مستخدم:Seefali/ملعب

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
الدفنات الآدمية في بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ
معلومات عامة
البداية
النهاية
المنطقة
مجال البحث
عادات الدفن
التأثيرات
أحد جوانب
آثار بلاد الشام

المدافن الآدمية في بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ[1] عبرت عادات الدفن في بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ عن طبيعة الحياة والمعتقدات الدينية التي كانت سائدة هناك خلال تلك الحقبة الزمنية الطويلة إذ عُثر في مواقع بلاد الشام على العديد من المدافن الآدمية ذات الأنماط المختلفة التي تنوعت مابين: مدافن آدمية رقد فيها المتوفى في حفرة بسيطة بوضع الرقود، ومدافن قُيد فيها المتوفى ووثق بالحبال قبل دفنه، ومدافن وضع فيها المتوفى بطريقة مهملة في حفر النفايات، ومدافن وضع بعض الكتل الحجرية أعلى أجسام أصحابها ربما حفاظاً عليهم وتأكيداً على تثبيتهم في الأرض، ومدافن حرق أصحابها قبل أو بعد دفنهم بالمقبرة مباشرة، ومدافن أخرى تم فصل أجزاء من أجساد أصحابها عمدا وبطريقة مقصودة، وجميعها ممارسات لعادات جنائزية اتخذت سمات خاصة ميزت بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ. وهناك من العادات الجنائزية ما ميز مكان دون سواه بسمات خاصة في عادات الدفن المتبعة، وإن كان هذا لا ينفي وجود تشابه في بعض العادات الجنائزية التي جمعت بين أغلب مواقع بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ في نسيج حضاري واحد كالدفن داخل الكهوف أو داخل المساكن أو نزع جماجم الموتى ووضعها في مكان مستقل كنوع من التقديس.

الكهف وارتباطه بعادات الدفن[عدل]

عاش الإنسان الأول في الكهف متخذاً منه مسكناً ومقبرة؛ مكان يجمع بين عالم الدنيا وعالم الآخرة،[2] ومن ثم فقد رأى بعض الباحثين أن الكهف كان بمثابة نموذج متكامل لحياة إنسان عصور ما قبل التاريخ، فهو عالمه الصغير الذي يرمز إلى الحياة والموت معاً بل وهو أيضاً المكان المقدس الذي يمارس فيه طقوسه وممارساته الشعائرية.[3] ولقد كانت طقوس الدفن تتم داخل الكهوف في أغلب حضارات عصور ما قبل التاريخ، وقد وضح ذلك في مختلف مغاور وملاجئ بلاد الشام، إذ عُثر على العديد من المدافن الآدمية[4] في كهوف عدة كان قد سكنها إنسان النياندرتال مثل كهف شقبة بفلسطين والذي عُثر فيه على أدلة وجود حياة يومية وكذلك عُثر فيه على العديد من المدافن الآدمية وكذلك عُثر على العديد من المدافن الآدمية في كهوف الطّابون، الديدرية، الكبارا، العامودية وكهف الحلزون في فلسطين والذي يؤرخ بالعصر النطوفي،[5] ولقد أشار الماجدي إلى ارتباط الكهف في كثير من الأحيان بالدفن الطقسي الذي تميز بنوع من الشعائرية سواء في أسلوب الدفن أو في إحاطة المتوفي بالاهتمام وتزويده بالعديد من أنواع المتاع الشخصي، ولقد اختص بهذا النوع من الدفن في رأي الماجدي، ساحر القبيلة لما اشتهر به من القيام بأعمال السحر وقدرته على الاتصال بالأرواح وتسخيرها لأعمال كثيرة كالصيد واستنزال المطر والشفاء من بعض الأمراض، فحظى الساحر أثناء حياته بالمهابة وأصبح بمثابة الزعيم الديني، وكان بعد موته يُدفن وتُلحق به أدواته والأشياء التي كان يستخدمها في ممارسة طقوسه السحرية.[6] ولم يكن السحر حكراً على الرجال دون النساء، فلقد ظهر دور المرأة في الممارسات السحرية منذ العصر الحجري القديم الأعلى تقريبا،[7] ولقد عُثر في كهف وادي الحلزون بالجليل بفلسطين على ما يشير إلى ذلك[8] إذ عُثر في هذا الكهف على العديد من حفر الدفن، وعثر فيه كذلك على دفينة آدمية بدراستها تبين أنها لسيدة ربما كانت من الشامان، دُفنت ومعها بقايا العديد من الأجزاء الحيوانية التي تنوعت بين ظهر سلحفاة، بقايا من عظام حيوان "الأرخص"، وبقايا من عظام طيور كاسرة ربما كان "نسر"، وبقايا أخرى لعظام حيوانية مختلطة بخلاف بعض الأدوات العظمية التي كانت تستخدمها في أداء أعمالها السحرية[9] ويمكن تأريخ الدفينة طبقا لسماتها بالعصر الناطوفي (12.000-12.400ق.م تقريباً)،[10] إذ بينت تلك الدفينة بخصائصها طبيعة الحالة الاقتصادية والدينية والاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الفترة، وكيف كان الاهتمام بدفن الموتى من الأمور الهامة التي حرص عليها سكان بلاد الشام آنذاك.[11] وبالنظر إلى تلك الدفينة يتبين مدى الحرص على إحاطة هذه المرأة بكافة أدواتها ومتاعها الشخصي، ربما كي لا تضطر روحها إلى مغادرة المكان للحصول على أي من أدواتها، فالدفينة لا تخلو من تقديس ورهبة لشخص هذه المرأة.

