أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني عن النار " وقد تقدم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب [ ص: 136 ] وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذه المسألة ، وأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ .

وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنه قال : يا رسول الله ، إني أريد أن أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني ، قال : سل عما شئت ، قال : أخبرني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك غيره ، وهذا يدل على شدة اهتمام معاذ رضي الله عنه بالأعمال الصالحة ، وفيه دليل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة ، كما قال تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [ الزخرف : 72 ] .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله فالمراد - والله أعلم - أن العمل بنفسه لا يستحق به أحد الجنة لولا أن الله جعله - بفضله ورحمته - سببا لذلك والعمل بنفسه من رحمة الله وفضله على عبده ، فالجنة وأسبابها كل من فضل الله ورحمته .

وقوله : لقد سألت عن عظيم قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن مثل هذا : لئن كنت أوجزت المسألة ، لقد أعظمت وأطولت ، وذلك لأن دخول الجنة والنجاة من النار أمر عظيم جدا ، ولأجله أنزل الله الكتب ، وأرسل الرسل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : كيف تقول إذا صليت ؟ قال : أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حولها ندندن وفي رواية : هل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ، [ ص: 137 ] ونعوذ به من النار .

وقوله : وإنه ليسير على من يسره الله عليه : إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل ، فمن يسر الله عليه الهدى اهتدى ، ومن لم ييسره عليه ، لم ييسر له ذلك ؛ قال الله تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى [ الليل : 5 - 10 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : واهدني ويسر الهدى لي ، وأخبر الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال في دعائه : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري [ طه : 25 - 26 ] ، وكان ابن عمر يدعو : اللهم يسرني لليسرى ، وجنبني العسرى .

وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيه ترتيب دخول الجنة على [ ص: 138 ] الإتيان بأركان الإسلام الخمسة ، وهي : التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج .

[ص: 150 ] الحديث الثلاثون :

عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء ، فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها . حديث حسن ، رواه الدارقطني وغيره .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني ، وله علتان : إحداهما : أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة ، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما .

والثانية : أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة ، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله ، لكن قال الدارقطني : الأشبه بالصواب المرفوع ، قال : وهو أشهر .

وقد حسن الشيخ رحمه الله هذا الحديث ، وكذلك حسن قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في " أماليه " .

وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا من وجوه أخر ، خرجه البزار في [ ص: 151 ] " مسنده " والحاكم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا هذه الآية : وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال البزار : إسناده صالح .

وقد خرجه الطبراني والدارقطني من وجه آخر عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي ثعلبة ، وقال في آخره : رحمة من الله فاقبلوها ولكن إسناده ضعيف .

وخرجه الترمذي ، وابن ماجه من رواية سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ، فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه .

وقال الترمذي : رواه سفيان - يعني ابن عيينة - عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن سلمان من قوله ، قال : وكأنه أصح . وذكر في كتاب " العلل " عن البخاري أنه قال في الحديث المرفوع : ما أراه محفوظا ، وقال أحمد : هو منكر ، [ ص: 152 ] وأنكره ابن معين أيضا ، وقال أبو حاتم الرازي : هو خطأ ، رواه الثقات عن التيمي عن أبي عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ليس فيه سلمان .

قلت : وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر .

وخرجه ابن عدي من حديث ابن عمر مرفوعا وضعف إسناده .

ورواه أبو صالح المري ، عن الجريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عائشة مرفوعا وأخطأ في إسناده .

وروي عن الحسن مرسلا .

وخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ، ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل ، فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ الأنعام : 145 ] الآية ، وهذا موقوف .

وقال عبيد بن عمير : إن الله عز وجل أحل حلالا وحرم حراما ، وما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عفو .

فحديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام الله أربعة أقسام : فرائض ، ومحارم ، وحدود ، ومسكوت عنه ، وذلك يجمع أحكام الدين كلها .

[ ص: 153 ] قال أبو بكر السمعاني : هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين ، قال : وحكي عن بعضهم أنه قال : ليس في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد أجمع بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة ، قال : وحكي عن أبي واثلة المزني أنه قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين في أربع كلمات ، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة .

قال ابن السمعاني : فمن عمل بهذا الحديث ، فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأن من أدى الفرائض ، واجتنب المحارم ، ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسام الفضل ، وأوفى حقوق الدين ، لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث انتهى .

فأما الفرائض فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج .

وقد اختلف العلماء : هل الواجب والفرض بمعنى واحد أم لا ؟ فمنهم من قال : هما سواء ، وكل واجب بدليل شرعي بكتاب أو سنة أو إجماع أو غير ذلك من أدلة الشرع فهو فرض ، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي وغيرهم ، وحكي رواية عن أحمد ؛ لأنه قال : كل ما في الصلاة فهو فرض .

ومنهم من قال : بل الفرض ما ثبت بدليل مقطوع به ، والواجب ما ثبت بغير مقطوع به ، وهو قول الحنفية وغيرهم .

وأكثر النصوص عن أحمد تفرق بين الفرض والواجب ، فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال : لا يسمى فرضا إلا ما كان في كتاب الله تعالى ، وقال في صدقة الفطر : ما أجترئ أن أقول : إنها فرض ، مع أنه يقول بوجوبها ، فمن أصحابنا من قال : مراده أن الفرض ما يثبت بالكتاب ، والواجب ما ثبت بالسنة ، ومنهم من قال : أراد أن الفرض ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر ، والواجب ما ثبت من جهة الاجتهاد ، وساغ الخلاف في وجوبه .

[ ص: 154 ] ويشكل على هذا أن أحمد قال في رواية الميموني في بر الوالدين : ليس بفرض ، ولكن أقول : واجب ما لم يكن معصية ، وبر الوالدين مجمع على وجوبه ، وقد كثرت الأوامر به في الكتاب والسنة ، فظاهر هذا أنه لا يقول : فرض ، إلا ما ورد في الكتاب والسنة فرضا

[ص: 174 ] الحديث الحادي والثلاثون :.

عن سهل بن سعد الساعدي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله ، وأحبني الناس ، فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن إسناده حسن ، وفي ذلك نظر ، فإن خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمام أحمد : منكر الحديث ، وقال مرة : ليس بثقة ، يروي أحاديث بواطيل ، وقال ابن معين : ليس حديثه بشيء ، وقال مرة : كان كذابا يكذب ، حدث عن شعبة [ ص: 175 ] أحاديث موضوعة ، وقال البخاري وأبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : متروك الحديث ضعيف ، ونسبه صالح بن محمد ، وابن عدي إلى وضع الحديث ، وتناقض ابن حبان في أمره ، فذكره في كتاب " الثقات " وذكره في كتاب " الضعفاء " وقال : كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات ، لا يحل الاحتجاج بخبره ، وخرج العقيلي حديثه هذا وقال : ليس له أصل من حديث سفيان الثوري ، قال : وقد تابع خالدا عليه محمد بن كثير الصنعاني ، ولعله أخذه عنه ودلسه ، لأن المشهور به خالد هذا .

قال أبو بكر الخطيب : وتابعه أيضا أبو قتادة الحراني ومهران بن أبي عمر الرازي ، فرووه عن الثوري قال : وأشهرها حديث ابن كثير . كذا قال ، وهذا يخالف قول العقيلي : إن أشهرها حديث خالد بن عمرو ، وهذا أصح ، ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي ، ضعفه أحمد . وأبو قتادة ومهران تكلم فيهما أيضا ، لكن محمد بن كثير خير منهما ، فإنه ثقة عند كثير من الحفاظ .

وقد تعجب ابن عدي من حديثه هذا ، وقال ما أدري ما أقول فيه .

وذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث محمد بن كثير عن سفيان الثوري ، فذكر هذا الحديث ، فقال : هذا حديث باطل ، يعني بهذا الإسناد ، يشير إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير عن سفيان .

وقال ابن مشيش : سألت أحمد عن حديث سهل بن سعد ، فذكر هذا الحديث ، فقال أحمد : لا إله إلا الله - تعجبا منه - من يروي هذا ؟ قلت : [ ص: 176 ] خالد بن عمرو ، فقال : وقعنا في خالد بن عمرو ، ثم سكت ، ومراده الإنكار على من ذكر له شيئا من حديث خالد هذا ، فإنه لا يشتغل به .

وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " المواعظ " له عن خالد بن عمرو ، ثم قال : كنت منكرا لهذا الحديث ، فحدثني هذا الشيخ يعني عن وكيع : أنه سأله عنه ، ولولا مقالته هذه لتركته . وخرج ابن عدي هذا الحديث في ترجمة خالد بن عمرو ، وذكر رواية محمد بن كثير له أيضا ، وقال : هذا الحديث عن الثوري منكر ، وقال : ورواه زافر - يعني ابن سلمان - عن محمد بن عيينة أخي سفيان ، عن أبي حازم ، عن ابن عمر . انتهى ، وزافر ومحمد بن عيينة ، كلاهما ضعيف .

وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرسل : أخرجه أبو سليمان بن زبر الدمشقي في " مسند " إبراهيم بن أدهم من جمعه من رواية معاوية بن حفص ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن منصور ، عن ربعي بن حراش ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل يحبني الله عليه ، ويحبني الناس عليه ، فقال : أما العمل الذي يحبك الله عليه ، فازهد في الدنيا ، وأما العمل الذي يحبك الناس عليه ، فانظر هذا الحطام ، فانبذه إليهم .

[ ص: 177 ] وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذم الدنيا " من رواية علي بن بكار عن إبراهيم بن أدهم ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، ولم يذكر في إسناده منصورا ولا ربعيا ، وقال في حديثه : فانبذ إليهم ما في يديك من الحطام .

وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين : إحداهما : الزهد في الدنيا ، وأنه مقتض لمحبة الله عز وجل لعبده . والثانية : الزهد فيما في أيدي الناس ، فإنه مقتض لمحبة الناس .

فأما الزهد في الدنيا ، فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه ، وإلى ذم الرغبة في الدنيا ، قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 17 ] ، وقال تعالى : تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة [ الأنفال : 67 ] وقال تعالى في قصة قارون : فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون إلى قوله : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 79 - 83 ] ، وقال تعالى : وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع [ الرعد : 26 ] وقال قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا [ النساء : 77 ] .

وقال حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : [ ص: 178 ] ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 38 - 39 ] .

وقد ذم الله من كان يريد الدنيا بعمله وسعيه ونيته ، وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث " الأعمال بالنيات " .

والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله كثيرة جدا ، ففي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفيه ، فمر بجدي أسك ميت ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، فقال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه ، لأنه أسك ، فكيف وهو ميت ؟ فقال : والله ، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم .

وفيه أيضا عن المستورد الفهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بماذا ترجع .

وخرج الترمذي من حديث سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة ماء صححه .

[ ص: 179 ] ومعنى الزهد في الشيء : الإعراض عنه لاستقلاله ، واحتقاره ، وارتفاع الهمة عنه ، يقال : شيء زهيد ، أي : قليل حقير .

وقد تكلم السلف ومن بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا ، وتنوعت عباراتهم عنه ، وورد في ذلك حديث مرفوع خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمرو بن واقد منكر الحديث .

قلت : الصحيح وقفه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب " الزهد " ، حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا خالد بن صبيح ، حدثنا يونس بن حلبس قال : قال أبو مسلم الخولاني : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك ، وإذا أصبت بمصيبة ، كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك .

وخرجه ابن أبي الدنيا من راوية محمد بن مهاجر ، عن يونس بن ميسرة ، قال : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون حالك في [ ص: 180 ] المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء ، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء .

ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب ، لا من أعمال الجوارح ، ولهذا كان أبو سليمان يقول : لا تشهد لأحد بالزهد ، فإن الزهد في القلب .

أحدها : أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه ، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته ، فإن الله ضمن أرزاق عباده ، وتكفل بها ، كما قال : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] ، وقال : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ، وقال : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه [ العنكبوت : 17 ] .

وقال الحسن : إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل .

وروي عن ابن مسعود قال : إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا ليس في البيت دقيق . وقال مسروق : إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم : ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم . وقال الإمام أحمد : أسر أيامي إلي يوم أصبح وليس عندي شيء .

وقيل لأبي حازم الزاهد : ما مالك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر : الثقة بالله ، واليأس مما في أيدي الناس .

وقيل له : أما تخاف الفقر ؟ فقال : أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؟ !

[ ص: 181 ] ودفع إلى علي بن الموفق ورقة ، فقرأها فإذا فيها : يا علي بن الموفق أتخاف الفقر وأنا ربك ؟ .

وقال الفضيل بن عياض : أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل . وقال : القنوع هو الزاهد وهو الغني .

فمن حقق اليقين ، وثق بالله في أموره كلها ، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ، ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة ، وكان من أغنى الناس ، وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار : كفى بالموت واعظا ، وكفى باليقين غنى ، وكفى بالعبادة شغلا .

وقال ابن مسعود : اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ، ولا تحمد أحدا على رزق الله ، ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله ، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ، فإن الله تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمه - جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .

وفي حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا [ صادقا ] حتى أعلم أنه لا يمنعني رزقا قسمته لي ، ورضني من المعيشة بما قسمت لي .

وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول : اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا ، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت [ ص: 182 ] علينا ، ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا .

روينا من حديث ابن عباس مرفوعا ، قال : من سره أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده .

والثاني : أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال ، أو ولد أو غير ذلك - أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له ، وهذا أيضا ينشأ من كمال اليقين .

وقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها ، كما قال علي رضي الله عنه : من زهد الدنيا ، هانت عليه المصيبات .

والثالث : أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق ، وهذا من علامات الزهد في الدنيا ، واحتقارها ، وقلة الرغبة فيها ، فإن من عظمت الدنيا عنده أحب [ ص: 183 ] المدح وكره الذم ، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم ، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح ، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق ، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه ، وامتلائه من محبة الحق ، وما فيه رضا مولاه ، كما قال ابن مسعود : اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله . وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم .

وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا ، وكلها ترجع إلى ما تقدم ، كقول الحسن : الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال : هو أفضل مني ، وهذا يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها ، ولهذا يقال : الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة ، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس ، فهو الزاهد حقا ، وهذا هو الذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق ، وكقول وهيب بن الورد : الزهد في الدنيا أن لا تأسى على ما فات منها ، ولا تفرح بما آتاك منها ، قال ابن السماك : هذا هو الزاهد المبرز في زهده .

وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصها ، وهو مثل استواء حال المصيبة وعدمها كما سبق .

وسئل بعضهم - أظنه الإمام أحمد - عمن معه مال ، هل يكون زاهدا ؟ قال : إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه ، أو كما قال .

وسئل الزهري عن الزاهد فقال : من لم يغلب الحرام صبره ، ولم يشغل الحلال شكره ، وهذا قريب مما قبله ، فإن معناه أن الزاهد في الدنيا إذا قدر [ ص: 184 ] منها على حرام ، صبر عنه ، فلم يأخذه ، وإذا حصل له منها حلال ، لم يشغله عن الشكر ، بل قام بشكر الله عليه .

وقال أحمد بن أبي الحوارى : قلت لسفيان بن عيينة : من الزاهد في الدنيا ؟ قال : من إذا أنعم عليه شكر ، وإذا ابتلي صبر ، فقلت : يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر ، وإذا ابتلي فصبر ، وحبس النعمة ، كيف يكون زاهدا ؟ فقال : اسكت ، من لم تمنعه النعماء من الشكر ، ولا البلوى من الصبر ، فذلك الزاهد .

وقال ربيعة : رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها ، ووضعها في حقها .

وقال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ، ولا بلبس العباء . وقال : كان من دعائهم : اللهم زهدنا في الدنيا ، ووسع علينا منها ، ولا تزوها عنا ، فترغبنا فيها . وكذا قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا : قصر الأمل ، وقال مرة : قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس .

ووجه هذا أن قصر الأمل يوجب محبة لقاء الله ، بالخروج من الدنيا ، وطول الأمل يقتضي محبة البقاء فيها ، فمن قصر أمله ، فقد كره البقاء في الدنيا ، وهذا نهاية الزهد فيها ، والإعراض عنها ، واستدل ابن عيينة لهذا القول بقوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين إلى قوله : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة [ البقرة : 94 - 96 ] الآية .

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الضحاك بن مزاحم قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله ، من أزهد الناس ؟ فقال : من لم ينس القبر والبلى ، وترك زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعد غدا من أيامه وعد [ ص: 185 ] نفسه من الموتى وهذا مرسل .

وقد قسم كثير من السلف الزهد أقساما : فمنهم من قال : أفضل الزهد الزهد في الشرك ، وفي عبادة ما عبد من دون الله ، ثم الزهد في الحرام كله من المعاصي ، ثم الزهد في الحلال ، وهو أقل أقسام الزهد ، فالقسمان الأولان من هذا الزهد ، كلاهما واجب ، والثالث : ليس بواجب ، فإن أعظم الواجبات الزهد في الشرك ، ثم في المعاصي كلها . وكان بكر المزني يدعو لإخوانه : زهدنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات ، فعلم أن الله يراه فتركه .

