نقاش المستخدم:Kareem.sa3d
أضف موضوعًا(?_?)
مرحبا بك في ويكيبيديا يا Kareem.sa3d
ويكيبيديا هي دائرة معارف يكتب فيها الجميع ليقرأها الجميع. وهي موسوعة كبيرة وقد تكون محيرة في البداية. لذا أوجدت جملة من الصفحات للإرشاد:
هناك صفحة خاصة بك حيث يمكنك التعريف بنفسك، أما هذه الصفحة فتصل إليها الرسائل التي أرسلها لك المستخدمون الآخرون.
تكون الخطوة الأولى للشروع في الكتابة عن موضوع ما، باختيار عنوان وكتابته في الخانة أدناه ثم النقر على زر ابدأ. إذا لم تكن الصفحة موجودة فبعد نقر زر البداية ستظهر بها بعضا من علامات التنسيق المعمول به في الموسوعة، وإن كانت موجودة فباستطاعتك تحسينها وتوسيعها بإضافة معلومات أخرى إليها
|
-- إلمورو (سل لا تتردد) 15:43، 11 يناير 2012 (ت ع م)
في رحاب الله منذ أن كنت جنينًا: كان ميلادي في الثاني من يناير من عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر في بورسعيد، لأسرة متوسطة، تمسكت بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وحبَّ العلم والعلماء، ومن المعروف أن محافظة بورسعيد لها طابع خاصٌّ يميزها عن غيرها، بالإضافة إلى لَكْنَتها الخاصة، وأسلوبها المميز، ولقد قضيتُ فيها المرحلة الأولى من عمري حتى بلغتُ سنَّ الحادية عشرة أو الثانية عشرة، وكما هو معروف أن بورسعيد مدينة ساحلية يحدها من ناحية الشمال البحر الأبيض المتوسط، ومن الشرق القناة، ومن ناحية الغرب البحيرة، لذا فهي تُعد بلدًا ذات موقع متميز، وجو لطيف، بعيدًا عن مصادر التلوث، ومن ثم فهي تتمتع بكل مظاهر الطبيعة التي تُسعد الإنسان، ولقد تعرَّضت في نشأتي لمزيج رائع من الثقافة الدينية المطعَّمة بالمعارف الأساسية العامة، وكل ذلك في مناخ أسري أصيل، وهذا المناخ الأصيل جعلني أخرج إلى الحياة والمجتمع في النهاية شخصية ناضجة وواعية، وذلك في سن مبكرة، وتكونت لديَّ مواهب فكرية وتطبيقية خلال تلك الفترة، كان سببها الأساسي هو انتمائي لأسرة امتازت بالتدين والتزمت به، بالإضافة إلى طيب أصلها وذلك لانتسابها إلى الأشراف من ناحية أمي، إذ كان الجد الأول هو الشيخ عبد الفتاح أبو العزم، الذي كان يمتلك مزارًا في الصعيد، وله شارع وحيٌّ في بورسعيد باسمه أيضًا، أما الجد الثاني؛ فهو الشيخ الصياد، من أهل دمياط، ولقد ورثت أمي- بجانب الإرث الديني والأخلاقي- أرضًا في دمياط أيضًا. ومن فضل الله تعالى عليَّ أن اختار لي أمي، لأنشأ في رحاب الله، وأنا لا أزال جنينًا في بطنها، فتغذيني بغذاء الصالحين، وأسمع تسبيح المسبحين وأنا في ظلمات الرحم، التي تشبه الليل البهيم، فهذه السيدة الورعة التقية، ورثت تقواها خلال تاريخ طويل، من أجدادها المتقين، بدءًا بجدها الأعظم الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وانتهاءً بجدها لأمها "الشيخ الصياد" الذي كان وليًّا يُزار في دمياط، ثم والدها الشيخ أبو الحسن الذي كان وليًّا يُزار في بورسعيد. ولا شك أن تلك الأم كانت المدرسة الكبرى التي تلقيت فيها العلم والفضل منذ نعومة أظفاري، وتلقيت فيها أيضًا نوى الحقائق، التي أثمرت أشجارًا طيبة على مدى الأعوام، جذورها ثابتة، وفروعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين؛ مزيدًا من المعرفة برب العالمين، وقربًا من الرسول الأمين- صلى الله عليه وسلم- وسطوع أنوار اليقين، ساعدني في ذلك أيضًا أن خالي هو الشيخ الصياد- شيخ الصوفية في القناة ونقيب الأشراف- والذي كان يمتلك توكيلاً بحريًّا كان يقوم عليه أولاده، فكانوا من أهل الموانئ، وتحركاتهم ديناميكية فيزيائية؛ حيث كانوا يخرجون بمراكب ويسافرون لبيع الأغذية، في ذلك الوقت سألني خالي هل تصلي؟ وكيف؟ قلت له: نعم أتجه إلى القبلة وأصلي، وأتصوَّر ربنا شيخًا بعمامة في السماء، فقال: لا يا بني هذا حرام، إذ قال الله أنه ليس كمثله شيء، فكيف تصلي لشيخ بعمامة في السماء؟! لا تفكر في ذات الله، ولكن تصوَّر الجنة عن يمينك، والنار عن شمالك، وأمامك الحق جلَّ شأنه، وتنسى كل شيء في الدنيا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أعرف هذا، فشدَّني ذلك الأمر، وبالفعل بدأت أقرأ بداية في مبادئ الدين، وعندما نكون في صيف بورسعيد ونحن في المصيف، كنت أذهب إلى كبينة على البحر، أجلس فيها وأقرأ، ولكن لا أفوت على نفسي أيضًا فرصة الاستمتاع بعدها بالاستحمام ولعب الكرة.
