انتقل إلى المحتوى

مستخدم:Aml A. Issa

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

محمد علي ثابت




كاتب ومترجم من مصر .. يؤمن بالديمقراطية والحرية والعدالة والقيم الأخلاقية والإنسانية.. مهتم بالأدب والتاريخ والسياسة والفلسفة والثقافات المتنوعة.

ومن أعماله المنشورة


- كتاب : قراءات سياسية – الناشر : دار ورد الأردنية. (تلخيص وقراءة لحوالي 34 كتاب ودراسة وتقرير بحثي غربي).

- كتاب: الوطنية المنحرفة - ترجمة وتوثيق ودراسة، الناشر: مركز التاريخ العربي للنشر.

- كتاب: الهيمنة العثمانية في أوروبا – ترجمة وتوثيق – (مركز نهر النيل للنشر).

- كتاب: البلياردو وحكايات أخرى، مجموعة قصصية قصيرة لألفونس دوديه – ترجمة – مركز نهر النيل للنشر.

- كتاب: ربع قرن في مصر: مذكرات البارون كوسيل – ترجمة – دار إشراقة.

- كتاب: رحلات جيمس برانت إلى المناطق الكردية والأرمنية - تحقيق وترجمة – الناشر: دار البشير - القاهرة.

- كتاب: رحلات مارك سايكس في العراق العثماني – ترجمة وتوثيق – الناشر دار البشير –

القاهرة.

- رواية "جابر: سلام من النيل إلى البوسفور" (Gaber: Salam from Nile to Bosporus) – ترجمة من العربية إلى الإنجليزية- مركز نهر النيل للنشر.

- مسرحية "سرقة" لجاك لندن- ترجمة- الناشر: مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة- تحت الطبع حالياً.

- كتاب مذكرات ورحلات الليدي هيستر ستانهوب - ستة مجلدات - المجلد الأول - الناشر: مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة - تحت الطبع.

الهيمنة العثمانية في أوروبا

[عدل]

بين التاريخ والسياسة

شاعت الصورة التقليدية للمؤرخين كبشر يدفنون رؤوسهم في الكتب، يجتنبون السياسة ودروبها ويفنون أعمارهم وأبصارهم تقليباً في أوراق بالية اصفرت بفعل الزمن، بحثاً عن أحداث الماضي ووقائعه وشخصياته. بينما على الجانب الآخر اعتاد الناس على صورة السياسي كشخص أنيق الملبس وحسن المظهر وحلو الكلام، أو بالمعنى الدارج رجل علاقات عامة ومناسبات لا يهتم كثيراً بدراسة الماضي.

لكن الواقع الفعلي هو ما يصفه أحد أكبر المؤرخين والسياسيين البريطانيين القدامى، إدوارد أوغسطس فريمان؛ في مقدمة كتابه الرائع "الهيمنة العثمانية في أوروبا"، أن السياسة والتاريخ لا يمكن التفريق بينهما. فالتاريخ هو سجل لسياسات الماضي، بينما السياسة هي أفعال التاريخ الحاضر. وقواعد الحكم على الأفعال والأحداث متماثلة في السياسة والتاريخ، فمعايير الحق والباطل التي نحكم بهما على شيء؛ سنجد أصولها عند الحكم على وقائع التاريخ أو أحداث السياسة.

هذه الحقيقة التي يذكرها فريمان تكشف تدني وجهة النظر التي يتبناها البعض للسياسة، فهم يظنون السياسة مجرد كفاح غايته دعم بعض المرشحين وإسقاط البعض الآخر. لكن السياسة كما يقررها مؤلف الكتاب هي علم سامي غايته الحكم والتحكم الصحيح في البشر والأمم. يقول فريمان: "السياسة تعلمنا كيفية الحكم على الأسباب وآثارها؛ إنها تعلمنا كيف نحكم على طبيعة الأفعال، سواء وقعت بالأمس أو منذ آلاف السنين. فدراسة الماضي تكون دون جدوى إن لم تمنحنا دروساً تفيدنا في الحاضر؛ والحاضر لن يصبح مفهوماً بشكل كامل أبداً ما لم ينيره ضوء الماضي. وبهذه الوجهة، فإن التاريخ والسياسة هي كلٌ واحد."  