وقال ابن المبارك : قال سلام بن أبي مطيع : الزهد على ثلاثة وجوه : واحد أن يخلص العمل لله عز وجل والقول ، ولا يراد بشيء منه الدنيا ، والثاني : ترك ما لا يصلح ، والعمل بما يصلح ، والثالث : الحلال أن يزهد فيه وهو تطوع ، وهو أدناها .

وهذا قريب مما قبله ، إلا أنه جعل الدرجة الأولى من الزهد الزهد في الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل ، وهو الشرك الأصغر ، والحامل عليه محبة المدح في الدنيا ، والتقدم عند أهلها ، وهو من نوع محبة العلو فيها والرياسة .

وقال إبراهيم بن أدهم : الزهد ثلاثة أصناف : فزهد فرض ، وزهد فضل ، وزهد سلامة ، فالزهد الفرض : الزهد في الحرام ، والزهد الفضل : الزهد في الحلال ، والزهد السلامة : الزهد في الشبهات .

[ص: 207 ] الحديث الثاني والثلاثون . :

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار حديث حسن ، رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا ، ورواه مالك في " الموطإ " عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، فأسقط أبا سعيد ، وله طرق يقوى بعضها ببعض .

الحاشية رقم: 1 حديث أبي سعيد لم يخرجه ابن ماجه ، وإنما خرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة ، حدثنا الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرار ، من ضار ضره الله ، ومن شاق شق الله عليه وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ، وقال البيهقي : تفرد به عثمان عن [ ص: 208 ] الدراوردي ، وخرجه مالك في " الموطإ " عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلا .

قال ابن عبد البر لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث ، قال : ولا يسند من وجه صحيح ، ثم خرجه من رواية عبد الملك بن معاذ النصيبي ، عن الدراوردي موصولا ، والدراوردي كان الإمام أحمد يضعف ما حدث به من حفظه ، ولا يعبأ به ، ولا شك في تقديم قول مالك على قوله . وقال خالد بن سعد الأندلسي الحافظ : لم يصح حديث : لا ضرر ولا ضرار مسندا .

وأما ابن ماجه ، فخرجه من رواية فضيل بن سليمان ، حدثنا موسى بن عقبة ، حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار ، وهذا من جملة صحيفة تروى بهذا الإسناد ، وهي منقطعة مأخوذة من كتاب ، قاله ابن المديني وأبو زرعة وغيرهما ، وإسحاق بن يحيى قيل : هو ابن طلحة ، وهو ضعيف لم يسمع من عبادة ، قاله أبو زرعة وابن أبي حاتم والدارقطني في موضع ، وقيل : إنه إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة ، ولم يسمع أيضا من عبادة ، قاله الدارقطني أيضا . [ ص: 209 ] وذكره ابن عدي في كتابه " الضعفاء " ، وقال : عامة أحاديثه غير محفوظة ، وقيل : إن موسى بن عقبة لم يسمع منه ، وإنما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه ، وأبو عياش لا يعرف .

وخرجه ابن ماجه أيضا من وجه آخر من رواية جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار وجابر الجعفي ضعفه الأكثرون ، وخرجه الدارقطني من رواية إبراهيم بن إسماعيل ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة وإبراهيم ضعفه جماعة ، وروايات داود عن عكرمة مناكير .

وخرج الدارقطني من حديث الواقدي ، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت ، عن أبي الرجال ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ، ولا ضرار والواقدي متروك ، وشيخه مختلف في تضعيفه . وخرجه الطبراني من وجهين ضعيفين أيضا عن القاسم عن عائشة .

وخرج الطبراني أيضا من رواية محمد بن سلمة عن أبي إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وهذا إسناد مقارب وهو غريب ، لكن خرجه أبو داود في " المراسيل " من رواية عبد الرحمن بن مغراء عن ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع مرسلا ، وهذا أصح .

وخرج الدارقطني من رواية أبي بكر بن عياش ، قال : أراه عن ابن عطاء ، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا ضرورة ، ولا يمنعن [ ص: 210 ] أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه ، وهذا الإسناد فيه شك ، وابن عطاء : هو يعقوب ، وهو ضعيف .

وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ضرر ولا إضرار قال ابن عبد البر : إسناده غير صحيح .

قلت : كثير هذا يصحح حديثه الترمذي ويقول البخاري في بعض حديثه : هو أصح حديث في الباب ، وحسن حديثه إبراهيم بن المنذر الحزامي ، وقال : هو خير من مراسيل ابن المسيب ، وكذلك حسنه ابن أبي عاصم ، وترك حديثه آخرون ، منهم الإمام أحمد وغيره ، فهذا ما حضرنا من ذكر طرق أحاديث هذا الباب .

وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن بعض طرقه تقوى ببعض ، وهو كما قال ، وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني : إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قويت .

وقال الشافعي في المرسل : إنه إذا أسند من وجه آخر ، أو أرسله من يأخذ العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل الأول فإنه يقبل .

وقال الجوزجاني : إذا كان الحديث المسند من رجل غير مقنع - يعني : لا يقنع برواياته - وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار ، استعمل واكتفي به ، وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه .

وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث ، وقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار . [ ص: 211 ] وقال أبو عمرو بن الصلاح : هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه ، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه ، وقد تقبله جماهير أهل العلم ، واحتجوا به ، وقول أبي داود : إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف والله أعلم .

وفي المعنى أيضا حديث أبي صرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ضار ضار الله به ، ومن شاق شاق الله عليه خرجه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن غريب .

وخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف عن أبي بكر الصديق ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به .

وقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار . هذه الرواية الصحيحة ، ضرار بغير همزة ، وروي " إضرار " بالهمزة ، ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدارقطني ، بل وفي بعض نسخ الموطإ ، وقد أثبت بعضهم هذه الرواية وقال : ضر وأضر بمعنى واحد ، وأنكرها آخرون ، وقالوا : لا صحة لها .

[ ص: 212 ] واختلفوا : هل بين اللفظين - أعني الضر والضرار - فرق أم لا ؟ فمنهم من قال : هما بمعنى واحد على وجه التأكيد ، والمشهور أن بينهما فرقا ، ثم قيل : إن الضرر هو الاسم ، والضرار الفعل ، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع ، وإدخال الضرر بغير حق كذلك .

وقيل : الضرر : أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به ، والضرار : أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به ، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع ، ورجح هذا القول طائفة ، منهم ابن عبد البر ، وابن الصلاح .

وقيل : الضرر : أن يضر بمن لا يضره ، والضرار : أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز .

وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضرر والضرار بغير حق .

فأما إدخال الضرر على أحد بحق ، إما لكونه تعدى حدود الله ، فيعاقب بقدر جريمته ، أو كونه ظلم غيره ، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل ، فهذا غير مراد قطعا ، وإنما المراد : إلحاق الضرر بغير حق ، وهذا على نوعين : أحدهما : أن لا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير ، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه ، وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع : منها في الوصية ، قال الله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] ، وفي حديث أبي هريرة المرفوع : إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضره الموت ، فيضار في الوصية ، فيدخل النار ، ثم تلا : تلك حدود الله إلى قوله : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها [ النساء : 13 - 14 ] ، وقد خرجه الترمذي وغيره بمعناه .

[ ص: 213 ] وقال ابن عباس : الإضرار : في الوصية من الكبائر ، ثم تلا هذه الآية .

والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له ، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث .

وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث ، فتنقص حقوق الورثة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : الثلث والثلث كثير .

ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث ، لم ينفذ ما وصى به إلا بإجازة الورثة ، وسواء قصد المضارة أو لم يقصد ، وأما إن قصد المضارة بالوصية لأجنبي بالثلث ، فإنه يأثم بقصده المضارة ، وهل ترد وصيته إذا ثبت بإقراره أم لا ؟ حكى ابن عطية رواية عن مالك أنها ترد ، وقيل : إنه قياس مذهب أحمد .

[ص: 226 ] الحديث الثالث والثلاثون :

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر . حديث حسن ، رواه البيهقي وغيره هكذا ، وبعضه في " الصحيحين " .

الحاشية رقم: 1 أصل هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه .

وخرجاه أيضا من رواية نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه .

واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساقه ابن الصلاح قبله في الأحاديث الكليات ، وقال : رواه البيهقي بإسناد حسن .

[ ص: 227 ] وخرجه الإسماعيلي في " صحيحه " من رواية الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ، ولكن البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب .

وروى الشافعي : أنبأ مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي قال الشافعي : وأحسبه - ولا أثبته - أنه قال : واليمين على المدعى عليه .

وروى محمد بن عمر بن لبابة الفقيه الأندلسي عن عثمان بن أيوب الأندلسي - ووصفه بالفضل - عن غازي بن قيس ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث ، قال : لكن البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر وغازي بن قيس الأندلسي كبير صالح ، سمع من مالك وابن جريج وطبقتهما ، وسقط من هذا الإسناد ابن جريج والله أعلم .

وقد استدل الإمام أحمد وأبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ، وهذا يدل على أن هذا اللفظ عندهما صحيح محتج به ، وفي المعنى أحاديث كثيرة ، ففي " الصحيحين " عن الأشعث بن قيس ، قال : كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاهداك أو يمينه ، قلت : إذا يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر ، لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ، ثم اقترأ هذه الآية : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] . وفي رواية لمسلم بعد قوله : " إذا يحلف " ، قال : ليس لك إلا ذلك . وخرجه أيضا مسلم بمعناه من حديث وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وخرج الترمذي من حديث العرزمي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، وقال : في إسناده مقال ، والعرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه . وخرجه الدارقطني من رواية مسلم بن خالد الزنجي - وفيه ضعف عن [ ص: 229 ] ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة . ورواه الحافظ عن ابن جرير ، عن عمرو مرسلا .

وخرجه أيضا من رواية مجاهد عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم الفتح : المدعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة ، وخرجه الطبراني ، وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وفي إسناده كلام . وخرج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة .

وروى حجاج الصواف ، عن حميد بن هلال ، عن زيد بن ثابت ، قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما رجل طلب عند رجل طلبة ، فإن المطلوب هو أولى باليمين .

وخرجه أبو عبيد والبيهقي ، وإسناده ثقات ، إلا أن حميد بن هلال ما أظنه لقي زيد بن ثابت ، وخرجه الدارقطني ، وزاد فيه " بغير شهداء " .

وخرج النسائي من حديث ابن عباس ، قال : جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على الآخر حقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي : أقم بينتك فقال : يا رسول الله ، ما لي بينة ، فقال للآخر : احلف بالله الذي لا إله إلا هو : ما له عليك أو عندك شيء .

وقد روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : أن البينة على المدعي ، [ ص: 230 ] واليمين على من أنكر . وقضى بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبي بن كعب ولم ينكراه .

وقال قتادة : فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام : هو أن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر .

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، قال : ومعنى قوله : البينة على المدعي يعني : يستحق بها ما ادعى ، لأنها واجبة يؤخذ بها ، ومعنى قوله : اليمين على المدعى عليه أي : يبرأ بها ، لأنها واجبة عليه ، يؤخذ بها على كل حال . انتهى .

[ص: 243 ] الحديث الرابع والثلاثون :

عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي سعيد ومن رواية إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، عن أبي سعيد وعنده في حديث طارق قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل ، فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ثم روى هذا الحديث .

وقد روى معناه من وجه آخر ، فخرجه مسلم من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي ، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . [ ص: 244 ] وروى سالم المرادي عن عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم ، لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله بلسانه ويده وقلبه ، فذلك الذي سبقت له السوابق ، ورجل عرف دين الله فصدق به ، وللأول عليه سابقة ، ورجل عرف دين الله ، فسكت ، فإن رأى من يعمل بخير أحبه عليه ، وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه ، فذلك الذي ينجو على إبطائه وهذا غريب ، وإسناده منقطع .

وخرج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي - وهو ضعيف جدا - عن مولى لعمر ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : توشك هذه الأمة أن تهلك إلا ثلاثة نفر : رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه ، فإن جبن بيده ، فبلسانه وقلبه ، فإن جبن بلسانه وبيده فبقلبه .

وخرج أيضا من رواية الأوزاعي عن عمير بن هانئ ، عن علي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون بعدي فتن لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيد ولا بلسان ، قلت : يا رسول الله ، وكيف ذاك ؟ قال : ينكرونه بقلوبهم ، قلت : يا رسول الله ، وهل ينقص ذلك إيمانهم شيئا ؟ قال : لا ، إلا كما ينقص القطر من الصفا ، وهذا الإسناد منقطع . وخرج الطبراني معناه من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف .

[ ص: 245 ] فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه ، وأما إنكاره بالقلب لا بد منه ، فمن لم ينكر قلبه المنكر ، دل على ذهاب الإيمان من قلبه .

وقد روى عن أبي جحيفة ، قال : قال علي : إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه المعروف ، وينكر قلبه المنكر ، نكس فجعل أعلاه أسفله .

وسمع ابن مسعود رجلا يقول : هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، فقال ابن مسعود هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر ، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك .

[ص: 257 ] الحديث الخامس والثلاثون :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه ، ولا يحقره ، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة ، وأبو سعيد هذا لا يعرف اسمه ، وقد روى عنه غير واحد ، وذكره ابن حبان في " ثقاته " وقال ابن المديني : هو مجهول .

وروى هذا الحديث سفيان الثوري ، فقال فيه : سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ووهم في قوله : " سعيد بن يسار " إنما هو : أبو سعيد مولى ابن كريز ، قاله أحمد ويحيى والدارقطني ، وقد روي بعضه من وجه آخر . وخرجه الترمذي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم ، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله ، كل المسلم على [ ص: 258 ] المسلم حرام : عرضه وماله ودمه ، التقوى هاهنا ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم .

وخرج أبو داود من قوله : كل المسلم إلى آخره .

وخرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تحاسدوا ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا .

وخرجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة .

وخرج الإمام أحمد من حديث واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وعرضه ، وماله ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ، والتقوى هاهنا - وأومأ بيده إلى القلب - وحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم . [ ص: 259 ] وخرج أبو داود آخره فقط .

وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه " . وخرجه الإمام أحمد ولفظه " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، وبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم .

وفي " الصحيحين " عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا .

ويروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعا وموقوفا .

[ ص: 260 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا يعني : لا يحسد بعضكم بعضا ، والحسد مركوز في طباع البشر ، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل .

ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام ، فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل ، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه ، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه ، وهو شرهما وأخبثهما ، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه ، وهو كان ذنب إبليس حيث كان حسد آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة بأن خلقه الله بيده ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه في جواره ، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها ، ويروى عن ابن عمر أن إبليس قال لنوح : اثنتان بهما أهلك بني آدم : الحسد ، وبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما ، والحرص [ وبالحرص ] أبيح آدم الجنة كلها ، فأصبت حاجتي منه بالحرص . خرجه ابن أبي الدنيا .

وقد وصف الله اليهود بالحسد في مواضع من كتابه القرآن ، كقوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ البقرة : 109 ] ، وقوله : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ النساء : 54 ] .

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الزبير بن العوام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، والبغضاء هي الحالقة ، حالقة الدين لا حالقة الشعر ، والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم .

[ ص: 261 ] وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إياكم والحسد ، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، أو قال : العشب .

وخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : سيصيب أمتي داء الأمم ، قالوا : يا نبي الله ، وما داء الأمم ؟ قال : الأشر والبطر ، والتكاثر والتنافس في الدنيا ، والتباغض ، والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج .

[ ص: 262 ] وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره ، لم يعمل بمقتضى حسده ، ولم يبغ على المحسود بقول ولا بفعل . وقد روي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك ، وروي مرفوعا من وجوه ضعيفة ، وهذا على نوعين : أحدهما : أن لا يمكنه إزالة ذلك الحسد من نفسه ، فيكون مغلوبا على ذلك ، فلا يأثم به .

والثاني : من يحدث نفسه بذلك اختيارا ، ويعيده ويبديه في نفسه مستروحا إلى تمني زوال نعمة أخيه ، فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية ، وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء ، وربما يذكر في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، لكن هذا يبعد أن يسلم من البغي على المحسود ، ولو بالقول ، فيأثم بذلك .

وقسم آخر إذا حسد لم يتمن زوال نعمة المحسود ، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله ، ويتمنى أن يكون مثله ، فإن كانت الفضائل دنيوية ، فلا خير في ذلك ، كما قال الذين يريدون الحياة الدنيا : ياليت لنا مثل ما أوتي قارون [ القصص : 79 ] ، وإن كانت فضائل دينية ، فهو حسن ، وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم الشهادة في سبيل الله عز وجل . وفي " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم ، قال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، وهذا هو الغبطة ، وسماه حسدا من باب الاستعارة .

[ ص: 263 ] وقسم آخر إذا وجد في نفسه الحسد ، سعى في إزالته ، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه ، والدعاء له ، ونشر فضائله ، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرا منه وأفضل ، وهذا من أعلى درجات الإيمان ، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه

[ص: 284 ] الحديث السادس والثلاثون :

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له به طريقا إلى الجنة ، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه رواه مسلم .

الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه مسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، واعترض عليه غير واحد من الحفاظ في تخريجه ، منهم الفضل الهروي والدارقطني ، فإن أسباط بن محمد رواه عن الأعمش ؛ قال : حدثت عن أبي صالح ، فتبين أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر من حدثه به عنه ، ورجح الترمذي وغيره هذه الرواية ، وزاد بعض أصحاب الأعمش في [ ص: 285 ] متن الحديث : ومن أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة .

وخرجا في " الصحيحين " من حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم ، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة .

وخرج الطبراني من حديث كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من نفس عن مؤمن كربة من كربه ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر على مؤمن عورته ، ستر الله عورته ، ومن فرج عن مؤمن كربة ، فرج الله عنه كربته .

وخرج الإمام أحمد من حديث مسلمة بن مخلد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من ستر مسلما في الدنيا ، ستره الله في الدنيا والآخرة ، ومن نجى مكروبا ، فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته .

فقوله صلى الله عليه وسلم : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل ، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى ، كقوله صلى الله عليه وسلم : إنما يرحم الله من عباده الرحماء ، [ ص: 286 ] وقوله : إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا .

والكربة : هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب ، وتنفيسها أن يخفف عنه منها ، مأخوذ من تنفيس الخناق ، كأنه يرخى له الخناق حتى يأخذ نفسا ، والتفريج أعظم من ذلك ، وهو أن يزيل عنه الكربة ، فتفرج عنه كربته ، ويزول همه وغمه ، فجزاء التنفيس التنفيس ، وجزاء التفريج التفريج ، كما في حديث ابن عمر ، وقد جمع بينهما في حديث كعب بن عجرة .

وخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا : أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع ، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن سقى مؤمنا على ظمإ ، سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن كسا مؤمنا على عري ، كساه الله من خضر الجنة . وخرجه الإمام أحمد بالشك في رفعه ، وقيل : إن الصحيح وقفه .

[ ص: 287 ] وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال : يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط ، وأجوع ما كانوا قط ، وأظمأ ما كانوا قط ، وأنصب ما كانوا قط ، فمن كسا لله عز وجل كساه الله ، ومن أطعم لله عز وجل أطعمه الله ، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ، ومن عفا لله عز وجل أعفاه الله .

وخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا : أن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار ، فيناديه رجل من أهل النار : يا فلان ، هل تعرفني ؟ فيقول : لا والله ما أعرفك ، من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررت بي في دار الدنيا ، فاستسقيتني شربة من ماء ، فسقيتك ، قال : قد عرفت ، قال : فاشفع لي بها عند ربك ، قال : فيسأل الله عز وجل ، ويقول : شفعني فيه ، فيأمر به ، فيخرجه من النار .

وقوله : كربة من كرب يوم القيامة ، ولم يقل : من كرب الدنيا والآخرة كما قيل في التيسير والستر ، وقد قيل في مناسبة ذلك : إن الكرب هي الشدائد العظيمة ، وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا ، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر ، فإن أحدا لا يكاد يخلو في الدنيا من ذلك ، ولو بتعسر الحاجات المهمة . وقيل : لأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء ، فادخر الله جزاء تنفيس الكرب عنده ، لينفس به كرب الآخرة ، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس منهم ، فيبلغ الناس من الغم [ ص: 288 ] والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس بعضهم لبعض : ألا ترون ما بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم ؟ ، وذكر حديث الشفاعة ، خرجاه بمعناه من حديث أبي هريرة .

وخرجا من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تحشرون حفاة عراة غرلا ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك .

وخرجا من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : يوم يقوم الناس لرب العالمين [ المطففين : 6 ] ، قال : يقوم أحدهم في الرشح إلى أنصاف أذنيه .

وخرجا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم ولفظه للبخاري ، ولفظ مسلم : إن العرق ليذهب في الأرض سبعين باعا ، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم .

وخرج مسلم من حديث المقداد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين ، فتصهرهم الشمس ، فيكونون في [ ص: 289 ] العرق قدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه إلجاما .

وقال ابن مسعود : الأرض كلها يوم القيامة نار ، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، فيعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قدر قامة ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه ، وما مسه الحساب ، قال : فمم ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : مما يرى الناس يصنع بهم .

وقال أبو موسى : الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة ، وأعمالهم تظلهم أو تضحيهم .

وفي " المسند " من حديث عقبة بن عامر مرفوعا : كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس .

[ ص: 311 ] الحديث السابع والثلاثون :

. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال : إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة . رواه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه من رواية الجعد أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء العطاردي ، عن ابن عباس وفي رواية لمسلم زيادة في آخر الحديث ، وهي : أو محاها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك . وفي هذا المعنى أحاديث متعددة ، فخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة ، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها ، فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي ، فاكتبوها له حسنة ، وإن أراد أن يعمل حسنة ، فلم يعملها ، فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وهذا لفظ البخاري ، وفي رواية لمسلم : قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن [ ص: 312 ] يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعملها ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها له بمثلها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قالت الملائكة : رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - قال : ارقبوه ، فإن عملها ، فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها ، فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جراي . قال رسول الله صلى عليه وسلم : إذا أحسن أحدكم إسلامه ، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، وفي رواية بعد قوله : إلى سبعمائة ضعف : إلى ما يشاء الله . وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله : من عمل حسنة ، فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن عمل سيئة ، فجزاؤها مثلها أو أغفر . وفيه أيضا عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من هم بحسنة ، فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة ، فلم يعملها لم يكتب عليه شيء ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة . وفي " المسند " عن خريم بن فاتك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من هم بحسنة ، [ ص: 313 ] فلم يعملها ، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه ، وحرص عليها ، كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ، ومن عملها كتبت له واحدة ، ولم تضاعف عليه ، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها ، ومن أنفق نفقة في سبيل الله ، كانت له بسبعمائة ضعف . وفي المعنى أحاديث أخر متعددة . فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات ، والسيئات ، والهم بالحسنة والسيئة ، فهذه أربعة أنواع : النوع الأول : عمل الحسنات ، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات ، وقد دل عليه قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام : 160 ] . وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له ، فدل عليه قوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [ البقرة : 261 ] ، فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف . وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود ، قال : جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، فقال : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة . وفي " المسند " بإسناد فيه نظر عن أبي عبيدة بن الجراح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، وعياله ، أو عاد مريضا ، أو ماز أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها . [ ص: 314 ] وخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف . وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أرسل نفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته ، فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله ، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية : والله يضاعف لمن يشاء [ البقرة : 261 ] . وخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لما نزلت هذه الآية : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل [ البقرة : 261 ] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب زد أمتي ، فأنزل الله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ البقرة : 245 ] ، فقال : رب زد أمتي فأنزل الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ الزمر : 10 ] . [ ص: 315 ] وخرج الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة ثم تلا أبو هريرة : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ النساء : 40 ] . وقال : " إذا قال الله أجرا عظيما ، فمن يقدر قدره ؟ " وروي عن أبي هريرة موقوفا . وخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة . ومن حديث تميم الداري مرفوعا : من قال : أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا أحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد عشر مرات ، كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة ، وفي كلا الإسنادين ضعف . [ ص: 316 ] وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا : من قال : سبحان الله ، كتب الله له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرين ألف حسنة .

[ص: 330 ] الحديث الثامن والثلاثون :

. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى قال من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، . رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب ، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة ، حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث بطوله ، وزاد في آخره : وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته . وهو من غرائب " الصحيح " تفرد به ابن كرامة عن خالد ، وليس في " مسند أحمد " مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه أحمد وغيره ، وقالوا : له مناكير ، وعطاء الذي في إسناده قيل : إنه ابن أبي رباح ، وقيل : إنه ابن يسار ، وإنه وقع في بعض نسخ " الصحيح " منسوبا كذلك . [ ص: 331 ] وقد روي هذا الحديث من وجوه أخر لا تخلو كلها عن مقال فرواه عبد الواحد بن ميمون أبو حمزة مولى عروة بن الزبير عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من آذى لي وليا ، فقد استحل محاربتي ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء فرائضي ، وإن عبدي ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت عينه التي يبصر بها ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وفؤاده الذي يعقل به ، ولسانه الذي يتكلم به ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن موته ، وذلك أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته . خرجه ابن أبي الدنيا وغيره ، وخرجه الإمام أحمد بمعناه . وذكر ابن عدي أنه تفرد به عبد الواحد هذا عن عروة ، وعبد الواحد هذا قال فيه البخاري : منكر الحديث ، ولكن خرجه الطبراني : حدثنا هارون بن كامل ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا إبراهيم بن سويد المدني ، حدثني أبو حرزة يعقوب بن مجاهد ، أخبرني عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وهذا إسناده جيد ، ورجاله كلهم ثقات مخرج لهم في " الصحيح " سوى شيخ الطبراني ، فإنه لا يحضرني الآن معرفة حاله ، ولعل الرواي قال : حدثنا أبو حمزة ، يعني عبد الواحد بن ميمون ، فخيل للسامع أنه قال : أبو حرزة ، ثم سماه [ ص: 332 ] من عنده بناء على وهمه والله أعلم . وخرج الطبراني وغيره من رواية عثمان بن أبي عاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله عز وجل : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، ابن آدم ، إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك ، ولا يزال عبدي يتحبب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فأكون قلبه الذي يعقل به ، ولسانه الذي ينطق به ، وبصره الذي يبصر به ، فإذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته ، وإذا استنصرني نصرته ، وأحب عبادة عبدي إلي النصيحة . عثمان وعلي بن يزيد ضعيفان . قال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث : هو منكر جدا . وقد روي من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف ، خرجه الإسماعيلي في " مسند علي " . وروي من حديث ابن عباس بسند ضعيف ، وخرجه الطبراني ، وفيه زيادة في لفظه ، ورويناه من وجه آخر عن ابن عباس وهو ضعيف أيضا . وخرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني ، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي ، عن هشام الكناني ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل ، عن ربه تعالى قال : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وما [ ص: 333 ] ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابا من العبادة ، فأكفه عنه لا يدخله عجب ، فيفسده ذلك ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتنفل إلي حتى أحبه ، ومن أحببته ، كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ، دعاني فأجبته ، وسألني فأعطيته ، ونصح لي فنصحت له ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، وإن بسطت له أفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته ، لأفسده ذلك ، إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني عليم خبير . والخشني وصدقة ضعيفان ، وهشام لا يعرف ، وسئل ابن معين عن هشام هذا : من هو ؟ قال : لا أحد ، يعني : لا يعتبر به . وقد خرج البزار بعض الحديث من طريق صدقة عن عبد الكريم الجزري ، عن أنس . وخرج الطبراني من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة ، عن زر بن حبيش ، سمعت حذيفة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى أوحى إلي : يا أخا المرسلين ، ويا أخا المنذرين أنذر قومك لا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة ، فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها ، فأكون سمعه الذي يسمع به ، وأكون بصره الذي يبصر به ، ويكون من أوليائي وأصفيائي ، ويكون جاري من النبيين والصديقين والشهداء في الجنة . وهذا إسناد جيد وهو غريب جدا . [ ص: 334 ] ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري ، وقد قيل : إنه أشرف حديث روي في ذكر الأولياء . قوله عز وجل : من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب يعني : فقد أعلمته بأني محارب له ، حيث كان محاربا لي بمعاداة أوليائي ، ولهذا جاء في حديث عائشة : فقد استحل محاربتي وفي حديث أبي أمامة وغيره : فقد بارزني بالمحاربة ، وخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذ بن جبل ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : إن يسير الرياء شرك ، وإن من عادى لله وليا ، فقد بارز الله بالمحاربة ، وإن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يدعوا ، ولم يعرفوا ، [ قلوبهم ] مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة . فأولياء الله تجب موالاتهم ، وتحرم معاداتهم ، كما أن أعداءه تجب معاداتهم ، وتحرم موالاتهم ، قال تعالى : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ الممتحنة : 1 ] ، وقال : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون [ المائدة : 55 - 56 ] ، ووصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه بأنهم أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ، وروى الإمام أحمد في كتاب " الزهد " بإسناده عن وهب بن منبه ، قال : إن الله تعالى قال لموسى عليه [ ص: 335 ] السلام حين كلمه : اعلم أن من أهان لي وليا أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني وعرض نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ؟ أو يظن الذي يعازني أن يعجزني ؟ أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، فلا أكل نصرتهم إلى غيري " .

[ص: 361 ] الحديث التاسع والثلاثون :

عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه . حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه ابن حبان في " صحيحه " والدارقطني ، وعندهما : عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر ، ورواته كلهم محتج بهم في " الصحيحين " وقد خرجه الحاكم ، وقال : صحيح على شرطهما . كذا قال ، ولكن له علة ، وقد أنكره الإمام أحمد جدا ، وقال : ليس يروى فيه إلا عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا . وقيل لأحمد : إن الوليد بن مسلم روى عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله ، فأنكره أيضا . [ ص: 362 ] وذكر لأبي حاتم الرازي حديث الأوزاعي ، وحديث مالك ، وقيل له : إن الوليد روى أيضا عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فقال أبو حاتم : هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة ، وقال : لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء ، وإنما سمعه من رجل لم يسمه ، أتوهم أنه عبد الله بن عامر ، أو إسماعيل بن مسلم ، قال : ولا يصح هذا الحديث ، ولا يثبت إسناده . قلت : وقد روي عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير مرسلا من غير ذكر ابن عباس ، وروى يحيى بن سليم ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : بلغني أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني ، وهذا المرسل أشبه . وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا رواه مسلم بن خالد الزنجي عن سعيد العلاف ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني . وسعيد العلاف : هو سعيد بن أبي صالح ، قال أحمد : هو مكي ، قيل له : كيف حاله ؟ قال : لا أدري وما علمت أحدا روى عنه غير مسلم بن خالد ، قال أحمد : وليس هذا مرفوعا ، إنما هو عن ابن عباس قوله . نقل ذلك عنه مهنا ، ومسلم بن خالد ضعفوه . [ ص: 363 ] وروي من وجه ثالث من رواية بقية بن الوليد ، عن علي الهمداني ، عن أبي جمرة عن ابن عباس مرفوعا ، خرجه حرب ، ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تساوي شيئا . وروي من وجه رابع خرجه ابن عدي من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبد الرحيم هذا ضعيف . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر ، وقد تقدم أن الوليد بن مسلم رواه عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، وصححه الحاكم وغربه ، وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك ، كما أنكره الإمام أحمد وأبو حاتم ، وكانا يقولان عن الوليد : إنه كثير الخطأ . ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود ، قال روى الوليد بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل ، منها عن نافع أربعة . قلت : والظاهر أن منها هذا الحديث ، والله أعلم . وخرجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعت أبا الأشعث يحدث عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي عن ثلاثة : عن الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه . ويزيد بن ربيعة ضعيف جدا . [ ص: 364 ] وخرج ابن أبي حاتم من رواية أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان والاستكراه قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] . وأبو بكر الهذلي متروك الحديث . وخرجه ابن ماجه ، ولكن عنده عن شهر ، عن أبي ذر الغفاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولم يذكر كلام الحسن . وأما الحديث المرسل عن الحسن ، فرواه عنه هشام بن حسان ، ورواه منصور ، وعوف عن الحسن من قوله ، لم يرفعه ، ورواه جعفر بن جسر بن فرقد ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعا ، وجعفر وأبوه ضعيفان . [ ص: 365 ] قال محمد بن نصر المروزي : ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به حكاه البيهقي . وفي " صحيح مسلم " عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال الله : قد فعلت . وعن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنها لما نزلت ، قال : نعم ، وليس واحد منهما مصرحا برفعه . وخرج الدارقطني من رواية ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، وما أكرهوا عليه ، إلا أن يتكلموا به أو يعملوا ، وهو لفظ غريب . وقد خرجه النسائي ولم يذكر الإكراه . وكذا رواه ابن عيينة عن مسعر ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزاد فيه : وما استكرهوا عليه خرجه ابن ماجه . وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عيينة ، ولم يتابعه عليها أحد . والحديث مخرج من رواية قتادة في " الصحيحين " والسنن والمسانيد بدونها . [ ص: 366 ] ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع ، فقوله : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان إلى آخره تقديره : إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ ، أو ترك ذلك عنهم ، فإن " تجاوز " لا يتعدى بنفسه . وقوله : الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه . فأما الخطأ والنسيان ، فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما ، قال الله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] ، وقال : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] . وفي " الصحيحين " عن عمرو بن العاص سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا حكم الحاكم ، فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ ، فله أجر . وقال الحسن : لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين - يعني داود وسليمان - لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعمله ، وعذر هذا باجتهاده : يعني قوله : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] الآية . وأما الإكراه فصرح القرآن أيضا بالتجاوز عنه ، قال تعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] ، وقال تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة [ آل عمران : 28 ] الآية .