الأخــوة كان ميلادي وسط أسرة متوسطة يبلغ عدد أفرادها تسعة أفراد: أبي وأمي وسبعة من الأخوة، وكان ترتيبي بينهم الثاني. فالأخ الأكبر هو الأستاذ المرحوم محمد عباس زكي، وكان يعمل بالجمارك ثم مديرًا عامًّا، ثم عمل بوزارة الاقتصاد، إذ كان وكيل وزارة، ثم عمل في البنك العقاري، ثم عاد وكيل وزارة لشئون النقل، ثم أحيل إلى المعاش، ثم ختم الله له بعمرة توفاه الله بعدها وله ابن مهندس صاحب شركة شيبسي. والأخ الثاني والثالث في الترتيب فهو الأستاذ الدكتور عبد الفتاح عباس زكي الذي عمل بالقطن، والذي أصبح فيما بعد رئيس مجلس إدارة شركة مصر لتصدير الأقطان، وكان أفضل من يقوم بتصدير القطن؛ حتى إن الأستاذ الدكتور عاطف عبيد- رئيس مجلس الوزراء الأسبق- قد استعان به بعد أن أحيل على المعاش، وعيَّنه رئيسًا لمجلس إدارة الشركة القابضة المشرفة على القطن، ثم عمل في بنك الاستثمار العربي بين الدول العربية، وفي نفس الوقت عمل مستشارًا في الغرف التجارية، ويمتاز بعلاقاته الدولية المتعددة. ولي أختان إحداهما متزوجة من الأخ حسين حجازي الرياضي المشهور، والثانية تزوجت من محمد جاد مدير عام وأستاذ في الجامعة. أما الأخ الخامس فهو الأستاذ الدكتور حسين عباس زكي وهو طبيب أسنان، سافر إلى أمريكا ليعمل بالجامعة لمدة خمسة عشر عامًا، ثم سافر إلى الإمارات والسعودية، ويتملك عيادة كبيرة. والأخ السادس هو مصطفي زكي، وقد عمل في القطن ثم في الشيراتون، وأصبح مدير شيراتون، واشترك مع شخص كويتي لعمل شركة "الاستثماريون العرب"، ثم عمل بعد ذلك في الإمارات.
الأبنـاء: لقد رزقني الله تعالي بأربعة من الأبناء ولد وثلاث بنات، الكبرى سوسن التي تخرجت في الجامعة الأمريكية، وقد طلبها رئيس تحرير الأهرام للعمل آنذاك لكنني رفضت، فعملت في القسم الخارجي للترجمة، وقد تزوجت المهندس حسن في شركة النحاس ثم عمل بالكمبيوتر، بعدها التحق بالعمل في شركة تأمين. وكان أسامة هو الابن الثاني الذي جاء بعد سوسن، وكان متفوقًا في الدراسة، لكنه توفي في الإمارات في سن صغير بعد صراع طويل مع المرض. أما الابنة الوسطى فهي منى والتي تخرجت في كلية التجارة، وعملت لفترة في مكتب محاسب قانوني، وتزوجت وأنجبت، بعدها تفرغت لتربية أولادها، والتي اتجهت فيما بعد إلى العمل الخيري التطوعي، وكانت متزوجة من المهندس هشام حسبو. أما الابنة الصغري فهي نادية، والتي تعمل مهندسة معمارية، وقد عملت في دار الهندسة واشتركت في تعمير المسجد النبوي ونظام التكييف هناك، وتزوجت من مهندس، وأسسا سويًّا شركة، ثم سافرا إلى شيكاغو لمدة سنتين أو أربع سنوات، ثم إلى موسكو، وقد حصل زوجها على "MIT" وهي أقوى شهادة هناك، وعمل في المعمار ويمتلك مكتبًا تشاركه فيه العمل أيضًا. وعلى الرغم من تعاملي بود وحنان مع الجميع، حيث حرصت على ألاَّ أغمط أحدًا حقه، واهتمامي بكل صغيرة وكبيرة تخص أفراد أسرتي، وبذل الجهد في غرس كل معاني الحب والألفة بينهم، إلاَّ أن هذا لا يعني انفلات ضوابط الرعاية والمسئولية التي أمَّنني الله عليها. دستوري في نطاق الأسرة: حزم في غير شدة، ولين في غير ضعف، ورغم اتساع نطاق أسرتي، واستقلال كل فرد فيها بأسرة جديدة، إلاَّ أن هذا لا يلغي دوري في القيادة، والاطمئنان على شئونهم، وتسديد خطاهم؛ لأني أومن أن كل منَّا راعٍ، وكل راعٍ مسئول عن رعيته، حيث سيسألني الله عما استرعاني، حفظته أم ضيعته.
الابتـلاء: لا يظن ظانٌّ أن حياتي الأسرية كانت كلها رغدًا واستقرارًا، فهذا يتنافى مع سنة الله في الكون، حيث الدنيا دار ابتلاء، والآخرة هي دار الجزاء، لقد ابتلاني الله تعالى بكثير من الشدائد في حياتي الأسرية، كان أشدها وقعًا على قلبي فَقْد فلذة كبدي، وهو في السادسة والعشرين من عمره، بعد معاناة شديدة مع المرض، لكني لم أهن ولم أحزن ذلك الحزن الذي يفقدني أروع لحظات اتصالي بالله؛ لأن ما يحكمني ليس دستور الشريعة من قرآن وسنة فقط، ولكن يحكمني قانون مدارج الروح، الذي يُغير الموازين كلية في شخصية الإنسان، فأرى أحداث الآخرة قريبة كأنها وقع العين، وأرى أحداث الدنيا- رغم مصاعبها- بموازينها الحقيقية، من ضآلة وزوال، وأشعر بحكمة الأقدار التي تسيرها، من تكفير سيئات أو رفع درجات، أو تمحيص مشاعر الإيمان، من صدق وإخلاص لدى الإنسان، ولذلك فأنا أسلم الأمر لله في كل شدة وابتلاء؛ لأني أعلم علم اليقين: أن المرء يبتلى على قدر دينه، وأن أشد الناس ابتلاءً هم الأنبياء، ثم من يلونهم تدريجيًّا، حسب نصيب كل منهم من أنوار الحق. وانطلاقًا من تلك القاعدة الإيمانية، فأنا أردد دائمًا بلسان الحال والمقال: "لله ما أخذ ولله ما أعطى، ولله ما أبقى"، وأظل هكذا مع كل حدث من أحداث الدهر، مسلِّمًا الأمر كله لله، لا تزعزعني تيارات الحياة العاتية، عن إخلاصي ويقيني برب العالمين، فتلك معانٍ ومشارب لا تعاد لها كنوز الدنيا بأسرها، ولكن لا يتذوقها إلا من ذاق لذة معرفة الله ومحبته، حبًّا يليق بجلال قدره وعظيم سلطانه.