كان الحكم العثماني في أوروبا والذي استمر لقرون طويلة قد آل إلى نهاية قاسية، جرفت في طريقها الدولة العثمانية ذاتها وانتهت الأحداث بسقوط الامبراطورية التي حكمت بين الشرق والغرب. ويقدم الكتاب الأسباب التي أعاقت اندماج الأتراك مع شعوب أوروبا الغربية والشرقية؛ وجعلت الأوروبيين برمتهم يرفضون الحكم العثماني الذي دخل بلادهم واستمر بها لقرون طوال ولم يندمج بهم أو يُقدِموا هم على استيعابه والاندماج فيه.

وظل للأتراك العثمانيين – على الأقل لعدة قرون مضت قبل تأليف الكتاب–تأثير ضخم على الشؤون الغربية والمسيحية أكثر من أي شعب شرقي أو مسلم آخر. وقد أفرد المؤلف كتابا قبل هذا لتاريخ المسلمين وفتوحاتهم، وأطلق عليهم الاسم الذي كان يُطلق على المسلمين العرب في العصور الوسطى وزمن الحروب الصليبية؛ "ساراسين" (Saracen) وشاع استعماله لدى كُتاب أوروبا المسيحيين في ذلك العصر، وناقش فيه تاريخ الفتوحات والغزوات والأمم المسلمة عامة. ثم تراءى له أن يضع كتاباً منفردا عن هيمنة العثمانيين وسلطتهم في أوروبا بشكل خاص، ويجنح فيه إلى السياسة أكثر من التاريخ المحض.

تلك الأسباب التي أعاقت وتسببت برفض وإسقاط العثمانيين؛ طرحها المؤلف في سياق عرضه التاريخي للأحداث وتطوراتها وخلفياتها؛ وهي تتشابه إلى حد كبير مع الأسباب الحالية المعوقة لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي في العصر الحديث. وتكشف بوضوح جذور الإسلاموفوبيا؛ التي تظهر أعراضها بين الحين والآخر في أكثر المجتمعات تقدماً وفكراً. كذلك يقدم الكتاب الأصول التاريخية للصراعات التي نشبت في القرن العشرين وما بعده؛ في البوسنة والهرسك وغيرها من دول البلقان.

فرغم ما وصل إليه الفكر الأوروبي من تطور وتقدم علمي، في ظل أيدولوجية علمانية مهيمنة. وما حدث على التوازي في تركيا والعالم الإسلامي من تغيرات سياسية واجتماعية وفكرية واقتصادية، والمحاولات الكثيرة من جانبها للتقارب مع أوروبا؛ فإن الأسباب التي قررها المؤلف منذ ما يقارب القرن ونصف من الزمان؛ ما زالت هي المهيمنة على الفكر الغربي بصفة عامة؛ كما لا زالت تشكل الكثير من الترسبات في الوعي الغربي تجاه الشعوب الشرقية المسلمة عامة والتركية خاصة.

لا يقدم فريمان كتابه فقط ليعالج مشكلة تاريخية أو يسرد أحداثا ووقائع مجردة؛ لكنه يقدم كتابا سياسياً يناقش ظاهرة فريدة في التاريخ الأوروبي، وعلى أساس تاريخي وفكري. ولم يقم المؤلف بفعل ما يذهب إليه كثير من المؤرخين من سرد التاريخ؛ ثم تركه بين يدي القارئ يحلله أو يفهمه كيف يشاء. بل قصد وتعمد – وهو المهم – أن ينقل رؤيته ووجهة نظره كمؤرخ وسياسي مخضرم، والتي تعبر عن المجتمع الأوروبي في تعامله مع الإسلام والعثمانيين سابقاً، وما يريد إرساؤه من أسس للعلاقات معهم مستقبلاً.