[ص: 376 ] الحديث الأربعون :

. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ، فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل . وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت ، فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك رواه البخاري . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه البخاري عن علي بن المديني ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، حدثنا الأعمش ، حدثني مجاهد ، عن ابن عمر ، فذكره ، وقد تكلم غير واحد من الحفاظ في لفظة : " حدثنا مجاهد " وقالوا : هي غير ثابتة ، وأنكروها على ابن المديني وقالوا : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من مجاهد ، إنما سمعه من ليث بن أبي سليم عنه ، وقد ذكره العقيلي وغيره ، وخرجه الترمذي من حديث ليث عن مجاهد ، وزاد فيه : وعد نفسك من أهل القبور ، وزاد في كلام ابن عمر : فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا . وخرجه ابن ماجه ولم يذكر قول ابن عمر . وخرج الإمام أحمد والنسائي من [ ص: 377 ] حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة ، عن ابن عمر قال : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي ، وقال : اعبد الله كأنك تراه ، وكن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل . وعبدة بن أبي لبابة أدرك ابن عمر ، واختلف في سماعه منه . وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا ، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا ، فيطمئن فيها ، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر : يهيئ جهازه للرحيل . وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال : يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 39 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها . ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنه قال لهم : اعبروها ولا تعمروها ، وروي عنه أنه قال : من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنيا ، فلا تتخذوها قرارا . ودخل رجل على أبي ذر ، فجعل يقلب بصره في بيته ، فقال : يا أبا ذر ، أين متاعكم ؟ قال : إن لنا بيتا نوجه إليه ، قال : إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا ، قال : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه . [ ص: 378 ] ودخلوا على بعض الصالحين ، فقلبوا بصرهم في بيته ، فقالوا له : إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل ، فقال : أمرتحل ؟ لا أرتحل ولكن أطرد طردا . وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ، ولكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل . قال بعض الحكماء : عجبت ممن الدنيا مولية عنه ، والآخرة مقبلة إليه يشغل بالمدبرة ، ويعرض عن المقبلة . وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : إن الدنيا ليست بدار قراركم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب الله على أهلها منها الظعن ، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب ، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى . وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطنا ، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين : إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة ، همه التزود للرجوع إلى وطنه ، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة ، بل هو ليله ونهاره ، يسير إلى بلد الإقامة ، فلهذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين . فأحدهما : أن يترك المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة ، لكن في بلد غربة ، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة ، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه ، وإنما هو مقيم في الدنيا ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه ، قال الفضيل بن عياض : المؤمن في الدنيا مهموم حزين ، همه مرمة جهازه . ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى [ ص: 379 ] وطنه ، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم ، ولا يجزع من الذل عندهم ، قال الحسن : المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزها ، له شأن ، وللناس شأن . لما خلق آدم عليه السلام أسكن هو وزوجته الجنة ، ثم أهبطا منها ووعدا بالرجوع إليها ، وصالح ذريتهما ، فالمؤمن أبدا يحن إلى وطنه الأول ، وحب الوطن من الإيمان ، كما قيل : كم منزل للمرء يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل ولبعض شيوخنا : فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم كان عطاء السليمي يقول في دعائه : اللهم ارحم في الدنيا غربتي ، وارحم في القبر وحشتي ، وارحم موقفي غدا بين يديك . قال الحسن : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إنما مثلي ومثلكم [ ص: 380 ] ومثل الدنيا ، كقوم سلكوا مفازة غبراء ، حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر ، أو ما بقي ، أنفدوا الزاد ، وحسروا الظهر ، وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة ، فأيقنوا بالهلكة ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء ، فقالوا : إن هذا قريب عهد بريف ، وما جاءكم هذا إلا من قريب ، فلما انتهى إليهم ، قال : علام أنتم ؟ قالوا : على ما ترى ، قال : أرأيتكم إن هديتكم على ماء رواء ، ورياض خضر ، ما تعملون ؟ قالوا : لا نعصيك شيئا ، قال : أعطوني عهودكم ومواثيقكم بالله ، قال فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئا ، قال : فأوردهم ماء ، ورياضا خضرا ، فمكث فيهم ما شاء الله ، ثم قال : يا هؤلاء الرحيل ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى ماء ليس كمائكم ، وإلى رياض ليست كرياضكم ، فقال جل القوم - وهم أكثرهم - : والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده ، وما نصنع بعيش خير من هذا ؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم - : ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئا وقد صدقكم في أول حديثه ، فوالله ليصدقنكم في آخره ، قال : فراح فيمن اتبعه ، وتخلف بقيتهم ، فنزل بهم عدو ، فأصبحوا بين أسير وقتيل خرجه ابن أبي الدنيا ، وخرجه الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه مختصرا . [ ص: 381 ] فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته ، فإنه أتاهم والعرب إذ ذاك أذل الناس ، وأقلهم ، وأسوؤهم عيشا في الدنيا وحالا في الآخرة ، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة ، وظهر لهم من براهين صدقه ، كما ظهر من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة ، وقد نفد ماؤهم ، وهلك ظهرهم ، برؤيته في حلة مترجلا يقطر رأسه ماء ، ودلهم على الماء والرياض المعشبة ، فاستدلوا بهيئته وحاله على صدق مقاله ، فاتبعوه ، ووعد من اتبعه بفتح بلاد فارس والروم ، وأخذ كنوزهما وحذرهم من الاغترار بذلك ، والوقوف معه ، وأمرهم بالتجزي من الدنيا بالبلاغ ، وبالجد والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها ، فوجدوا ما وعدهم به كله حقا ، فلما فتحت عليهم الدنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثر الناس بجمعها واكتنازها ، والمنافسة فيها ، ورضوا بالإقامة فيها ، والتمتع بشهواتها ، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجد والاجتهاد في طلبها ، وقبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب الآخرة والاستعداد لها . فهذه الطائفة القليلة نجت ، ولحقت نبيها في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدنيا ، وقبلت وصيته ، وامتثلت ما أمر به . وأما أكثر الناس ، فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها ، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتى فاجأهم الموت بغتة على هذه الغرة ، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير . وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي : الدنيا خمر الشيطان ، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادما مع الخاسرين . الحال الثاني : أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم ألبتة ، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره ، وهو الموت . ومن كانت هذه حاله في الدنيا ، فهمته تحصيل الزاد للسفر ، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا ، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه [ ص: 382 ] أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب . قيل لمحمد بن واسع : كيف أصبحت ؟ قال : ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة ؟ . وقال الحسن : إنما أنت أيام مجموعة ، كلما مضى يوم مضى بعضك . وقال : ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك ، يوضعك النهار إلى الليل ، والليل إلى النهار ، حتى يسلمانك إلى الآخرة ، فمن أعظم منك يابن آدم خطرا ، وقال : الموت معقود في نواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم . قال داود الطائي : إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها ، فافعل ، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزود لسفرك ، واقض ما أنت قاض من أمرك ، فكأنك بالأمر قد بغتك . وكتب بعض السلف إلى أخ له : يا أخي يخيل لك أنك مقيم ، بل أنت دائب السير ، تساق مع ذلك سوقا حثيثا ، الموت موجه إليك ، والدنيا تطوى من ورائك ، وما مضى من عمرك ، فليس بكار عليك يوم التغابن . سبيلك في الدنيا سبيل مسافر ولا بد من زاد لكل مسافر ولا بد للإنسان من حمل عدة ولا سيما إن خاف صولة قاهر قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره ، وشهره يهدم [ ص: 383 ] سنته ، وسنته تهدم عمره ، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله ، وتقوده حياته إلى موته . وقال الفضيل بن عياض لرجل : كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة ، قال : فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ ، فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال الفضيل : أتعرف تفسيره تقول : أنا لله عبد وإليه راجع ، فمن علم أنه لله عبد ، وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوف ، ومن علم أنه موقوف ، فليعلم أنه مسئول ، ومن علم أنه مسئول ، فليعد للسؤال جوابا ، فقال الرجل : فما الحيلة ؟ قال يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى ، فإنك إن أسأت فيما بقي ، أخذت بما مضى وبما بقي ، وفي هذا المعنى يقول بعضهم : وإن امرأ قد سار ستين حجة إلى منهل من ورده لقريب قال بعض الحكماء : من كانت الليالي والأيام مطاياه ، سارت به وإن لم يسر ، وفي هذا قال بعضهم : وما هذه الأيام إلا مراحل يحث بها داع إلى الموت قاصد وأعجب شيء - لو تأملت - أنها منازل تطوى والمسافر قاعد وقال آخر : أيا ويح نفسي من نهار يقودها إلى عسكر الموتى وليل يذودها قال الحسن : لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار ، وتقريب الآجال ، هيهات قد صحبا نوحا وعادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا ، فأصبحوا أقدموا على ربهم ، ووردوا على أعمالهم ، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين ، لم يبلهما ما مرا به ، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى . [ ص: 384 ] وكتب الأوزاعي إلى أخ له : أما بعد ، فقد أحيط بك من كل جانب ، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة ، فاحذر الله والمقام بين يديه ، وأن يكون آخر عهدك به ، والسلام . نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل ولم أر مثل الموت حقا كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شامل ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل وأما وصية ابن عمر رضي الله عنهما ، فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه ، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل ، وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح ، وإذا أصبح لم ينتظر المساء ، بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك ، وبهذا فسر غير واحد من العلماء الزهد في الدنيا ، قال المروزي : قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد - أي شيء الزهد في الدنيا ؟ قال : قصر الأمل ، من إذا أصبح قال : لا أمسي ، قال : وهكذا قال سفيان . قيل لأبي عبد الله : بأي شيء نستعين على قصر الأمل ؟ قال : ما ندري إنما هو توفيق . قال الحسن : اجتمع ثلاثة من العلماء ، فقالوا لأحدهم : ما أملك ؟ قال : ما أتى علي شهر إلا ظننت أني سأموت فيه ، قال : فقال صاحباه : إن هذا لأمل ، فقالا لأحدهم : فما أملك ؟ قال : ما أتت علي جمعة إلا ظننت أني سأموت فيها ، قال : فقال صاحباه : إن هذا لأمل ، فقالا للآخر : فما أملك ؟ قال : ما أمل من نفسه في يد غيره ؟ . قال داود الطائي : سألت عطوان بن عمر التيمي ، قلت : ما قصر الأمل ؟ [ ص: 385 ] قال : ما بين تردد النفس ، فحدث بذلك الفضيل بن عياض ، فبكى ، وقال : يقول : يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه ، لقد كان عطوان من الموت على حذر . وقال بعض السلف : ما نمت نوما قط ، فحدثت نفسي أني أستيقظ منه . وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحوه ، وكان يبكي كلما أصبح أو أمسى ، فسئلت امرأته عن بكائه ، فقالت : يخاف - والله - إذا أمسى أن يصبح ، وإذا أصبح أن يمسي . وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله : أستودعكم الله ، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبه إذا أراد النوم . وقال بكر المزني : إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب ، فليفعل ، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا ، ويصبح في أهل الآخرة . وكان أويس إذا قيل له : كيف الزمان عليك ؟ قال : كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح ، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي فيبشر بالجنة أو النار ؟ . وقال عون بن عبد الله : ما أنزل الموت كنه منزلته من عد غدا من أجله ، كم من مستقبل يوما يستكمله ، وكم من مؤمل لغد لا يدركه ، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره ، لبغضتم الأمل وغروره ، وكان يقول : إن من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره . [ ص: 386 ] وكانت امرأة متعبدة بمكة إذا أمست قالت : يا نفس ، الليلة ليلتك ، لا ليلة لك غيرها ، فاجتهدت ، فإذا أصبحت ، قالت : يا نفس اليوم يومك ، لا يوم لك غيره ، فاجتهدت . وقال بكر المزني : إذا أردت أن تنفعك صلاتك فقل : لعلي لا أصلي غيرها ، وهذا مأخوذ مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صل صلاة مودع . وأقام معروف الكرخي الصلاة ، ثم قال لرجل : تقدم فصل بنا ، فقال الرجل : إني إن صليت بكم هذه الصلاة ، لم أصل بكم غيرها ، فقال معروف : وأنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى ؟ نعوذ بالله من طول الأمل ، فإنه يمنع خير العمل . وطرق بعضهم باب أخ له ، فسأل عنه ، فقيل له : ليس هو في البيت ، فقال : متى يرجع ؟ فقالت له جارية من البيت : من كانت نفسه في يد غيره ، من يعلم متى يرجع ، ولأبي العتاهية من جملة أبيات : وما أدري وإن أملت عمرا لعلي حين أصبح لست أمسي ألم تر أن كل صباح يوم وعمرك فيه أقصر منه أمس [ ص: 387 ] وهذا البيت الثاني أخذه مما روي عن أبي الدرداء والحسن أنهما قالا : ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ، ومما أنشد بعض السلف : إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا فإنما الربح والخسران في العمل

[ص: 393 ] الحديث الحادي والأربعون .:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به الحاشية رقم: 1 قال الشيخ رحمه الله : حديث حسن صحيح ، رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح ! . يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق ، وكتابه هذا هو كتاب " الحجة على تارك المحجة " يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة . وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب " الأربعين " وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه ، وخرجته الأئمة في مسانيدهم ، ثم خرجه عن الطبراني : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن حاتم المرادي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عقبة بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ولا يزيغ عنه . ورواه الحافظ أبو بكر بن عاصم الأصبهاني [ ص: 394 ] عن ابن واره ، عن نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره عن ابن سيرين ، فذكره . وليس عنده لا يزيغ عنه ، قال الحافظ أبو موسى المديني : هذا الحديث مختلف فيه على نعيم ، وقيل فيه : حدثنا بعض مشيختنا ، حدثنا هشام أو غيره . قلت : تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه ، منها : أنه حديث يتفرد به نعيم بن حماد المروزي ، ونعيم هذا وإن كان وثقه جماعة من الأئمة ، وخرج له البخاري ، فإن أئمة الحديث كانوا يحسنون به الظن ، لصلابته في السنة ، وتشدده في الرد على أهل الأهواء ، وكانوا ينسبونه إلى أنه يهم ، ويشبه عليه في بعض الأحاديث ، فلما كثر عثورهم على مناكيره ، حكموا عليه بالضعف ، فروى صالح بن محمد الحافظ عن ابن معين أنه سئل عنه فقال : ليس بشيء ولكنه صاحب سنة ، قال صالح : وكان يحدث من حفظه ، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها . وقال أبو داود : عند نعيم نحو عشرين حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل ، وقال النسائي : ضعيف . وقال مرة : ليس ثقة . وقال مرة : قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين في أحاديث كثيرة ، فصار في حد من لا يحتج به . وقال أبو زرعة الدمشقي : يصل أحاديث يوقفها الناس ، يعني أنه يرفع الموقوفات ، وقال أبو عروبة الحراني : هو مظلم الأمر ، وقال أبو سعيد بن يونس : روى أحاديث مناكير عن الثقات ، ونسبه آخرون إلى أنه كان يضع الحديث ، وأين كان أصحاب عبد الوهاب الثقفي ، وأصحاب هشام بن حسان ، وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى ينفرد به نعيم ؟ . ومنها : أنه قد اختلف على نعيم في إسناده ، فروي عنه ، عن الثقفي ، عن هشام ، وروي عنه عن الثقفي ، حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره ، وعلى هذه الرواية ، يكون الشيخ الثقفي غير معروف عينه ، وروي عنه ، عن الثقفي ، حدثنا [ ص: 395 ] بعض مشيختنا ، حدثنا هشام أو غيره ، فعلى هذه الرواية ، فالثقفي رواه عن شيخ مجهول ، وشيخه رواه عن غير معين ، فتزداد الجهالة في إسناده . ومنها : أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري ، ويقال فيه : يعقوب بن أوس أيضا ، وقد خرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه حديثا عن عبد الله بن عمرو ، ويقال : عبد الله بن عمر ، وقد اضطرب في إسناده ، وقد وثقه العجلي ، وابن سعد ، وابن حبان ، وقال ابن خزيمة : روى عنه ابن سيرين مع جلالته ، وقال ابن عبد البر : هو مجهول . وقال الغلابي في " تاريخه " : يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمرو ، وإنما يقول : قال عبد الله بن عمرو ، فعلى هذا تكون رواياته عن عبد الله بن عمرو منقطعة والله أعلم . وأما معنى الحديث ، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها ، فيحب ما أمر به ، ويكره ما نهى عنه . وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع . قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] . وقال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب : 36 ] . وذم سبحانه من كره ما أحبه الله ، أو أحب ما كرهه الله ، قال : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ محمد : 9 ] ، وقال تعالى : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ محمد : 28 ] . فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه ، فإن زادت المحبة ، حتى أتى بما ندب إليه منه ، كان ذلك [ ص: 396 ] فضلا ، وأن يكره ما كرهه الله تعالى كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه ، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها ، كان ذلك فضلا . وقد ثبت في " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله . والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات ، قال عز وجل : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [ التوبة : 24 ] . وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [ آل عمران : 31 ] قال الحسن : قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إنا نحب ربنا حبا شديدا ، فأحب الله أن يجعل لحبه علما ، فأنزل الله هذه الآية . وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار . فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه ، أوجب له ذلك أن يحب بقلبه [ ص: 397 ] ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى ما يرضى الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك ، فإن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله ، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله ، مع وجوبه والقدرة عليه ، دل ذلك على نقص محبته الواجبة ، فعليه أن يتوب من ذلك ، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة . قال أبو يعقوب النهرجوري : كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره ، فدعواه باطلة ، وكل محب ليس يخاف الله ، فهو مغرور . وقال يحيى بن معاذ : ليس بصادق من ادعى محبة الله عز وجل ولم يحفظ حدوده . وسئل رويم عن المحبة ، فقال الموافقة : في جميع الأحوال ، وأنشد : ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا ولبعض المتقدمين : تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه ، وقال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله [ القصص : 50 ] .