رحلة التعليم: كان لمدينة بورسعيد، تلك المدينة الهادئة الجميلة، أثر واضح على شخصيتي فقد أصبحت أكثر هدوءًا وأكثر سماحة، وحرصت على العلم، وازددت مرونة في التعامل مع الآخرين، فقد قضيت فيها نحو أحد عشر عامًا من عمري، وهي الفترة التي تتكون فيها معالم الشخصية الإنسانية، وملامحها الأساسية. في خلال تلك الفترة التحقت بالكتَّاب وأنا في الرابعة من عمري، وحفظت بعض الأجزاء من القرآن الكريم. تلقيت تعليمي الابتدائي في مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية ببورسعيد، ثم انتقلت لأكمل تعليمي التوجيهي الثانوي في مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية، ثم مدرسة التوفيقية بالقاهرة، وقد تعلمت الصبر من خلال الرسم على يد ناظرها، وبعد انتهاء دراسة البكالوريا التحقت بكلية التجارة بجامعة القاهرة "جامعة فؤاد الأول" عام ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين، وتخرجت في هذه الكلية عام ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثين لأبدأ حياتي العملية؛ حيث عملت في بعض البنوك والشركات في تخصيص "تسويق القطن".
خطة القدر: كنت محبًّا للثقافة والاطلاع؛ حيث كنت أقرأ في المجال الديني، وفي اتجاهات تنمية المجتمع، وفي التوعية، لكن جذور موهبة الاقتصاد لم تكن في ذهني إطلاقًا، حتى التحقت بكلية التجارة، ولم يكن في ذهني في ذلك الوقت أن أكون رجل اقتصاد، فقد كنت أرى أن الإنسان عليه أن يفكر ويكون له هدف ورسالة، إلاَّ أن أشياءً كامنة داخلي دفعتني لمجال أو هدف آخر، فالإنسان يجيد الرسم مثلاً بكفاءة، ولا يكتشف ذلك إلاَّ صدفة في وقت من الأوقات، وعلى الرغم من تفوُّقي في مادة الرياضيات وكون مجموعي يؤهِّلني لكلية الهندسة، ورغم ميولي للهندسة، إلاَّ أن والدي - رحمه الله - أصرَّ على دخولي كلية التجارة، وأمام إصراره غضبت بل وامتنعت عن دخول الامتحان في السنة الأولى، فكان تصميمه على دخول كلية التجارة بسبب أن مجالها أوسع في العمل، ولما قلت له إني أحب الهندسة، قال: هل تُسمِّي الرياضة والجبر وحساب المثلثات هندسة؟ لا صلة بينهما. فسَكَتُّ، إلا أن الصحبة كان السبب الرئيس الذي دفعني لاستكمال الدراسة، حيث تعرفت إلى زميلي وصديقي الدكتور القيسوني في السنة الدراسية الأولى، ولكن بعد ذلك شعرت بميل كبير إلى الاقتصاد والشعبة الاقتصادية، وبالتالي كانت الصحبة دافعًا قويًّا لحب كلية التجارة ومن ثم نشأ بعدها حب الاقتصاد.
تغيرات مرحلة الجامعة: أما بخصوص التغيرات التي حدثت لي أثناء مرحلة الجامعة فكانت بعد أن أنهيت دراسة البكالوريا دخلت كلية التجارة - كانت تسمي مدرسة التجارة العليا بالمنيرة - وكان أستاذي وقتها الأديب الكبير الدكتور محمد عوض محمد أستاذ الجغرافيا، وكان رجلاً وطنيًّا كبيرًا، وصديقًا حميمًا لطه حسين، وكان عضوًا في لجنة الترجمة والنقد، ويشاركه أحمد أمين وآخرون، ولما جلست معه عرف أني أريد الهجرة إلى السودان؛ لعدم شعوري بالراحة في مصر، ولكنه عمد إلى فكرة لطيفة وهي أن كل أسبوعين أو ثلاثة أذهب إلى مصانع حلوان حيث نركب القطار إلى حلوان، ثم نسير على الأقدام إلى وادي حوف في الصحراء والمناطق العالية، وبث فيَّ روح البحث والمغامرة، وكان يربي فيَّ بعض القيم والمعاني الوطنية، ويقول اقرأ الكتاب الفلاني، اقرأ كذا، انظر في حكاية معينة، وهو نوع من التأمل والبحث، وله كتب كثيرة مشهورة، منها كتب في الأدب، وله كتاب عن الكوكب الذي نعيش فيه، وعلمني أيضًا كيف تكون لي علاقة كبيرة بدار الكتب، فبدلاً من استعارة كتاب أستعير أربعة أو خمسة كتب، وكذا علمني كيف يكون لي رأي في الحياة، ثم أخذ يُمدُّني بالكتب، ويُعرِّفني على أصحاب مكتبات بيع الكتب وهم إلى الآن يعرفونني وكلما استعصى عليهم أن يجدوا كتاب تراث يسألونني، فأعطي لهم صورة منه، وبدأ تأثير هذا الرجل يظهر عليَّ، وتأثرت به كثيرًا، فكنت أدرس بعض الأشياء مثل الجيولوجيا؛ لأني عندما أقرأ في الكتب قراءات واسعة وأفقية أجد من يتكلم ويقول إن طبيعة التربة في أي بلد تؤثر في تكوين الإنسان إذا كانت تربة كلسية فيها كالسيوم، أو تربة صخرية أو ماء، والذي عاش في أرض تطل على البحر غير الذي عاش في الصحراء، فقلت نحن لدينا صحراء ولدينا موارد فما هي المشكلة؟ ففكرت وتأثرت بأفكار كثيرة، فكنت أقرأ مثلاً لنيتشة وهيجل وهيردوت، ونيتشه كان عميقًا ولدية عنصرية شديدة جدًّا ومن النوع القاسي في الحكم على الطبيعة، وعلى الإنسان وتكوينه وتربيته، فوجدت أن لكل إنسان مدخلاً يعتمد على شخصيته.
