مستخدم:AhmedGamal/ملعب2

يرجى مراجعة هذه المقالة وإزالة وسم المقالات غير المراجعة، ووسمها بوسوم الصيانة المناسبة.
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
تمثال الإمبراطور المصري تحتمس الثالث. متحف الأقصر، مصر
حملات تحتمس الثالث
معلومات عامة
التاريخ 1457 - 1425 قبل الميلاد.
الموقع شرق وجنوب أوروبا، آسيا افريقيا.
النتيجة
تغييرات
حدودية
ضم فلسطين وسوريا والأردن ولبنان والعراق وتركيا والهند وتراقيا جنوب روسيا وشرق اوروبا والجزيره العربيه بأكملها بلاد فارس وبلاد باختر وشرق الصين وبلاد النوبه وكوش والحبشه وبلاد بونت وجيبوتي وليبيا والجزائر وتونس وشرق المغرب إلي الامبراطوريه المصرية الحديثة.
المتحاربون
الامبراطوريه المصرية الحديثة الكنعانيون الميتانيون
القادة
تحتمس الثالث أمير مجيدو

ملك قادش

ملك ميتاني[1][2][1]

حملات تحتمس الثالث هي المعارك والحملات العسكرية التي قام بها الملك المصري تحتمس الثالث بعد توليه حكم مصر من عمته الملكة حتشبسوت بعد وفاتها، وخاض أكثر من 450 معركه منتصراً وأمر تحتمس الثالث بشن 17 حملة عسكرية جميعها في آسيا ما عدا حملة واحدة في بلاد كوش في النوبة و [افريقيا] ولم يهزم في أي معركة ولا حملة عسكرية قط، ولم يصب حتي بجرح واحد، وتدل شواهد الأحوال على أن تحتمس الثالث لم يتوانَ طويلًا في مصر بعد اعتلاء أريكة العرش، فقد كان الخلاف القائم في مصر على تولية عرش البلاد، والجفاء بين تحتمس الثالث وحتشبسوت معروفًا في الأقطار الآسيوية العامرة بالجمِّ الغفير من الهكسوس، الذين شتَّت شملهم أسلاف تحتمس الثالث وطردوهم من مصر جملةً، والذين ما زال حب الانتقام والأخذ بالثأر يأكل صدروهم، وبخاصة أنهم أصبحوا هم المحكومين، ويدينون لمصر بالطاعة؛ ولذلك لما تولَّتْ حتشبسوت اتخذوا على ما يظهر هذا الحادث ذريعةً لإعلان الثورة؛ ليتحرَّروا من ربق الاستعباد المصري.

وقد أعلنت الشام كلها العصيان على مصر في تلك الفترة، وقامت بثورة محبوكة الأطراف، حتى أصبح لزامًا على هذا الملك الفتي الجسور أن يقابل حلفًا قويًّا مؤلَّفًا من شعوب آسيا والولايات التي وطدت العزم على خلع النير المصري الذي أثقل عاتقهم به تحتمس الأول وسلفه من قبله، منذ خمسين سنة مضَتْ، ولا شك في أن أكثرهم تحمُّسًا كان أولئك الأقوام الذين طُرِدوا من مصر من غير رجعة، وكان كل أولئك قد ألفوا حلفًا بقيادة ملك قادش، وهي بلدة على نهر الأرنت (نهر العاصي) على مسيرة مائة ميل تقريبًا شمالي دمشق، وقد زحف الملك لمقابلة أولئك العصاة، يحدوه غرض معين وهو منازلة ملك قادش والقضاء عليه، فإذا تمَّ له ذلك، كان كل شيء عداه سهلًا ميسورًا نسبيًّا؛ وذلك لأن سوريا لم تكن وقتئذٍ مملكة واحدة متحدة الكلمة بطبيعتها، بل كانت مقسَّمةً ولاياتٍ صغيرةً يحكم كلًّا منها أميرٌ أو ملك، كما كان لها بعل أو إله خاص بها، وكانت أقوى هذه الممالك الصغيرة وأغناها مملكة قادش، وقد أفلح ملكها في أن يضمَّ مؤقتًا الولايات الأخرى تحت قيادته، فإذا كان في الاستطاعة هزيمته، فإن الحلف لا يفتأ أن تنحلَّ عراه، وتعود كل دويلة سيرتها الأولى من الاستقلال الذاتي؛ ولذلك يصبح من السهل على تحتمس الاستيلاء على ولايات هذا الحلف الواحدة تلو الأخرى، والظاهر أن تحتمس قد صمَّم على الزحف بسرعة خاطفة إلى قادش مباشَرةً ليضرب ضربته الحاسمة هناك.[3]

الحملة الأولى ومعركة مجدو[عدل]

تُعَدُّ موقعة مجدو التي قابَلَ فيها تحتمس الثالث جيوشَ الحلف السوري بإمرة حاكم قادش؛ أول معركة حربية في تاريخ العالم القديم قد بقي عنها تفصيلات تُذكَر؛ ويرجع الفضل في ذلك إلى اليوميات التي خلفها تحتمس الثالث على أحد جدران معبد الكرنك، فقد جرَتِ العادة على ما يظهر في الجيش المصري في عهد الإمبراطورية المصرية أن تُدوَّن يوميات عن سير القتال في أثناء الحملات التي كان يقوم بها الملك، وقد كان المكلَّف بهذه المهمة العظيمة رئيس كتاب الجيش، وقد كانت تُحفَظ نُسَخٌ من هذه اليوميات في معبد الإله آمون رع بطبية، ولم تصل إلينا منها إلا اليوميات التي أمر تحتمس الثالث بأن تُنقَش مقتطفاتٌ منها على جدران معبد الكرنك، ومن حسن الصدف أنه قد وصلتنا تفاصيلُ عن أول انتصار له في بلاد آسيا، وهو ذلك الفوز العظيم الذي أحرزه في موقعة مجدو، وما وصلنا من تفصيل هذه الموقعة يُعتبَر أوسع تفصيل عرفناه عن غزواته في هذه الأصقاع، وبهذه المعلومات أصبح في مقدرونا أن نتتبَّع بوضوحٍ سير الحملة بصورة جلية أكثر ممَّا كان يُنتظَر في مثل هذا العصر القديم.

طريق جيش تحتمس إلى مجدو

سار جيش تحتمس من قلعة سيلة (وهي القنطرة الحالية) في اليوم الخامس والعشرين، من الشهر الرابع، من فصل الشتاء، في السنة الثانية والعشرين من حكمه، وهذا التاريخ على حسب قول الدكتور نلسن يوافق 19 أبريل سنة 1479 ق.م، مخترقًا الصحراء التي تقع على الحدود الشرقية والحدود الجنوبية لفلسطين، فوصل غزة بعد مسيرة عشرة أيام قطع فيها نحو مائة وخمسة وعشرين ميلًا، وكان قد حطَّ رحاله فيها في اليوم الرابع من الشهر الأول من فصل الصيف، في السنة الثانية والعشرين من حكمه، ممَّا يدل على أن الجيش كان يقطع في سيره يوميًّا نحو اثني عشر ميلًا ونصف ميل، وهي سرعة حسنة في بقاعٍ معظمُ طرقِها صحراوية قاحلة لا زرع فيها ولا ضرع، وبخاصة إذا عرفنا أن عددًا عظيمًا من جيشه كانوا مشاة. ولم يمكث تحتمس في بلدة غزة إلا سواد ليله؛ وفي الصباح المبكر سار على رأس جيشه ميممًا شطر يحم (يُحتمَل أن تكون يما الحالية)، وتقع على مسافة ثمانين ميلًا من غزة، وعلى الرغم من أن النقوش التي في متناولنا قد أغفلت ذِكْر يوم وصوله إليها، نستطيع أن نستنبط أنه ألقى فيها عصا تسياره في اليوم الحادي عشر من نفس الشهر؛ وذلك إذا فرضنا أنه كان يسير يوميًّا بنفس السرعة التي كان يزحف بها في ذهابه إلى غزة.[4] [5] [6]

الجيش يعسكر في بلدة يحم ويعقد فيها تحتمس مجلسًا حربيًّا

والظاهر أن الجيش قد ضرب خيامه فيها بضعة أيام، استطاع في خلالها تحتمس أن يطلق عيونه ليقفوا على مواقع العدو ومكانه، وفي اليوم السادس عشر من نفس الشهر عقد الملك مجلسه الحربي؛ ليتشاور مع ضباطه في أحسن الطرق التي يجب أن يقتحمها الجيش إلى مجدو، وسنترك المؤرخ المصري عند هذه النقطة يقصُّ علينا سير الحوادث:

السنة الثالثة والعشرون، الشهر الأول من فصل الصيف، اليوم السادس عشر في بلدة يحم، لقد أمر جلالته أن يعقد مجلس حربي ليتشاور فيه مع رجال جيشه قائلًا: إن ذلك العدو الخاسئ صاحب قادش قد جاء بجيشه ونصب خيامه فيها، وهو مقيم بها في تلك الآونة، وقد ضمَّ إليه كل أمراء الأقاليم الذين كانوا يدينون بخضوعهم لمصر حتى نهر الفرات … ومعه السوريون وقوم قودة بخيلهم وجنودهم وعشيرتهم، وأنه يقول على حسب ما وصل إلى مسامعنا: سأقف هنا لمحاربة جلالته في بلدة مجدو، فحدِّثوني ما يدور بخلدكم في هذا الخطب. فأجابوا جلالته قائلين: كيف يتسنَّى للمرء أن يسير في هذا المضيق، وقد وصلتنا الأخبار بأن العدو على تمام الاستعداد هناك في خارج المدينة، وأن عددهم قد أمسى هائلًا؟ وهل يكون السير مستطاعًا إلا إذا سار الجواد إثر الجواد، والجندي إثر الجندي أيضًا؟ وهل ستكون مقدمة الجيش بهذه الطريقة في ساحة القتال، في حين أن المؤخرة تكون لا تزال واقفةً هنا في عرونة عاجزة عن محاربة العدو؟ على أنه يوجد طريقان أخريان؛ واحدة منهما تؤدِّي إلى تاعناخ، والأخرى تقع في الجهة الشمالية من بلدة زفتى مؤدِّية إلى شمال مجدو، وبذلك لا نضطر إلى سلوك هذا المضيق الوعر. وفي هذه الأثناء جيء بمعلومات عن ذلكم العدو الخاسئ، وبذلك استقرَّ النقاش في موضوع الخطة التي كانوا يتحدَّثون عنها فيما قبلُ.

ما قيل في الخيمة الملكية: فأجاب الملك قائلًا: إني ما دمتُ حيًّا، وما دام الإله رع يحبني، وما دام والدي آمون يرعاني، وما دام نفس الحياة ينعشني بالحياة والقوة؛ فلن أسلك إلا هذه الطريق المؤدية إلى عرونة، وليذهب منكم مَن يشاء في إحدى هاتين الطريقين الأخريين اللتين تحدثتم عنهما، وليتبعني منكم مَن يريد أن يسلك الطريق التي سيتخذها جلالتي؛ لأن الأعداء الذين يمقتهم الإله رع سيقولون: هل سلك جلالته طريقًا آخر؛ لأنه يخاف بأسنا وبطشنا؟ وعندئذٍ أجابوا جلالته قائلين: ليت الإله آمون والدك رب تيجان الأرضين وساكن الكرنك يرعى شعبك ويتعهَّده، إنَّا سنكون في ركاب جلالتك أينما توجَّهت؛ لأنه من واجب الخادم أن يتبع سيده دائمًا. وعندئذٍ أمر جلالته بإصدار منشور لكل الجيش جاء فيه: إن سيدكم المظفر سيكون في طليعتكم لاقتحام ذلك المسلك الوعر الضيق. تأملوا، لقد أقسم جلالته يمينًا قائلًا: إني لن أسمح لجيشي المظفر أن يشقَّ طريقه إلا في هذا المكان؛ لأن جلالته عقد العزم على أن يتقدَّم طليعة جيشه بنفسه، وقد وزعت التعليمات على كل جندي بالأمر بالزحف، على أن يكون الجواد في إثر الجواد، في حين أن جلالته كان يسير في مقدمة جيشه.

الجيش يعسكر في عرونا

وفي السنة الثالثة والعشرين من الشهر الأول من فصل الصيف، اليوم التاسع عشر، استيقظ الملك في السرادق الملكي الذي كان قد ضُرِب له في بلدة عرونا، ثم سار جلالته موليًا وجهه شطر الشمال في رعاية الإله آمون رب تيجان الأرضين ليفتح الطريق أمامه … وكان الإله آمون رع يشدُّ ساعِدَ جلالتي … وزحف جلالته على رأس جيشه المنظم فرقًا (ولم يجد للعدو أثرًا)، بل كان قد عسكر جناحه الأيسر عند بلدة تاعناخ، في الوقت الذي كان جناحه الأيمن قد ضرب خيامه في المنحنى الجنوبي من وادي مجرى قنا.

وقد نادى جلالته أن سيروا في هذه الطريق، فالتقى بالعدو فكسره، وولى ذلك العدو الخاسئ الأدبار … فيا أيها الجند مجدوا المليك وتغنوا بشجاعة جلالته؛ لأن ساعِدَه أشد بأسًا من أي ملك، وأنه هو الذي سيحمي مؤخرة جيش جلالته في "عرونا". وقد كانت مؤخرة جيش جلالته المظفر لا تزال في بلدة عرونا، في حين أن مقدمته قد برزت في وادي مجرى قنا، حتى ملئوا فم هذا الوادي.

وعندئذٍ قال رجال الجيش لجلالته: حقًّا إن جلالته قد ظهر بجيشه المنتصر وملأ جنودُه الواديَ، فَلْيصغِ جلالته لقولنا هذه المرة، فيحمي لنا سيدنا مؤخرة جيشه وقومه الذين معه، وعندما تتصل بنا المؤخرة نحارب أولئك الأجانب؛ إذ لا نكون في شغل شاغل من جرَّاء مؤخرة جيشنا، وعلى إثر ذلك اتخذ جلالته مكانه عند فم الوادي حاميًا مؤخرة جيشه المظفر، وعندما تم خروج الفرقة الأمامية على هذه الطريقة كان الظل قد مال (أي عند الظهيرة).