[ص: 400 ] الحديث الثاني والأربعون .:

عن أنس بن مالك رضي عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى : يابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني ، غفرت لك ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة . رواه الترمذي وقال : حديث حسن . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث تفرد به الترمذي خرجه من طريق كثير بن فائد ، حدثنا سعيد بن عبيد ، سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول : حدثنا أنس ، فذكره ، وقال : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه . انتهى . وإسناده لا بأس به ، وسعيد بن عبيد هو الهنائي ، قال أبو حاتم : شيخ . وذكره ابن حبان في " الثقات " ، ومن زعم أنه غير الهنائي ، فقد وهم ، وقال الدارقطني : تفرد به كثير بن فائد ، عن سعيد مرفوعا ، ورواه سلم بن قتيبة ، عن سعيد بن عبيد ، فوقفه على أنس . قلت : قد روي عنه مرفوعا وموقوفا ، وتابعه على رفعه أبو سعيد أيضا مولى بني هاشم ، فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا أيضا ، وقد روي أيضا من حديث ثابت ، عن أنس مرفوعا ، ولكن قال أبو حاتم : هو منكر . وقد روي أيضا من حديث أبي ذر خرجه الإمام أحمد من رواية شهر بن [ ص: 401 ] حوشب ، عن معديكرب ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل فذكره بمعناه ، ورواه بعضهم عن شهر ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي ذر وقيل : عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يصح هذا القول . وروي من حديث ابن عباس خرجه الطبراني من رواية قيس بن الربيع ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي بعضه من وجوه أخر ، فخرج مسلم في " صحيحه " من حديث المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقول الله تعالى : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا ، تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة . وخرج الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي ، قال : دخلت على أنس [ ص: 402 ] فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والذي نفسي بيده ، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله ، لغفر لكم . فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة : أحدها : الدعاء مع الرجاء ، فإن الدعاء مأمور به ، وموعود عليه بالإجابة ، كما قال تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [ غافر : 60 ] . وفي " السنن الأربعة " عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الدعاء هو العبادة ثم تلا هذه الآية . وفي حديث آخر خرجه الطبراني مرفوعا : من أعطي الدعاء ، أعطي الإجابة ، لأن الله تعالى يقول : ادعوني أستجب لكم . وفي حديث آخر : ما كان الله ليفتح على عبد باب الدعاء ، ويغلق عنه باب الإجابة . لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه ، وانتفاء موانعه ، وقد تتخلف إجابته ، لانتفاء بعض شروطه ، أو وجود بعض موانعه ، وقد سبق ذكر [ ص: 403 ] بعض شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر . ومن أعظم شرائطه : حضور القلب ، ورجاء الإجابة من الله تعالى ، كما خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه . وفي " المسند " عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن هذه القلوب أوعية ، فبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء من ظهر قلب غافل . ولهذا نهي العبد أن يقول في دعائه : اللهم اغفر لي إن شئت ، ولكن ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له . ونهي أن يستعجل ، ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة ، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه ولو طالت المدة ، فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء . وجاء في الآثار : إن العبد إذا دعا ربه وهو يحبه ، قال : يا جبريل ، لا تعجل بقضاء حاجة عبدي ، فإني أحب أن أسمع صوته ، وقال تعالى : وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين [ الأعراف : 56 ] . [ ص: 404 ] فما دام العبد يلح في الدعاء ، ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء ، فهو قريب من الإجابة ، ومن أدمن قرع الباب ، يوشك أن يفتح له . وفي " صحيح الحاكم " عن أنس مرفوعا : لا تعجزوا عن الدعاء ، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد .

[ص: 419 ] الحديث الثالث والأربعون .:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر . خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث الذي زعم بعض شراح هذه الأربعين أن الشيخ رحمه الله أغفله ، فإنه مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها ، وهذا الحديث خرجاه من رواية وهيب ، وروح بن القاسم ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس وخرجه مسلم من رواية معمر ، ويحيى بن أيوب ، عن ابن طاوس أيضا . وقد رواه الثوري ، وابن عيينة وابن جريج وغيرهم ، عن ابن طاوس عن أبيه مرسلا من غير ذكر ابن عباس ، ورجح النسائي إرساله . وقد اختلف العلماء في معنى قوله : ألحقوا الفرائض بأهلها : فقالت طائفة : المراد بالفرائض الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ، والمراد : أعطوا الفرائض المقدرة لمن سماها الله لهم ، فما بقي بعد هذه الفروض ، فيستحقه أولى الرجال ، والمراد بالأولى الأقرب ، كما يقال : هذا [ ص: 420 ] يلي هذا ، أي يقرب منه ، فأقرب الرجال هو أقرب العصبات ، فيستحق الباقي بالتعصيب ، وبهذا المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة ، منهم الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، نقله عنهما إسحاق بن منصور ، وعلى هذا ، فإذا اجتمع بنت وأخت وعم وابن عم أو ابن أخ ، فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة ، وهذا قول ابن عباس ، وكان يتمسك بهذا الحديث ، ويقر بأن الناس كلهم على خلافه ، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضا . وقال إسحاق : إذا كان مع البنت والأخت عصبة ، فالعصبة أولى ، وإن لم يكن معها أحد ، فالأخت لها الباقي ، وحكي عن ابن مسعود أنه قال : البنت عصبة من لا عصبة له ، ورد بعضهم هذا ، وقال : لا يصح عن ابن مسعود . وكان ابن الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس ، ثم رجعا عنه . وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخت مع البنت عصبة لها ما فضل ، منهم عمر ، وعلي ، وعائشة ، وزيد ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وتابعهم سائر العلماء . وروى عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج : سألت ابن طاوس عن ابنة وأخت ، فقال : كان أبي يذكر عن ابن عباس ، عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئا ، وكان طاوس لا يرضى بذلك الرجل ، قال : وكان أبي يشك فيها ، ولا يقول فيها شيئا ، وقد كان يسأل عنها . والظاهر - والله أعلم - أن مراد طاوس هو هذا الحديث ، فإن ابن عباس لم يكن عنده نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ميراث الأخت مع البنت ، إنما كان يتمسك بمثل عموم هذا الحديث . وما ذكره طاوس أن ابن عباس رواه عن رجل وأنه لا يرضاه ، فابن عباس أكثر رواياته للحديث عن الصحابة ، والصحابة كلهم عدول قد رضي الله عنهم ، [ ص: 421 ] وأثنى عليهم ، فلا عبرة بعد ذلك بعدم رضا طاوس . وفي " صحيح " البخاري عن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل ، قال : جاء رجل إلى أبي موسى ، فسأله عن ابنة وابنة ابن ، وأخت لأب وأم ، فقال : للابنة النصف ، وللأخت ما بقي وائت ابن مسعود فسيتابعني ، فأتى ابن مسعود ، فذكر ذلك له ، فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي ، فللأخت ، قال : فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . وفيه أيضا عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد ، قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للابنة ، والنصف للأخت ، ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يذكره . وخرجه أبو داود من وجه آخر عن الأسود ، وزاد فيه : ونبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حي . واستدل ابن عباس لقوله بقول الله عز وجل : قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك [ النساء : 176 ] وكان يقول : أأنتم أعلم أم الله ؟ يعني أن الله لم يجعل لها النصف إلا مع عدم الولد ، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت . والصواب قول عمر والجمهور ، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك ؛ لأن المراد بقوله : فلها نصف ما ترك بالفرض ، وهذا مشروط بعدم الولد [ ص: 422 ] بالكلية ، ولهذا قال بعده : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك [ النساء : 176 ] يعني بالفرض ، والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى ، فكذلك الأختان فصاعدا إنما يستحقون الثلثين مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى ، فإن كان هناك ولد ، فإن كان ذكرا ، فهو مقدم على الإخوة مطلقا ذكورهم وإناثهم ، وإن لم يكن هناك ولد ذكر ، بل أنثى فالباقي بعد فرضها يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق ، فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها ؛ فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات كالعم وابنه ؟ وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطا لها ، فيتعين تقديمها عليه ، لامتناع مشاركته لها ، فمفهوم الآية أن الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض ، وهذا حق ليس مفهوما أن الأخت تسقط بالبنت ، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها ، يدل عليه قوله تعالى : وهو يرثها إن لم يكن لها ولد [ النساء : 176 ] ، وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثى لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات ، وإنما وجود الولد الأنثى يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته كله ، فكما أن الولد إن كان ذكرا ، منع الأخ من الميراث ، وإن كان أنثى ، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها ، وإن منعه حيازة الميراث ، فكذلك الولد إن كان ذكرا منع الأخت الميراث بالكلية ، وإن كان أنثى منعت الأخت أن يفرض لها النصف ، ولم يمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها والله أعلم .

[ص: 438 ] الحديث الرابع والأربعون .:

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية عمرة عن عائشة ، وخرج مسلم أيضا من رواية عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، وخرجاه أيضا من رواية عروة عن عائشة من قولها ، وخرجاه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرجه الترمذي من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة ، وأن الرضاع يحرم ما يحرمه النسب ، ولنذكر المحرمات من النسب كلهن حتى يعلم بذلك ما يحرم من الرضاع ، فنقول : الولادة والنسب قد يؤثران التحريم في النكاح ، وهو على قسمين : أحدهما : تحريم مؤبد على الانفراد ، وهو نوعان [ ص: 439 ] أحدهما : ما يحرم بمجرد النسب ، فيحرم على الرجل أصوله وإن علون ، وفروعه وإن سفلن ، وفروع أصله الأدنى وإن سفلن ، فروع أصوله البعيدة دون فروعهن ، فيدخل في أصوله أمهاته وإن علون من جهة أبيه وأمه ، وفي فروعه بناته وبنات أولاده وإن سفلن ، وفي فروع أصله الأدنى أخواته من الأبوين ، أو من أحدهما ، وبناتهن وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلن ، ودخل في فروع أصوله البعيدة العمات والخالات وعمات الأبوين وخالاتهما وإن علون ، فلم يبق من الأقارب حلالا للرجل سوى فروع أصوله البعيدة ، وهن بنات العم وبنات العمات ، وبنات الخال ، وبنات الخالات . والنوع الثاني : ما يحرم من النسب مع سبب آخر ، وهو المصاهرة ؛ فيحرم على الرجل حلائل آبائه ، وحلائل أبنائه ، وأمهات نسائه ، وبنات نسائه المدخول بهن ؛ فيحرم على الرجل أم امرأته وأمهاتها من جهة الأم والأب وإن علون ، ويحرم عليه بنات امرأته ، وهن الربائب وبناتهن وإن سفلن ، وكذلك بنات بني زوجته وهن بنات الربائب نص عليه الشافعي وأحمد ، ولا يعلم فيه خلاف . ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه ، وإن علا وبامرأة ابنه وإن سفل ، ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهر ، لأن تحريمهن من جهة نسب الرجل مع سبب المصاهرة . وأما أمهات نسائه وبناتهن ، فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسب المرأة ، فلم يخرج التحريم بذلك عن أن يكون بالنسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة ، فإن التحريم بالسبب المجرد ، والنسب المضاف إلى المصاهرة يشترك فيه الرجال والنساء ؛ فيحرم على المرأة أن تتزوج أصولها وإن علوا ، وفروعها وإن سفلوا ، وفروع أصولها الأدنى وإن سفلوا من إخوتها ، وأولاد الإخوة وإن سفلوا ، وفروع أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم ، فهذا كله بالنسب المجرد . [ ص: 440 ] وأما بالنسب المضاف إلى المصاهرة ، فيحرم عليها نكاح أبي زوجها وإن علا ، ونكاح ابنه وإن سفل بمجرد العقد ، ويحرم عليها زوج ابنتها وإن سفلت بالعقد ، وزوج أمها وإن علت ، لكن بشرط الدخول بها .

ص: 445 ] الحديث الخامس والأربعون .:

عن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ؟ قال : لا ، هو حرام ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : قاتل الله اليهود ، إن الله حرم عليهم الشحوم ، فأجملوه ، ثم باعوه ، فأكلوا ثمنه خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 [ ص: 446 ] هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر . وفي رواية لمسلم أن يزيد قال : كتب إلي عطاء ، فذكره ، ولهذا قال أبو حاتم الرازي : لا أعلم يزيد بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئا ، يعني أنه إنما يروي عنه كتابه ، وقد رواه أيضا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد بن عبدة ، عن عبد الله بن عمر وعن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وفي " الصحيحين " عن ابن عباس قال : بلغ عمر أن رجلا باع خمرا ، فقال : قاتله الله ، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم ، فجملوها فباعوها ، وفي رواية : وأكلوا أثمانها . وخرجه أبو داود من حديث عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وزاد فيه : وإن الله إذا حرم أكل شيء ، حرم عليهم ثمنه ، وخرجه ابن أبي شيبة ، ولفظه : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه . وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قاتل الله يهودا ، حرمت عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا ثمنها . وفي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : لما أنزلت الآيات من آخر سورة البقرة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاقترأهن على الناس ، ثم نهى عن التجارة في الخمر ، وفي رواية لمسلم : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا ، خرج [ ص: 447 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فحرم التجارة في الخمر . وخرج مسلم من حديث أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حرم الخمر ، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء ، فلا يشرب ولا يبع . فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة ، فسفكوها . وخرجه أيضا من حديث ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل علمت أن الله قد حرمها ؟ قال : لا ، قال : فسار إنسانا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم ساررته ؟ قال : أمرته ببيعها ، قال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، قال : ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها . فالحاصل من هذه الأحاديث كلها أن ما حرم الله الانتفاع به ، فإنه يحرم بيعه وأكل ثمنه ، كما جاء مصرحا به في الرواية المتقدمة : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ، وهذه كلمة عامة جامعة تطرد في كل ما كان المقصود من الانتفاع به حراما ، وهو قسمان : أحدهما : ما كان الانتفاع به حاصلا مع بقاء عينه ، كالأصنام ، فإن منفعتها المقصودة منها الشرك بالله ، وهو أعظم المعاصي على الإطلاق ، ويلتحق بذلك ما كانت منفعته محرمة ، ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال ، وكذلك الصور المحرمة ، وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور ، وكذلك شراء الجواري للغناء . [ ص: 448 ] وفي " المسند " عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين ، وأمرني أن أمحق المزامير والكنارات - يعني البرابط والمعازف - والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية ، وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم ، معذبا أو مغفورا له ، ولا يسقيها صبيا صغيرا إلا سقيته مكانها من حميم جهنم معذبا أو مغفورا له ، ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيتها إياه في حظيرة القدس ، ولا يحل بيعهن ولا شراؤهن ، ولا تعليمهن ، ولا تجارة فيهن ، وأثمانهن حرام [ يعني ] المغنيات . وخرجه الترمذي ، ولفظه : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ، ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام ، في مثل ذلك أنزل الله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] الآية ، وخرجه ابن ماجه أيضا ، وفي إسناد الحديث مقال ، وقد روي نحوه من حديث عمر وعلي بإسنادين فيهما ضعف أيضا . ومن يحرم الغناء كأحمد ومالك ، فإنهما يقولان : إذا بيعت الأمة المغنية ، تباع على أنها ساذجة ، ولا يؤخذ لغنائها ثمن ، ولو كانت الجارية ليتيم ، ونص ذلك أحمد ، ولا يمنع الغناء من أصل بيع العبد والأمة ؛ لأن الانتفاع به في غير الغناء حاصل بالخدمة وغيرها ، وهو من أعظم مقاصد الرقيق . نعم ، لو علم [ ص: 449 ] أن المشتري لا يشتريه إلا للمنفعة المحرمة منه ، لم يجز بيعه له عند الإمام أحمد وغيره من العلماء ، كما لا يجوز بيع العصير ممن يتخذه خمرا ، ولا بيع السلاح في الفتنة ، ولا بيع الرياحين والأقداح لمن يعلم أنه يشرب عليها الخمر ، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة . والقسم الثاني : ما ينتفع به مع إتلاف عينه فإذا كان المقصود الأعظم منه محرما ، فإنه يحرم بيعه كما يحرم بيع الخنزير والخمر والميتة ، مع أن في بعضها منافع غير محرمة ، كأكل الميتة للمضطر ، ودفع الغصة بالخمر ، وإطفاء الحريق به ، والخرز بشعر الخنزير عند قوم ، والانتفاع بشعره وجلده عند من يرى ذلك ، ولكن لما كانت هذه المنافع غير مقصودة ، لم يعبأ بها ، وحرم البيع بكون المقصود الأعظم من الخنزير والميتة أكلهما ، ومن الخمر شربها ، ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك ، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى لما قيل له : أرأيت شحوم الميتة ، فإنها يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ، فقال : لا ، هو حرام

ص: 456 ] الحديث السادس والأربعون :.