المسكن وارتباطه بعادات الدفن[عدل]

مرت بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ بسلسلة من المراحل الحضارية التي طورت من حياة وفكر أهل بلاد الشام، وأدت بهم إلى التحول الاقتصادي الكبير الذي حدث لهم في العصر الحجري الحديث، وما صاحبه من تحول اجتماعي وحضاري أدى إلى تطور حياتهم الفكرية والروحية فانعكس ذلك في معتقداتهم و تقاليدهم الاجتماعية والدينية والجنائزية[12] ولقد ظهر لدى سكان بلاد الشام في هذا الشأن نوعان من أساليب الدفن استمرا جنب إلى جنب وهما:

  • الدفن داخل حدود المنطقة السكنية
  • الدفن خارج حدود المنطقة السكنية

فقد ارتبط المسكن لدى أهل بلاد الشام بالإقامة وبدفن الموتى وذلك منذ العصر النطوفي، إذ عُرفت خلال هذا العصر ظاهرة فصل رأس المتوفي ودفن الجمجمة منفردة داخل المسكن، واستمرت هذه الظاهرة موجودة طوال العصر الحجري الحديث وما تلاه،[13] حيث استمر سكان بلاد الشام خلال هذا العصر يقومون بدفن موتاهم إما تحت أرضيات البيوت أو بجوارها،[14] وثبت ذلك في الكثير من المواقع منها: أريحا وأبو هريرة وعين غزال والمريبط.[15] ويعد موقع أريحا بفلسطين من أهم المواقع التي زودتنا بأكبر عدد من المدافن في العصر الحجري الحديث قبل الفخاري في بلاد الشام، فقد كشف فيها عن حوالي 276 هيكلاً بشرياً مدفوناً داخل حفر تحت الأرضيات السكنية وداخل المنطقة السكنية،[16] وقد كثر العثور على مدافن المساكن في مختلف مواقع بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ، ومنها منطقة تل القرامل الواقعة على الضفة اليمنى لنهر قويق، وعلى بعد 25 كم شمال مدينة حلب السورية، و30 كم من الحدود التركية،[17] ويعد هذا المكان بموقعه الجغرافي المتميز أشبه بنقطة التقاء حضاري بين تركيا وسوريا وفلسطين؛[18] وفيه عُثر على مستوطنة تؤرخ بالعصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، أي من (9400-7600 ق.م)،[19] وداخل المستوطنة عُثر على 28 مقبرة تنوعت ما بين مقابر جماعية وأخرى فردية، ومقابر آدمية وأخرى حيوانية، تم دفنهم جميعاً في بيت واحد عُرف بـ"المنزل الجماعي المقدس"، وكان من بين المقابر الملفتة للنظر بهذا المسكن المقبرة رقم 4 وهي لرجل دفن في حفرة بيضاوية ضيقة في وضع الجلوس، وقد فُصلت عنه جمجمته، وأحيط هيكله العظمي بعدد من الكتل الحجرية، وعثر قرب موضع دفنه على موقد.[20] وفي نفس البيت عُثر على دفينة أخرى لرجل مقطوع الرأس ومدفون بوضعية فسرها كنجو بأنها تشير إلى عملية تضحية أو قربان بشري، حيث وضعت الأيدي والأرجل متباعدة تحت أرضية المبنى، وكانت جميع الفقرات العنقية موجودة باستثناء الرأس، إلا أنه لا توجد آثار قطع على الفقرات،[21] ربما كان لهذه الدفينة في هذا البيت الجماعي مغزى طقسي وشعائري مرتبط بهذا المكان وبالشخص المدفون.