مظاهر التفاعل المبكر مع أحداث الحياة: بدأت الجذور الحقيقية لشخصيتي تتشكل في مراحل مبكرة من حياتي، وأصبحت مؤهلاً للتفاعل الإيجابي مع المبادئ النبيلة التي تتلاءم مع الرسالة السامية التي خلق الإنسان من أجلها. لقد تعلمت هذا المبدأ في المراحل الأولى من حياتي، فلقد دخلت الكُتَّاب، ثم دخلت مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، وقضيت فيها حوالي أربع سنوات، وهناك تعلمت أن "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط"، وهذه الحكمة لا أنساها أبدًا، وكانت هي أساسًا لهذه الجمعية الخيرية الإسلامية التي كنت طالبًا فيها، وكانوا يعلموننا هذا الكلام: أن الإنسان خُلِق ليساعد الناس، فبدأت أفكر في عمل جمعيات خيرية تعمل على جمع أموال الزكاة وتوزيعها، وجمع أشياء في رمضان وتوزيعها على الناس، وبدأت في وقت من الأوقات تربية الناس من الناحية الرياضية على أساس تكوين شباب رياضي، فكنا نذهب إلى حلوان نتعلم هناك ضرب الرصاص أو السهام أو ركوب الخيل وأشياء من هذا القبيل، وكلها أشياء يمر بها الإنسان لفترة وتنتهي، فكان كل عشرة أشخاص يفكرون في فكرة ينفذونها، ولأن مستوى الفقر كان شنيعًا في ذلك الوقت؛ فقد كان كل واحد مشغولاً برزقه الذي سيُرزق به. وفي الوقت نفسه نحن محكومين ومتأثرين بالاستعمار، فكنت أتصل مع إخواننا الشباب، ونشترك مثل كل الناس في الإضراب أو السخط على بعض القوانين غير السليمة، والمطالبة بالدستور، والوقوف ضد الإنجليز، وعندما قامت الحرب كانت هناك اتجاهات كثيرة في الحكومة، وكان هناك أناس يقولون لا للألمان، ولا للإنجليز، نريد أن يخرج الإنجليز من بلدنا، وهذه العوامل كلها تفاعلت فيَّ كثيرًا، وكوَّنت لدي شخصية متمردة، لكنها شخصية تحب أن تدعو إلى إصلاح المجتمع، ومن هنا بدأت أقرأ في الجيولوجيا وعلم النفس والتاريخ.
السياسة والدين: ومنذ ذلك الوقت تنبَّهت للسياسة، وقمت بزيارة أناس عديدين منهم الشيخ محمد القدر حسين، وهو تونسي، وكان شيخ الأزهر آنذاك، ولدي عدد كبير من مؤلفاته، في نفس الوقت أيضًا بدأت أهتم بالدين، فقابلت "شباب محمد" أو ما يسمى "جمعية المحمدون"، جمعية النشاط الثقافي، وجمعية حسن البنا "الإخوان المسلمين" في الحلمية، فتعرَّفت إليه، وفي نفس الوقت كانوا يعملون بالتجارة أيضًا، بعدها اتجهت إلى الطريق الصوفي، وكان للشيخ القاضي في ذلك الوقت أربعة كتب حول طبيعة الزمان والمكان إلى أن مات، استوقفني في ذلك الوقت أو استرعى انتباهي أننا حكمنا العالم في مائة سنة في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، يحارب ويجاهد ولم يكن لديه صلى الله عليه وسلم طائرات، فشدَّتني هذه القصة؛ فكتبت متأثرًا بالثورة في بدايتها، وكان عنوان الكتاب (طريق الغد) عام 1957م، وقد طلبه مني ثروت عكاشة لينشره، في ذلك الوقت درست الكثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكنت أود قراءة الرسائل التي أرسلها للناس يدعوهم فيها للإسلام، فكانت نظريته لا تدعو للحرب أبدًا، وإنما كان لديه رسالة يود أن يبلَّغها للناس؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فلا، وكان من بين تلك الرسائل التي قرأتها وشدَّتني كثيرًا تلك التي فيها تساءل هرقل، ملك الروم، عندما قابل سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم، مَن الذي أرسلكم؟ فقالوا له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا في كل أمور حياته، ولكنه أمين، والناس كلها تثق فيه حتى من لم يؤمنوا به، فتساءل ما أثره فيكم؟ فقالوا: أخرجنا من ظلمات الكفر وعبادة الأوثان وضيق الدنيا إلى نور الإيمان، وعبادة الله الواحد القهار وسعة الآخرة، فالدنيا مهما طالت فهي فانيةً لا مكان لها في قلب المؤمن، وإنما هو خليفة الله فيها، أما الآخرة فباقيةٌ أبدًا، فاتقوا الله ولا تخشوا أحدًا إلاَّ إياه، وفي الحرب لا نعرف الهزيمة فإما النصر وإما الشهادة، فقال هرقل للناس: هذه الجماعة إذا صدقت فيما قالته ستحكم العالم، إلا أننا في وقتنا هذا تركنا الدين ولجأنا لعبادة الأصنام الجديدة- أقصد المال - فالأغنياء كثير منهم من يملك ليس أقل من مليارات، ولو أننا أعدنا توزيع الثروة على البشر أجمعين لم تجد بينهم سارقًا أبدًا، وكان كلُّ في عمله ينتج الأفضل.
مشروع "قانون الحركة": أما بالنسبة لمشروع قانون الحركة فكان ذلك فكرًا صبيانيًّا أكثر من أي شيء آخر؛ لأنه عندما كنت في المرحلة الثانوية استهواني فكرة كيف حكم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون العالم؟ وقراءة التاريخ الإسلامي، واليوم نرى انحدار المسلمين وأحوالهم المتردية، فهل كان في الإسلام عيب أم ماذا؟! وكنت لذلك أهتم وأنا في مرحلة الشباب بدراسة المجتمع حولي وطبيعة البشر، فكنت في جهات مختلفة، في بنك التسليف، ثم بنك مصر، وذهبت إلى الإسكندرية، ومررت على الجمعيات الإسلامية مثل جمعية شباب محمد، وجمعية أنصار الإسلام، والجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية الرواد، التي كان فيها الدكتور محمد عوض، وكان لكل جمعية مشرِّع معين، فكنت أتخذ لنفسي أسلوبًا معينًا؛ حيث أحلل الشعب على الطبيعة، وكنت أمشي في الشارع وأذهب من شبرا إلى بنك التسليف سيرًا على الأقدام - وهذا البنك أصبح بنك قناة السويس حاليًا - في شارع صبري أبو علم، وكنت في طريقي أنظر إلى الناس، ألاحظ كل شيء، ومن ضمن ما كان يضايقني تلك السلوكيات الخاطئة التي كان يقوم بها الناس في الشارع وعدم الالتزام بالآداب العامة التي أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وتطبيق حق الطريق من نظافة وكف الأذى عن الناس وغيرها، وكنت في طريقي للعودة أركب الترام في الدرجة الثانية، والتي كان بها اثنين وعشرين شخصًا، وأحمل معي ورقة