عن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ، فسأله عن أشربة تصنع بها ، فقال : وما هي ؟ قال : البتع والمزر ، فقيل لأبي بردة : وما البتع ؟ قال : نبيذ العسل ، والمزر نبيذ الشعير ، فقال : كل مسكر حرام خرجه البخاري . الحاشية رقم: 1 وخرجه مسلم ، ولفظه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله ، إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له : المزر من الشعير ، وشراب يقال له : البتع من العسل ، فقال : كل مسكر حرام . وفي رواية لمسلم : فقال : كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام ، وفي رواية له قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال : أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة . فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات ، المغطية للعقل ، وقد ذكر الله في كتابه العلة المقتضية لتحريم المسكرات ، وكان أول ما حرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة لما صلى بعض المهاجرين وقرأ في صلاته ، فخلط في قراءته ، فنزل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] ، وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 457 ] ينادي لا يقرب الصلاة سكران ، ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ المائدة : 90 - 91 ] . فذكر سبحانه علة تحريم الخمر والميسر وهو القمار ، وهو أن الشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء ، فإن من سكر اختل عقله ، فربما تسلط على أذى الناس في أنفسهم وأموالهم ، وربما بلغ إلى القتل ، وهي أم الخبائث ، فمن شربها قتل النفس وزنا ، وربما كفر . وقد روي هذا المعنى عن عثمان وغيره ، وروي مرفوعا أيضا . ومن قامر فربما قهر ، وأخذ ماله قهرا ، فلم يبق له شيء ، فيشتد حقده على من أخذ ماله . وكل ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراما ، وأخبر سبحانه أن الشيطان يصد بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة ، فإن السكران يزول عقله أو يختل ، فلا يستطيع أن يذكر الله ، ولا أن يصلي ، ولهذا قال طائفة من السلف : إن شارب الخمر تمر عليه ساعة لا يعرف فيها ربه ، والله سبحانه إنما خلق الخلق ليعرفوه ، ويذكروه ، ويعبدوه ، ويطيعوه ، فما أدى إلى الامتناع من ذلك ، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته ، كان محرما ، وهو السكر ، وهذا بخلاف النوم ، فإن الله تعالى جبل العباد عليه ، واضطرهم إليه ، ولا قوام لأبدانهم إلا به ، إذ هو راحة لهم من السعي والنصب ، فهو من [ ص: 458 ] أعظم نعم الله على عباده ، فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة ، ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه ، كان نومه عونا له على الصلاة والذكر ، ولهذا قال من قال من الصحابة : إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي . وكذلك الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فإن صاحبه يعكف بقلبه عليه ، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه ، ولهذا قال علي لما مر على قوم يلعبون بالشطرنج : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ فشبههم بالعاكفين على التماثيل . وجاء في الحديث : إن مدمن الخمر كعابد وثن ، فإنه يتعلق قلبه بها ، فلا يكاد يمكنه أن يدعها كما لا يدع عابد الوثن عبادته . وهذا كله مضاد لما خلق الله العباد لأجله من تفريغ قلوبهم لمعرفته ، ومحبته ، وخشيته ، وذكره ، ومناجاته ، ودعائه ، والابتهال إليه ، فما حال بين العبد وبين ذلك ، ولم يكن بالعبد إليه ضرورة ، بل كان ضررا محضا عليه ، كان محرما ، وقد روي عن علي أنه قال لمن رآهم يلعبون بالشطرنج : ما لهذا خلقتم . ومن هنا يعلم أن الميسر محرم ، سواء كان بعوض أو بغير عوض ، وإن الشطرنج كالنرد أو شر منه ، لأنها تشغل أصحابها عن ذكر الله وعن [ ص: 459 ] الصلاة أكثر من النرد . والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل مسكر حرام ، وكل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام . وقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرجا في " الصحيحين " عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ولفظ مسلم : وكل مسكر حرام . وخرج أيضا من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع ، فقال : كل شراب أسكر فهو حرام وفي رواية لمسلم : كل شراب مسكر حرام وقد صحح هذا الحديث أحمد ويحيى بن معين وأصحابه واحتجا به ، ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته ، وأنه أثبت شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر . وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه ، فلا يثبت ذلك عنه . وخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل [ ص: 460 ] مسكر حرام . وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار ، وهو مذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وهو مما اجتمع على القول به أهل المدينة كلهم . وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة ، وقالوا : إن الخمر إنما هي خمر العنب خاصة ، وما عداها ، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر ، ولا يحرم ما دونه ، وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم ، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورا لهم ، وفيهم خلق من أئمة العلم والدين . قال ابن المبارك : ما وجدت في النبيذ رخصة عن أحد صحيح إلا عن إبراهيم ، يعني النخعي ، وكذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصح ، وقد صنف كتاب " الأشربة " ولم يذكر فيه شيئا من الرخصة ، وصنف كتابا في المسح على الخفين ، وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره ، فقيل له : كيف لم تجعل في كتاب الأشربة الرخصة كما جعلت في المسح ؟ فقال : ليس في الرخصة في السكر حديث صحيح . ومما يدل على أن كل مسكر خمر أن تحريم الخمر إنما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عما عندهم من الأشربة ، ولم يكن بها خمر العنب ، فلو لم [ ص: 461 ] تكن آية تحريم الخمر شاملة لما عندهم ، لما كان فيها بيان لما سألوا عنه ، ولكان محل السبب خارجا من عموم الكلام ، وهو ممتنع ، ولما نزل تحريم الخمر أراقوا ما عندهم من الأشربة ، فدل على أنهم فهموا أنه من الخمر المأمور باجتنابه . وفي " صحيح البخاري " عن أنس قال : حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا ، وعامة خمرنا البسر والتمر . وعنه أنه قال : إني لأسقي أبا طلحة ، وأبا دجانة ، وسهيل بن بيضاء خليط بسر وتمر إذ حرمت الخمر ، فقذفتها ، وأنا ساقيهم وأصغرهم ، وإنا نعدها يومئذ الخمر . وفي " الصحيحين " عنه قال : ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ . وفي " صحيح مسلم " عنه قال : لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر ، وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عمر ، قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما منها شراب العنب . وفي " الصحيحين " عن الشعبي ، عن ابن عمر ، قال : قام عمر على المنبر ، فقال : أما بعد ، نزل تحريم الخمر وهي من خمس : العنب ، والتمر ، والعسل [ ص: 462 ] والحنطة ، والشعير ، والخمر : ما خامر العقل . وخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر الترمذي أن قول من قال : عن الشعبي عن ابن عمر ، عن عمر - أصح ، وكذا قال ابن المديني . وروى أبو إسحاق عن أبي بردة قال : قال عمر : ما خمرته فعتقته ، فهو خمر ، وأنى كانت لنا الخمر خمر العنب . وفي " مسند " الإمام أحمد عن المختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفتة وقال : كل مسكر حرام قلت له : صدقت السكر حرام ، فالشربة والشربتان على طعامنا ؟ قال : المسكر قليله وكثيره حرام وقال : الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة ، فما خمرت من ذلك فهو الخمر ، خرجه أحمد عن عبد الله بن إدريس : سمعت المختار بن فلفل يقول فذكره ، وهذا إسناد على شرط مسلم . وفي " صحيح مسلم " ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة ، وهذا صريح في أن نبيذ التمر خمر . وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره ، كما خرجه أبو داود ، وابن [ ص: 463 ] ماجه ، والترمذي ، وحسنه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام . وخرج أبو داود ، والترمذي ، وحسنه من حديث عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق ، فملء الكف منه حرام ، وفي رواية الحسوة منه حرام ، وقد احتج به أحمد وذهب إليه . وسئل عمن قال : إنه لا يصح ؟ فقال : هذا رجل مغل ، يعني أنه قد غلا في مقالته . وقد خرج النسائي هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة يطول ذكرها . وروى ابن عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، حدثني أبو وهيب الجيشاني ، عن وفد أهل اليمن أنهم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن أشربة تكون باليمن ، قال : فسموا له البتع من العسل ، والمزر من الشعير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تسكرون منها ؟ قالوا : إن أكثرنا سكرنا ، قال : فحرام قليله ما أسكر كثيره خرجه القاضي إسماعيل . وقد كانت الصحابة تحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : كل مسكر حرام على تحريم جميع أنواع المسكرات ، ما كان موجودا منها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما حدث بعده ، كما سئل ابن عباس عن الباذق ، فقال : سبق محمد الباذق ، فما أسكر ، [ ص: 464 ] فهو حرام ، خرجه البخاري ، يشير إلى أنه إن كان مسكرا ، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة

ص: 467 ] الحديث السابع والأربعون :

عن المقدام بن معدي كرب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حسن . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام ، وخرجه النسائي من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده ، وخرجه ابن ماجه من وجه آخر عنه وله طرق أخرى . وقد روي هذا الحديث مع ذكر سببه ، فروى أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث عبد الرحمن بن المرقع ، قال : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وهي مخضرة من الفواكه ، فواقع الناس الفاكهة ، فمغثتهم الحمى ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الحمى رائد الموت وسجن الله في [ ص: 468 ] الأرض ، وهي قطعة من النار ، فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان ، فصبوها عليكم بين الصلاتين يعني المغرب والعشاء ، قال : ففعلوا ذلك ، فذهبت عنهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرا من بطن ، فإن كان لا بد ، فاجعلوا ثلثا للطعام ، وثلثا للشراب ، وثلثا للريح . وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها . وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في " كتاب " أبي خيثمة ، قال : لو استعمل الناس هذه الكلمات ، سلموا من الأمراض والأسقام ، ولتعطلت المارستانات ودكاكين الصيادلة ، وإنما قال هذا ؛ لأن أصل كل داء التخم ، كما قال بعضهم : أصل كل داء البردة ، وروي مرفوعا ولا يصح رفعه . وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب : الحمية رأس الدواء ، والبطنة رأس [ ص: 469 ] الداء ، ورفعه بعضهم ولا يصح أيضا . وقال الحارث أيضا : الذي قتل البرية ، وأهلك السباع في البرية إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام . وقال غيره : لو قيل لأهل القبور : ما كان سبب آجالكم ؟ قالوا : التخم . فهذا بعض منافع تقليل الغذاء ، وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته . وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب ، وقوة الفهم ، وانكسار النفس ، وضعف الهوى والغضب ، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك . قال الحسن : يابن آدم كل في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلث بطنك يتنفس لتتفكر . وقال المروذي : جعل أبو عبد الله ، يعني أحمد يعظم أمر الجوع والفقر ، فقلت له : يؤجر الرجل في ترك الشهوات ، فقال : وكيف لا يؤجر ، وابن عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع ؟ قال : ما أرى . وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه ، فروى بإسناده عن ابن سيرين ، قال : قال رجل لابن عمر : ألا أجيئك بجوارش ؟ قال : [ ص: 470 ] وأي شيء هو ؟ قال : شيء يهضم الطعام إذا أكلته ، قال : ما شبعت منذ أربعة أشهر ، وليس ذاك أني لا أقدر عليه ، ولكن أدركت أقواما يجوعون أكثر مما يشبعون . وبإسناده عن نافع ، قال : جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : جوارش : شيء يهضم به الطعام ، قال : ما أصنع به ؟ إني ليأتي علي الشهر ما أشبع فيه من الطعام . وبإسناده عن رجل قال : قلت لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن رقت مضغتك ، وكبر سنك ، وجلساؤك لا يعرفون لك حقك ولا شرفك ، فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئا يلطفونك إذا رجعت إليهم ، قال : ويحك ، والله ما شبعت منذ إحدى عشرة سنة ، ولا اثنتي عشرة سنة ، ولا ثلاث عشرة سنة ، ولا أربع عشرة سنة مرة واحدة ، فكيف بي وإنما بقي مني كظمء الحمار . وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنه كان يدع كثيرا من الشبع مخافة الأشر . وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " بإسناده عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما شبعت منذ أسلمت . [ ص: 471 ] وروى بإسناده عن محمد بن واسع ، قال : من قل طعمه فهم وأفهم ، وصفا ، ورق ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد . وعن أبي عبيدة الخواص ، قال : حتفك في شبعك ، وحظك في جوعك ، وإذا أنت شبعت ثقلت ، فنمت ، استمكن منك العدو فجثم عليك ، وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد . وعن عمرو بن قيس ، قال : إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب . وعن سلمة بن سعيد قال : إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله . وعن بعض العلماء قال : إذا كنت بطينا ، فاعدد نفسك زمنا حتى تخمص . وعن ابن الأعرابي قال : كانت العرب تقول : ما بات رجل بطينا فتم عزمه . وعن أبي سليمان الداراني قال : إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة ، فلا تأكل حتى تقضيها ، فإن الأكل يغير العقل . وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه ، وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه . قال : وحدثني الحسن بن عبد الرحمن ، قال : قال الحسن أو غيره : كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلة ، وهي بليتكم إلى يوم القيامة . قال : وكان يقال : من ملك بطنه ، ملك الأعمال الصالحة كلها ، وكان يقال : لا تسكن الحكمة معدة ملأى . [ ص: 472 ] وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان يقال : قلة الطعم عون على التسرع إلى الخيرات . وعن قثم العابد قال : كان يقال : ما قل طعم امرئ قط إلا رق قلبه ، ونديت عيناه . وعن عبد الله بن مرزوق قال : لم نر للأشر مثل دوام الجوع ، فقال له أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : وما دوامه عندك ؟ قال : دوامه أن لا تشبع أبدا . قال : وكيف يقدر من كان في الدنيا على هذا ؟ قال : ما أيسر ذلك يا أبا عبد الرحمن على أهل ولايته ومن وفقه لطاعته ، لا يأكل إلا دون الشبع هو دوام الجوع . ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعام على بعض أصحابه ، فقال له : أكلت حتى لا أستطيع أن آكل ، فقال الحسن : سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل ؟ ! . وروى أيضا بإسناده عن أبي عمران الجوني ، قال : كان يقال : من أحب أن ينور قلبه ، فليقل طعمه . وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إلي سفيان الثوري : إن أردت أن يصح جسمك ، ويقل نومك ، فأقل من الأكل . وعن ابن السماك قال : خلا رجل بأخيه ، فقال : أي أخي ، نحن أهون على الله من أن يجيعنا ، إنما يجيع أولياءه . وعن عبد الله بن الفرج قال : قلت لأبي سعيد التميمي : الخائف يشبع ؟ [ ص: 473 ] قال : لا ، قلت : المشتاق يشبع ؟ قال : لا . وعن رياح القيسي أنه قرب إليه طعام ، فأكل منه ، فقيل له : ازدد فما أراك شبعت ، فصاح صيحة وقال : كيف أشبع أيام الدنيا وشجرة الزقوم طعام الأثيم بين يدي ؟ فرفع الرجل الطعام من بين يديه ، وقال : أنت في شيء ونحن في شيء . قال المروذي : قال لي رجل : كيف ذاك المتنعم ؟ يعني أحمد ، قلت له : وكيف هو متنعم ؟ قال : أليس يجد خبزا يأكل ، وله امرأة يسكن إليها ، ويطؤها ، فذكرت ذلك لأبي عبد الله فقال : صدق ، وجعل يسترجع ، وقال : إنا لنشبع . وقال بشر بن الحارث : ما شبعت منذ خمسين سنة ، وقال : ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال ، لأنه إذا شبع من الحلال ، دعته نفسه إلى الحرام ، فكيف من هذه الأقذار ؟ . وعن إبراهيم بن أدهم قال : من ضبط بطنه ضبط دينه ، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة ، وإن معصية الله بعيدة من الجائع ، قريبة من الشبعان ، والشبع يميت القلب ، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك . وقال ثابت البناني : بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام ، فرأى عليه معاليق من كل شيء ، فقال له يحيى : يا إبليس ، ما هذه المعاليق التي أرى عليك ؟ قال : هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيء ؟ قال : ربما شبعت ، فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر ، قال : فهل غير هذا ؟ قال : لا ، قال : لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا ، قال : فقال إبليس : لله علي أن لا أنصح مسلما أبدا . [ ص: 474 ] وقال أبو سليمان الداراني : إن النفس إذا جاعت وعطشت ، صفا القلب ورق ، وإذا شبعت ورويت ، عمي القلب ، وقال : مفتاح الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل ، وإن الله ليعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة ، فلا يعطي إلا من أحب خاصة ، ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلي من أن آكلها ثم أقوم من أول الليل إلى آخره . وقال الحسن بن يحيى الخشني : من أراد أن تغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه ، وقال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت بهذا أبا سليمان فقال : إنما جاء الحديث : " ثلث طعام وثلث شراب " وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم ، فربحوا سدسا . وقال محمد بن النضر الحارثي : الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأشر . وعن الشافعي ، قال : ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة اطرحتها ، لأن الشبع يثقل البدن ، ويزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة . وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام ، وقال : حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه . وفي " الصحيحين " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء والمراد أن المؤمن [ ص: 475 ] يأكل بأدب الشرع ، فيأكل في معى واحد والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنهم ، فيأكل في سبعة أمعاء . وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه ، فقال : طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة فأحسن ما أكل المؤمن في ثلث بطنه ، وشرب في ثلث ، وترك للنفس ثلثا ، كما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام ، فإن كثرة الشرب تجلب النوم ، وتفسد الطعام . قال سفيان : كل ما شئت ولا تشرب ، فإذا لم تشرب ، لم يجئك النوم . وقال بعض السلف : كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل ، فإذا كان عند فطرهم ، قام عليهم قائم فقال : لا تأكلوا كثيرا ، فتشربوا كثيرا ، فتناموا كثيرا ، فتخسروا كثيرا . وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيرا ، ويتقللون من أكل الشهوات ، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام ، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها . ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك - مع قدرته على الطعام - وكذلك كان أبوه من قبله . [ ص: 476 ] ففي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض . ولمسلم : قالت : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض . وخرج البخاري عن أبي هريرة قال : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قبض . وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير . وفي " صحيح مسلم " عن عمر أنه خطب ، فذكر ما أصاب الناس من الدنيا ، فقال : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه . وخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال . وخرجه ابن ماجه بإسناده عن سليمان بن صرد ، قال : أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمكثنا ثلاث ليال لا نقدر - أو لا يقدر - على طعام . [ ص: 477 ] وبإسناده عن أبي هريرة ، قال أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطعام سخن فأكل ، فلما فرغ قال : الحمد لله ، ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا . وقد ذم الله ورسوله من اتبع الشهوات ، قال تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب [ مريم : 59 - 60 ] . وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن . وفي " المسند " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا سمينا فجعل يومئ بيده إلى بطنه ويقول : لو كان هذا في غير هذا ، لكان خيرا لك . وفي " المسند " عن أبي برزة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ، ومضلات الهوى . وفي " مسند البزار " وغيره عن فاطمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : شرار أمتي [ ص: 478 ] الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدقون في الكلام . وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر ، قال : تجشأ رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : كف عنا جشاءك ، فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة . وخرجه ابن ماجه من حديث سلمان أيضا بنحوه ، وخرجه الحاكم من [ ص: 479 ] حديث أبي جحيفة ، وفي أسانيدها كلها مقال . وروى يحيى بن منده في كتاب " مناقب الإمام أحمد " بإسناد له عن الإمام أحمد أنه سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس فقال : ثلث للطعام : هو القوت ، وثلث للشراب : هو القوى ، وثلث للنفس : هو الروح والله أعلم .