نزع جماجم الموتى[عدل]

نظر أهل بلاد الشام إلى الجماجم على أنها مركز الفكر والعقل والروح، وهذا ما جسدته المكتشفات التي أتت من العديد من مواقع بلاد الشام، حيث كشف عن العديد من الجماجم المجصاة التي عولجت بعناية خاصة ونُظمت في أماكن محددة كانت بمثابة مراكز شعائرية، ويدل التباين الواضح في أشكال تلك الجماجم وتقاسيمها على أنها تعود إلى أشخاص معينين ومعروفين في مجتمعهم، وهم على الأرجح يمثلون النخبة من القادة والكهنة من الرجال أو النساء، والذين أراد مجتمعهم الاهتداء بهم عبر الاحتفاظ بذكراهم وتخليدهم واحترامهم على مر الزمن،[22] وهذا ما عرفه الباحث كفافي بـ "عبادة الجماجم" أو "عبادة الأسلاف" وهي من أهم العقائد التي كشفت دلائلها في العديد من مواقع بلاد الشام،[23] وقد أشارت الحوراني إلى أن عبادة الأسلاف كانت قائمة في الأساس على عبادة أرواح الموتى، فالخوف من المتوفى كان مصدر للسيطرة الدينية ومن ثم كان القيام بمختلف المراسم الجنائزية لاسترضاء هذه الأرواح،[24] وقد جسدت هذه العقيدة من خلال الاحتفاظ بالجماجم البشرية المجصاة التي فصلت عنها الأجساد وعولجت وقولبت بالجص بعد كشط اللحم عنها، وبشكل يحافظ على ملامحها الأصلية، مع الإشارة إلى العيون والحواجب والشعر بألوان أو أحجار خاصة، وكان بعد الانتهاء من هذه الأعمال جميعها تُدهن الجمجمة بالمغرة الحمراء،[25] وكان يتم الاحتفاظ بهذه الجماجم في مخابئ خاصة،[26] بعضها في بيوت السكن، ويُعتقد أنه كان يتم استخراجها أو استخدامها في المناسبات والشعائر الدينية التي مارسها السكان،[27] ولقد كشف في تل أسود وتل الرماد وفي أريحا بفلسطين عن العديد من الجماجم البشرية المجصاة التي وجدت في مجموعات فيما يعرف بالمخابئ مثل خبيئة أريحا التي عثرت فيها كاثلين كينون عن سبعة من الجماجم المجصاة التي تؤرخ ببداية العصر الحجري الحديث المبكر.[28] ويرى أبو غنيمة أن تلك المخابئ قد تكون بمثابة مراكز شعائرية يتم فيها الاحتفاظ بجماجم بعض الموتى من ذوي المكانة الاجتماعية المتميزة بين أفراد عائلتهم، وكان يتم إخراجها في أوقات معينة من العام للاحتفال ببعض المناسبات الدينية لسكان المكان.[29] وفي تل الرماد بسوريا عُثر على مجموعة من الجماجم المجصاة، فُصلت جماجمهم عن بقية الجسد ووضعت على شكل مجموعات، في حفر خاصة في أرضيات بيوت السكن، أو على امتداد الجدران، أو داخل مخابئ خاصة بها عرفت بـ "خبيئة الجماجم"،[30] وتكرر الأمر نفسه في منطقة تل قراصة الشمالي (بالإنجليزية:Tell ElQarassa) جنوب سوريا، إذ عُثر على خبيئة لمجموعة من الجماجم الآدمية تم إحاطتها بعدد من الكتل الحجرية وكان برفقتها هيكل عظمي مفصول الأعضاء، مما يشير إلى نوع معين من عادات الدفن التي ميزت ذلك الموقع الذي يؤرخ ببداية العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري والعصر الحجري النحاسي.