إدوارد فريمان هو مؤرخ وأستاذ جامعي وسياسي من المملكة المتحدة، كان عضواً في الأكاديمية البافارية (الألمانية) للعلوم والإنسانيات، والأكاديمية الروسية للعلوم، وأكاديمية لينسيان الإيطالية للعلوم. ولد في 2 أغسطس 1823، وتوفي في 16 مارس 1892، وتميزت حياته بوفرة وغزارة كبيرة في الإنتاج العلمي. وقد نشر 239 عملاً متميزا، أشهرها "تاريخ الغزو النورماني لإنجلترا: أسبابه ونتائجه" ويمثل مرجع كبير في ستة مجلدات نُشرت ما بين 1867 – 1879، وهو الكتاب الذي ساهم بشكل كبير في صنع شهرته كمؤرخ. كما له الكثير من المقالات والمراجعات المنشورة في الصحف والدوريات المختلفة.

وعلى صعيد التخصص في الشأن العثماني فقد شغل فريمان منصب أستاذ التاريخ بجامعة أوكسفورد، وكان أستاذا لعالم الآثار والناشط الاستعماري آرثر إيفانز. وتعاون الاثنان، بعد تخرج إيفانز من الجامعة وزواجه من ابنة أستاذه فريمان، في العمل ضد الامبراطورية العثمانية خاصة في ثورة البلقان على الوجود العثماني عام 1874. وأثناء وجوده في أُكسفورد ترأس فريمان جمعية (Stubbs Society) وهي مجموعة حصرية من المؤرخين البارزين، وانتخب عضوا في جمعية الآثار الأمريكية في عام 1885.

ومن ناحية السياسة والعمل الحزبي والسياسي فقد انخرط فريمان في السياسة وكان أحد مؤيدي اللورد غلادستون، ودخل البرلمان الانجليزي عام 1868، وكانت السياسة الخارجية هي مصب اهتمامه وليست الداخلية. وخدم باللجنة الملكية للمحاكم الكنسية، ولعدة سنوات كان قاضياً نشيطا بها. كما كان له موقف قوي من اليهود، وحذر دائماً من تعصبهم الديني ومحاولاتهم للسيطرة على العالم.  


الهيمنة العثمانية في أوروبا بين الاغتراب والقواسم المشتركة

تعرضت أوروبا لعمليات غزو وهجرات متعددة منذ قرون طويلة ساهمت في تشكيلها وتنوع لغاتها، فغزتها قبائل الهون الآسيوية وقبائل الفايكنج، وتحركت إليها وداخلها العديد من الشعوب فيما أسماه المؤرخون بعصر الهجرات. ومرت القارة الأوروبية التي نعرفها الآن بفترات وحقب كبيرة دارت فيها الحروب والمعارك فيما بينها، وتبادلت أممها وبلدانها الاحتلال والغزو. واسهمت كل تلك التحركات والمعارك في صقل وتشكيل دول أوروبا الحالية.

مع ذلك يقرر فريمان في بداية الفصل الثاني من كتابه (الهيمنة العثمانية في أوروبا) أن "حُكم الأتراك العثمانيون في أوروبا هو بحد ذاته ظاهرة لا مثيل لها في التاريخ." معتبراً أن الدلالة الأكبر على هذه الظاهرة؛ هي أن أولئك الغزاة لم يطال حكمهم التغيير قدر بقائهم في تلك الأرض، فقد ظلوا غرباء عن البلاد التي يحكمونها طوال خمسة قرون وبعدها أيضاً.

أثبتت الدراسات الحديثة أن أوروبا كانت منذ العصر الجليدي بوتقة انصهر فيها مزيج من السلالات القديمة، التي جاءت من أفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة روسيا الأن، وأن موجات الهجرة إليها بدأت من أفريقيا خاصة. رغم ذلك فإن الأوروبيون تحكمهم منذ عهد بعيد – ولا يزال يتبناها الكثيرون وخاصة اليمين الأوروبي - فكرة مهيمنة مفادها أن الأراضي التي ولدت فيها الحضارة الأوروبية هي ملك خالص لبعض الأجناس المحددة. وأن تلك الأجناس هي التي صنعت أوروبا وكانت لها سيطرة دائمة عليها، وإن تبادلوا هذه السيطرة فيما بينهم عبر الحروب التي دارت رحاها كثيراً هناك. وأن أوروبا قد صاغتهم في المقابل كأوروبيين بكل ما يميزهم عن الأفريقي أو الآسيوي، وأنهم وحدهم هم من يحملون كل السمات والصفات التي تشكل أوروبا كما نعرفها.