الجيش يعسكر عند مجدو ويستعِدُّ للموقعة

ووصل جلالته جنوبي مجدو على شاطئ مجرى نهر قنا في مدة سبع ساعات بعد ميل الشمس، وقد ضربت خيام معسكر جلالته هناك، ثم أصدر أمرًا لكل رجال الجيش وهاك نصه: «استعدوا أيها الجنود وانتضوا سيوفكم؛ لأن الملك سيخوض غمار حرب مع ذلك العدوِّ الخاسئ عند الصباح الباكر؛ … ثم ذهب الملك ليستريح في السرادق الملكي، وقد أمدَّ الضباط بما يحتاجون، ووُزِّعت الجرايات على الجنود، واتخذ كلُّ حارسٍ مكانَه بعد أن تلقَّى التنبيهات بأن يكون ثابتًا في مكانه شجاعًا.[7] [8]

الجيش يهاجم الأعداء ويهزمهم

السنة الثالثة والعشرون، الشهر الأول من الفصل الأول، اليوم الحادي والعشرون، وهو اليوم الذي أعلن فيه الضباط عيد الهلال الجديد، وفيه ظهر الملك في الصباح وقد أعطى كلَّ رجال الجيش الأوامر للاستعداد للمعركة … وبعد ذلك انطلق جلالته في عربته المصوغة من الذهب النضار مدججًا بدرعه وزرده مثل الإله حور القوي الساعد رب البأس، ومثل الإله منتو إله طيبة (وهو إله الحرب)، وكذلك كان والده آمون يشد ساعده. وكان جناح جيش جلالته الأيسر يقف على ربوة جنوبي قنا أما الجناح الأيمن فكان معسكرًا في الشمال الغربي من مجدو، وكان جلالته في وسطهما يحميه الإله آمون في حومة الوغى. وكانت قوة بأس الإله «ست» (إله الحرب) تدبُّ في أعضائه، ففاز جلالته فوزًا مبينًا وهو على رأس جيشه، وقد رأوا (أي الأعداء) جلالته والنصر حليفه؛ ولذلك ولَّوا الأدبار نحو مجدو بوجوهٍ يغمرها الذعر، تاركين خيلهم وعرباتهم المصوغة من الذهب والفضة، وتسلَّقوا أسوار هذه المدينة بملابسهم (أي مستعملين ملابسهم ليتسلَّقوا بها)؛ وذلك لأن أهل المدينة قد غلقوا أبوابها في وجوههم، ولكنهم مع ذلك دلوا ملابسهم ليجروهم بها إلى داخل المدينة؛ ولو أن جنود جلالتي لم يتهالكوا على نهب متاع العدو، لَكان في استطاعتهم الاستيلاء على مجدو وقتئذٍ عندما كان عدو قادش الخاسئ وعدو هذه المدينة يجرون متسلِّقين الأسوار ليدخلوا المدينة هربًا؛ لأن الخوف من جلالته كان قد سرى في أجسامهم وضعفت أسلحتهم؛ لأن صله (الذي على جبينه) قد طغى عليهم وهزمهم، واستولى جلالته على خيلهم وعرباتهم المصوغة من الذهب والفضة غنيمة باردة؛ أما صفوف جنودهم فكانوا قد طرحوا أرضًا مثل السمك في حبائل شبكه، وجيش جلالته المنتصر كان يحسب متاعهم؛ لأن سرادق هذا العدو الخاسئ الذي كان محلًّى بالفضة … وقد أخذ كل الجيش بأسباب الفرح مقدمًا الثناء لآمون؛ لما وهبه من نصر لابنه في هذا اليوم، وكذلك قدَّموا الشكر لجلالته مادحين انتصاره، ثم أحضروا الغنيمة التي استولوا عليها حتى الأيدي والأسرى والخيل والعربات المصوغة من الذهب والفضة والكتان الجميل.

وصف حركات الجيش في هذه المعركة

هذه هي رواية الكاتب المصري بنصها، وهي أول وصف لمعركة حربية في العالم، ويمكن تلخيص حركات الجيش الذي كان يقوده ذلك القائد المبتكر فيما يأتي: لما عقد تحتمس الثالث مجلسه في يحم في اليوم السادس عشر من الشهر، صمَّم هذا الملك على اختراق الطريق من عرونا إلى مجدو، فأمضى اليوم السابع عشر في الاستعداد للزحف، وفي اليوم الثامن عشر زحف الجيش نحو عرونا؛ حيث قضى فيها ليلة، وفي اليوم التاسع عشر استؤنف الزحف نحو مجدو، وكان الملك نفسه يغلظ الأيمان أن يسير في مقدمة طليعة جيشه في المعبر الضيق، فسار على رأس الجيش مخترقًا هذه الطريق الوعرة، ولم يحدث في خلال اجتيازها حوادث تستحق الذكر، اللهم إلا بعض مناوشات صغيرة، وسرعان ما تخطَّتْ مقدمةُ الجيش التلالَ، حتى عسكر تحتمس الثالث بعد مشاورة ضباطه عند فم الممر؛ ليكون في مأمن من هجمات العدو على جناح كتائبه الممتدة في طول المعبر وهم يسيرون متعثرين نحو العراء، وقد تمَّ خروج الجيش من هذا المعبر عند الساعة السابعة بعد الظهر، ومن ثَمَّ عسكر الجيش المصري في وادي قنا، وفي هذه الأثناء كانت قوة السوريين بلا نزاع قد ضربت خيامها في نفس الوادي بالقرب من مجدو، وكانت لهم قوة أخرى قد عسكرت عند تاعنخ، وكانت مهمتها منع زحف المصريين وإعاقة تقدُّمهم من كلتا الطريقين، ومن المحتمل أنه كان للسوريين قوة أخرى تؤازرهم قد عسكرت وسط هذين المكانين، غير أن هذه القوة التي كانت عند قنا قد أخفقت في مهاجمة الجيش المصري الزاحف لجهلهم بموقعهم، وكان السوريون على ما يظهر قد حشدوا كل جيوشهم في وادي قنا لصد الجيش المصري، غير أن المصريين هنا قد خدعوهم أيضًا، ففي الساعة الأولى من اليوم العشرين انتشر الجيش المصري عبر وادي نهر قنا إلى الشمال الغربي من مجدو، ثم إلى الجنوب الشرقي من تل هناك، مهدِّدين بقطع مواصلات العدو ببلدة مجدو، ثم هاجمهم المصريون ثانيةً على غرة.[9]

وعندما كشف السوريون حركةَ الجيش المصري وقد ضرب عليهم الحصار في وادي قنا، حاولوا على ما يظهر أن يقوموا بهجوم مضاد، ولكن الجيش المصري لم يعطهم الفرصة لتنفيذ خطتهم، ولم يكد المصريون يهاجمونهم حتى هُزِموا وولوا هاربين، ولما رأى سكان بلدة مجدو ما حدث لجيوشهم غلقوا أبواب مدينتهم في الحال، وأخذوا يجرون الفارين على جدران المدينة بحبالٍ صُنِعت ارتجالًا من الملابس التي كان يرتديها أولئك الفارون، وقد هيَّأَتْ عوامل الرعب والفزع والذعر التي انتشرت بين رجال الجيش السوري فرصةً سانحةً للجيش المصري للاستيلاء على المدينة، بالهجوم أثناء الاضطراب الذي أحدَثَه فرار جيش السوريين، غير أن جنود الجيش المصري لم يكن في استطاعتهم أن يقاوموا حب السلب الذي دبَّ في نفوسهم، عندما رأوا أسلاب العدو أمامهم مكدَّسة، وبخاصة معسكر السوريين الذي كان يفيض بالخيرات والذخائر المغرية؛ ولذلك ضاعت عليهم فرصة الاستيلاء على مجدو، ممَّا جعل ضرب الحصار عليها أمرًا لا مفرَّ منه، وقد امتدَّ زمنُ حصارها سبعةَ أشهر، استسلمت بعدها المدينة صاغرةً، غير أن ملك قادش الذي كان رئيس العصاة وحامل لواء الثورة على تحتمس قد فرَّ من المدينة، لا لينجو بنفسه، بل ليستعِدَّ لاستئناف الحرب من جديدٍ على مصر، وليكون سببًا في مضايقة الملك سنين عدة.

أهمية هذه الموقعة في تاريخ الحروب

وأهمية سرد حوادث هذه الموقعة لا ينحصر في وصفها وحسب؛ بل كذلك لأننا نقرأ في وثيقة تاريخية لأول مرة في تاريخ العالم أن قائدًا حربيًّا لم تقتصر مواهبه على أنه جندي شجاع وقائد قدير ماهر فقط، بل لأنه كانت لديه الشجاعة كذلك ليخوض غمار مخاطرة قد كان يعرف عواقبها من قبلُ ليصل إلى غرضه بسرعة خاطفة، بل قد أظهر فضلًا عن ذلك مهارةً حربيةً في وجه العدو الذي جعله يتأرجح في يده كاللعبة في يد الصبي.

ولا يبعد أن كان لهذا الحادث العظيم في تاريخ الحروب في الشرق القديم منذ أربعة آلاف وخمسمائة سنة أثره في تدبير سير الحملة، التي قام بها القائد الإنجليزي إدموند ألنبي عام 1918 على الدولة العثمانية، عندما هزمهم في نفس المكان؛ إذ كان قد ألقى بخيالته في ممر عرونا خلف الأتراك المنهزمين، وقد يتساءل المرء الآن في استغراب عمَّا إذا كان الضابط توماس إدوارد لورنس — بما كان له من المعلومات في التاريخ القديم — قد أوحى إلى ألنبي بالفكرة التي جعلته يقوم بهذه الحركة الجريئة الماهرة، التي كان قد سبقه إليها تحتمس الثالث، الذي يلقِّبه مؤرخو الغرب بحق نابليون الشرق القديم.

وصف حصار مجدو

بعد انتصار تحتمس على جموع العدو الذي احتمى داخل أسوار مجدو نفسها، حشد تحتمس جيشه الذي كان منهمكًا في السلب والنهب، وحاصَرَ المدينة، فأقام المتاريس حولها من الأشجار الخضراء ومن كل أشجار فاكهتها، ثم أخذ الملك مكانه في الجانب الشرقي من المدينة، بعد أن خصَّصَ جنودًا ليحموا سرادق جلالته، ثم أصدر أوامره لجيشه قائلًا: لا تجعلوا واحدًا منهم يخرج خلف المتاريس إلا إذا كان آتيًا ليسلم باب هذه الحصون (أي يُلقِي سلاحه)، والظاهر كما ذكرنا أن ملك قادش قد تسلَّلَ من المدينة قبل أن تُسلَّم؛ إذ لم يُعثَر له على أثر. وقد استمر الحصار سبعة أشهر أتى بعدها الأمراء خاضعين مسلِّمين متاعهم ومقدِّمين طاعتهم لاسم جلالته طالبين النفس لأنوفهم.

وفي مكان آخر تحدِّثنا النقوش أن أولئك الآسيويين الذين كانوا في مجدو الخاسئة قد خرجوا … قائلين: «هيِّئ لنا الفرصةَ لنسلِّم لجلالتك الغرامة …»

وقد تعطَّفَ الملك وأمر بأن يُوهبوا نفس الحياة؛ وذلك لأن المصريين كانوا أعظم شعوب العالم القديم رحمةً وإنسانيةً. ولكن كان ضمن شروط الهدنة على ما يظهر أن يرسل كل أمير وارثه إلى مصر ليتعلَّم طرائق الحياة المصرية، وبعد ذلك أتى هؤلاء الأمراء حاملين عطاياهم من الذهب والفضة واللازورد والفيروزج، ومعم كذلك برنقي وخمر وماشية كبيرة وصغيرة ومؤن للجيش … وبعد ذلك عين الأمراء من جديد، أي إنه صفح عنهم وأعادهم إلى ولاياتهم التي كانوا يحكمونها بوصفهم تابعين له. أما ملك قادش الفار، فإن المصريين قد أخذوا أسرته رهينةً عندهم؛ إذ يقول في ذلك تحتمس: «تأمَّلْ، إن جلالتي قد أسر زوجات الخاسئ ملك قادش وأولاده، وكذلك زوجات الأمراء الذين كانوا هناك.» ولما عاد تحتمس إلى مصر كان يفخر بقوله: «إن الإله آمون قد سلَّطه على كلِّ الممالك المتحالفة في أرض زاهي، فحاصرها جميعًا في بلدة واحدة … وقد حاصرتهم في مدينة واحدة، وبنيت حولهم سورًا جداره كثيف، وقد أطلق على هذا الجدار تحتمس صياد الآسيويين.»

وصف حملة تحتمس الأولى كما جاءت في لوحة جبل البركل

هذا وقد وصف لنا فيما بعدُ تحتمس الثالث بنفسه حملتَه الأولى على بلاد رتنو (سوريا)، في نصِّ اللوحة العظيمة التي أقامها في جبل البركل على مقربة من الشلال الرابع في معبد آمون في السنة السابعة والأربعين من حكمه، وربما كان سبب إقامتها هناك ليظهر عظمته وجبروته لأهل هذه الأقاليم النائية لتكون عظةً وعبرةً، فلا يقومون بثورات أو يحرضون على فتن، وهذا ما جاء فيها:

والآن أقصُّ عليكم أعمالًا أخرى عظيمة فاسمعوا أيها القوم: لقد منحني الإله كلَّ أراضي رتنو الأجنبية في الحملة الأولى، عندما هبوا بثورة لمحاربة جلالتي بملايين الرجال ومئات الألوف من عظماء كل الأراضي الأجنبية، وقد اصطفوا في عرباتهم، وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثين أميرًا، وكان على كل رأسٍ جيشُه. وكانوا إذ ذاك في وادي قنا معسكرين بخيامهم كأنهم في الواقع في فخ، وكان النصر حليفي عليهم؛ إذ هاجمتهم ففروا في الحال وسقط منهم على الأرض أكداس من القتلى، ثم دخلوا مجدو فحاصرتها سبعة أشهر إلى أن اضطروا إلى الخروج منها متضرعين لجلالتي قائلين: أعطنا نفسك يا سيدنا؛ لأن أجانب رتنو لن يعودوا قط مرة أخرى للعصيان، وبعد ذلك أرسل الخاسئ (أمير قادش) ومَن معه من الأمراء إلى جلالتي كلَّ قومهم حاملين هدايا كثيرة من الذهب والفضة، وكل جيادهم وما يتبعها من معدات، هذا إلى عرباتهم الفخمة المصفحة بالذهب والفضة، وكل دروعهم وقسيهم ونشاشيبهم وكل آلات الحرب، وكانوا قد حضروا بكل هذه الأمتعة من أماكن قاصية لمحاربة جلالتي، وها هم أولاء قد أحضروها الآن هدايا لجلالتي، وكانوا في ذلك الوقت واقفين على جدرانهم (وقت الحصار) مقدِّمين الخضوع لجلالتي، راجين أن يمنحوا نفس الحياة، وعندئذٍ جعلتهم يحلفون يمينًا قائلين: لن نقوم قط بأي عمل عدائي كرَّةً أخرى على "من خبر رع" (تحتمس الثالث) أمدَّ الله في عمره أبديًّا، وهو سيدنا ما دمنا أحياء؛ لأننا شهدنا عظمته، فَلْيمنحنا نفس الحياة كما يجب؛ لأن والده آمون رع هو الذي أكسبه النصرَ في الواقع لا قوة الإنسان، وعلى إثر ذلك سمح لهم بالسير إلى بلادهم، فعادوا جميعًا ممتطين حميرًا؛ لأني كنت استوليت على خيل عرباتهم وأخذت مواطنيهم معي غنيمةً لمصر، وكذلك استوليت على ماشيتها.