[31] وكانت عملية إعادة فتح بعض المقابر عقب الدفن الابتدائي لجثث الموتى من بين العادات الجنائزية المتبعة أيضاً في تل القراصة الشمالي، وكان الغرض من هذه العملية فصل الجماجم عن الهياكل العظمية وإعادة ترتيب العظام مرة أخرى بتلك المقابر إلا أن هذا الأمر كان يخضع لنوع من التمييز في الاختيار، إذ عُثر على العديد من الهياكل العظمية المكتملة، وبعض الهياكل العظمية منزوعة الجماجم ومفصولة الأعضاء، بما يوحي بطواعية الاختيار بين الهياكل العظمية، وخضوع البعض منها فقط لمثل هذه الممارسات الجنائزية، وربما كان ذلك التقليد يتم ضمن طقوس جنائزية معينة وهذا ما يؤكده عدم التكافؤ بين بقايا تلك الهياكل العظمية بما يوحي بنوع من الاختيار المقصود لهياكل عظمية دون سواها، وألجزاء من الجسم دون الأخرى ضمن طقوس وممارسات جنائزية تضمنت القيام بمثل هذا الأمر،[32] وفي تل الكرخ الواقع جنوب حوض الروج في محافظة إدلب بسوريا، والذي يتألف من ثلاثة تلال أثرية أهمها تل الكرخ والذي يعود تاريخه إلى العصر الحجري الحديث الفخاري،[33] كشف عن أربعة مقابر من بينها المقبرة رقم (Str962). والتي اشتملت على هياكل عظمية لإناث بالغات دفنت في وضع منثني، ملقاة على جانبها الأيمن، وهي محفوظة بشكل جيد عدا الجمجمة فهي مفقودة، رغم عدم وجود قطع في الفقرة العنقية، ويبدو أن جمجمتها قد أزيلت قبل دفن الهيكل العظمي، هذا هو النموذج الأول من تل الكرخ الذي يشير إلى فصل واضح للجمجمة قبل الدفن، كما اكتشف حول رقبتها وبالقرب من أسفل عمودها الفقري سبع خرزات مصنوعة من الصدف والعظم والحجر.[34] وترى الحايك أن الهياكل العظمية لنساء تل الكرخ تظهر عليهن اصابات المفاصل، ما يؤكد أنهن كن مصابات ببعض الأمراض الناتجة عن العمل وليس بسبب صغر عمرهن،[35] وفي المقبرة رقم (Str927). كشف عن ثلاثة هياكل عظمية لأشخاص: الأول لأنثى بالغة دفنت في وضع مثنى، ملقاة على جانبها الأيمن، الشخصان الآخران المدفونان معها هما صغار العمر تتراوح أعمارهما بين 4 - 5 أعوام، وقد وضعت جمجمتيهما على ظهر الأنثى كما عُثر على الفك السفلي لجنين في بطن الأنثى الرئيسية البالغة.