وتوافقاً مع هذه الفكرة يرى فريمان أن جميع أمم أوروبا الرئيسية تعود إلى فرع واحد من العائلة البشرية، فهم جميعا يتحدثون بألسنة يمكن أن نرى منها أنها كانت تنتمي إلى لغة واحدة في البداية. وأن هناك زمن كان فيه أجداد جميع أمم أوروبا (اليونانية، واللاتينية، والتوتونية، والسلافية، والليتوانية) كانوا كلهم شعب واحد عندما بدأوا مسيرتهم في رفقة مشتركة، من وطن واحد مشترك بعيد قادمين إلى أرض أوروبا. وباستثناء بعض بقايا الأجناس السابقة التي وجدها أجدادنا في أوروبا، وبعض المستوطنات التي أُقيمت في أوروبا في العصور التاريخية على يد رجال من أعراق أخرى؛ فإن جميع أمم أوروبا تنتمي إلى أصول آرية مشتركة. وأن هؤلاء الذين ليسوا من نفس الأصول الآرية سواء من بقايا الأجناس السابقة أو من استوطنوا أوروبا لاحقاً؛ جميعهم تم جلبهم بوسيلة أو بأخرى داخل نطاق النفوذ الآري، فهم وإن لم يكونوا أوروبيين بالميلاد فقد أصبحوا أوروبيين بالتبني.

ويدلل المؤلف على وحدة الأصل الأوروبي بأن النازحون الأوائل الذين استعمروا الأراضي الأوروبية من الغال، الرومان، القوط، وإن لم يكن لديهم فكرة أو أي معرفة بنسبهم الأصلي الذي يربطهم معا؛ فإن هذا الأصل المشترك قد أدى دوره تماماً عندما سمح بدمج الغال والرومان والقوط في مجتمع واحد. مجتمع لم يكن لقبائل الهون أو للمسلمين فيه من نصيب. وحدة يميزها أصل يجمع بين العرق واللغة ومن المؤكد أنه لا يمكن الشك في أن وحدة العرق والكلام هذه كان لها التأثير الأقوى، في جمع الدول الأوروبية معاً كأعضاء في كومنولث واحد عظيم، يميزهم عن أولئك الذين لا يشتركون معهم في تراث الأجداد هذا.

ثم ينتقل فريمان إلى دور الدين في تأكيد الفارق الكبير بين أهل الأرض وبين المحتلون الأتراك: "وإلى جانب الأصل والتاريخ المشترك؛ فإن أمم أوروبا لديها دين مشترك أيضا. فمع أصولها الآرية والرومانية فإن أوروبا مسيحية كذلك، وعلي الجانب التاريخي كانت المسيحية هي ديانة الإمبراطورية الرومانية." مضيفاً أن كل أوروبا – الشرقية والغربية – لها حق مشترك في عالم روما وفي كل ما ينبع عن ذلك العالم من القوانين والفنون واللغات والثقافة العامة، والتي علمتها روما لهم. وأن: "المسيحية هي عقيدة أوروبا وأمريكا المتحضرتين، فكلاهما تشتركان في تراث روما، وهي ليست عقيدة آسيا وأفريقيا لأن تأثير روما لم ينتشر على الجزء الأكبر منهما".

يُبرز فريمان دور القواسم المشتركة بين الأمم الأوروبية في علاج ما كان يدور بينهم من غزو متبادل واستيطان قسري، فالسلطات التي تأسست عبر الغزو كانت تدريجياً مع الوقت تنسى أنها جاءت عن طريق الغزو. وتعلم الغزاة والمغزوّين عاجلا أو آجلا أن يفكروا كشعب واحد، وأن يعترفوا سوياً بقائد مشترك يحكم أرضهم المشتركة. وكان التأثير متبادل ففي بعض الأحيان تعلم الغزاة لغة المغزوّين وآدابهم، وفي أحيان أخرى تعلم المهزومون لغة الغزاة وآدابهم. وأحياناً يتسمي الغزاة بألقاب وأسماء أهل البلاد التي فتحوها، وأحياناً أخرى يتَسَمىَ المغزوّين بأسماء الغزاة الفاتحين. و في كلتا الحالتين أصبح الغزاة والمغزوّين، عاجلاً أم آجلاً، شعباً واحداً.