ص: 480 ] الحديث الثامن والأربعون .

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أربع من كن فيه كان منافقا ، ومن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر خرجه البخاري ومسلم . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص . وخرجاه في " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان . وفي رواية لمسلم : وصلى وزعم أنه مسلم وفي رواية له أيضا : من علامات المنافق ثلاثة . وقد روي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر . وهذا الحديث قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم حدثوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذبوه ، وائتمنهم على سره فخانوه ، ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه ، وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء ، وأنه قال : حدثني به جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر أن الحسن [ ص: 481 ] رجع إلى قول عطاء هذا لما بلغه عنه ، وهذا كذب ، والمحرم هذا شيخ كذاب معروف بالكذب . وقد روي عن عطاء هذا من وجهين آخرين ضعيفين أنه أنكر على الحسن قوله : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وقال : قد حدث إخوة يوسف فكذبوا ، ووعدوا فأخلفوا ، وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين ، وهذا لا يصح عن عطاء ، والحسن لم يقل هذا من عنده وإنما بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فالحديث ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - لا شك في ثبوته وصحته ، والذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه ، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين : أحدهما : النفاق الأكبر ، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه ، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم ، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار . والثاني : النفاق الأصغر ، وهو نفاق العمل ، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ، ويبطن ما يخالف ذلك . وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث ، وهي خمسة : أحدها : أن يحدث بحديث لمن يصدقه به وهو كاذب له ، وفي " المسند " [ ص: 482 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق ، وأنت به كاذب . قال الحسن : كان يقال : النفاق اختلاف السر والعلانية ، والقول والعمل ، والمدخل والمخرج ، وكان يقال : أس النفاق الذي بني عليه الكذب . والثاني : إذا وعد أخلف ، وهو على نوعين : أحدهما : أن يعد ومن نيته أن لا يفي بوعده ، وهذا أشر الخلف ، ولو قال : أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل ، كان كذبا وخلفا ، قاله الأوزاعي .

ص: 496 ] الحديث التاسع والأربعون .

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " والحاكم ، وقال الترمذي : حسن صحيح . الحاشية رقم: 1 هذا الحديث خرجه هؤلاء كلهم من رواية عبد الله بن هبيرة ، سمع أبا تميم الجيشاني ، سمع عمر بن الخطاب يحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو تميم وعبد الله بن هبيرة خرج لهما مسلم ، ووثقهما غير واحد ، وأبو تميم ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهاجر إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه . وقد روي هذا الحديث من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن في إسناده من لا يعرف حاله . قاله أبو حاتم الرازي . وهذا الحديث أصل في التوكل ، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها [ ص: 497 ] الرزق ، قال الله عز وجل : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 2 - 3 ] ، وقد قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية على أبي ذر ، وقال له : لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم يعني : لو حققوا التقوى والتوكل ؛ لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم . وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث ابن عباس : احفظ الله يحفظك . قال بعض السلف : بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه ، فكم من عبد من عباده قد فوض إليه أمره ، فكفاه منه ما أهمه ، ثم قرأ : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وحقيقة التوكل : هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ، وكلة الأمور كلها إليه ، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه . قال سعيد بن جبير : التوكل جماع الإيمان . وقال وهب بن منبه : الغاية القصوى التوكل . قال الحسن : إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته . وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من سره أن يكون أقوى الناس ، فليتوكل على الله . [ ص: 498 ] وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه : اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك ، وأنه كان يقول : اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته . واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها ، وجرت سنته في خلقه بذلك ، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل ، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له ، والتوكل بالقلب عليه إيمان به ، كما قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم [ النساء : 71 ] ، وقال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [ الأنفال : 60 ] ، وقال : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . وقال سهل التستري : من طعن في الحركة - يعني في السعي والكسب - فقد طعن في السنة ، ومن طعن في التوكل ، فقد طعن في الإيمان ، فالتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والكسب سنته ، فمن عمل على حاله ، فلا يتركن سنته .

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ . الحاشية رقم: 1 وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . وخرجه الترمذي ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفردون ؟ قال : المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا . وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه ، فقال : يا معاذ أين السابقون ؟ فقلت : قد مضوا وتخلف أناس . فقال : يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله عز وجل خرجه جعفر الفريابي . [ ص: 512 ] ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث ، فإنه لما سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ، ويولعون به ، فإن الاستهتار بالشيء : هو الولوع به والشغف ، حتى لا يكاد يفارق ذكره ، وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم ، فقال فيه : الذين أهتروا في ذكر الله وفسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام ، كما في الحديث : المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران . قال : والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي ، إما عن القرن أو عن المخالطة ، والله أعلم . ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة : ليس السابق اليوم من سبق بعيره ، وإنما السابق من غفر له . وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أحب أن يرتع في رياض الجنة ، فليكثر ذكر الله عز وجل . [ ص: 513 ] وخرج الإمام أحمد والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات الصاحات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون . وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عباس مرفوعا : اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون : إنكم تراءون . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، وقيل : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . [ ص: 514 ] وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ ، [ عن أبيه ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله فقال : أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، قال : فأي الصائمين أعظم ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أكثرهم لله ذكرا : ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل . وقد خرجه ابن المبارك ، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه . وقال أبو الدرداء : الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله ، يدخل أحدهما الجنة وهو يضحك ، وقيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وقال معاذ : لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل . [ ص: 515 ] وقال ابن مسعود في قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وخرجه الحاكم مرفوعا وصححه ، والمشهور وقفه . وقال زيد بن أسلم : قال موسى عليه السلام : يا رب ، قد أنعمت علي كثيرا ، فدلني على أن أشكرك كثيرا ، قال : اذكرني كثيرا ، فإن ذكرتني كثيرا ، فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني . وقال الحسن : أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا . وقال أحمد بن أبي الحواري : حدثني أبو المخارق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش ، فقلت : من هذا ؟ ملك ؟ قيل : لا ، قلت : نبي ؟ قيل : لا ، قلت : من هو ؟ قال : هذا رجل كان لسانه رطبا من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم يستسب والديه قط . وقال ابن مسعود : قال موسى عليه السلام : رب أي الأعمال أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني فلا تنساني . وقال أبو إسحاق بن ميثم : بلغني أن موسى عليه السلام ، قال : رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : أكثرهم لي ذكرا . وقال كعب : من أكثر ذكر الله ، برئ من النفاق ، ورواه مؤمل ، عن حماد بن سلمة ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا [ ص: 516 ] وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعا : من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان . ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ، فمن أكثر ذكر الله ، فقد باينهم في أوصافهم ، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله ، وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد ، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله ، فهو من الخاسرين . قال الربيع بن أنس ، عن بعض أصحابه : علامة حب الله كثرة ذكره ، فإنك لن تحب شيئا إلا أكثرت ذكره . وقال فتح الموصلي : المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين ، قال ذو النون : من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر ، قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه . قال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان ، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله . وكان بعض السلف يقول في مناجاته : إذا سئم البطالون من بطالتهم ، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك . قال أبو جعفر المحولي : ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته . وقد ذكرنا قول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه ، والمعنى : في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه ، وسواء كان على [ ص: 517 ] طهارة أو على حدث . وقال مسعر : كانت دواب البحر في البحر تسكن ، ويوسف عليه السلام في السجن لا يسكن عن ذكر الله عز وجل . وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به . وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن ، فلما مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح . وقيل لعمير بن هانئ : ما نرى لسانك يفتر ، فكم تسبح كل يوم ؟ قال مائة ألف تسبيحة ، إلا أن تخطئ الأصابع ، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت فلما بلغت القبر ، اختلست من أيدي الرجال . وكان الحسن البصري كثيرا ما يقول إذا لم يحدث ، ولم يكن له شغل : سبحان الله العظيم ، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال : إن صاحبكم لفقيه ، ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيت في الجنة . وكان عامة كلام ابن سيرين : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده . كان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون ، نزل إلى البحر ، وقام [ ص: 518 ] في الماء يذكر الله مع دواب البحر . نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال : فكنت كلما استيقظت من الليل ، وجدته يذكر الله ، فأغتم ، ثم أعزي نفسي بهذه الآية : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه ، فلو كلف أن ينسى تذكره لما قدر ، ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر . كيف ينسى المحب ذكر حبيب اسمه في فؤاده مكتوب كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول : أحد أحد ، فإذا قالوا له : قل : واللات والعزى ، قال : لا أحسنه . يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل كلما قويت المعرفة ، صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة ، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه : الله الله ، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح ، كما يلهمون النفس ، وتصير " لا إله إلا الله " لهم ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، كان الثوري ينشد : لا لأني أنساك أكثر ذكرا ك ولكن بذاك يجري لساني إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه ، وتضاعف قلقه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود : اقرأ علي القرآن ، قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ عليه ، ففاضت عيناه . [ ص: 519 ] سمع الشبلي قائلا يقول : يا ألله يا جواد ، فاضطرب : وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري النبض ينزعج عند ذكر المحبوب : إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ترنح نشوان وحن طروب ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الأنفال : 2 ] . وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه . قال أبو الجلد : أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتني ، فاذكرني ، وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا ، وإذا ذكرتني ، فاجعل لسانك من وراء قلبك . وصف علي يوما الصحابة ، فقال : كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في اليوم الشديد الريح ، وجرت دموعهم على ثيابهم . قال زهير البابي : إن لله عبادا ذكروه ، فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا ، وقوم ذكروه ، فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة ، فلو حرقوا بالنار ، لم يجدوا مس النار ، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقا من خوفه ، وقوم ذكروه ، فحالت ألوانهم غبرا ، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا . [ ص: 520 ] صلى أبو يزيد الظهر ، فلما أراد أن يكبر ، لم يقدر إجلالا لاسم الله ، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه . كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يرى جميع ذلك من عنده ، وكان يقول : ما أظن محقا يذكر الله عن غير غفلة ، ثم يبقى حيا إلا الأنبياء ، فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم . إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت مفاصلها من هول ما تتذكر وقف أبو زيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول : لا إله إلا الله ، فما قدر إجلالا وهيبة ، فلما كان عند الصباح نزل ، فبال الدم . وما ذكرتكم إلا نسيتكم نسيان إجلال لا نسيان إهمال إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا أجللت مثلكم يخطر على بالي الذكر لذة قلوب العارفين . قال الله عز وجل : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد : 28 ] . قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل . وفي بعض الكتب السالفة : يقول الله عز وجل : معشر الصديقين بي فافرحوا ، وبذكري فتنعموا . وفي أثر آخر سبق ذكره : وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها . وعن ابن عمر قال : أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها ، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها . قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره ، وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته ، [ ص: 521 ] قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره ، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه ، ولا طابت الجنة إلا برؤيته . أبدا نفوس الطالبيـ ــن إلى طلولكم تحن وكذا القلوب بذكركم بعد المخافة تطمئن جنت بحبكم ومن يهوى الحبيب ولا يجن بحياتكم يا سادتي جودوا بوصلكم ومنوا قد سبق حديث : اذكروا الله حتى يقولوا : مجنون ولبعضهم : لقد أكثرت من ذكرا ك حتى قيل وسواس كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر ، فرآه بعض الناس فأنكر حاله ، فقال لأصحابه : أمجنون صاحبكم ؟ فسمعه أبو مسلم ، فقال لا يا أخي ، ولكن هذا دواء الجنون . وحرمة الود ما لي عنكم عوض وليس لي في سواكم سادتي غرض وقد شرطت على قوم صحبتهم بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا ومن حديثي بكم قالوا : به مرض فقلت : لا زال عني ذلك المرض المحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر ، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم . قال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين كلموا الله كثيرا ، وكلموا الناس قليلا ، قالوا : كيف نكلم الله كثيرا ؟ قال : اخلوا بمناجاته ، اخلوا بدعائه . وكان بعض السلف يصلي كل يوم ألف ركعة حتى أقعد من رجليه ، فكان [ ص: 522 ] يصلي جالسا ألف ركعة ، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ، ويقول : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وكان بعضهم يصوم الدهر ، فإذا كان وقت الفطور ، قال : أحس نفسي تخرج لاشتغالي عن الذكر بالأكل . قيل لمحمد بن النضر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني . كتمت اسم الحبيب من العباد ورددت الصبابة في فؤادي فواشوقا إلى بلد خلي لعلي باسم من أهوى أنادي فإذا قوي حال المحب ومعرفته ، لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل ، فهو بين الخلق بجسمه ، وقلبه معلق بالمحل الأعلى ، كما قال علي رضي الله عنه في وصفهم : صحبوا الدنيا بأجساد أوراحها معلقة بالمحل الأعلى ، وفي هذا المعنى قيل : جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن وقال غيره : ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وهذه كانت حال الرسل والصديقين ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ الأنفال : 45 ] . [ ص: 523 ] وفي " الترمذي " مرفوعا : يقول الله عز وجل : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه . وقال تعالى : فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم [ النساء : 103 ] يعني الصلاة في حال الخوف ، ولهذا قال : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ النساء : 103 ] ، وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الجمعة : 10 ] ، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله ، وكثرة ذكره . ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند " و " الترمذي " ، و " سنن ابن ماجه " عن عمر مرفوعا : من دخل سوقا يصاح فيها ويباع ، فقال : لا إله إلا وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة . وفي حديث آخر : ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين ، وذاكر الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس . [ ص: 524 ] قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ما دام قلب الرجل يذكر الله ، فهو في صلاة ، وإن كان في السوق وإن حرك به شفتيه فهو أفضل . وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة . والتقى رجلان منهم في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى نذكر الله في غفلة الناس ، فخلوا في موضع ، فذكرا الله ، ثم تفرقا ، ثم مات أحدهما ، فلقيه الآخر في منامه ، فقال له : أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق ؟--Hussein2016 (نقاش) 22:13، 24 مايو 2016 (ت ع م)ردّ