وقلم، فأنظر فإذا بي أجد أمامي خمسة عشر شخصًا نائمًا، وكنت أتساءل كيف ينام الشخص هكذا وهو لا يزال مستيقظًا منذ وقت قصير؟! بعدها أنظر إلى الشارع فأجده قد امتلأ بالبشر، أسير بعدها في شارع فؤاد مثلاً لأجد القهاوي ممتلئة عن آخرها في الصباح - والتي تعتبر بالخارج للترفيه؛ أي يأتي إليها الرجل ليتناول فنجانًا من القهوة ثم يرحل – أما عندنا في مصر فالوضع مختلف فهو يشرب القهوة، ويلعب النرد، ويجلس يحدق في المارَّة، وكنت دائمًا أتساءل هل هذا خليفة الله في أرضه؟! هل هذا مَن سيصلح حال المجتمع؟! أيًّا كانت الظروف هو خليفة الله في أرضه، وله دور ما دام يتصف بالإنسانية، ولكننا أصبحنا جنسًا تحرَّكه حاجته للمادة! يأكل ويشرب ويجلس على القهاوي فقط، عند ذلك جلست أفكر في حل لهذا، وبالفعل قمت بوضع "قانون الحركة" وهو قانون انفعالي، فلا قهاوي، ولكن نوادٍ، لا معاكسات في الشوارع، ومن يقوم بذلك يُحلَق رأسه ويوضع في السجن، فالناس لا بد أن يسيروا بسرعة، والحركة تدعو الإنسان أن يكون له كيان، ويظهر لديه الميل للفكر والإبداع لتحقيق ذاته، وتُشْعِره بالمسئولية، وبأن تكون له رسالة، فلا بد من حركة إيجابية، والحركة نوعان؛ مادية ومعنوية؛ فالمادية أن يسير بسرعة لقضاء حاجته فقط، والمعنوية أن أطلق الفكر (حرية الفكر) إطلاقًا مطلقًا، ولكن في ظل حماية الدين، فلا شيوعية ولا فوضوية ولا إلحاد، ولقد كتبت في هذه الفكرة (فكرة قانون الحركة) لوائح لكن لم يُعمل بها. وتفاصيله أن القلب يعلو على العقل، وأول آية في القرآن الكريم تقول: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}()، فالمتقين أعلى درجة من الإيمان، فمن هم؟! {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}()، فالإيمان بالغيب ليس عقلانيًّا أبدًا؛ لأن فيه جنة ونار، وقبر وحساب، ولم أرَ شيئًا ولكن هذا تصديق بالقلب، وتسليم بأمر إلهي من الله، يقول ادفع 2.5% زكاة، وصلِّ تجاه القبلة، ليس في ذلك عقل؟ وإنما التسليم والطاعة، وما يثبت علوَّ القلب على العقل أنه صلى الله عليه وسلم قال: "استفت قلبك"() رغم أن الفتوى من العقل، إذ تقتضي سؤالاً وجوابًا، واستنتاجات وتحاليل، ومع ذلك لا بد من موافقة القلب، وعندما أنظر للقرآن أتساءل مَن المخاطب؟ فالمخاطب هو الإنسان والجن، والدليل على وجود الجن أنه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى الطائف أرسل الله إليه جبريل - عليه السلام – قائلاً: إن شئت أطبق عليهم الأخْشَبَيْنِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا"(). ولكن الله عوَّضه عن ذلك بأن آمن به الجن، وكلما أقرأ أنظر مَن يخاطب اللهُ؟ هل يخاطب عقلي أم قلبي أم حواسي؟ من ذلك لمَّا خاطب الله أمَّ موسي وقال: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}()؛ فكيف إذا خافت على ابنها تلقيه في البحر ولا تعرف نهايته إلى أين؟! فكان الله يخاطب قلبها وليس عقلها، ولكنها آمنت، وقال الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}()، وكذلك حينما كلَّم سليمان الهدهدَ، فهذا كله إنما يكون تصديقًا بالقلب لا العقل، وكذلك عندما تنظر في القرآن لم يرد فيه أبدًا لفظ "عقل" بذاته، ولكن ورد فيه يعقلون، وكذلك "وقلب وقلوب" عشرات المرات، فهو لم يلغِ العقل ولكن العقل تفعيل القلب؛ فينفعل بالإيمان ليسير في طاعة الله، فلم يفصل الإيمان العقل، العقل - مثلاً - يقول اصنع سلاحًا واصنع رصاصًا، لكن القلب يقول لا تقتل به، ولكن استخدمه في العمليات الجراحية، فالعقل إذًا تفعيل القلب، ولذلك كل ما يفعله القلب يكون في طاعة الله، فلا يأتي شخص ما ليقول الرجل يتزوج الرجل، ما المانع من الجماع في القُبُل والدُّبر، ولكن القلب يقول: هناك أمر من الله إذن، فالقلب هو الذي يستعلي على العقل، وقد قلت هذا الكلام في محاضرة الجمعية الخيرية الإسلامية في باب الخلق، وقد حضرها الدكتور عمارة وكثير من الأساتذة وشيخ الأزهر، فطلبت من شيخ الأزهر آنذاك الدكتور محمد سيد طنطاوي تعليقه على ما قلت فقال: "إني أشهد أنك أعطيت القلب حقه والعقل حقه" موافقًا على ما قلت.
نقابة العاملين: بالنسبة لموضوع تكوين أول نقابة للعاملين، صدر قانون أيام الوفد، وكان عبد الحميد عبد الحق وزير الشئون الاجتماعية وقتها، وكان القانون يسمح بعمل نقابات للعمال والموظفين، وقتها كنت موظفًا في بنك التسليف الزراعي في سنة 1941، فعمدت إلى عمل مشروع داخل شقتي، وكان والدي ووالدتي وقتها في زيارة لشخص ما، فأحضرت صوانًا في الصالة، وجمعت مائتي موظف، وقمنا بعمل جمعية عمومية، وعمل نقابة ولائحة، وفي اليوم التالي سجلتها في وزارة الشئون الاجتماعية، في ذلك الوقت كان رئيس البنك حسن كامل الشيشيني باشا، فطلبني وقال: ماذا فعلت؟ قلت له: ماذا؟ قال: فعلت كذا، قلت له: القانون سمح بهذا، قال: لا بد أن تستأذن، قلت له: لماذا؟ هذا حق لنا، قال: أنت لا زلت صغيرًا فكيف تفعل ذلك، قلت له: ماذا تعني، لقد كنت موظفًا صغيرًا، وأول ما تعيَّنت كنت كاتب حسابات في بنك التسليف الزراعي، ثم مساعد مراجع، فثار حسن باشا، قلت له: هذا تم تسجيله، وفيه رئيس مجلس وسكرتير عام وهكذا، قال: أُفضِّل ألا تعمل نشاطًا الآن، قلت له: لا أستطيع، فالقانون صدر، وكان عندنا شخص اسمه بوتشوتُّو وهو مدير عام الحسابات، خواجة يتكلم العربية لكنه يهودي، وكانت له سلطة كبيرة، فطلبني ليكلِّمني بشأن النقابة، قلت له: أنا أنشأت النقابة والموضوع انتهى، فطلب مني أن أفكَّر مرة أخرى، قلت له- بكل حدَّة وقوة وإيمان- لا، هذا قانون وضعه الوفد وهو في الحكم الآن، فطلبني رئيس الوفد وأبدى تعاونه، فقلت له عندما يكون للناس مطالب فلا إضراب ولا شيء، وإنما يقولون للنقابة، وهي تقوم بدورها لتوصيل المطالب للحكم، وهذه نقابة عادلة ومحايدة.