لكن العثمانيين - حسبما يرى المؤلف – رغم اطلاقهم اسمهم على الأرض التي غَزَوْها وأصبحت تسمى تركيا (تماماً مثلما أطلق الفرنجة اسمهم على الأرض التي غَزَوْها وأصبح اسمها فرنسا)، إلا أن تاريخ الأتراك في اليونان وبلغاريا وصربيا والأراضي الأخرى التي احتلوها كان مختلفاً تماماً عن تاريخ الفرنجة في بلاد الغال. فقد ذاب الفرنجة في بلاد الغال تماماً في الكتلة العامة لأهل الأرض، لكن الأتراك في أوروبا ظلوا مختلفين حتى النهاية عن كتلة أهل الأرض، ظلوا تماماً كما دخلوها أول مرة. فهم لم يتبنوا لغة وآداب أهل الأرض، كما لم يتبنى أهل الأرض لغتهم ولا آدابهم، وظل العثمانيين في عملية غزو متواصلة طوال قرون وجودهم في أوروبا، ولم ينتقلوا أبدأً إلا مرحلة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاندماج مع أهلها.

الأمر الجلل في استدلالات فريمان على استحالة وقوع تقارب بين العثمانيين والشعوب الأوروبية؛ هو موضوع الإسلام كدين يبيح تعدد الزوجات والرق. فهذان الأمران الذين أرجعهما إلى الأصل الديني، يؤكد أنهما كانا غريبان تماماً عن أوروبا. رغم أن أوروبا عرفت التعدد قبل المسيحية، كما كانت تنتشر بها صور مختلفة من الرق والعبودية في ذات وقت دخول العثمانيين إليها. لكنه اعتبر أن تلك المظاهر كانت في سبيلها للزوال تماماً في ظل المسيحية، بعكس الدين العثماني الذي يؤصل وجودها ويحافظ عليها.


العثمانيون في أوروبا ... من قرون القوة إلى أحقاب الفوضى

تميز عهد عثمان بن أرطغرل بتأسيس العثمانيين كقوة آسيوية، وفي عهد ابنه أورخان عبروا إلى أوروبا. وفي ظل مراد الأول احتلوا أدرنه؛ وأصبحت الامبراطورية الأوروبية الشرقية مُطَوَقة ومحاصرة، وأمست صربيا تدفع الجزية. و بايزيد يهزم الحملة الصليبية الكبيرة القادمة من الغرب في نيقوبوليس. ويعيد محمد الأول – الذي يعتبره البعض المُؤسس الثاني للدولة - الهيمنة العثمانية بعد أن أطاح بها تيمورلنك. السلطان مراد يأخذ سالونيك ويطيح بالملك فلاديسلاف في فارنا. و محمد الفاتح يفوز بمدينة القياصرة (القسطنطينية)، ويمنح الهيمنة العثمانية أقصى مدى دائم لها، وينظمها كذلك كما فتحها.

ثم في السنوات القليلة التي قضاها سليم في السلطة تتضاعف حجم الأملاك العثمانية تقريباً، ويُتَوِّج سيدها سليم بلقب ذي قداسة وهو "الخليفة"، ويُطلق عليه أيضاً أمير المؤمنين. وفي عهد سليمان القانوني، تصل الهيمنة العثمانية إلى أعلى نقاطها.

ويفرق مؤلف كتاب "الهيمنة العثمانية في أوروبا" بين حكام الدولة العثمانية في المئتين سنة الأولى، وبين من خلفوهم في القرنين التاليين. فبعد زمن سليمان القانوني أصبحت الهيمنة العثمانية تنحدر بشكل مطرد، وتهاوت من ناحيتين: تآكل الحدود وتوقف الفتوحات. فعلى الرغم من أنها كانت لا تزال تكسب بعض الأقاليم في بعض الأحيان، إلا أن الحدود العثمانية تراجعت بشكل عام. وبعد سليمان، لم تحدث أي فتوحات هامة دائمة، باستثناء جزيرتي قبرص وكريت. وفي الشمال تجاه المجر، ثم في أوقات لاحقة تجاه روسيا؛ عادت الحدود إلى الوراء بشكل عام؛ على الرغم من وجود تقلبات كبيرة وكسب واستعادة بعض الأراضي. وأخيراً انفصلت أجزاء كبيرة من الأراضي العثمانية عنها وشكلت دولاً منفصلة، سواء كانت تدفع لها الجزية أو مستقلة كلياً.