الغنائم التي استولى عليها الملك تكشف عن ثروة هذه البلاد

والواقع أن قائمة الغنائم التي غنمها تحتمس الثالث في هذه الموقعة، كما جاء ذكرها في نقوش الكرنك تكشف لنا عن ثروة هذه البلاد المفتوحة، وما كان يتمتع به أمراء سوريا من نعيم العيش والأبهة، هذا فضلًا عن أنها تعطينا فكرةً عن مقدار ما كانت عليه تلك الولايات من التقدُّم في الصناعات والحِرَف وفنون الحياة ممَّا لم يكن في الحسبان، وسنذكر هنا بالتفصيل قائمة هذه الأسلاب التي استولى عليها جيش تحتمس الثالث من مجدو؛ لنضع أمامنا فكرةً عامةً عن مقدار ثراء القوم، واستعداداتهم الحربية التي كان لا بد للملك أن يقف أمامها وجهًا لوجه:

«فاستولى على ثلاثمائة وأربعين أسيرًا، وثلاثة وثمانين يدًا (كان الجندي تُقطَع يده بعد قتله)، وألفين وواحد وأربعين فرسًا، ومائة وتسعين مهرًا، وستة جياد … وعربة مغشاة بالذهب وقضبانها من الذهب من متاع العدو، وعربة جميلة مصفحة بالذهب ملك أمير مجدو، وثمانمائة واثنين وتسعين من عربات جيشه المخذول مجموعها تسعمائة وأربع وعشرون عربة (لا بد أنه قد ذكر ثلاثين عربة في الأماكن المهشمة من النقش)، ودرع جميل من البرنز ملك الأعداء، ودرع آخر من البرنز لأمير مجدو … وعلى مائتي درع من دروع الجيش الخاسئ، وعلى خمسمائة قوس وسبعة قضبان من خشب المرو مصفحة بالفضة، وهي من قضبان سرادق العدو.»

أسلاب الحيوان: واستولى جلالته على الحيوانات الآتية من هذه المدينة: «… ثلاثمائة وخمسة وثمانين … وألف وتسعمائة وتسعة وعشرين من الحيوانات الكبيرة، وألفين من الحيوانات الصغيرة، وعشرين ألفًا وخمسمائة من حيوانات بيضاء صغيرة.»

ثم استولى فيما بعدُ من أمير قادش على غنائم أخرى: «قائمة بما استولى عليه الملك فيما بعدُ من متاع هذا العدو الذي كان في مدينة «ينعم» وفي «نجس» وفي «حر نكر» (بالقرب من البلدين الآخرين في رتنو العليا)، هذا بالإضافة إلى كل السلع التي هي ملك تلك المدن التي خضعت وأحضرت لجلالتي، وهي: أربعمائة وسبع وأربعون من نسائهم والأمراء الذين كانوا معهن، وثمانٍ وثلاثون سيدة من سيداتهم، وسبعة وثمانون طفلًا من أطفال هذا العدو ومن الأمراء الذين كانوا معه، وخمسة من أشرافهم، وألف وستمائة وستة وتسعون من الذكور والإناث من العبيد والإماء والأطفال، هذا غير المحاربين الذين استسلموا بسبب الجوع الذي لاقوه، ومائة وثلاثة رجال فيكون مجموعهم ألفين وخمسمائة واثنين (والعدد المدوَّن فعلًا هو ألفان وتسعة وعشرون، فلا بد أن يكون العدد الناقص وهو أربعمائة وأربعة وسبعون قد جاء ذكره في الأماكن المهشمة من المتن). هذا خلاف الأطباق من الأحجار الغالية والذهب وأوانٍ أخرى … وإناء ذي مقبضين من صنع خارو (البلاد الآسيوية)، وأوانٍ وأطباق مفرطحة، وأقداح للشرب مختلفة، وغلايات وسكاكين يبلغ وزنها سبعمائة وأربعة وثمانين دبنًا (أي: إن الأدوات السالفة الذكر يبلغ وزنها 191 رطلًا من الذهب).

هذا إلى خواتم من الذهب كانت في يد الصناع، وفضة مصنوعة خواتم عدة تبلغ زنتها نحو تسعمائة وستين دبنًا (أي: ما يقابل 235٫46 رطلًا من الذهب)، وتمثال من الفضة مصنوع … ورأسه من الذهب، وعصًا بأوجه بشرية، وستة كراسي للعدو من العاج والأبنوس وخشب الخروب كلها مغشاة بالذهب، وستة مساند للأقدام من متاع العدو، وست موائد من العاج وخشب الخروب، وعصًا من خشب الخروب مغشاة بالذهب، ومرصعة بالأحجار الثمينة في هيئة صولجان من متاع هذا العدو أيضًا، وكلها مصفَّحة بالذهب، وتمثال لهذا العدو من الأبنوس مصفحة بالذهب، ورأسه مرصع باللازورد، وأوانٍ من الشبه، وملابس كثيرة لهذا العدو.» وهذه المدن الثلاثة التي استولى منها الملك على الأسلاب الأخيرة تقع بعضها قريبة من بعض في الطرف الشمالي من لبنان، وقد هاجمها تحتمس الثالث عن قصدٍ لغرض معين؛ وذلك لأنه فكَّرَ أولًا في إيجاد وسيلة لمنع ملك قادش من الوصول إليها، وقد كان لم يُقهَر بعدُ، فزحف جنوبًا وثانيًا ليجعل الطريق الشمالي الواقع بين جبال لبنان في قبضة يده لأهميته العظمى لحركاته الحربية؛ ولذلك سار بجيشه شمالًا واستولى على هذه المدن، وممَّا يؤيِّد صحة ذلك أنه بنى هناك قلعة «تحتمس قاهر الأجانب».

وبعد أن تم لتحتمس النصر على هذه الصورة، وجَّهَ عنايته لتنظيم الأقاليم التي فتحها، فقد أصبحت فلسطين ولبنان خاضعتين لسلطانه، وكذلك الجزء الأعظم من بلاد فينيقيا.

الجزية التي تحصلت عليها مصر بعد تلك الحملة

وتدل الأحوال والنقوش التي لدينا على أن خبر انتصار مصر قد وصل إلى بلاد آشور، التي كانت وقتئذٍ قد بدأت تظهر في الأفق الدولي، والظاهر أن ملك هذه البلاد قد رأى بثاقب فكره أنه من الخير لبلاده أن يربط أواصر الصداقة والمهادنة بينه وبين مصر، التي ظهرت على الملوك والدول المجاورة له؛ لذلك أرسل هدايا للملك في السنة الرابعة والعشرين من حكم تحتمس، وقد حرص الملك على أن يدوِّنها في يوميات تاريخ فتوحه الحربية؛ إذ كانت هذه الهدايا في الواقع دليلًا على قوة سلطانه وشهرته.

جزية أمراء آشور: «قطعة من اللازورد الحقيقي تزن عشرين دبنًا وتسع قدات، وكذلك قطعتان أخريان من اللازورد (المجموع ثلاث قِطَع)، وقِطَع وزنها ثلاثون دبنًا، فيكون مجموعها خمسين دبنًا وتسع قدات (أي: ما يعادل 12 رطلًا من اللازورد)، وكذلك لازورد جميل من بابل، وأوانٍ من آشور من حجر حرت الملوَّن …»

جزية سوريا: وفي الوقت نفسه وصل إلى الملك رسل من سوريا يحملون الجزية والهدايا من بينها: «بنت الأمير ومعها حليها ولازورد من بلاده، ومعها كذلك ثلاثون من العبيد، هذا إلى خمسة وستين من العبيد والإماء، ومائة وثلاثة من الجياد، وخمس عربات مصفحة بالذهب وقضبانها كذلك من النضار، وخمس عربات مغشاة بالسام وقضبانها من «العجت»، فيكون المجموع عشر عربات؛ هذا إلى خمس وأربعين ثورًا وعجلًا، وسبعمائة وتسعة وأربعين ثورًا، وخمسة آلاف وسبعمائة وثلاثة رءوس من الماشية، وأطباق مفرطحة من الذهب … لا يمكن وزنها، وأطباق مفرطحة من الفضة، وقِطَع «زنتها» مائة وأربعة دبنات وخمس قدات، هذا إلى بوق من الذهب مرصع باللازورد وزرد من البرنز مطعم بالذهب ومحلى بحجر «نخن» الحقيقي … وثمانمائة وثمانية وعشرين إناءً من البخور، وألف وسبعمائة وثمانٍ وعشرين زجاجة من النبيذ الحلو، هذا إلى خشب عجت، وخشب عجت ذي الألوان المختلفة، وعاج وخشب خروب، وخشب مرو وخشب «بسجو»، وحِزَم عدة من خشب الحريق، وكل طرائف هذه البلاد.»

أثر هذه الجزية في الحياة المصرية: يُلاحَظ أن الأمراء السوريين أخذوا يرسلون بناتهم ليكنَّ في القصر في خدمة الملك بين وصيفاته وهن مجهَّزات بحليهن وخَدَمهن وحشمهن، ويُلاحَظ من الآن أن كل هذه الخيرات التي كانت تُجبَى من سوريا ومن كل الفتوحات الأخرى، كان للإله نصيب وافر منها، ولم يَفُتِ الملك ذِكْر كل ذلك في نقوشه الدينية التي دوَّنها على المعابد التي كان يقيمها للآلهة المحليين في طول البلاد وعرضها، فنراه مثلًا يقصُّ علينا ما قدَّمه للإله بتاح في المعبد الذي أقامه له في الكرنك في هذه الفترة؛ إذ يقول على اللوحة التذكارية التي أقمها في هذا المعبد ما يأتي: «لقد ملأت معبد بتاح بكلِّ شيء طريف من ثيران وإوز وبخور وخمر وقربان، ومن كل أنواع الفاكهة عندما عاد جلالتي من سوريا بعد حملته الأولى المظفرة التي منحني إياها والدي آمون، عندما سلَّطني على كل بلاد زاهي المتحالفة، وهم محصورون في مدينة واحدة مجدو … لأني احتبلتهم في هذه المدينة، وأقمتُ حولهم حصارًا يتألَّف من متاريس سميكة.»

سياسة تحتمس في حكم الأقاليم المقهورة[عدل]

غير أن تحتمس الثالث لم يكن قد كسر شوكة ملك قادش بعدُ؛ لأن شمالي سوريا كان لا يزال خارجًا عن سلطانه؛ إذ كان ملك ميتاني في ذلك الوقت المسمَّى ساو ششتار قد توغَّلَ في هذه الجهة، واستولى على مملكة حلب ولذلك نجد أن تحتمس الثالث قد اكتفى في هذه الحملة بما فتحه من أقاليم ونصب أمراء جددًا غير الذين ثاروا عليه، وقد اتبع مع هؤلاء الأمراء الجدد طريقةً تدل على بُعْد النظر في الاستعمار السلمي؛ إذ قد تركهم مدةً طويلةً يحكمون كما شاءوا ما داموا يدفعون الجزية السنوية بانتظام، بَيْدَ أنه ضمانًا لحُسْن نياتهم والوفاء بعهودهم صحب معه إلى مصر بكر ولد كلٍّ منهم، وأسكنهم في ناحية خاصة فخمة في طيبة في مكانٍ يُدعَى القصر في طيبة، وكان ينشئهم ويربيهم تنشئةً خاصةً تجعلهم يميلون كلَّ الميل بأرواحهم وأجسامهم إلى مصر والتفاني في خدمتها، وكان كلما خلا مكان أمير أو مات أحد الأمراء في تلك الجهات الآسيوية نصب تحتمس ابنه الذي تربَّى في مصر خلفًا له، وهذه هي نفس السياسة التي سار على منوالها الإنجليز في تربية أمراء الهنود في الكليات الإنجليزية، التي أُسِّست عن قصدٍ لتنفيذ هذا النظام، ونخصُّ بالذكر منها كليتي أجمير ولاهور.

غير أن سياسة تحتمس ومن بعدها سياسة الإنجليز الذين اقتفوا أثرَه، لم تأتِ بالغرض المطلوب منها؛ لأن كلًّا منهما قد نسي أن التعليم يفتق الأذهان، وأن أول ما يستفيد منه الشخص هو حب الحرية والاستقلال، وهذا بعينه ما رأيناه بعد وفاة تحتمس ومَن اتبع هذه السياسة، فإن أولئك الأبناء الذين عادوا من مصر إلى بلادهم قد شقوا عصا الطاعة على مَن استعمر وطنهم، وهو نفس ما نجده اليوم مع الإنجليز وأولئك الأمراء الهنود، الذين يحاربون حتى النهاية لنيل استقلالهم في بلادهم ورفع النير الإنجليزي عنهم.

وبعد أن تمَّ لتحتمس الثالث النصر على هذا الوجه، عاد إلى مصر بعد ستة أشهر من مغادرته لها، وهذه مدة قصيرة جدًّا إذا قيست بما أحاطها من المصاعب في تلك الأزمان السحيقة، بل تُعَدُّ سرعته في الواقع أعجوبةً؛ إذ ممَّا لا شك فيه أنه حتى في عصرنا هذا تُعَدُّ سرعةُ غزو بلادٍ كهذه والعودة منها بعد تنظيمها، من الأمور العظيمة، ولا بد أن المصريين قد شعروا أن تحتمس الثالث عندما عاد إلى مصر محمَّلًا بالغنائم الهائلة، قد انتقَمَ لقومه انتقامًا أثلج صدورهم التي كانت تحترق غيظًا بسبب ما حاق بهم من الذل والخذلان في أيام سيادة الهكسوس، الذين ارتدوا بين أولئك الأمم الذين دحرهم تحتمس، وجعل بلاده الأولى بين دول العالم. ولا نزاع في أن الجملة المألوفة التي كان يستعملها كل ملك لما قام به من جليل الأعمال، كانت جديرةً بأن تقال بحق عن أعمال تحتمس الثالث في غزوته الأولى هذه المنقطعة النظائر في تاريخ الحروب، وهي: «إذ لم يحدث مثلها قط في عهد الآلهة الذين سلفوا منذ الأزل.»

الحملة الثانية[عدل]

لم تحدِّثنا الآثار عن أي عمل حربي قام به هذا الملك في حملته الثانية إلى بلاد رتنو؛ لأن النقوش مهشمة حتى عند الجزية التي كان يحملها له أمراء الممالك المختلفة. وكذلك الحملة الثالثة والرابعة. وهذا ما بقي لنا من نص الحملة:

السنة الرابعة والعشرون: قائمة بالجزية التي أُحضِرت إلى عظمة جلالته من بلاد رتنو.

جزية بلاد آشور: 24 قطعة عظيمة من اللازورد الحقيقي …

جزية بلاد رتنو: … جلود الحيوان «مخاو» لتجليد عربة صُنِعت من أحسن الأخشاب، ومائة واثنتان وتسعون عربة، وثلاثمائة وثلاث وأربعون قطعة من خشب «نحب»، وخمسون قطعة من خشب الخروب، ومائة وتسعون قطعة من خشب «مرو»، ومائتان وست قِطَع من خشب «نبي» وخشب «كانك» وأخشاب زيتون

ومن ذلك نرجح أن هذه الحملة قد قام بها تحتمس الثالث؛ لتفقُّد أحوال البلاد التي فتحها من قبلُ، وما كان عليه الأمراء من الولاء له، ولإحضار مقدار عظيم من الخشب التي كانت البلاد المصرية تفتقر إليه، والظاهر أن ملك آشور لم يَفُتْه إظهارُ ولائه، فبعث لجلالته بهدايا كثيرة أخرى.