[36] ويبدو أن هؤلاء الأشخاص الثلاثة قد ماتوا سوياً ودفنوا معا في مقبرة واحدة، كما عُثر في المقبرة على زبدية صغيرة غير مكسورة وست خرزات مصنوعة من مواد مختلفة، بالإضافة إلى هذه المقابر فقد كشف عن أحد المدافن الثانوية (Str930). بالقرب من الطرف الشمالي من المربع رقم (b270E) اشتمل على هياكل عظمية بشرية مفككة مختلطة مع عظام حيوانات كثيرة، وخصوصا عظام الماشية بالإضافة إلى قطع فخارية وحجارة تبدو كأنها مطمورة بالأرض،[37] والشيء المميز هنا هو العثور على تراكم لمجموعة من الجماجم البشرية وعظام طويلة من الفخذ والعضد وضعت بشكل عمودي على اثنين من هذه الجماجم التي وجهت إلى الشرق بينما رتبت باقي العظام حول الجماجم.[38] - ومن الواضح أن هذه المقبرة أشبه بمكان ذا صبغة طقسية شعائرية، كانت تتم فيه عادة نزع الجماجم وإعادة ترتيب بقايا الهياكل العظمية لتهيئة المكان لاستيعاب المزيد من الموتى. - وفي تفسير الغرض من احتفاظ أهل بلاد الشام بجماجم الموتى فقد رأى كوفان أن النظر إلى أهمية الرأس كمقر للروح أو وعاء للقوة المقدسة، كان هو الدافع إلى جمع الرؤوس وقيام معتقدات وشعائر حولها، وربما لعبت هذه الجماجم دور الحامي ضد القوى السحرية الخارجية.[39] ورأى محيسن أن هذه الجماجم ربما كانت "ودائع تأسيس" تُبارك المنزل وتحميه، وربما كانت تجسيداً للأموات في بيوت الأحياء، وهي من الممارسات التي انتشرت على مساحة واسعة في مختلف أرجاء المشرق العربي القديم، من وادي الفرات شمالاً حتى حوضة دمشق ووادي الأردن جنوباً، وهي دليل واضح على الوحدة الحضارية الباكرة لاسيما في العادات والمعتقدات،[40] ويرى ماير أن هذه الجماجم والبقايا الآدمية تحمي المكان من الأرواح الشريرة، وتبعد الحظ السيء.[41] أما كنجو فقد ذكر أن فصل جمجمة المتوفى في بلاد الشام كان يتم بطريقة مقصودة تتسم بالتقديس، وقد اقترنت فصل الجماجم بعبادة أو تقديس الجماجم أو عبادة الأسلاف التي وضحت مظاهرها في شتى مواقع بلاد الشام خاصة في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري،[42] وكان الاعتقاد السائد آنذاك أن الجمجمة تحوي قوة الحياة الداعمة للخصوبة ولابد من تبجيلها وتقديسها[43] ووضح ذلك في شتى مواقع بلاد الشام سواء في فلسطين أو سوريا أو الأردن لاسيما في عين غزال.[44] - ولو تم افتراض أن الاحتفاظ بهذه الجماجم كان بمثابة تجسيد للأموات في بيوت الأحياء، فلابد من معرفة الدافع لذلك، فربما كان الدافع هو إعزاز الموتى والرغبة في بقائهم معهم ولو جزئياً، وربما كان الدافع هو الخوف منهم، لكونهم تركوا العالم المرئي إلى عالم غير مرئي فأصبح في مقدورهم الإتيان بأفعال لا قبل لهم بها، ومن ثم كان الحرص على الاحتفاظ بجماجمهم اتقاء لأذاهم، واستجالباً لرضاهم.