ويقدم فريمان تحديده لأسباب التدهور قائلاً: "كانت قوة السلاطين تتناقص في الأملاك التي ورثوها. وتزايد فساد الإدارة المركزية أكثر فأكثر، تحت تأثير الوزراء والمقربين من الحاشية والنساء؛ أكثر من الفساد الحادث تحت سلطة السلاطين أنفسهم. كما حصل الباشوات أو حكام المقاطعات على المزيد والمزيد من الاستقلال، وفي بعض الحالات جعلوا مناصبهم توارثية."

كان المفترض أن ضعف السلاطين وتناقص قوتهم والاضمحلال العام للإمبراطورية؛ سيصب بشكل مباشر في صالح الأمم الخاضعة للدولة العثمانية في أوروبا، لكن ما حدث هو أن هذا الضعف رافقه تزايد في قوة الولاة المحليين وقدرتهم على الظلم. وأصبحت أغلال عبودية الرعايا الأوروبيين أثقل من قدرتهم على الاحتمال. وهذا الوضع يدفع المؤلف للاعتراف بحقيقة هامة؛ هي أن السلاطين الأوائل لم يكونوا محبين للظلم أو الاضطهاد، ويقرر ذلك بقوله: "لم يكن السلاطين العظماء القدامى، كقاعدة عامة، رجالاً يحبون الاضطهاد. فجرائمهم الشخصية كانت تتطرق بشكل أساسي إلى من حولهم من أقارب وحاشية فقط؛ لكن كان لديهم من الحكمة ما يكفي ليروا أنهم لن يربحوا شيئاً من جعل قيود الأمم المحتلة لا تطاق."    

هذا التغير رافقه تحول كبير في السياسة العثمانية القديمة وتخليها عن أحد أهم أسباب القوة، وهو قوات الانكشارية. فخلال القرن السابع عشر تم إلغاء تدريجي لتجنيد الأطفال قسراً في تلك القوات، وفقد الانكشاريين ما يتدفق إليهم كل عام من دماء جديدة. لم يعد الانكشاريين الآن على ما كانوا عليه سابقاً، وتبدلت الأدوار تماماً بين الأتراك ودول أوروبا في المسائل العسكرية. كان محمد الفاتح قد قاد جيوشاً لم تستطع أي قوة أوروبية أن تصمد أمامها في الميدان، لكن في القرنين التاليين لذلك العصر، تحسن النظام العسكري لكل القوى الأوروبية، في الوقت الذي تراجع فيه نظام الأتراك. فقد فقدوا انضباطهم القديم، ولم يتعلموا انضباط الجيوش الأوروبية الحديث. وهكذا كان الجزء الأخير من القرن السابع عشر هو وقت الخسارة العامة للهيمنة العثمانية، كان الأتراك في حالة حرب مع جميع جيرانهم، وخسروا الأرض في غالب المواقع.

كل ما سبق من أحداث كان يتعلق بسببين مهمين للانهيار، وهما التحولات والفوضى الداخلية في الدولة العثمانية، والحروب الخارجية المتعددة وما رافقها من استنزاف لقدرات الامبراطورية الكبيرة. لكن يتطرق الفصل السادس إلى ثالث الأثافي في طرد العثمانيين من أوروبا وهو الانتفاضات داخل الأراضي المحتلة ضد السلطة العثمانية.

قد يذهب تفكير الكثيرين إلى أن ثورات البلاد الخاضعة للعثمانيين كان سببها هو دعم القوى الأوروبية الغربية لها، لكن الحقيقة التي يقررها المؤلف ويؤكد عليها بشدة هي أن الباعث الأصلي لتلك الانتفاضات؛ هو الخيانة والخذلان الذي لاقته شعوب تلك الدول على يد أوروبا الغربية. فقد كانت الحروب المتعددة والكثيرة بين الدول العثمانية من جهة وأوروبا الغربية وروسيا من جهة أخرى؛ وما رافقها من سياسات ودبلوماسيات وحوارات ومعاهدات وغيرها، قد أدت إلى تغيرات دائمة في موازين واعتبارات المصالح الخاصة بأوروبا الغربية من وجهة نظر حكامها.