تحتمس الثالث يستولي على مواني ساحل فينيقيا لتكون قاعدة لجيوشه[عدل]

وتدل ظواهر الأحوال وما يُستنتَج من النقوش على أن تحتمس الثالث، بعد أن وطَّدَ أركان السلام في الربوع التي فتحها أخيرًا، رأى أنه لا يمكنه أن يسير في طريق الغزو شمالًا بين جبال لبنان ليقضي على مملكة قادش، دون أن يستولي على مدن فينيقيا الساحلية التي قد تصبح خطرًا يهدِّده دائمًا من خلفه؛ وكذلك رأى أنه من العسير عليه أن يهاجم بلاد النهرين ( مملكة ميتاني) دون أن يستولي على مملكة قادش الواقعة على نهر العاصي، وكانت لا تزال خارجةً عن سلطانه؛ ولذلك بنى تحتمس الثالث أسطولًا عظيمًا وجهَّزَه بكل ما يلزم من عتاد ليتمكَّنَ بمساعدته من النزول في شمال ساحل فينيقيا، وبخطته هذه يمكنه أن يتخذ الساحل قاعدةً حربيةً لمهاجمة قادش وما حولها من البلاد المعادية، حتى إذا ما استولى عليها استطاع أن يسير بجيشه من الساحل موغلًا في الداخل نحو بلاد ميتاني وكل إقليم بلاد النهرين، ولا نزاع في أن هذه الخطة المبتكرة تدل على نبوغٍ في الخطط الحربية لم يصل أحدٌ إليه ولم يسبقه بها، يضاف إلى ذلك أنه نفَّذَها بنشاط ومثابرة لا تعرف الملل، وعزم لا يعرف الكلل، وقد قال أحد المؤرخين المحدثين: لو كانت هذه الخطط بعينها استُخدِمت في الحرب العالمية الأولى في الحملة على الأتراك، لَانتهت الحملة في العام الأول.

الحملة الخامسة[عدل]

قام تحتمس الثالث بجيشه زاحفًا نحو سوريا في حملته الخامسة؛ ليطفئ نار ثورة محلية في مكانٍ لم يُعرَف اسمه، وربما كان "وارثت" على ساحل فينيقيا، فإنه يقصُّ علينا دون مقدمات أنه استولى على المدينة، ولا بد أنها كانت ذات شهرة عظيمة وثراء جم؛ إذ استولى منها على مغانم كثيرة، وقد كان فيها معبد للإله آمون بناه أحد آبائه، وبعد أن استولى على تلك المدينة المجهولة أقلع بأسطوله وسار شمالًا محاذيًا للشاطئ حتى وصل إلى مدينة "أرواد" العظيمة، فحاصرها، ولم يمضِ طويل زمن حتى سلمت، وبسقوطها استولى المصريون على مقدار عظيم من ثروة فينيقيا، واتفق أن الاستيلاء عليها كان في فصل الخريف، وقد كانت الحدائق والخمائل محمَّلة بالفاكهة، والخمر يجري كالغيث، وحبوبها تنحدر على جوانب الرمال أكثر من رمال الشاطئ، وقد غنم رجال الجيش مغانم عظيمة بالسلب والنهب حتى إن تحتمس لم يكن في مقدروه في مثل هذه الأحوال أن يحفظ النظام بين رجال جيشه. والواقع أن رجال جيشه في الأيام الأولى كانوا ثملين ومعطرين بالزيوت الزكية الرائحة، كأنهم يحتفلون بعيد في مصر.

وعلى إثر هذه الهزيمة جاء أمراء الساحل حاملين جزيتهم مقدِّمين خضوعهم، وبذلك ضمن تحتمس لنفسه منفذًا بل منافذ على سواحل البحر في الشمال؛ ليربط بينه وبين مصر من جهة، وبينه وبين جيوشه الموغلة في الداخل من جهة أخرى، ومن ذلك الوقت أصبحَتْ مدنُ هذا الساحل قاعدةً لأعماله الحربية في داخل هذه البلاد؛ تنفيذًا لخطته التي كان قد وضعها لمهاجمة ملك قادش.

وقبل أن ننتقل إلى حروبه مع ملك قادش نورد النص المصري القديم عن هذه الحملة:

السنة التاسعة والعشرون: كان جلالته في أرض زاهي ليخضع البلاد الأجنبية الثائرة عليه في حملته الخامسة. إن جلالته استولى على وارثت … وهلَّلَ هذا الجيش لجلالته كما قدم ثناءه للإله آمون لما وهبه من نصر لابنه، وقد كان ذلك سارًّا لقلب جلالته أكثر من أي شيء، وعلى إثر ذلك اتجه جلالته نحو مخازن القربان ليقدم القرب للإلهين آمون و"حور اختي"، من ثيران وعجول وطيور لأجل فلاح وعافية من خبر ع (تحتمس الثالث) العائش مخلدًا.

الغنائم التي استولى عليها من هذه المدينة: قائمة الأسلاب التي استولى عليها رجاله من العدو صاحب مدينة «تونب»: أمير المدينة، ثلاثمائة وتسعة وعشرون محاربًا، ومائة ديبن من الفضة، ومائة ديبن من الذهب، هذا إلى لازورد وفيروزج وأوانٍ من البرونز والجمشت.

الاستيلاء على سفينتين من العدو في أثناء عودة الملك إلى وطنه: إنه استولى على سفينتين مجهَّزتين ببحارتهما ومحمَّلتين بكل شيء، من عبيد وإماء ونحاس وقصدير واستفياذج (صنفرة)، وكل ما طاب.

وبعد ذلك سار جلالته إلى مصر إلى والده آمون رع بقلب فَرِح.

نهب أرواد: إن جلالته نهب مدينة أرواد بما فيها من حبوبٍ، كما قطع كلَّ أشجارها الجميلة.

خيرات بلاد زاهي: لقد وجد كل منتجات بلاد زاهي؛ فكانت حدائقها محمَّلة بالفاكهة، وقد بقي نبيذها في معاصرها يسيل كالماء، كما كانت حبوبها مكدَّسة في أجرانها أكثر من رمال الشاطئ، وقد غمر رجال الجيش بأنصبتهم.

قائمة الجزية التي جلبها جلالته من هذه الحملة: أحضر واحدًا وخمسين من العبيد والإماء، واثنين وثلاثين جوادًا، وعشرة أطباق من الفضة، وكذلك أحضر أربعمائة وسبعين إناءً من الشهد، وستة آلاف وأربعمائة وثمانية وعشرين إناءً من الخمر، ونحاسًا وقصديرًا ولازوردًا، وفلسبارًا أخضر، ونحو ستمائة وثماني عشرة من الماشية الكبيرة، وثلاثة آلاف وستمائة وستة وثلاثين رأسًا من الماشية الصغيرة، ورغفانًا مختلفة أنواعها، وقمحًا نقيًّا، وحبوبًا مطحونة … وكل فاكهة جميلة من هذه البلاد. إن جنود جلالته كانوا ثَمِلين ومعطرين بالزيت كلَّ يوم كأنهم في عيد في مصر.

أثر الغنائم في المصريين: والواقع أن هذه المغانم تُشعِر ببداية إدخال الترف والنعيم على قوم مصر بصورة مزعجة مما لم يُسمَع به من قبلُ في تاريخ البلاد؛ ولذلك لا ندهش إذا كنَّا نرى أن هذا اليسار والثروة الطائلة كان الخطوة الأولى في انحلال الأخلاق، وفساد العناصر الطيبة في البلاد، ممَّا أدَّى بعد زمنٍ غير طويل إلى الانحطاط الخلقي والعسكري معًا. وسنرى أن الدم المصري أخذ يلتحم بالدم الأجنبي ويمتزج به من جرَّاء ما كان يرد على البلاد من أجنبيات فاتنات لا ينقطع معينهن.

الحملة السادسة في السنة الثلاثين[عدل]

وفي السنة الثلاثين قام الملك بحملته السادسة، وكان غرضه على ما يظهر الاستيلاء على بلدة قادش (تل النبي مندو)، فأقلع من مصر ونزل بجيشه عند "سميرا" شمالي أرواد، وتقدَّمَ نحو قادش الواقعة على الجانب الأيمن لنهر العاصي في أقصى شمال الوادي العالي الواقع بين جبلي لبنان، وكانت المدينة وقتئذٍ محصَّنة من جميع الجهات، بنهر العاصي وفرع منه، ثم بقناة حُفِرت لتوصل بينهما، هذا إلى وجود تحصينات أخرى خلف هذه التحصينات الطبعية لتحمي المدينة؛ ولذلك كان الاستيلاء عليها يُعَدُّ من الأعمال الحربية العسيرة المنال.

حصار قادش والاستيلاء عليها

وقد حاصَرَها تحتمس مدة طويلة، انتهزت في خلالها بعضُ المدن الساحلية هذه الفرصةَ وشقَّ أهلها عصا الطاعة على الملك، من بينها مدينة أرواد التي قامت بثورة للتخلُّص من الجزية التي كانت تدفعها للملك سنويًّا، ولكن على إثر سقوط قادش طار تحتمس على جناح السرعة إلى سميرا، وأنزل جيشه في الأسطول الذي كان في انتظاره، وأقلع به إلى مدينة أرواد وأوقع بأهلها عقابًا صارمًا، وقد كان هذا العصيان من جانب أرواد درسًا عمليًّا لتحتمس الثالث ألَّا يسير في خطته لغزو بلاد ميتاني قبل أن تدين لسلطانه كلُّ بلاد الساحل؛ ولذلك نجده قد أمضى صيف السنة الواحدة والثلاثين من حكمه وهي الحملة السابعة في القضاء على أي ثورة، وكبح جماح أي عصيان في هذه الجهات.

وهذا النص المصري الذي دوَّنه عن الحملة السادسة في السنة الثلاثين:

السنة الثلاثون: كان جلالته في بلاد رتنو في حملته المظفرة السادسة.


الاستيلاء على قادش: وصل جلالته إلى مدينة «قادش» فاستولى عليها، واجتثَّ أشجارَ خمائلها، وحصد غلَّاتها، ثم سار إلى إقليم سشري، ومن ثَمَّ وصل إلى بلدة سميرا، ثم وصل إلى بلدة أرواد وفعل فيها بالمثل.

جزية رتنو: قائمة بالجزية التي أحضرتها قوة جلالته من أمراء رتنو في هذه السنة. إن أولاد الأمراء وإخوتهم سيقوا إلى المعاقل المصرية. إنَّ كل مَن مات من بين هؤلاء الأمراء كان جلالته ينصب ابنه مكانه.

قائمة بأولاد الأمراء الذين أُحضِروا هذا العام: ستة وثلاثون رجلًا، ومائة وواحد وثمانون من العبيد والإماء، ومن الخيل مائة وثمانية وثمانون، وأربعون عربة مصفحة بالذهب والفضة المطلية بالألوان.

ونعلم من هذا النص فضلًا عن الغنائم التي استولى عليها الملك، أنه كان يستولي على أبناء الأمراء، ويُنشِئهم في مصر تنشئةً مصريةً، ثم يضعهم مكان آبائهم بعد موتهم كما سبق شرح ذلك.

الحملة السابعة والغرض منها[عدل]

وقد كان الغرض الأول من هذه الحملة هو إخضاع بلدة عاصية تُدعَى "انراثو" (ألاوزا)، وتقع على الساحل بالقرب من سميرا، وقد كانت في حلف مع بلدة تونب، وقد كان في مقدور الملك وقتئذٍ أن يحشد قوة كبيرة في أسطوله، ويسير بها مباشَرةً لإخضاع هذه البلدة، وقد تمَّ له ما أراد؛ إذ زحف بجيشه وأخضعها في سرعة خاطفة، وهذا النص المصري عن هذه الحملة:

السنة الواحدة والثلاثون: مجموع الأسلاب التي استولى عليها جلالته في مدينة انراثو (أولازا) الواقعة على ساحل نهر الكلب (إليوتيرس) أربعمائة واثنان وتسعون أسيرًا أحياء … ابن العدو صاحب تونب … ورئيس … الذين كان فيها والمجموع أربعمائة وأربعة وتسعون رجلًا، وستة وعشرون جوادًا، وثلاث عشرة عربة، وكل معداتها من آلات الحرب، وقد استولى جلالته على هذه المدينة في مدة قصيرة، وكل متاعها كان غنيمة له.

الجزية من بلاد رتنو: جزية أمراء رتنو الذين أتوا ليقبلوا الأرض من أجل قوة جلالته في هذه السنة … عبيدًا وإماءً … ذهبًا، واثنين وسبعين طبقًا من الفضة من صنع هذه البلاد، وسبعمائة وواحدًا وستين ديبنًا، وقدتين من الفضة، وتسع عشرة عربة مصفحة بالذهب، ومعدات من كل الآلات الحربية، ومائة وأربعة ثيران وعجول، ومائة واثنين وسبعين بقرة، فيكون المجموع مائتين وستة وستين، وكذلك أربع آلاف وستمائة واثنين وعشرين من الماشية الصغيرة، وأربعين قالبًا من نحاس البلاد، وقصديرًا … وإحدى وأربعين سوارًا من الذهب المحلَّى بالصور، وكذلك كل محصولها، وكل الأخشاب ذات الرائحة العطرة في هذه البلاد.

تموين الثغور: إنَّ كل ثغر وصل إليه جلالتي كان قد مُدَّ بالخبز الجميل وبالرغفان المتنوعة، وبالزيت وبالبخور والنبيذ والشهد وكل الفاكهة الجميلة من هذه البلاد … وكانت كثيرة يخطئها العد، وأكثر ممَّا عرفها جيش جلالتي من قبلُ، وهذا ليس بكذب فقد دونت في المذكرات اليومية في القصر (أي: الملك له الحياة والفلاح والصحة)، وقائمتها لم تدون في هذه النقوش بعدًا عن كثرة الكلام، ولأجل أن نورد مناسبتها في هذا المكان (وكذلك فيما يخص محصول بلاد رتنو)، فإنه لم يُدوَّن هنا لنفس السبب السالف الذكر، بل دُوِّن في إدارة بيت المال.

وكذلك لم يعلن محصول بلاد «رتنو»، ويحتوي على كثير من البر النقي، وعلى قمح في سنابله وشعير وبخور وزيت أخضر، ونبيذ وفاكهة وكل شيء حلو من البلاد، وستسلم للخزانة مثل محصول بلاد كوش.

جزية بلاد آسيوية أخرى: جزية أمير … بلاد … في هذا العام … وثلاثة وثلاثون قدحًا للشراب، وكذلك جلود وكل حجر ثمين من هذه البلاد، وكذلك أحجار أخرى عدة مرصعة بكل الأحجار الثمينة التي في هذه البلاد.

وفي هذه السنة وصلت بعثة من بلاد بونت إلى مصر يحمل رجالها إلى الملك جزية هذه البلاد من العطور والفاكهة.