تقييد المتوفى[عدل]

كان للموت مهابته وقدسيته في بلاد الشام ووضح ذلك من خلال اهتمام أهل بلاد الشام بدفن موتاهم وإحاطتهم بنوع من التقديس تجسد فيما عُرف بعبادة أو تقديس الأسلاف سالفة الذكر، إلا أن هناك استثناءات في عادات الدفن ارتبطت في أغلب الأحيان بالسحرة، فرغم أهمية دور ساحر القبيلة بين قومه الا أن هناك سلبيات لم ينجو منها، فهناك من يراه وسيط بين العالم الآدمي وعالم الروح أو عالم الغيبيات، وهناك من يرى أن علمه بالسحر قد يكون سبباً للشرور والآثام، وهذا ما أدى الى دفنه أحيانا ُمقيداً أو موضوعاً أعلاه بعض الكتل الحجرية كنوع من القضاء على سحره.[45] ولقد ظهرت إرهاصات مثل هذه المدافن ذات المغزى الطقسي منذ العصر الحجري القديم الأعلى[46] ففي الأردن في منطقة عين قصية في "وادى الزرقاء"، عثر على دفينة آدمية تؤرخ ببداية العصر الحجري القديم المبكر،[47] كانت الدفينة غير جيدة الحفظ، حيث كانت بقايا الهيكل العظمي متناثرة، وبدراستها تبين أنها لشخص بالغ، وبتتبع وضع العظام، واتجاهاتها، وانحناءة فقرات عظام الرقبة، تبين أن المتوفى كان قد تم تقييده قبل وضعه في حفرة الدفن، ثم هالوا عليه التراب، وبتأثير ضغط التربة وعوامل المناخ ساءت حالة الجثمان، فتناثرت بقاياه العظمية.[48]- ولقد قرب البعض بين مثل هذا الدفين، ودفين وادي الحلزون بفلسطين آنفة الذكر والتي وصفت بأنها لشامان، حيث أن كلاهما يتميز بسمات خاصة ربما دلت على ممارسات خاصة للدفن كانت قد عُرفت آنذاك،[49] وفي تل القراصة الشمالي بجنوب سوريا عُثر في المقبرة رقم -(5BC) على دفينة آدمية لشخص راقداً على ظهره، كان الجثمان مقيداُ قبل دفنه، ووضع بمحور يمتد من الشمال الغرب إلى الجنوب الشرقي، ويرى الباحثين أن هذه الدفينة كانت من الدفائن التي وضح فيها تعمد عدم انتفاع صاحب المقبرة بأي من الشعائر الجنائزية التي قد تفيده بعد الموت، ووضح ذلك من خلال تقييده قبل دفنه لتعجيزه عن الحركة، ومنع روحه من الخروج وبالتالي حماية الأحياء، تؤرخ تلك المقبرة بالعصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري.[50]- وربما كان الأرجح أن توثيق المتوفي بالحبال كان لحماية الجثة حيث أن بعض أماكن الدفن كانت مناطق مستنقعات وظروف التربة كانت لا تسمح بحمايتها، ومن ثم فتقييد المتوفى عند الدفن يعمل على الحفاظ على جثمان المتوفى بتثبيته في موضعه.

وضع الكتل الحجرية أعلى جسد المتوفى[عدل]