العمل في الصحافة أما قصة العمل في الصحافة؛ في الحقيقة عندما كنت في بنك التسليف الزراعي في منتصف الأربعينيات كان هناك تاجر كبير أصله سوداني نشر كتابًا مع شخص اسمه متالون من أصل يهودي، وكان يعمل في البنك المصري، وقد أسس هذا الرجل جريدة اسمها (التاك)، فكنت أعمل بالبنك صباحًا، وأعمل في الجريدة بعد الظهر، وكنت أراجع بعض الأخبار، أو أضع بعض الأخبار المهمة بصفة يومية، وكنت أقوم أيضًا بعمل تحليل يومي عن البورصة، فنقول مثلاً السهم الفلاني كان يصل لـ 10% أصبح 21%، 51%؛ أي تتبُّع مركزه وننصح بأن هذا من الأسهم الواعدة فالناس تشتريه، ونقول ماذا أعطى سهم الشركة الفلانية أو لم يعطِ شيء، وعن إمكانية إعطائه، بمعنى وضع تحليل البورصة، وأثر الميزانية على البورصة في عمود كامل يوميًّا، ووصف حجم التعامل بالأسهم فنقول مثلاً هذه الأسهم جيدة وأنت تختار، وهذه كلها إحصاءات للرجل المتخصص لا العادي، فكنت لا أعمل في الصحافة إلا من الناحية الاقتصادية فقط، أما عن مقالات جريدة الأخبار فكان هناك مقالة عن إصلاح المجتمع من الناحية العامة، وأثر الثورة ومشاكلها في الخمسينيات وأوائل الستينيات، فردَّ عليَّ مرة شخص، فآثر أحمد بهاء الدين أن يرد ويعلِّق عليه ونشر الرد، فقال أحمد هل تريد أن تبني الناس على ما في ذهنك، فقلت له: نعم توجد حرية، لكن لا بد ألا تكون مطلقة إذ يحكمنا إطار، وهو نوع من الفكر والمُثُل والسلوك، فيجب ألا نأتي بكل ما في الخارج، فمن ضمن الذي أثَّر علينا أننا فتحنا الباب للترجمة دون حدود، نعم أفتح باب الترجمة في التاريخ والجغرافيا والفيزياء والجبر وهي علوم الدنيا، لكن الأخلاقيات أو الأفكار الدينية لا، في هذا الوقت طلبني وزير الثقافة ثروت عكاشة في التليفون، وطلب نشر هذه المقالات في كتاب بعد أن أكملتها، لا أذكر اسمه حاليًا، وكان يدور حول موضوع الفائدة في بنك التسليف والمجمع، ولكن للأسف ظل معمولاً به طول بقائي في الوزارة، وعندما تركتها بحوالي ستة أشهر تم إلغاؤه، وهذه الفكرة طُرِحَت في بنك التسليف فقط دون غيره، وذلك من أجل الفلاحين، نعم كانت تجربة لإلغاء الربا في أحد البنوك. البدايات المضيئة للاتجاه إلى التصوف: إذا قلنا إن هناك سببًا محددًا كان هو السبب في نشأتي الصوفية أكون قد جانبت الحقيقة إلى حد كبير؛ لأن نفسي في ذلك الوقت كانت مهيأة أصلاً لاستقبال موجات الأنوار الإلهية، من كل حدب وصوب، فاختار لي الله، وهو في عالم الغيب، الأسرة العريقة التي عندها مرآة القلوب مجلوة، لاستقبال الأنوار الإلهية، حتى إذا ما خرجت من رحم أمي إلى عالم الشهادة، استقبلتني تلك القلوب بالرعاية والحب، فتعكس علي من أنوارها، ما أهلني لأن أسلك طريق الصفاء الروحي ومعرفة الله، وأنا ما زلت في سن غضة، يكون أقراني فيها يرتعون في مدارج لهو الصبيان. كان أبي رجلاً صالحًا يعمل في مصلحة الجمارك، ثم انتُدِبَ للعريش لفترة قاربت الثلاثة أو الأربعة أشهر وكنت ابن الثامنة أو التاسعة من العمر، فأردت أن أكتب له رسالة، فذهبت إلى المكتبة، وطلبت كتاب في الرسائل- أقصد رسالة: والدي العزيز تحياتي وهكذا - فأرشدني لمكانها، فإذا ببضعة كتب ألوانها تشبه الرسائل، فأخذت منها، وكان اسم واحدة منها رسائل، ورسالة ابن سينا، ورسالة الفارابي، ورسائل روحانية من الفكر الروحاني للتصوف والأوراد وكرمات الأولياء، فجلست أقرأها، وبدأت تدور في خاطري أسئلة منها لماذا خُلِق الإنسان؟ وما فلسفته؟ وكيف ينجح في الحياة؟ وما الطبيعة؟ وما وراءها؟ وما الغيب؟ وكيف أؤمن به ولم أره؟ وبدأت أتصل بالرواد من المفكرين، ومن هنا بدأت أشتري الكتب في كل المجالات وأجمعها، وخاصة في الدين والفلسفة والتصوف، وكنت أريد أن أسمع من المشايخ أنفسهم كالشيخ القاضي وغيره، فالأمر أن هناك طرقًا مختلفة للتصوف، ولكنها مدرسة واحدة وفكر واحد، ولكلٍّ أسلوبه الخاص به في التعليم، فهناك مثلاً الطريقة الرفاعية والطريقة الأحمدية، والطريقة النقشبندية، والطريقة الشاذلية وغيرها الكثير، فكنت كل مرة آخذ طريقة، ولكن كان لا بد أن ألزم طريقة واحدة، فلزمت من عام 1958م الطريقة الشاذلية على يد الشيخ القاضي إلى الآن حيث أسلوبها السنِّي. (ورُبَّ صدفة خير من مائة ميعاد) فبحثي لكتابة رسالة لوالدي قادني لشراء الكتب، ومن ثم بدأت لدي مَلَكَة القراءة، وعندما انتقلت إلى الإسكندرية في محرم بك في الميناء الشرقية لم أجد مدرسة حكومية سوى مدرسة خاصة اسمها المدرسة الوهبية للكفاءة (تعادل الإعدادية) في زماننا، في ذلك الوقت ذهبت إلى مناطق كثيرة لا أنساها مثل الأوريان ورأس التين، وعندما كنت أسمع عن مكتبات أهبُّ لزيارتها والقراءة فيها، فسألني عدة أشخاص كيف تقرأ في هذه الكتب وأنت ما زلت صغيرًا في المرحلة الثانوية؟ وكان من بينهم شخص اسمه على ما أذكر سيد حرير وهو متخصص في هذه العلوم، فطلب مني أن أزوره في مكتبه، وكان يجلب لي مخطوطات تراثية في علوم مثل الفلك (النجوم والمجرات مسارها والتنبؤات والتنجيم والزراعة والشهور القبطية التي تعمل عليها الزراعة)، ثم شاهدت أناسًا كثيرين في علوم مختلفة في الفلك والأرواح والأسرار، والقرآن وأهميته في الشفاء والعلاج، والعلاقات بين الناس، وقد تأثرت بالعلماء القدامى من خلال كتبهم، فكان اتجاهي للقراءة بجانب العلم، ولأن مجموعي كان كبيرًا انتقلت لمدرسة في رأس التين لمدة ثلاث سنوات، وتعرَّفت على أناس كثيرين من بينهم شيخ كبير، فلما سمع بثقافتي وعلمي بأمور كثيرة طلب مني أن أُعلِّم الأطفال في مدرسته الحساب واللغة العربية. فالإنسان عليه أن يفكر، ويكون له هدف ودور معين في حياته، أما الحفظ وحشو المعلومات في الذهن فإنه لا يجدي، ولا يؤدي إلى ظهور الطاقات الكامنة في الإنسان، فتلك الطاقات لا تظهر إلا إذا تعلم الإنسان كيف يفكر، مع النضج والدراية بأمور الدين والحياة، وعندما انتقلت للقاهرة كان أول ما شغل فكري سؤالي عن مكان دار الكتب، وبدأت الاتصال بالهيئات التي تصدر الرسائل (مدارس المراسلة)، وخاصة في مصر، حيث أكبر مدرسة في ذلك الوقت في علم الفلك، وكان يتولى أمرها الشيخ موسى الزرقاوي الذي قام بعمل موسوعة فلكية لقرون عديدة، يقول: الشمس سوف تغرب بعد خمسمائة سنة وقت صلاة الظهر، وعلاقة الكواكب في أفلاكها بعضها البعض، فجلست أقرأ هذه الرسائل، علمًا بأن كل من يشارك في إخراج النتائج الفلكية هم من أولاده وأحفاده، وكان يتكلم عن العلوم الخفية (الروحانيات)؛ أي ما وراء الطبيعة مثل معاني الحروف، واللغة، وعلم الرمل وهو علم غريب وكبير مثل الهندسة، هذه الأشياء رغَّبتني في قراءة كل ما يخص طبيعة الكون والغيبيات وحقيقة الإيمان (نظرة كونية)، وما حقيقة الإنسان؟ وما الهدف من خلقه؟ من هنا أصبح لدي أسلوب معين في كيف أفكر حقيقةً لا كما اعتدنا في تربية أولادنا على حشو معلومات من الضروري أن نجبرهم على فهمها وهضمها، ولكن سلوك أو نوع من التربية الذهنية في تعلُّم كيف يفكر، ربنا كرَّم الإنسان، وأشرف شيء في الإنسان عقله وقلبه، فغذاؤهما ضروري، فنحن إذا أضعنا القديم فقد أضعنا نصف شخصيَّتنا، وإذا اقتصرنا على الجديد وحده فقد اقتصرنا على نصف شخصيَّتنا، إذن لن نكون ناسًا، وإنما أنصاف الناس، فلا تظن أن أحدًا منَّا يحب أن يكون نصف إنسان. ومن خلال تلك الحادثة التي مرت بحياتي ظهرت الملكات الروحية والعقلية، التي زودني الله بها لأشق طريقي في عالم المعرفة السرمدي، أي أن تلك الحادثة ليست السبب في نشأة التصوف، ولكنها السبب في تهيئة المناخ الملائم لظهور الطاقات الكامنة فيَّ، ونظرًا لما منَّ الله على من تلك الطاقات الكثيرة فقد سكلت طرقًا صوفية كثيرة من أجل أن أتعرَّف على الحقيقة في أجل صورها، وأسمى غاياتها.
الطرق الصوفية التي حصلت عليها: 1- الطريقة الرفاعية: حصلت عليها من خالي السيد محمود الصياد عن طريق جده الشيخ الصياد، الذي يعتبر من أولياء الله الصالحين في دمياط. ورغم أن عمري في ذلك الوقت كان حوالي أحد عشر عامًا، إلا أن المولى - عز وجل - مكنني أن أرى الشيخ الرفاعي نفسه، في رؤيا منامية لا أنساها رغم مرور سبعين عامًا عليها. 2- الطريقة الخلوتية: حصلت عليها من الشيخ محمد راغب السباعي، وهو مدفون مع الشيخ أحمد الدرديري. 3- الطريقة الوفائية: حصلت عليها في الأربعينيات ولكني لم أمارسها. 4- الطريقة النقشبندية: حصلت عليها من شيخ باكستاني يعيش في جدة، وهي خطوة على طريق ثرائي الروحي. 5- الطريقة الشاذلية: حصلت عليها من الشيخ عبد الفتاح القاضي في عام 1959 وما زالت عليها إلى الآن؛ لأني وجدتها أنسب الطرق إلى تطلعات روحي وأنوار قلبي. ويعتبر التصوف هو العالم الذي وجدت فيه نفسي؛ حيث أكون فيه مع الله بقلبي، وهو المفتاح الحقيقي لشخصيتي، وهو الدافع وراء كل تصرفاتي في الحياة، من أنشطة دينية واجتماعية، ومجاهدات نفسية وقلبية، وجولات في كل المكتبات المتاحة لي، بحثًا عن الحقيقة التي تزيدني معرفة وقربًا من ربي. ورغم كل الوظائف التي شغلتها، مهما كانت أعباؤها ومهامها ورفعتها، فلم أنشغل لحظة عن ذلك العالم، الذي يفيض بشرًا ونورًا، وطمأنينة وسرورًا، بل لا أكون مبالغًا إذا قلت إن التصوف بالنسبة لي هو الماضي والحاضر والمستقبل، وما أجد عليه بعد ذلك من كل الوظائف الهامة، وزخارف الدنيا وبهجتها وعظمتها، هو في نظري متاع الغرور، وبريق زائل زائف، ولكن هذا لا يمنع أن أقوم بكل مهمة توكل إليَّ بكل الإخلاص والجدية، لأن الوفاء بالعقود شيم الكرام، وهناك أوامر ربانية تحتم عليَّ إتقان العمل والاهتمام بأمور المسلمين، وتتعاظم الأماني مع تعاظم المسئولية في السلم الوظيفي الذي أشغله، ونظرًا لأني شغلت دائمًا مناصب رفيعة في الدولة، فقد بذلت عصارة جهدي ووقتي، بما يتناسب مع معرفتي لربي.