وكذلك وصل إلى الملك من بلاد كوش وبلاد «واوات» (شمال النوبة) الجزية السنوية التي كانت تؤدِّيها هذه البلاد لجلالة الملك، وهي تلك المحاصيل التي اشتهرت بها هذه الأصقاع، وهذا النص:

جزية بلاد كوش الخاسئة في هذا العام: … ديبنًا من الذهب، وعبيدًا وإماء من الزنوج وأسرى من الذكران السود بصفة تابعين، ويبلغ عددهم عشرًا؛ هذا إلى مائة وثلاثة عشر من البقر والعجول، ومائتين وثلاثين من الثيران مجموعها ثلاثمائة وثلاثة وأربعون؛ هذا إلى سفن محمَّلة بالعاج والأبنوس وجلود الفهود، ومن كل المحصولات الجميلة من هذه البلاد، يُضاف إلى ذلك حصاد الإقليم.

جزية بلاد واوات: جزية واوات … ديبنًا من الذهب، وعبيدًا وإماء من سود واوات، وواحدة وثلاثين بقرة، وواحدًا وستين ثورًا، فيكون المجموع اثنين وتسعين؛ هذا عدا سفن محمَّلة بكلِّ ما لذَّ وطاب من هذا الإقليم، وكذلك حصاد واوات.

ويُلحَظ في محصول هذه الجهات السودانية أنها كلها كانت مواد أولية وحيوانات، هذا على عكس ما نشاهده من المنتجات الفنية العظيمة التي كانت ترد من بلاد آسيا، ممَّا يضع أمامنا الفرق بين البلدين المحتلين من حيث التقدُّم والحضارة.

الحملة الثامنة وتُعَدُّ أعظم غزواته[عدل]

ظلَّ تحتمس الثالث في مصر عامين بعد حملته السابعة، ثم قام بحملته الثامنة في السنة الثانية والثلاثين، وتُعَدُّ أعظمَ غزوة قام بها في كل حروبه بعد الغزوة الأولى؛ إذ تمَّ لتحتمس الثالث في نهايتها كلُّ ما كانت تصبو إليه نفسه وتتطلع إليه آماله، وهو الوصول إلى نهر الفرات وإخضاع كل البلاد المجاورة له. وقد دوَّنَ لنا انتصاراته في هذه الحملة في النقوش التي على جدران معبد الكرنك، وكذلك في لوحة جبل البركل.

في السنة الثالثة والثلاثين من حكمه شرع تحتمس الثالث في القيام بحملته الثامنة، وهي التي وصل فيها إلى قمة مجده الحربي؛ إذ في غضونها عبر نهر الفرات غازيًا بلاد النهرين (ميتاني)، وقد كانت أول حركة قام بها هي غزو أقاليم "قطنة" (وهي بلدة المشرفة الحالية على مسيرة ثمانية عشر كيلومترًا شمالي شرقي حمص).

وتدل الأحوال على أنه كانت قد قامت اضطرابات في بلدة "نجب" الواقعة جنوبي فلسطين؛ ولذلك أرسل الملك قوة من جنوده لإخضاعها وإخمادها بسرعة، وقد كان "أمنمحات" ضمن فرقة الحرس المختارة الذين يُطلَق عليهم الشجعان، وكان هو بالذات ضمن حرس الملك الذين ذهبوا في حملة نجب هذه، وقد استولى فيها على ثلاثة أسرى، ولدينا من الأسباب ما يؤكِّد لنا أن الملك تحتمس الثالث لم يشترك في حملة نجب هذه بالذات؛ لأن نقوش التواريخ التي على جدران معبد الكرنك لم تأتِ بذكره، بل ذكرت أنه هو الذي بدأ الحملة في قطنة بسوريا، ويظهر أن أمنمحات قد سافَرَ شمالًا لينضمَّ إلى سيده في سوريا في الوقت المناسب، ليشترك معه في الواقعة التي دارت رحاها بالقرب من حلب، مستصحبًا معه الأسرى الثلاثة، الذين استولى عليهم في نجب ليقدِّمهم إلى الملك.

وقد زحف الجيش المصري نحو الشمال، واشتبك مع العدو في موقعة عند مرتفع "وعن" الواقعة غربي حلب، حيث يذكر لنا أمنمحاب أنه استولى على ثلاثة عشر أسيرًا وعلى سبعين حمارًا، وعلى عددٍ من الأسلحة المصنوعة من البرونز.

كيفية الاستيلاء على كركميش[عدل]

أما الحادث الذي تلا هذه الموقعة فهو نشوب موقعة في كركميش، وقد كان الاستيلاء على هذه المدينة معناه فتح الباب لأحسن طريق ممكن لعبور نهر الفرات، وقد تمَّ للملك عبور هذا النهر بقوارب بناها على مقربة من "ببلوص" (جبيل) بأخشاب من غابات لبنان، ثم نُقِلت بطريق البر إلى كركميش على عربات تجرها ثيران، والمفروض في هذه الحالة أن هذه القوارب كانت قد حُمِلت أجزاء منفصلة على هذه العربات، ثم رُكِّب بعضها مع بعض في كركميش؛ وذلك لأنه يكاد يكون من ضروب المستحيل نقل القوارب برمتها غير مفككة الأجزاء مسافة طويلة مثل هذه برًّا، في ممرات وعرة كانت تستخدم طرقًا وقتئذٍ، وهذا أول استعمال لعربات النقل المصرية التي تسير على عجلات؛ إذ كانت قبل ذلك تنقل الأشياء على زحافات مثل الأحجار وغيرها، وهذا النوع من العربات مميَّز عن عربة الركوب التي كان يجرها الجياد، وهي العربة ذات العجلتين، وهذا التجديد في وسائل النقل مثال آخَر يضاف إلى الأمثلة الكثيرة التي تدلُّ على عبقرية تحتمس في الفنون الحربية. والواقع أن هذه العربات كانت جديدة على المصريين لدرجة أنهم أطلقوا عليها اسمًا جديدًا "وررت" ومعناها العظيمة، يضاف إلى ذلك أن موضوع نقل الجنود الغزاة في قوارب يعبرون بها النهر يُعَدُّ المثال الأول في تاريخ العالم.

أما الحرب التي حدثت بين الفريقين بعد اقتحام المصريين نهر الفرات، فلا نعرف منها إلا الشيء القليل، اللهم إلا أن الحرب انتهت كالعادة بانتصار المصريين، ولدينا فقرة مهشمة في تاريخ تحتمس تقدِّم لنا بعضَ التفاصيل: «وقد اقتفى أثرهم بمسافة نحو "إتر" (مقياس طول غير محدَّد يتراوح بين كيلومترين وعشرة كيلومترات ونصف) في النهر، ولم يفلت واحد منهم خلفهم، بل فروا مثل قطعان الصيد؛ لأن الخيل كانت تعدو …»

ومن ذلك يظهر أن الجيش المصري بعد أن عبر نهر الفرات، سار مع مجراه منحدرًا مع التيار مسافة قصيرة ليشتبك مع العدو الذي أَبَى الوقوف لمنازلة الجيش المصري.

غنائم هذه الموقعة

وممَّا يلفت النظر أن المصريين لم يقع لديهم في الأسر إلا ثمانون أسيرًا، أما باقي الأسرى الذين سلَّموا أنفسهم، فهم ثلاثة أمراء مع أولادهم ونسائهم وعبيدهم، ويبلغ عددهم جميعًا ستمائة وستة وثلاثين نسمة، وقد ولى ملك ميتاني الأدبار إلى بلاد أخرى وهي بلاد بعيدة، وقد وصفت بلاده بأنها بلاد نهرين التي تركها سيدها خوفًا، في حين أن تحتمس استولى على مهل على الأراضي الواقعة شرقي نهر الفرات في سوريا، قبل أن يعود لنصب لوحته التذكارية على الشاطئ الأيمن من النهر بجوار لوحة تحتمس الأول.

نتائج الحملة

ومن نتائج هذه الحملة المظفرة أن ملك الحيثيين أرسل للمرة الأولى سفيرًا إلى الملك تحتمس الثالث يحمل هدايا غالية؛ لأنه قد رأى من الخير أن يطلب ود دولة فاتحة كانت قاب قوسين أو أدنى من عاصمة بلاده، ولا يبعد أن بلاد بابل قد حذت حذوه، أما بلاد آشور فقد طلبت ودَّ مصر منذ السنة الرابعة والعشرين من حكم هذا الملك، ويُحتمَل أنها عادت إلى طلب مهادنتها ثانيةً الآن.

والآن نورد المتونَ الخاصة بهذه الحملة من المصادر المصرية:

الحملة الثامنة عام ثلاثة وثلاثين من حكم تحتمس الثالث: السنة الثالثة والثلاثون. كان جلالته في بلاد رتنو، ثم وصل إلى إقليم "قدنا" في حملته الثامنة المظفرة.

عبور نهر الفرات والتغلُّب على الأراضي الواقعة على تلك الضفة: سار جلالته إلى بلاد نهرين في مقدمة جيشه شرقي هذا النهر وأقام لوحةً أخرى بجوار اللوحة التي نصبها والده «عا خبر كا رع» (تحتمس الأول) ملك الوجه القبلي والوجه البحري. إن جلالته سار شمالًا متغلِّبًا على البلاد ومخرِّبًا أقاليم نهرين التابعة للعدو الخاسئ.

الحروب المظفرة على نهر الفرات: … وبعد ذلك انحدر شمالًا مقتفيًا أثرهم مسافة إتر، فلم يلتفت واحدٌ منهم خلفه، ولكنهم أرخوا لسيقانهم العنان كأنهم قطيع بقر الوحش. إن خيلهم هربت.

غنائم هذه المدينة: قائمة الأسلاب التي غنمها كل الجيش: ثلاثة أمراء ونساؤهم وعددهن ثلاثون، كما أخذ ثمانين أسيرًا، ومن العبيد والإماء ستمائة وستة ومعهم أولادهم، أما الذين سلموا خاضعين ومعهم زوجاتهم وأولادهم …

تحطيم مؤسساتهم: … وحصد غلالهم.

عودة الملك إلى بلدة ني حيث اصطاد فيلة: ثم وصل جلالته إلى مدينة ني في سيره جنوبًا، وعندما عاد جلالته نصب لوحة تذكارية في حدود نهرين، فمدَّ بذلك حدود مصر …

جزية بلاد رتنو: قائمة الجزية التي أحضرها أمراء رتنو: خمسمائة وثلاثة عشر من العبيد والإماء، ومائتان وستون جوادًا، وخمسة وأربعون ديبنًا، وتسع قدات من الذهب (أي: نحو أحد عشر رطلًا)، وأطباق من الذهب من صنع بلاد زاهي … وعربات مصفحة بالذهب وكل معداتها الحربية، وكذلك ثمانية وعشرون ثورًا وعجلًا صغيرًا وعجولًا كبيرة، وخمسمائة وأربعة وستون فحلًا، وخمسة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وعشرون من الماشية الصغيرة، وثمانمائة وثمانية وعشرون إناءً من البخور وزيت أخضر … وألف من كل شيء طريف من هذه البلاد، هذا إلى مقادير عظيمة من كل أنواع الفاكهة.

إمداد المواني – جزية لبنان – حصار بلاد زاهي: كانت هذه المواني تُمَدُّ بكل شيء مما يُجبَى لها على حسب ما فرض سنويًّا على أمراء لبنان سنويًّا.

جزية بلد آسيوي آخر (اسمه مهشم): جزية أمير … وأربعة طيور من هذا البلد. إنها في عيد كل يوم.

جزية بلاد سنجار (بابل): جزية أمير بلاد «سنجار» دبنات من اللازورد الحقيقي، وأربعة وعشرون ديبنًا من اللازورد الصناعي، ولازورد بابلي …

جزية بلاد آشور: جزية أمير آشور رأس كبش من اللازورد الحقيقي، ولازورد زنته خمس عشرة قدة، وكذلك أوانٍ …

جزية بلاد خيتا العظيمة (حيثيا): جزية بلاد خيتا هذا العام ثماني حلقات من الفضة زنتها أربعمائة وواحد ديبن (أي: 97,47 رطلًا)، هذا إلى قطعتين كبيرتين من حجر أبيض ثمين وخشب «ثاجو».

العودة إلى مصر: عاد جلالته إلى مصر في سلام بعد مجيئه من بلاد نهرين بعد أن وسَّعَ حدود مصر.

أسلاب غزوة إلى بلاد بونت: أحضرت إلى جلالته هذا العام طرائف؛ ألف وستمائة وخمس وثمانون «حقت» من البخور المجفَّف (عنتي) (نبات عطري) … ديبنًا من ذهب بلاد عامو (وهي بلاد مشهورة بالذهب على ساحر البحر الأحمر) …

جزية بلاد كوش: جزية بلاد كوش الخاسئة هذا العام وهي 155 ديبنًا وقدتان من الذهب، ومائة وأربعة وثلاثون من الإماء، ومائة وأربعة عشر ثورًا وعجلًا، وثلاثمائة وخمسة وعشرون فحل بقر، مجموعها أربعمائة وتسعة عشر من الماشية، هذا عدا سفن محمَّلة بالعاج والأبنوس وجلود الفهود، وكل شيء طريف من هذه البلاد.

جزية بلاد واوات: جزية بلاد «واوات» هذا العام … دبنًا من الذهب، وثمانية من العبيد والإماء، واثنا عشر عبدًا مجموعها عشرون نسمة، هذا إلى أربعة وأربعين ثورًا وعجلًا، وستين فحلًا من الأبقار مجموعها مائة وأربعة رءوس من الماشية، يضاف إلى هذه سفن محمَّلة بكل طريف من هذه البلاد، ومن حصاد هذا الإقليم أيضًا.

أما المصدر الثاني الذي جاء فيه ذكر هذه الحملة فهو ما دُوِّن على لوحة البركل، وقد وصف تحتمس الثالث هذه الحملة بما يأتي:

والآن سار جلالتي إلى شمال حدود بلاد آسيا، وقد أمرت ببناء سفن نقل من خشب الأرز في جبيل ممَّا تنبته تلالها، وهي أرض الإله الواقعة على مقربة من «صيدا»، ثم حُمِلت على عربات ذات عجل وجُرَّت بالثيران، وقد أرسلت قبل جلالتي لتُستعمَل في عبور ذلك النهر العظيم الذي يجري في هذه الأرض الأجنبية وهي نهرين.

من هذه المتون نعلم خلافًا لما ذكرناه أن الملك قد أرسل حملة في هذه الفترة إلى بلاد بونت، عادت محمَّلة بخيرات هذه البلاد المعروفة وهي البخور والذهب، هذا فضلًا عن أنه عندما عاد إلى مصر، كانت بلاد كوش وبلاد واوات قد أرسلت جزيتها السنوية المعتادة، ممَّا يدل على أنها كانت على ولائها للملك.