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ . الحاشية رقم: 1 وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . وخرجه الترمذي ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفردون ؟ قال : المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا . وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه ، فقال : يا معاذ أين السابقون ؟ فقلت : قد مضوا وتخلف أناس . فقال : يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله عز وجل خرجه جعفر الفريابي . [ ص: 512 ] ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث ، فإنه لما سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ، ويولعون به ، فإن الاستهتار بالشيء : هو الولوع به والشغف ، حتى لا يكاد يفارق ذكره ، وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم ، فقال فيه : الذين أهتروا في ذكر الله وفسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام ، كما في الحديث : المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران . قال : والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي ، إما عن القرن أو عن المخالطة ، والله أعلم . ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة : ليس السابق اليوم من سبق بعيره ، وإنما السابق من غفر له . وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أحب أن يرتع في رياض الجنة ، فليكثر ذكر الله عز وجل . [ ص: 513 ] وخرج الإمام أحمد والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات الصاحات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون . وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عباس مرفوعا : اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون : إنكم تراءون . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، وقيل : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . [ ص: 514 ] وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ ، [ عن أبيه ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله فقال : أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، قال : فأي الصائمين أعظم ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أكثرهم لله ذكرا : ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل . وقد خرجه ابن المبارك ، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه . وقال أبو الدرداء : الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله ، يدخل أحدهما الجنة وهو يضحك ، وقيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وقال معاذ : لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل . [ ص: 515 ] وقال ابن مسعود في قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وخرجه الحاكم مرفوعا وصححه ، والمشهور وقفه . وقال زيد بن أسلم : قال موسى عليه السلام : يا رب ، قد أنعمت علي كثيرا ، فدلني على أن أشكرك كثيرا ، قال : اذكرني كثيرا ، فإن ذكرتني كثيرا ، فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني . وقال الحسن : أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا . وقال أحمد بن أبي الحواري : حدثني أبو المخارق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش ، فقلت : من هذا ؟ ملك ؟ قيل : لا ، قلت : نبي ؟ قيل : لا ، قلت : من هو ؟ قال : هذا رجل كان لسانه رطبا من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم يستسب والديه قط . وقال ابن مسعود : قال موسى عليه السلام : رب أي الأعمال أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني فلا تنساني . وقال أبو إسحاق بن ميثم : بلغني أن موسى عليه السلام ، قال : رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : أكثرهم لي ذكرا . وقال كعب : من أكثر ذكر الله ، برئ من النفاق ، ورواه مؤمل ، عن حماد بن سلمة ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا [ ص: 516 ] وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعا : من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان . ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ، فمن أكثر ذكر الله ، فقد باينهم في أوصافهم ، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله ، وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد ، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله ، فهو من الخاسرين . قال الربيع بن أنس ، عن بعض أصحابه : علامة حب الله كثرة ذكره ، فإنك لن تحب شيئا إلا أكثرت ذكره . وقال فتح الموصلي : المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين ، قال ذو النون : من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر ، قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه . قال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان ، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله . وكان بعض السلف يقول في مناجاته : إذا سئم البطالون من بطالتهم ، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك . قال أبو جعفر المحولي : ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته . وقد ذكرنا قول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه ، والمعنى : في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه ، وسواء كان على [ ص: 517 ] طهارة أو على حدث . وقال مسعر : كانت دواب البحر في البحر تسكن ، ويوسف عليه السلام في السجن لا يسكن عن ذكر الله عز وجل . وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به . وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن ، فلما مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح . وقيل لعمير بن هانئ : ما نرى لسانك يفتر ، فكم تسبح كل يوم ؟ قال مائة ألف تسبيحة ، إلا أن تخطئ الأصابع ، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت فلما بلغت القبر ، اختلست من أيدي الرجال . وكان الحسن البصري كثيرا ما يقول إذا لم يحدث ، ولم يكن له شغل : سبحان الله العظيم ، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال : إن صاحبكم لفقيه ، ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيت في الجنة . وكان عامة كلام ابن سيرين : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده . كان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون ، نزل إلى البحر ، وقام [ ص: 518 ] في الماء يذكر الله مع دواب البحر . نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال : فكنت كلما استيقظت من الليل ، وجدته يذكر الله ، فأغتم ، ثم أعزي نفسي بهذه الآية : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه ، فلو كلف أن ينسى تذكره لما قدر ، ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر . كيف ينسى المحب ذكر حبيب اسمه في فؤاده مكتوب كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول : أحد أحد ، فإذا قالوا له : قل : واللات والعزى ، قال : لا أحسنه . يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل كلما قويت المعرفة ، صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة ، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه : الله الله ، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح ، كما يلهمون النفس ، وتصير " لا إله إلا الله " لهم ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، كان الثوري ينشد : لا لأني أنساك أكثر ذكرا ك ولكن بذاك يجري لساني إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه ، وتضاعف قلقه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود : اقرأ علي القرآن ، قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ عليه ، ففاضت عيناه . [ ص: 519 ] سمع الشبلي قائلا يقول : يا ألله يا جواد ، فاضطرب : وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري النبض ينزعج عند ذكر المحبوب : إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ترنح نشوان وحن طروب ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الأنفال : 2 ] . وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه . قال أبو الجلد : أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتني ، فاذكرني ، وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا ، وإذا ذكرتني ، فاجعل لسانك من وراء قلبك . وصف علي يوما الصحابة ، فقال : كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في اليوم الشديد الريح ، وجرت دموعهم على ثيابهم . قال زهير البابي : إن لله عبادا ذكروه ، فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا ، وقوم ذكروه ، فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة ، فلو حرقوا بالنار ، لم يجدوا مس النار ، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقا من خوفه ، وقوم ذكروه ، فحالت ألوانهم غبرا ، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا . [ ص: 520 ] صلى أبو يزيد الظهر ، فلما أراد أن يكبر ، لم يقدر إجلالا لاسم الله ، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه . كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يرى جميع ذلك من عنده ، وكان يقول : ما أظن محقا يذكر الله عن غير غفلة ، ثم يبقى حيا إلا الأنبياء ، فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم . إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت مفاصلها من هول ما تتذكر وقف أبو زيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول : لا إله إلا الله ، فما قدر إجلالا وهيبة ، فلما كان عند الصباح نزل ، فبال الدم . وما ذكرتكم إلا نسيتكم نسيان إجلال لا نسيان إهمال إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا أجللت مثلكم يخطر على بالي الذكر لذة قلوب العارفين . قال الله عز وجل : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد : 28 ] . قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل . وفي بعض الكتب السالفة : يقول الله عز وجل : معشر الصديقين بي فافرحوا ، وبذكري فتنعموا . وفي أثر آخر سبق ذكره : وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها . وعن ابن عمر قال : أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها ، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها . قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره ، وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته ، [ ص: 521 ] قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره ، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه ، ولا طابت الجنة إلا برؤيته . أبدا نفوس الطالبيـ ــن إلى طلولكم تحن وكذا القلوب بذكركم بعد المخافة تطمئن جنت بحبكم ومن يهوى الحبيب ولا يجن بحياتكم يا سادتي جودوا بوصلكم ومنوا قد سبق حديث : اذكروا الله حتى يقولوا : مجنون ولبعضهم : لقد أكثرت من ذكرا ك حتى قيل وسواس كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر ، فرآه بعض الناس فأنكر حاله ، فقال لأصحابه : أمجنون صاحبكم ؟ فسمعه أبو مسلم ، فقال لا يا أخي ، ولكن هذا دواء الجنون . وحرمة الود ما لي عنكم عوض وليس لي في سواكم سادتي غرض وقد شرطت على قوم صحبتهم بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا ومن حديثي بكم قالوا : به مرض فقلت : لا زال عني ذلك المرض المحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر ، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم . قال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين كلموا الله كثيرا ، وكلموا الناس قليلا ، قالوا : كيف نكلم الله كثيرا ؟ قال : اخلوا بمناجاته ، اخلوا بدعائه . وكان بعض السلف يصلي كل يوم ألف ركعة حتى أقعد من رجليه ، فكان [ ص: 522 ] يصلي جالسا ألف ركعة ، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ، ويقول : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وكان بعضهم يصوم الدهر ، فإذا كان وقت الفطور ، قال : أحس نفسي تخرج لاشتغالي عن الذكر بالأكل . قيل لمحمد بن النضر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني . كتمت اسم الحبيب من العباد ورددت الصبابة في فؤادي فواشوقا إلى بلد خلي لعلي باسم من أهوى أنادي فإذا قوي حال المحب ومعرفته ، لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل ، فهو بين الخلق بجسمه ، وقلبه معلق بالمحل الأعلى ، كما قال علي رضي الله عنه في وصفهم : صحبوا الدنيا بأجساد أوراحها معلقة بالمحل الأعلى ، وفي هذا المعنى قيل : جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ . الحاشية رقم: 1 وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . وخرجه الترمذي ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفردون ؟ قال : المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا . وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه ، فقال : يا معاذ أين السابقون ؟ فقلت : قد مضوا وتخلف أناس . فقال : يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله عز وجل خرجه جعفر الفريابي . [ ص: 512 ] ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث ، فإنه لما سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ، ويولعون به ، فإن الاستهتار بالشيء : هو الولوع به والشغف ، حتى لا يكاد يفارق ذكره ، وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم ، فقال فيه : الذين أهتروا في ذكر الله وفسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام ، كما في الحديث : المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران . قال : والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي ، إما عن القرن أو عن المخالطة ، والله أعلم . ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة : ليس السابق اليوم من سبق بعيره ، وإنما السابق من غفر له . وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أحب أن يرتع في رياض الجنة ، فليكثر ذكر الله عز وجل . [ ص: 513 ] وخرج الإمام أحمد والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات الصاحات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون . وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عباس مرفوعا : اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون : إنكم تراءون . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، وقيل : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . [ ص: 514 ] وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ ، [ عن أبيه ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله فقال : أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، قال : فأي الصائمين أعظم ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أكثرهم لله ذكرا : ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل . وقد خرجه ابن المبارك ، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه . وقال أبو الدرداء : الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله ، يدخل أحدهما الجنة وهو يضحك ، وقيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وقال معاذ : لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل . [ ص: 515 ] وقال ابن مسعود في قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وخرجه الحاكم مرفوعا وصححه ، والمشهور وقفه . وقال زيد بن أسلم : قال موسى عليه السلام : يا رب ، قد أنعمت علي كثيرا ، فدلني على أن أشكرك كثيرا ، قال : اذكرني كثيرا ، فإن ذكرتني كثيرا ، فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني . وقال الحسن : أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا . وقال أحمد بن أبي الحواري : حدثني أبو المخارق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش ، فقلت : من هذا ؟ ملك ؟ قيل : لا ، قلت : نبي ؟ قيل : لا ، قلت : من هو ؟ قال : هذا رجل كان لسانه رطبا من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم يستسب والديه قط . وقال ابن مسعود : قال موسى عليه السلام : رب أي الأعمال أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني فلا تنساني . وقال أبو إسحاق بن ميثم : بلغني أن موسى عليه السلام ، قال : رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : أكثرهم لي ذكرا . وقال كعب : من أكثر ذكر الله ، برئ من النفاق ، ورواه مؤمل ، عن حماد بن سلمة ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا [ ص: 516 ] وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعا : من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان . ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ، فمن أكثر ذكر الله ، فقد باينهم في أوصافهم ، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله ، وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد ، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله ، فهو من الخاسرين . قال الربيع بن أنس ، عن بعض أصحابه : علامة حب الله كثرة ذكره ، فإنك لن تحب شيئا إلا أكثرت ذكره . وقال فتح الموصلي : المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين ، قال ذو النون : من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر ، قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه . قال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان ، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله . وكان بعض السلف يقول في مناجاته : إذا سئم البطالون من بطالتهم ، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك . قال أبو جعفر المحولي : ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته . وقد ذكرنا قول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه ، والمعنى : في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه ، وسواء كان على [ ص: 517 ] طهارة أو على حدث . وقال مسعر : كانت دواب البحر في البحر تسكن ، ويوسف عليه السلام في السجن لا يسكن عن ذكر الله عز وجل . وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به . وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن ، فلما مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح . وقيل لعمير بن هانئ : ما نرى لسانك يفتر ، فكم تسبح كل يوم ؟ قال مائة ألف تسبيحة ، إلا أن تخطئ الأصابع ، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت فلما بلغت القبر ، اختلست من أيدي الرجال . وكان الحسن البصري كثيرا ما يقول إذا لم يحدث ، ولم يكن له شغل : سبحان الله العظيم ، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال : إن صاحبكم لفقيه ، ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيت في الجنة . وكان عامة كلام ابن سيرين : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده . كان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون ، نزل إلى البحر ، وقام [ ص: 518 ] في الماء يذكر الله مع دواب البحر . نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال : فكنت كلما استيقظت من الليل ، وجدته يذكر الله ، فأغتم ، ثم أعزي نفسي بهذه الآية : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه ، فلو كلف أن ينسى تذكره لما قدر ، ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر . كيف ينسى المحب ذكر حبيب اسمه في فؤاده مكتوب كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول : أحد أحد ، فإذا قالوا له : قل : واللات والعزى ، قال : لا أحسنه . يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل كلما قويت المعرفة ، صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة ، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه : الله الله ، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح ، كما يلهمون النفس ، وتصير " لا إله إلا الله " لهم ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، كان الثوري ينشد : لا لأني أنساك أكثر ذكرا ك ولكن بذاك يجري لساني إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه ، وتضاعف قلقه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود : اقرأ علي القرآن ، قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ عليه ، ففاضت عيناه . [ ص: 519 ] سمع الشبلي قائلا يقول : يا ألله يا جواد ، فاضطرب : وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري النبض ينزعج عند ذكر المحبوب : إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ترنح نشوان وحن طروب ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الأنفال : 2 ] . وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه . قال أبو الجلد : أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتني ، فاذكرني ، وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا ، وإذا ذكرتني ، فاجعل لسانك من وراء قلبك . وصف علي يوما الصحابة ، فقال : كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في اليوم الشديد الريح ، وجرت دموعهم على ثيابهم . قال زهير البابي : إن لله عبادا ذكروه ، فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا ، وقوم ذكروه ، فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة ، فلو حرقوا بالنار ، لم يجدوا مس النار ، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقا من خوفه ، وقوم ذكروه ، فحالت ألوانهم غبرا ، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا . [ ص: 520 ] صلى أبو يزيد الظهر ، فلما أراد أن يكبر ، لم يقدر إجلالا لاسم الله ، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه . كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يرى جميع ذلك من عنده ، وكان يقول : ما أظن محقا يذكر الله عن غير غفلة ، ثم يبقى حيا إلا الأنبياء ، فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم . إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت مفاصلها من هول ما تتذكر وقف أبو زيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول : لا إله إلا الله ، فما قدر إجلالا وهيبة ، فلما كان عند الصباح نزل ، فبال الدم . وما ذكرتكم إلا نسيتكم نسيان إجلال لا نسيان إهمال إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا أجللت مثلكم يخطر على بالي الذكر لذة قلوب العارفين . قال الله عز وجل : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد : 28 ] . قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل . وفي بعض الكتب السالفة : يقول الله عز وجل : معشر الصديقين بي فافرحوا ، وبذكري فتنعموا . وفي أثر آخر سبق ذكره : وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها . وعن ابن عمر قال : أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها ، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها . قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره ، وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته ، [ ص: 521 ] قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره ، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه--Hussein2016 (نقاش) 05:51، 25 مايو 2016 (ت ع م)ردّ

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ . الحاشية رقم: 1 وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . وخرجه الترمذي ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفردون ؟ قال : المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا . وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه ، فقال : يا معاذ أين السابقون ؟ فقلت : قد مضوا وتخلف أناس . فقال : يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله عز وجل خرجه جعفر الفريابي . [ ص: 512 ] ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث ، فإنه لما سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ، ويولعون به ، فإن الاستهتار بالشيء : هو الولوع به والشغف ، حتى لا يكاد يفارق ذكره ، وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم ، فقال فيه : الذين أهتروا في ذكر الله وفسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام ، كما في الحديث : المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران . قال : والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي ، إما عن القرن أو عن المخالطة ، والله أعلم . ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة : ليس السابق اليوم من سبق بعيره ، وإنما السابق من غفر له . وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أحب أن يرتع في رياض الجنة ، فليكثر ذكر الله عز وجل . [ ص: 513 ] وخرج الإمام أحمد والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات الصاحات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون . وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عباس مرفوعا : اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون : إنكم تراءون . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، وقيل : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . [ ص: 514 ] وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ ، [ عن أبيه ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله فقال : أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، قال : فأي الصائمين أعظم ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أكثرهم لله ذكرا : ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل . --Hussein2016 (نقاش) 06:03، 25 مايو 2016 (ت ع م)ردّ

شرح خمسين حديث من 31 حتى 50

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ . الحاشية رقم: 1 وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله .

شرح خمسين حديث من 31 حتى 50

ص: 510 ] الحديث الخمسون .

عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ . الحاشية رقم: 1 وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . --Hussein2016 (نقاش) 06:10، 25 مايو 2016 (ت ع م)ردّ