طلب العلم: ما زادني السعي في طلب العلم، إلا يقينًا بعظمة الله وقدرته، وتسليمًا بوحدانيته، فكل العلوم، وكل الحقائق، تنبع من الحقيقة الكبرى، وهي وجود الله جلَّت قدرته، تلك الترنيمة القدسية، والأنشودة العذبة "لا إله إلا الله"، وعلمت علم اليقين كيف أن كل من يردد تلك الكلمات الخالدة، بلسان الحال والمقال، يجد نفسه سابحًا في الوجود، يشعر بتجاوب الكائنات في الأرض والسماوات، ويتمتع بأعذب الأحاسيس وألطف المعاني والمشاعر؛ لأنه يحقق الانسجام التام مع جميع المخلوقات، فالكل عبارة عن ذرات، ينبعث منها موجات، تتجه جميعها في نقطة استنادها واستمدادها: إلى رب الأرضين والسماوات وما بينهما، في جميع الأوقات والحالات. ولذلك فمهما تكلمت عن مشاهداتي وتجاربي سواء في دنيانا هذه أو في عالم الروح، فإنني لن أكون إلا كمن اغترف غرفة بيده، يروي بها ظمأه وشوقه، من بحار المعرفة الواسعة، ثم يروي مَن بعده، كل مَن يتشوق إلى تلك المعرفة النورانية، فمعرفتنا مهما اتسعت وتعددت مصادرها، وتعمقت أبعادها، فهي تخضع لقول الحق جلَّ شأنه وتبارك اسمه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}() فعقولنا البشرية، لا تتحمل من العلوم إلا قطرة من بحار العلم الإلهي، وخزائه التي لا تنفد من الأسرار، حيث لا ينزل منها إلا بقدر، حسبما تتأهل العقول، وتنضج لاستيعاب المزيد من الحقائق، ولولا فضل الله علينا ورحمته، بأن جعل قلوبنا مرآة للتجليات الإلهية، لكنا ضعنا في خضم التيارات المادية، فلله الحمد أولاً وأخيرًا، فما نحن إلا عبيد إحسانه، ومظهر إعجاز صنعه وإتقانه. ولا أخفي عليكم القول: أن شغلي الشاغل كان دائمًا هو البحث عن أقصى ما وصل إليه العقل البشري، في محاولة اكتشاف أسرار الإنسان، وأسرار الكون، لأنني أوقن أن ألسنة الخلق أقلام الحق، وأن هؤلاء البشر ما هم إلا مرآة لتجليات الحق، يظهر عليهم بين الحين والآخر، بعض من أسرار الخلق، ولذلك فإن كل العلوم تعرفنا بخالقنا من وجهة معينة، يستوي في ذلك العلوم الشريعة أو الروحية أو الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، أو علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات. بشرط أن تكون تلك العلوم نابعة من الحق، وبعيدة عن الهوى والتعصب، وقائمة على أسس سوية، تهدف إلى إعلاء شأن الإنسان، وتحقق له الأمن والأمان، لينطلق بفاعلية هادفة ومثمرة في الحياة. لذلك فكلما استوعبنا من تلك العلوم، بقدر ما يسعنا جهدنا البشري الطموح، كلما اقتربنا من معرفة الله، أما حق المعرفة، أو يقين المعرفة، فهي خارج قدراتنا الإنسانية، في حياتنا الدنيوية؛ لأنها محدودة بقوانا المادية، فأنّى لنا أن نستوعب أنوار الحق كاملة، وهو نور السماوات والأرض؟! وهذا هو السر في أنني قمت بأكثر من عمل في وقت واحد، فمثلاً كرئيس مجلس إدارة شركة، وعضو في مجلس إدارة شركة أخرى وهكذا في أكثر من مكان، وقد استطعت التوفيق بين هذه المهام والوظائف في ذات الوقت؛ لأنني موقن بأهمية تفجير الطاقات الكامنة في الإنسان حيث هناك فكرة أن الإنسان لا بد ألا يعيش في الزمن، ولكن الزمن هو الذي يعيش فيه بحسب حالة الإنسان النفسية، فإذا كان الإنسان في حالة نفسية مريحة تجد الوقت يمر سريعًا، في حين أنه إذا كان في حالة نفسية سيئة تجد الوقت يمر ببطء شديد، وذلك إنما يرجع لترتيب الإنسان، بمعنى أنه إذا قصر تفكيره على شيء معين يعيش خاليًا في هذا الوجود إلا من هذا الشيء، من هنا تأتي عملية أني أقرأ وأفكر وأحل بسرعة دون أدنى شكٍ أو تردُّدٍ، ومن ثم أفرض زمانًا أستفيد بكل ثانية فيه، وبذلك تفوَّقت بفضل الله وحمده في جميع المهام التي أسندت إليّ.
البدء في نقاش مع Kareem.sa3d
يتمكّن المستخدمون، عبر صفحات النقاش، من إنشاء محتوى في ويكيبيديا على أحسن وجه. ابدأ في نقاش جديد للتواصل والتعاون مع Kareem.sa3d. ما تقوله هنا سيكون متاحًا بصورة علنيّة للآخرين.