الحملة التاسعة في السنة الرابعة والثلاثين والغرض منها[عدل]

وفي السنة الرابعة والثلاثين قام تحتمس الثالث بحملته التاسعة المظفرة إلى بلاد زاهي (فلسطين)، والظاهر أنه بعد عودته من إقليم الفرات لم يكن الأمن قد استتب فيه تمامًا، هذا إلى أن لبنان قد شقَّتْ عصا الطاعة على الملك في تلك الآونة؛ ولهذا اضطر إلى القيام بحملته هذه للاستيلاء على ثلاث مدن منها، وقد غنم مغانم كثيرة، وفي نفس العام نشاهد الملك قد وسع سلطانه في الجنوب؛ إذ أسر أولاد أمير أرم المجاورة لبلاد كوش، وأخذهم رهينةً عنده لعصيان والدهم.

والآن نورد المتونَ الخاصة بهذه الحملة من المصادر المصرية:

مقدمة: قهر إقليم نجس السنة الرابعة والثلاثون. لقد سار جلالته إلى أرض زاهي في حملته التاسعة المظفرة، وقد استولى جلالته على بلدة نجس، وأهالي بلاد أخرى كانت في إقليمها، وقد أخضعهم جلالته جميعًا.

قائمة بالبلاد التي قُهِرت هذا العام: بلدان، وثلاثة بلدان خضعت في إقليم «نجس» فيكون المجموع ثلاثة أماكن.

أسلاب الحرب: الأسرى الذين أحضرهم جلالته من هذه البلاد … أما الرجال الذين ساقهم أسرى فعددهم تسعون، وهم الذين سلموا ومعهم نساؤهم وأولادهم … ثم أربعون جوادًا، وخمس عشرة عربة مغشاة بالفضة والذهب، وأواني ذهب وحلقات من الذهب وزنها خمسون دبنًا، وتسع قدات، وآنية من الفضة من هذه البلاد، هذا إلى حلقات من الفضة زنتها مائة وثلاثة وخمسون دبنًا، ونحاس غفل وقصدير وجمشت وأسلحة من كل أنواع الخشب المختلف، وثلاثمائة وستة وعشرون ثورًا وأربعون ماشية صغيرة بيضاء، وما يربي على أربعين ماشية صغيرة أخرى وسبعين حمارًا، وخشب كثير من خشب ثاجو، وكراسي عدة من الخشب الأسود وخشب الخروب، هذا إلى عمد سرادق منمَّقة بالجمشت ومرصَّعة بالأحجار الثمينة، وكذلك كل نوع جميل من خشب هذه البلاد.

جزية بلاد رتنو: جزية أمراء رتنو هذا العام من الجياد، وعربات مصفحة بالذهب والفضة وملوَّنة عددها تسعون، هذا إلى سبعمائة واثنين من العبيد والإماء، وخمسة وخمسين دبنًا وست قدات من الذهب، وأواني فضة مختلفة من صنع البلاد زنتها … دبنًا وست قدات، وذهب وفضة ولازورد وحجر «منو» الثمين، وأوانٍ من كل نوع، وثمانين قالبًا من نحاس بلاده (أي: مستخرج من هذه البلاد)، وأحد عشر قالبًا من القصدير، ومائة ديبن من الألوان وبخور جاف وأخضر وجلد؟ … وثلاثة عشر من الثيران والعجول، وخمسمائة وثلاثين فحل بقر، وأربعة وثمانين حمارًا، وأسلحة كثيرة مرصَّعة بالجمشت؟ وأوانٍ كثيرة من النحاس، وستمائة وثلاث وتسعين آنية بخور، وزيت حلو أخضر، وألفين وثمانين آنية، وستمائة وثماني زجاجات خمر، وعربات من خشب ثاجو، وكل نوع ثمين من خشب هذه البلاد.

تموين الثغور: لقد كانت كل مواني جلالته مموَّنة بكل شيء طريف مما أخذه جلالته من بلاد زاهي، ويشمل ذلك سفنًا من «كفتيو»، وسفنًا من جبيل، وسفنَ «سكتو» المصنوعة من خشب الأرز، محمَّلة قضبانًا وساريات، هذا إلى أشجار عظيمة لنجارة جلالته.

جزية بلاد قبرص: جزية أمير قبرص في هذه السنة مائة وثمانية قوالب من النحاس النقي، وسبيكة من النحاس زنتها ألفان وأربعون ديبنًا، وكذلك خمسة قوارب قصدير، وألف ومائتا قطعة من القصدير، وعشرة ومائة ديبن من اللازورد وسن فيل واحد، وقطعتان من خشب ثاجو.

جزية بلاد كوش: جزية بلاد كوش الخاسئة، وهي ديبنات من الذهب، وستون من العبيد والقيان السود، وأولاد أمير «أرم» … فيكون المجموع أربعًا وستين نسمة، هذا إلى ثيران وعجول فيبلغ عددها مائة وخمسة، وفحول بقر عددها مائة وسبعون فيكون المجموع الكلي مائتين وخمسة وسبعين، هذا عدا سفن محمَّلة بالعاج والأبنوس وكل منتجات هذه البلاد، وكذلك غلة كوش.

جزية واوات: خراج بلاد واوات هو ألفان وخمسمائة وأربعة وخمسون دبنًا من الذهب، وعشرة من العبيد والإماء، وثيران … ثيرانًا وعجولًا … وفحولًا … مجموعها … هذا فضلًا عن سفن محمَّلة بكل طريف من هذه البلاد، وغلة واوات أيضًا.

تعليق على هذا المتن

مما سبق يتضح أنه فضلًا عن الجزية التي كانت تأتي إلى مصر من جهات آسيا المختلفة، قد أخذت قبرص كذلك ترسل جزيتها، وربما كانت ضمن البلاد الخاضعة لمصر وقتئذٍ، هذا ونشاهد أن تحتمس الثالث قد فرض على أمراء لبنان وغيرهم أن يمدوا المواني الفينيقية بالمؤن اللازمة لحملاته، كما فرض عليهم بناء السفن نفسها، وبذلك أصبح في مقدوره أن ينزل في أي ميناء، ويسير بجيشه في داخل البلاد، ويقبض على كل ثورة في حينها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن قوة تحتمس الحربية ونظامها كانت الأولى من نوعها في العالم المعروف وقتئذٍ، ولا أدل على ذلك من أن ملك قبرص بما له من سفن كان يخشى بأس هذا الملك، وأصبح خاضعًا لإرادته، هذا إلى أن الأسطول المصري جعل جزر الشمال تخشى بأس الملك، وأصبح سلطانه ممتدًّا على شرقي البحر الأبيض المتوسط حتى بحر إيجة، مما جعل قائده «تحوتي» يعدُّ الجزرَ التي في وسط البحر (بحر إيجة) من الممتلكات التي تحت سلطانه؛ إذ كان يُلقَّب حاكم الأقطار الشمالية.

الحملة العاشرة[عدل]

والظاهر أن أمراء بلاد نهرين الذين غاب عنهم تحتمس الثالث مدة عامين بعد حملته القاسية، أخذوا يتألبون عليه وكوَّنوا حلفًا قويًّا على رأسه أمير نعته تحتمس الثالث بقوله: «ذلك العدو الخاسئ صاحب نهرين»؛ ومن المحتمل أنه يقصد به ملك ميتاني أو أحد الأمراء الذين كان ضلعهم مع الهكسوس، والذين كانوا لا يزالون يأوون إلى هذه الجهات؛ ولكن تحتمس الثالث كان دائمًا على أهبة الاستعداد لمنازلة عدوه في آية لحظة كانت، ويرجع الفضل في ذلك لاستعداد أسطوله بكل المؤن والذخائر لنقل جيشه وسيره في محاذاته أينما حلَّ؛ ولذلك لما دعا داعي الحرب سار تحتمس في الحال بجيشه إلى سهول بلاد نهرين في السنة الخامسة والثلاثين على رأس حملته العاشرة المظفرة، فقابل العدو في مكانٍ يُدعَى إرينا، ويحتمل أنه في أسفل بلاد نهر العاصي، وانتصر عليهم جلالته وسقط الأعداء الواحد فوق الآخَر أمام جلالته، وبذلك انقصم عرى اتحاد بلاد نهرين وشتَّت شملهم جملة، واستولى على كل ما كان لهم من عدة وعتاد، حتى أصبحوا عاجزين عن أي مقاومة أخرى، بل ظلوا خاضعين تمام الخضوع لهذا الملك الجبَّار مدةً طويلةً.

والآن نورد المتونَ الخاصة بهذه الحملة من المصادر المصرية:

الحملة العاشرة سنة خمس وثلاثين من حكم تحتمس الثالث: السنة الخامسة والثلاثون كان جلالته في زاهي في حملته العاشرة المظفرة.

الانتصار على أمراء نهرين وحليفتهم أرينا: ولما وصل جلالته إلى بلدة أرينا إن هذا العدو الخاسئ صاحب نهرينا قد جمع خيله ورجله … من أطراف الأرض، وكانوا أكثر عددًا من رمال الشاطئ، وكانوا على استعداد لمحاربة جلالته، ومن ثَمَّ زحف جلالته لمنازلتهم، وقام جيش جلالته بهجمة فجدل العدو واستولى عليه وانتصر جلالته على هؤلاء الأجانب بقوة والده «آمون الذي منحه الشجاعة والنصر» … نهرينا، وولوا الأدبار مجدلين على الأرض بعضهم فوق بعض أمام جلالته.

الأسلاب الحربية التي استولى عليها الفرعون: قائمة الأسلاب التي استولى عليها الملك نفسه من هؤلاء الأجانب أمراء «نهرين» … دروع من الجلد المُطعَّم بالجمشت، وقبعة من النحاس المُطعَّم بالجمشت.

الأسلاب التي استولى عليها الجيش: قائمة بأسلاب جيش جلالته من هؤلاء الأجانب الخاسئين: عشرة أسرى، ومائة وثمانون جوادًا، وستون عربة … خمسة عشر زردًا مرصَّعة بحجر الجمشت … وخمس قبعات من النحاس المرصَّع بالجمشت، وخمس أقواس من صنع بلاد خارو.

جزية بلاد رتنو: جزية أمراء رتنو في هذا العام وهي: مائتان وستة وعشرون جوادًا، وعربة واحدة مصفحة بالذهب، وعشر عربات مصفحة بالذهب والفضة، وأوانٍ من الذهب … وأربعة وثمانون إبريقًا من البخور، وتسعمائة وتسعة وثمانون إبريقًا من الزيت الحلو، وثلاثة آلاف وتسعمائة وتسع وتسعون زجاجة من الخمر.

تموين الثغور وخراج بلاد لبنان – حصاد بلاد زاهي: كانت كل الثغور مموَّنة بكل شيء طريف حسب جزيتها التي كانت تُدفَع سنويًّا، هذا إلى جزية لبنان وحصاد زاهي من حبوب وبخور وزيت أخضر ونبيذ …

جزية بلاد آسيوية أخرى: (المتن هنا مهشم ولكن يحتمل أنه قياسًا على ما سبق يشير إلى قبرص وبلاد الخيتا) «… آنية من الذهب … خشب ثاجو وكل الخضر الجميلة من هذه البلاد.»

جزية كوش وبلاد واوات: … وسفن محمَّلة بكل شيء طريف (المتن هنا مهشم، ولم يَبْقَ منه إلا الجملة السابقة).

ومما يلحظ في أسلاب هذه الحملة والجزية التي يدفعها الأهلون أن الزيت والخمر وحصاد البلاد أخذ يتدفَّق على مصر بكثرة، كما أن الذهب كان يأتي إلى مصر في هيئة حلقات، ولا بد أنه كان يُستعمَل في الصناعة، كما نلحظ أن الزرد و الدروع و الأقواس كانت تأتي إلى مصر جزية أو أسلاب حرب، وأهم من ذلك كله أن تحتمس الثالث لم ينسَ قطُّ في أي حملة من حملاته التي ذكرناها أن يجعل المواني دائمًا على استعدادٍ تامٍّ، وذلك بفرض ضريبة خاصة لتموينها وإعدادها؛ إذ كانت في الواقع قوام المحافظة على جيشه أثناء إيغاله في الجهات النائية داخل آسيا، وكذلك نلحظ أن البلاد التي كانت ترسل ما فُرِض عليها من جزية كان لا ينقص عددها، بل ظلَّ آخِذًا في الازدياد.

الحملتان الحادية عشر والثانية عشر[عدل]

(السنة السادسة والثلاثون والسابعة والثلاثون من حكم الملك) لم تمدنا الآثار المكشوفة حتى الآن عن الحملة الحادية عشر بأية معلومات قط، أما الحملة الثانية عشر فلم يَبْقَ لنا منها إلا بعض أجزاء تحدِّثنا عن الجزية التي كانت تُدفَع لمصر سنويًّا، وقد ضاع الجزء الأول وبخاصة اسم الحملة والسنة التي سارت فيها، وكذلك جزية رتنو وتموين المواني الساحلية، وخراج لبنان وحصاد بلاد زاهي، ثم يذكر لنا متن مهشم جزية بلاد لم تُسَمَّ باسمها، ولم يَبْقَ فيها إلا بعض كلمات وهي: «معدن شاكر من إلفنتين، وكحل … وحيوانات صغيرة، وخشب للإحراق.»

جزية بلاد كوش الخاسئة: «سبعون دبنًا من الذهب وقدات وعبيد وإماء سود، وثيران وعجول وبقرات … هذا عدا السفن المحمَّلة بالأبنوس والعاج، وكل الأشياء الطريفة من هذه الأرض، يضاف إلى ذلك حصاد هذه الأرض من البر.»


جزية واوات: «… ديبنًات من الذهب، وأربعة وثلاثون من العبيد والإماء، وأربعة وتسعون من الثيران الكبيرة والعجول والفحول، هذا عد السفن المحمَّلة بكل طريف وحصاد واوات أيضًا.»

الحملة الثالثة عشر السنة الثامنة والثلاثون[عدل]

والظاهر أن تحتمس الثالث سار بجيشه إلى بلدة يونجس في سوريا؛ إذ على ما يظهر قد قامت ثورة بجوارها، وهذه البلدة هي إحدى المدن الثلاث الواقعة جنوبي لبنان، والتي أعطى كهنة آمون خراجها، وقد أخمدت نار الفتنة بسهولة، واستولى جيش الملك على خمسين أسيرًا، وكذلك استولى على أسلاب كثيرة كما سنرى في المتن.

والآن نورد المتونَ الخاصة بهذه الحملة من المصادر المصرية:

السنة الثامنة والثلاثون: سار جلالته إلى بلاد زاهي في حملته الثالثة عشر المظفرة، قد أخضع جلالته بلدة … هذا إلى البلاد التي في إقليم نجس.

أسلاب الجيش من هذا الإقليم: قائمة الغنائم التي أحضرها جيش جلالتي من نجس: خمسون أسيرًا … وخيلًا … وعربات مصفحة بالذهب والفضة ومجهَّزة بأسلحتها، هذا إلى الذين استسلموا في إقليم نجس مع زوجاتهم وأولادهم.