كانت النتيجة المباشرة لهذه التغيرات هو إجراء تنازلات عن بعض المناطق والأقاليم للعثمانيين - بعد أن انتزعتها الجيوش الأوروبية بالقوة – مقابل تنازل العثمانيين عن مناطق أخرى مقابلها. والمهم أن كل تلك المفاوضات والتبادلات كانت تجري بمعزل عن أهل الأرض، الذين يجدون أنفسهم يوماً تحت حكم العثمانيين، ويوماً آخر تحت حكم رفاقهم الأوروبيين، ثم يفاجئون بعودتهم ثانية إلى ظل الحكم العثماني. ويستفيض الكتاب في ذكر هذه الوقائع بالتفصيل.

النقطة الأشد على أهل البلاد الخاضعة كانت أنهم وبعد أن ذاقوا طعم الحرية من العثمانيين، عادوا إليهم وقد تفشت الفوضى وزالت سلطة السلاطين. وأصبحت البلاد الخاضعة أُلعوبة في يد القادة العسكريين العثمانيين المحليين، وزعماء الانكشارية الخارجين على الدولة العثمانية. وانتشار جيوش هؤلاء – يسميها المؤلف بالعصابات – التي تستمتع بتدمير ونهب البلاد الخاضعة للإمبراطورية.

والطبيعي في وسط  كل ذلك أن يلجأ أهل البلاد أو بعض منهم إلى محاولة انتزاع استقلالهم بأيديهم،  وكان من حظهم أن يتوافق ذلك مع رغبة بعض السلاطين؛ في السماح لشعوب تلك الأراضي بحمل السلاح في وجه المتمردين المسلمين المنشقين على السلطان. كان الدفاع عن النفس قد توافق - دون اتفاق - مع الدفاع عن السلطان.

هكذا أصبحت الدول الخاضعة تكتسب الشجاعة على المواجهة وتتعلم استخدام الأسلحة. وفي مثل هذه الأوضاع أصبح حكم السلطان بالفعل هو أقل الشرور؛ لذلك كان من المعتاد أحياناً وجود تحالفٍ بين السلطان العثماني والشعب المسيحي؛ ضد السادة المحليين المسلمين الظلمة. وكان هذا هو الحال في صربيا، فالصرب الواقعين تحت نير المضطهدين المحليين استصرخوا السلطان طلبًا للمساعدة، وكان السلطان لفترة من الوقت يميل إلى تفضيل استغلال جهودهم ضد ضباطه المتمردين عليه. لكن الحرب ضد الظلمة والمستبدين المحليين تطورت إلى حرب ضد الزعيم الكبير "السلطان" نفسه. فرغم أن نير السلطان كان أخف وطأة من ظلم الطاغية المحلي؛ لكن الناس الذين أزاحوا عن أعناقهم نيرا ثقيلاً؛ لن يقبلوا بأي نير آخر مهما كان خفيفاً.

ويلخص فريمان تلك العملية بقوله:  "التحالف بين المستبد والشعب دائم التزعزع ومحفوف بالمخاطر؛ لأن مثل هذا التحالف لا يمكن أن يقوم إلا على أساس مصلحة، ولا يمكن أن تكون مصلحة المستبد هي نفسها مصلحة الناس لفترة طويلة. وهذا كان الحال في صربيا؛ فالحرب التي بدأت بمناشدة السلطان للوقوف معهم ضد الطغاة المحليين؛ تطورت في العام التالي إلى حرب ضد السلطان نفسه."

الأهم أن المنتفضين في البداية - حسب تأكيد المؤلف - لم يتلقوا أي مساعدة من الحكومات الأوروبية الغربية، سواء الروسية أو أي دولة أخرى. كانت معظم القوى ضدهم؛ ولم يكن معهم أحد سوى أنفسهم. حتى أخذت الأمور مع الوقت مساراً جعل الحكام الأوربيون لا يطيقون تحمل خزي النأي عنها وعدم التدخل فيها، وتدخلت القوى الأوروبية وقضت على ما تبقى من الهيمنة العثمانية في أوروبا الشرقية.