جزية بلاد رتنو: قائمة الجزية التي أُحضِرت بقوة جلالتي في هذه السنة: «328 جوادًا، وخمسمائة واثنان وعشرون عبدًا وقينة، وتسع عربات مصفحة بالذهب والفضة، و61 عربة ملوَّنة، فيكون المجموع 70 عربة، هذا إلى قلائد من اللازورد الحقيقي … وأواني «إكنا» ذات مقبضين، وثلاثة أطباق مفرطحة ورءوس ماعز، ورأس أسد، كلها من صناعة زاهي … وألفان وثمانمائة وواحد وعشرون دبنًا وثلاث قدات من … ، ومائتان وست وسبعون قطعة من النحاس، وستة وعشرون قالبًا من القصدير، وستمائة وستة وخمسون قالبًا من «الكندر»، وألف وسبعمائة واثنان وخمسون آنية من الزيت الحلو، والزيت الأخضر، وزيت «سفت»، ومائة وخمس وخمسون زجاجة نبيذ، واثنا عشر ثورًا … وألف ومائتان من الماشية الصغيرة، وستة وأربعون حمارًا وزرافة، وخمس أسنان فيلة، وموائد من العاج وخشب الخروب، وأحجار «منو» البيضاء زنتها ثمانية وستون دبنًا، وإحدى وأربعون درع حرب، وحراب من الشبه، ودروع وأقواس، وكل الأسلحة الحربية، وخشب حلو من هذه البلاد.» وكل الأشياء الطريفة من هذه البلاد.

تموين الثغور – جزية لبنان - حصاد بلاد زاهي: وقد مُوِّنت الثغور بكل شيء طريف على حسب ما ضرب لها سنويًّا في خلال سياحة السفن منها شمالًا وجنوبًا، وكذلك إتاوة «لبنان» حصاد بلاد «زاهي»، وهي: غلال، وزيت أخضر، وكندر، ونبيذ، وشهد.

جزية قبرص: الجزية التي يحملها أمير قبرص … قالب نحاس من بلاده … وجواد واحد.

جزية إقليم «إرخ» (الالاخ): «جزية أمير إرخ خمسة عبيد وجارية، وقطعتان من نحاس بلاد وخمسة وستون شجرة خروب، هذا إلى كل أنواع الخضر الحلوة من بلاده.»

غنائم حملة بلاد بونت: «الطرائف التي أحضرتها قوة جلالتي من بلاد «بونت» مائتان وأربعون «حقت» من البخور المجفف.»

جزية بلاد كوش الخاسئة: «ديبنًات وست قدات من الذهب، وستة وثلاثون عبدًا وأمة من الزنوج، ومائتان وإحدى عشرة من البقرة والعجول، ومائة وخمسة وثمانون فحل بقر، مجموعها ثلاثمائة وستة من الأبقار والفحول، هذا إلى سفن محمَّلة بالعاج والأبنوس، وكل المحاصيل الجميلة من هذه البلاد، وكذلك حصاد هذه البلاد.»

جزية بلاد واوات: «ألفان وثمانمائة وثلاثة وأربعون ديبنًا من الذهب، وست عشرة أمة وعبدًا من الزنوج، وسبعة وسبعون رأسًا من الثيران والعجول، هذا إلى سفن محمَّلة بكل الحاصلات الجميلة لهذه البلاد.»

ومما هو جدير بالذكر في هذه الحملة جزية بلاد جديدة لم تُذكَر من قبلُ، وهي إرخ (الالاخ)، وهي إقليم في بلاد آشور؛ غير أن أميرها على ما يظهر كان فقير الحال كما تدل ضآلة الهدية التي قدَّمها إلى الملك، وكذلك نشاهد أن الملك لم يغفل عن علاقته مع البلاد المجاورة له، فأرسل حملة إلى بلاد بونت عادت إلى مصر محمَّلة سفنها بطرائفها المعتادة وهي البخور (عنتي).

على أن أهم شيء يلفت النظر هو ما نشاهده من زيادة الضرائب التي كانت تُجبَى للمواني التي اتخذها قاعدةً حربيةً للمحافظة على أملاكه الآسيوية، فكانت هذه الثغور محطًّا لتموين السفن الداخلة إليها والخارجة منها؛ ولذلك كان ما يُجبَى لها يُؤخَذ من بلاد لبنان وبلاد زاهي ممَّا تنتجه من حبوب وزيت وكندر وشهد. وكذلك يُلاحَظ أن ما يُجبَى من بلاد النوبة وبلاد كوش وبلاد واوات من الذهب والماشية أصبح مقداره عظيمًا جدًّا، كما تدل على ذلك الأرقام التي جاءت في القوائم، ويُحتمَل أن هذا الذهب كان يُستخرَج من «وادي علاقي» الشهير بتبره الغزير.

الحملة الرابعة عشر في السنة التاسعة والثلاثين والغرض منها[عدل]

يظهر أن أول غرض للملك من هذه الحملة كان تأديب البدو الذين يقطنون الشمال الشرقي من الأقاليم الواقعة على الحدود المصرية؛ وذلك لأنهم كانوا دائمًا في حاجة إلى تذكيرهم بوجود يد قوية تكبح جماحهم، وتحدُّ من غربهم حينما يثور ثائرهم، وتطيش أطماعهم، غير أن تحتمس بعظمته قد مرَّ على حادث إخضاعهم مر الكرام، فلم يدوِّن لنا كاتب يومياته أيَّ تفصيل، فبعد أن ذكر لنا عرضًا أن جلالته كان في بلاد رتنو، وبعد أن ذهب لإخضاع البدو الخاسئين (شاسو)، أخذ يعدِّد لنا ما تدفَّقَ على البلاد المصرية من خراج البلاد التي كانت تدين بطاعته، كما سنوردها هنا.

والآن نورد المتونَ الخاصة بهذه الحملة من المصادر المصرية:

السنة التاسعة والثلاثون: لقد كان جلالته في بلاد رتنو في حملته الرابعة عشرة المظفرة بعد أن ذهب لإخضاع البدو الخاسئين.

جزية بلاد رتنو: قائمة جزية أمراء «رتنو» في هذا العام: مائة وسبعة وتسعون من العبيد والإماء، ومائتان وتسعة وتسعون من الجياد، وطبقان من الذهب، وحلقات منه أيضًا زنتها اثنا عشر دبنًا وقدتًا … وثلاثون ديبنًا من اللازورد الحقيقي، وطبق من الفضة، وكذلك س حقات من الفضة، وإبريق ذو مقبضين، وإناء برأس ثور، وثلاثمائة وخمس وعشرون آنية من الفضة، وكذلك حلقات من الفضة زنتها ألف وأربعمائة وخمس وتسعون ديبنًا وقدتًا واحدًا (يعادل 334,43 رطلًا)، هذا إلى عربة مغشاة بالذهب والفضة … صنعت من حجر أبيض ثمين وحجر متو الأبيض، وكل الأحجار الغالية المختلفة من هذه البلاد، وكندر، وزيت حلو، وزيت أخضر، وزيت «سفت»، وشهد؛ هذا إلى ثلاثمائة وأربعة وستين إناءً، وألف وأربعمائة وأربعة من قدور «منو» مملوءة بالنبيذ، وأربعة وثمانين فحلًا، وألف ومائة وثلاثة وثمانين من الماشية الصغيرة … وجمشت … وكل أنواع الفاكهة الحلوة من هذه البلاد، هذا عدا كل المحاصيل الجميلة التي تنتجها هذه البلاد.

تموين الثغور – جزية بلاد لبنان – محصول بلاد «زاهي»: كانت كل الثغور مموَّنة بكل طريف كما كان مفروضًا لها من الجزية لأجل السفن المنحدرة شمالًا والصاعدة إلى الجنوب، وكذلك جزية بلاد لبنان، ومحصول بلاد زاهي من برنقي وكندر وزيت أخضر ونبيذ.

جزية بلاد آسيوية أخرى: (المتن مهشم).

جزية قبرص: جزية أمير قبرص (إسي): «سنا فيلين، وأربعون قالبًا من النحاس، وقالبًا من … القصدير …»

جزية بلاد أجنبية أخرى: جزية أمير … (المتن مهشم).

جزية بلاد كوش: «جزية بلاد كوش الخاسئة في هذا العام: 144 دبنًا وثلاث قدات من الذهب، ومائة وواحد من العبيد والإماء الزنوج، وأبقار وعجول، وفحول بقر … المجموع … هذا عدا سفن محمَّلة بكل شيء طريف من هذه البلاد، ومحصول بلاد كوش الخاسئة أيضًا.»

جزية بلاد واوات: «جزية بلاد واوات هذا العام … ديبنًا من الذهب و… من العبيد والإماء … وثيران وعجول عددها خمسة وثلاثون، وأربعة وخمسون فحلًا، مجموعهما الكلي تسعة وثمانون من الماشية، هذا عدا سفن محمَّلة بكل طريف من هذه البلاد ومحاصيلها أيضًا.»

وممَّا يلفت النظر في قوائم هذه الجزية التي دُوِّنت في هذا العام، أنه لم يذكر بينها بلاد نهرين وبلاد آشور وغيرها من البلاد التي تقع على مقربة من نهر الفرات، ربما تكونان قد ذُكِرتا في المتنين المهشمين.

الحملة الخامسة عشر السنة الأربعون[عدل]

الظاهر أن تحتمس الثالث لم يَقُمْ بحروب في هذه الحملة، وكل ما ذكره لنا المؤرِّخ المصري هو الجزية التي جُبِيت من الأراضي التي كانت تحت سلطان الملك، إذا كان ما ذكره الأستاذ زيته حقًّا؛ والواقع أنه لم يَبْقَ من بداية النقش ما نستنير به.

ويُخَيَّل لنا أن الملك لم يَقُمْ بأي غزو في السنتين الأربعين والحادية والأربعين، بل كانت تأتي الجزية إليه دون قيامه بأية حروب، مما يدل طبعًا على استتباب الأمن، وقد أورد لنا الأستاذ زيته تحت حوادث السنة الأربعين ما يأتي:

(السنة الأربعون) ذهب جلالته إلى بلاد … في حملته المظفرة.

وهذه قائمة الجزية التي أُرسِلت إلى مصر من البلاد الخاضعة في السنة الحادية والأربعين:

قائمة جزية بلاد رتنو: «قائمة جزية أمراء رتنو التي أُحضِرت بقوة جلالته في السنة الحادية والأربعين …: أربعون قالبًا من القصدير، وجمشت لتزيين الدروع، وسيوف «أقحو» (بلطة)، وحراب مرصَّعة بالجمشت … من هذه البلاد، وثماني عشرة سنًّا من أسنان الفيلة، و241 شجرة خروب، و184 ثورًا، و… ماشية صغيرة …»

تموين الثغور – محصول زاهي: كانت الثغور مموَّنة بكل شيء طريف كالمعتاد في كل سنة، هذا إلى محصول «زاهي» كذلك من بر وكندر.

الجزية من بلاد خيتا العظيمة: «جزية أمير الخيتا هذا العام … ذهب … وفضة …»

جزية بلاد كوش الخاسئة هذا العام: «195 ديبنًا وقدتان من الذهب، ومن العبيد والإماء الزنوج ثمانٍ، هذا إلى ثلاثة عشر عبدًا زنجيًّا جيء بهم ليكونوا خدمًا، مجموعهم واحد وعشرون نسمة، و… ثيران وعجول و… فحول بقر مجموعها … هذا إلى سفن محمَّلة بالعاج والأبنوس وكل شيء طريف من هذه البلاد، وكذلك محصول بلاد كوش الخاسئة.»

جزية بلاد واوات: «ثلاثة آلاف ومائة وأربعة وأربعون وثلاث قدات من الذهب، وخمسة وثلاثون ثورًا وعجلًا، وتسعة وسبعون فحل بقر، مجموعها مائة وأربعة عشر، هذا إلى سفن محمَّلة بسن الفيل وخشب الأبنوس وكل شيء طريف، وكذلك حصاد بلاد واوات.»

وأهم ما يسترعي النظر في هذه الجزية مقدارُ الذهب الذي كان ينهال على مصر من هذه الأصقاع، وبخاصة من بلاد واوات، هذا إلى استمرار إرسال العبيد والإماء من بلاد كوش، وكذلك العاج والأبنوس، والواقع أنها لا تزال المواد الرئيسة في التجارة بين مصر والسودان حتى اليوم، اللهم إلا الرقيق، وقد بطل الاتجار فيه منذ زمن قريب.

الحملة السادسة عشر السنة الثانية والأربعين والغرض منها[عدل]

تدل كل الأحوال على أن ملك قادش كان لا يزال مصرًّا على عناده وتمسُّكه بقوميته واستقلاله، فلم يعترف يومًا بالسيادة المصرية على بلاده؛ ولذلك كان دائمًا يتحين الفرص ليثير الأمراء المجاورين له ويحرِّضهم على العصيان، والقيام يدًا واحدة بثورة للخلاص من عبء النير المصري، وقد أفلح فعلًا في اجتذاب ملك ميتاني وإقليم تونب إلى جانبه، فأعلنوا العصيان على مصر، ولما علم تحتمس بهذا الحلف، سار بأسطوله إلى شواطئ فينيقيا، ونزل في ميناء سميرا وهاجَمَ ميناء "عروقات" فاستولى عليها عنوةً، ومن ثَمَّ زحف مباشَرةً على تونب على مقربة من قادش ونهر العاصي، ونذكر هنا أن أميرًا من أمراء هذه البلدة كان قد دافَعَ عن بلدة "وارثت" في خلال الحملة الخامسة التي قام بها هذا الملك.

على أن النقوش لم تقدِّم لنا أية تفاصيل عن الاستيلاء على تونب، وعلى أية حال فإنه بعد سقوطها بدأ الملك حصار قادش، وتفاصيل حصار هذه البلدة قد يكون مجهولًا لنا لولا ما قصَّه علينا أمنمحاب، والظاهر أن الملك لم يهاجم المدينة إلا بعد فصل جني الحصاد، ولم يجد كبير عناء في الاستيلاء عليها، وذلك أن العدو كما يقصُّ علينا أمنمحاب تفاديًا لمحاصرة المدينة اشتبك في موقعة مع الملك خارجها، وفي هذه الموقعة لجأ ملك قادش إلى حيلة ساذجة ظنًّا منه أنه ربما استطاع بها تشتيت شمل الجيش المصري والتغلُّب عليه؛ ذلك أنه أطلق العنان لفرس أمام جياد عربة الملك ظنًّا منه أنها تهيج الجياد وتجعلها غير صالحة للقتال، وبذلك ينشر الذعر والارتباك في صفوف الجيش المصري، ولكن أمنمحاب لما رأى ذلك فطن للحيلة التي دبَّرها العدو، وقفز من عربته في الحال والسيف في يده، وانطلق خلف الفرس وشقَّ بطنها وقطع ذيلها وحمله للملك.

فلما رأى الأعداء أن حيلتهم قد انفضح أمرها، لاذوا بالفرار إلى داخل المدينة واحتموا وراء جدرانها، وقد أمر الملك بعمل نقب في سورها، وهنا نجد أن أمنمحاب يُظهِر شجاعته ثانيةً ويفخر بأنه هو الذي اخترق جدران هذه المدينة الحصينة، وقد سلمت بعد أن أُسِر أمراء نهرين الذين اشتركوا مع ملك قادش في هذه الحروب؛ ولذلك لم يَرَ الملك ضرورةً للسير شمالًا، ولا غرابة إذ قررنا هنا أن سقوط قادش قد سحق آخِر قوة للهكسوس الذين أحاقوا بالبلاد المصرية أكبر مصيبة، وبذلك اختفت آثارهم جملةً، وكانت لا تزال عالقة بالأذهان في البلاد المصرية؛ وقد برهنت الكشوف الحديثة على أن ما رواه كتَّاب اليونان في هذا الصدد صحيح، وهو أن تحتمس الثالث هو الملك الذي قضى على قوة الهكسوس، الذين التجئوا إلى آسيا بعد أن طردهم أسلافه من مصر وقضوا عليهم قضاءً مبرمًا.

والآن نورد المتونَ الخاصة بهذه الحملة من المصادر المصرية:

السنة الثانية والأربعون: كان جلالته في بلاد زاهي في حملته السادسة عشرة المظفرة لقمع الثورة التي كانت في أراضي "الفنخو". كان جلالته على طريق الساحل لإخضاع بلدة "عرقت"، وكذلك البلاد الواقعة في إقليمها … ثم زحف حتى … (اسم بلد مهشم) فأخضع هذه المدينة وإقليمها.

التغلُّب على تونب: ثم زحف إلى تونب، وقهر المدينة وحصد غلاتها، واجتثَّ أشجارها.

العودة إلى قادش والتغلُّب على ثلاث مدن في إقليمها: لقد عاد في سلام ووصل إلى إقليم قادش واستولى على ثلاث مدن فيه.

قائمة الغنائم التي استولى عليها منها

ممتلكات أمراء نهرين التي استولى عليها الملك من ثلاثة المدن: لقد استولى جلالته على أهالي نهرين الخاسئين ومَن ساعَدَهم، وعلى خيلهم، وستمائة وواحد وتسعين أسيرًا، وتسع وعشرين يدًا، وستة وأربعين جوادًا …

جزية بلاد رتنو: قائمة جزية أمراء بلاد رتنو هذا العام: 295 عبدًا وقينة، وثمانية وستون جوادًا، وثلاثة أطباق من الذهب، وأطباق من الفضة، وأوانٍ من النحاس اللامع، هذا إلى حلقاتٍ من الفضة … و47 قالبًا من القصدير 1100 ديبن من القصدير، وألوان، وخشب جوز، وكل الأحجار الجميلة من هذه البلاد، ودروع من النحاس مرصعة بالجمشت، وآلات حرب … وكل فاكهة حلوة من هذه البلاد.

تموين الثغور ومحصول زاهي: وكانت كل الثغور مموَّنة بكل شيء طريف، كما هو المتبع في حساب كل سنة، وكذلك محصول هذه البلاد أيضًا.

جزية بلاد آسيوية أخرى (يحتمل أنها قبرص أو الخيتا): الجزية التي أحضرها أمير … في هذه السنة … فضة … وكذلك أطباق ورءوس ثيران زنتها 341 ديبنًا وقدتان، وثلاثة وثلاثون قدتًا من اللازورد الحقيقي، وعصًا جميلة من خشب ثاوجو … قالب نحاس منها (من مناجم هذه الجهة) …

جزية أمير «تني»: الجزية التي أحضرها أمير تني: آنية من الفضة من صنع «كفتو»، وكذلك أوانٍ من حديد، وأربع أيدٍ من الفضة زنتها ستة وخمسون ديبنًا وثلاث قدات.

جزية بلاد كوش: جزية بلاد كوش الخاسئة في هذه السنة: … ديبنًا من الذهب، و… عبيدًا وإماءً من الزنوج وثيرانًا وعجولًا، و… فحول بقر مجموعها … هذا إلى سفن محمَّلة بكل شيء طريف من هذه البلاد، وكذلك حصاد بلاد كوش الخاسئة.

جزية واوات: جزية واوات في هذه السنة 2374 ديبنًا من الذهب وقدت واحدة، وعبيد وإماء من الزنوج … وثيران وعجول … وفحول بقر مجموعها … هذا إلى سفن محمَّلة بالعاج والأبنوس، وكل شيء طريف من هذه البلاد، وكذلك حصاد بلاد واوات.

وأهم ما يُرَى في جزية هذه السنة جزيةُ أمير تني، وقد ورد فيها لأول مرة ذكر الحديد، وكذلك الفضة من صنع كفتو، وقد اختلف المؤرخون في موضع هذا الإقليم المسمَّى كفتو، وقد كتب أخيرًا «وين رايت» مقالًا عنه، وقال إنه يقع في آسيا الصغرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

الحملة السابعة عشر والأخيرة إلى بلاد السودان في السنة الخمسين[عدل]

يدلُّ ما وصل إلينا من النقوش على أن آخِر حملة حربية سار على رأسها تحتمس الثالث كانت إلى بلاد السودان في السنة الخمسين من حكمه؛ أيْ قبل الاحتفال بعيده الثلاثيني الثالث.

والظاهر أنه مكث في هذه الحملة مدة أكثر من المعتاد في تلك الجهات، ممَّا يدلُّ على أن الأمر على ما يظهر لم يكن هيِّنًا، فقد بقي تحتمس الثالث قرابة ثمانية أشهر في السودان، وما لدينا من الوثائق يدلُّ على اهتمام هذا الملك منذ بداية حكمه بشئونه وعلاقته به، وبخاصة من الوجهة الدينية، وقد أشرنا فيما سبق إلى أعماله الدينية في هذه الجهات، ولكن لما كانت علاقة مصر بالسودان لها خطرها في كل الأزمان.

وبعد أن انتهى تحتمس الثالث أو كاتبه بعبارة أخرى من تدوين حملاته على جدران معبد الكرنك، ختمها بالعبارة التالية: لقد أمر جلالته بتدوين الانتصارات التي أحرزها منذ عام 23 من حكمه حتى العام الثاني والأربعين منه، وهو نفس العام الذي دُوِّنت فيه هذه النقوش على هذا المحراب لأجل أن يمنح الحياة مخلدًا.

حروب تحتمس الثالث ونتائجها[عدل]

هذه هي الحروب التي أمر تحتمس الثالث بتدوينها على جدران معبد الكرنك، والظاهر أن الحملات التي قام بها تحتمس الثالث على بلاد آسيا مرة بعد أخرى والقضاء على كل مقاومة وعصيان، وقد أعطت أمراء سوريا وبلاد نهرين درسًا عمليًّا في نهاية الأمر بأنه لا طائل من العصيان وبثِّ الثورة على هذا الملك الجبار؛ إذ قد علموا أنه مهما كانت سرعتهم في جمع شملهم وتحالفهم على تحتمس فإنه كان أسرع منهم، وأن أية مساعدة كانوا ينالونها من أولئك الأقوام الذين حقدوا على مصر، وأضمروا لها العداء لا تُجدِي، فإن تحتمس كان أعظم منهم خطرًا وأشد بأسًا، وأن أبعد هذه الولايات من مقر حكمه كانت كأقربها إليه، ويمكنه أن ينقضَّ عليها في سرعة خاطفة بما اتخذه من استعداد، وما أوتيه من يقظة وانتباه، فقد جعل البحر خادمًا خاضعًا له يركبه وينقضُّ على عدوِّه من خلفه، في حين أنه كان يرقب هجومه من الأمام، وكذلك علم هؤلاء الأقوام أن تحتمس الثالث ذلك الجندي السريع الحركة القوي البطش لم يكن وحشًا كاسرًا محبًّا لسفك الدماء في ساحة الوغى، بل كان إنسانًا رحيمًا رقيق الطبع لم يَرُقْ في عينه — حتى في أشد المواقف — ذَبْحُ ألدِّ أعدائه إذا كان في استطاعته الخروج من هذا المأزق بأية وسيلة.

وقد كان من نتائج كلِّ ذلك أن أمضى تحتمس المدةَ الباقية من حياته دون أن يرى أيَّ ثورة في الأقاليم الآسيوية التي فتحها، ولم يكن أخلافه من بعده في حاجة إلى إشعال حروب مستمرة في تلك البقاع كالتي خاض غمارها تحتمس الثالث، بل كانت حروبهم لا تتعدى حملة أو حملتين، إذا ما دعا الأمر لتذكير أولئك الأقوام بقوة مصر الحربية وعظمتها، وقد بقي هذا الولاء، واستمر هذا الرعب من قوة مصر مدةً طويلةً؛ إذ قد عرف الولاة من حروبهم مع تحتمس أن مصر عدوة يُخشَى بأسها، وأن تحتمس في الوقت نفسه كان صديقًا يُعتمَد عليه، حتى إن أولئك الأقوام المغلوبين في آسيا قد زعموا أنهم سيجدون هذه الصفات في أخلافه، ممَّا جعلهم يطلبون يدَ المساعدة فيما بعدُ عندما تحرجت الأحوال في بلادهم، وانقضَّتِ الممالكُ المجاورة الفتِيَّة القوية على ولاياتهم، فكانوا يذكرون أيام سيادة تحتمس وقوة سلطانه ووفائه، وبعد انقضاء أربعة أجيال على وفاته لم يكن في مقدور أخلافه أن يحموا الأمراء التابعين لهم في بلاد نهرين؛ ولذلك ذكر أولئك التعساء أيام بطل مصر الأكبر تحتمس الثالث، وما كان عليه من قوة وسلطان، فكتبوا إلى ملك مصر إذ ذاك قائلين: مَن ذا الذي كان يجسر على نهب تونب دون أن يفتك به منخبريا (لقب تحتمس الثالث باللغة السريانية).

ولا نزاع في أن الرجل الذي استطاع أن يترك في نفوس القوم الذين فتح بلادهم منذ أربعة أجيال، مثل هذا الأثر بقوته وبأمانته الساهرة في المحافظة على وعده لهم بحمايتهم؛ لا بد أن يكون أعظم بكثيرٍ من رجل حرب وحسب، كما يصفه أحيانًا بعض مَن لم يدرس حياته درسًا دقيقًا، بل الواقع أن تحتمس الثالث كانت فيه كل صفات الرجولة الكاملة.

حدود إمبراطورية تحتمس الثالث[عدل]

دان العالم المتمدين لسطوة تحتمس الثالث، وعز سلطانه حتى صار قبل وفاته يسيطر على إمبراطورية تمتد من أعالي نهر دجلة والفرات شمالًا حتى مدينة نباتا عند الشلال الرابع وصولا الي منابع النيل في بلاد بنط جنوبًا ، ولم يخف على فطنة تحتمس أن يحدِّد لأخلافه من بعده حدودَ إمبراطوريته، كما فعل سنوسرت الثالث عندما وضع لوحة الحدود الشهيرة عند سمنة؛ إذ إنه لما عبر نهر الفرات أقام لوحة تذكارية في الجهة الغربية من هذا النهر لتكون بمثابة آخِر نقطة وصلت إليها فتوحه في الشمال، غير أنه لم يكشف عنها حتى الآن مع الأسف، ولا نعلم ماذا دون عليها على وجه التحقيق، أما في الجنوب فقد حدَّد فتوحه كذلك بلوحة من الجرانيت أقامها عند جبل البركل على مقربة من مدينة نباتا، وهذه النقطة هي على ما يظهر آخِر ما وصل إليه الفتح المصري في كل عصور التاريخ القديم، وقد حدَّثنا فيها هذا الفرعون عن قوة سلطانه، وما أحرزه من انتصارات على الآسيويين، دون أن يشير إشارة صريحة إلى انتصاراته على بلاد كوش، ولا عجب إذن إذا كان تحتمس الثالث قد تغاضى قصدًا عن ذكر انتصاراته على السودانيين؛ تفاديًا من جرح شعورهم أو التنديد بهم في عقر دارهم، فمن الممكن أن يكون قد تغافَلَ تحتمس الثالث في اللوحة التي أقامها عند نهر الفرات عن ذكر انتصاراته على الآسيويين، وإذا كانت الأشياء تقاس بأشباهها فقد يكون ذلك ليس ببعيد على رجل ضرب الرقم القياسي على ما يظهر في ميدان الحرب والسياسة معًا، وبين هذين الأثرين؛ أي لوحة الفرات ولوحة جبل البركل تقع إمبراطورية تحتمس الثالث التي دانت له بحد السيف ومضاء العزيمة وحسن السياسة، وسنرى فيما يلي أن آثاره قد عمت كل جهات هذه الإمبراطورية، بدرجةٍ لم يسبق لها مثيل في عهد أي ملك مصري قبله.

حوليات تحتمس الثالث[عدل]

تتألف سجلات حوليات تحتمس الثالث من العديد من النقوش للسجلات العسكرية المصرية القديمة التي تم جمعها من حملات تحتمس الثالث في سوريا وفلسطين والسودان ، من سنوات الحكم الثانية والعشرين (1458 قبل الميلاد) إلى الثانية والأربعين (1438 قبل الميلاد). يمكن العثور على هذه التسجيلات على الجدران الداخلية للغرفة التي تضم "قدس الأقداس" في معبد الكرنك العظيم لآمون. يبلغ طول المساحة التي تحتوي على هذه النقوش 25 مترًا وعرضها 12 مترًا فقط ، وتقدم أكبر وأدق الروايات التفصيلية عن المآثر العسكرية لجميع الملوك المصريين.

مراجع[عدل]

  1. ^ أ ب "Artaxerxes III Ochus (358 & nbsp؛ BC to 338 & nbsp ؛قبل الميلاد)". تم الاسترجاع 2 مارس ، 2008.
  2. ^ Herodotus؛ Rawlinson، George (1942). [https: //archive.org/details/in.ernet.dli.2015.547478 الحروب الفارسية]. المكتبة الحديثة. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من قيمة |مسار= (مساعدة)
  3. ^ Francis Breyer: Ägypten und Anatolien. Wien 2010, S. 130.
  4. ^ Wolfgang Helck: Die Beziehungen Ägyptens zu Vorderasien im 3. und 2. Jahrtausend v. Chr. 1971, S. 118–119.
  5. ^ Thomas Schneider: Lexikon der Pharaonen. Düsseldorf 2002, S. 293.
  6. ^ Francis Breyer: Ägypten und Anatolien. Wien 2010, S. 127.
  7. ^ Francis Breyer: Ägypten und Anatolien. Wien 2010, S. 136.
  8. ^ Christian Langer: Aspekte des Imperialismus in der Außenpolitik der 18. Dynastie. Frankfurt am Main 2013, S. 125–126; Paul John Frandsen: Egyptian Imperialism. In: Mogens Trolle Larsen (Hrsg.): Power and Propaganda. A Symposium of Ancient Empires (= Mesopotamia. Bd. 7). Akademisk Forlag, Kopenhagen 1979, ISBN 978-87-500-1878-0, S. 177ff.
  9. ^ Thomas Kühn: Ägyptens Aufstieg zur Weltmacht. Die Feldzüge Thutmosis' III. In: Kemet. Bd. 10, Nr. 3, Berlin 2001, S. 25.