كان الخوف من الموتى شعوراً عاماً ساد أغلب حضارات عصور ما قبل التاريخ، فنظراً لإحساس الرهبة من الموت كان الإنسان الأول يضع على أيدي وأقدام وصدور موتاه بعض الكتل الحجرية، ولقد عُرفت تلك العادة خلال العصر الحجري القديم الأعلى.[51] ففي عيون الحمام بالأردن عُثر في المقبرة رقم (1) على الدفينة (B)وهي دفينة (آدمية– حيوانية) تجمع بين هيكل عظمي لشخص بالغ وبرفقته جمجمة ثعلب، جاءت عظام الهيكل العظمي الآدمي متناثرة بالمقبرة ويحيط بها ويعلوها بعض الكتل الحجرية التي وضعت قصدا، وعثر كذلك بالمدفن على بعض الشفرات الصوانية والأدوات العظمية، وعلى قرون لغزال من فصيلة الغزال الأحمر، وكذلك عثر على بقايا من المغرة الحمراء أو التراب الأحمر.[52] ولقد كانت ظاهرة نثر التراب الأحمر من الظواهر المنتشرة في المقابر النطوفية، وقد أشار سليم إلى ارتباط المغرة الحمراء بموضوع الخلود واستمرار الحياة،[53] وأشار خليف إلى أن طلاء جثث الموتى بالمغرة الحمراء كان بمثابة تعويض عن الشحوب الذي يعتري الجثة،[54] وبالتالي إعادة الحياة إلى المتوفى بناء على اعتقادهم.[55] وتعد مقبرة عيون الحمام المذكورة أعاله بكل تفاصيلها ومفرداتها من المقابر التي يُحيط بها الغموض، فهي مدفنة شعائرية يُغلفها التقديس، حيث أحيط صاحب المقبرة بالعديد من أنواع المتاع والأدوات الخاصة به والتي كان يستخدمها في أداء عمله، فربما كان يمتهن القيام بالممارسات السحرية باستخدام جمجمة الثعلب وتلك الأدوات الحجرية والمغرة الحمراء بما لها من دلالة سحرية لارتباط اللون الأحمر بالدم،[56] ولا شك أنه تقديس يمتزج بالخوف والدليل على ذلك هو الحرص على وضع بعض الكتل الحجرية أعلى جسم صاحب المقبرة، وكأنها إشارة الى الرغبة في إعاقته عن الحركة رغم وفاته، ربما خشية أن ترتد إليه الروح في العالم الآخر فيخرج للأحياء أو تنبعث روحه للأحياء فتؤذيهم بالسحر، تؤرخ المقبرة بمنتصف العصر الحجري القديم الأعلى.[57] ولقد استمرت عادة وضع الكتل الحجرية على جثمان المتوفى متبعة خلال العصر النطوفي ولكن كان يتم وضعها آنذاك على بعض الدفائن دون سواها، ربما كنوع من التمييز لمثل هذه الدفائن، ولقد أثبتت الأدلة الأثرية في فلسطين والأردن أن أغلب حفر الدفن خلال العصر النطوفي كانت توجد خارج حدود إقامة الأحياء، ومن ثم كانت الجثامين تغطى بألواح أو كتل حجرية،[58] وكانت حفر الدفن إما فردية أو جماعية بحيث كانت الهياكل العظمية موضوعه جنبا إلى جنب، وغطيت القبور الجماعية بلوح حجري كبير أو بعدة ألواح من الأحجار المسطحة.[59] ووضح ذلك في بعض المواقع النطوفية ومنها وادي الحمة (27) وهو من أقدم مواقع الأردن التي تؤرخ بالفترة النطوفية المبكرة -14500 1400 ق.م.[60] وفي عين المالحة الو اقعة في وادي الحولة، أعلى وادي الأردن على بعد 20 كم شمال شرقي كهف هايونيم،[61] عُثر على مدفن لسيدة مدّدت على الجانب الأيسر في وضعية الانثناء وقد وضع غطاء من أصداف الدانتليوم على رقبتها،[62] كما وضعت مجموعة من الأحجار أعلى جسدها، تؤرخ المقبرة بالمرحلة النطوفية.[63] وفي مغارة الواد التي تقع أعلى السفوح الغربية لجبل الكرمل في فلسطين[64] كشف عن حوالي 97 مقبرة، كان من بينها مقبرة اشتملت على هيكل عظمي لرجل بالغ عُثر عليه خارج المغارة بالقرب من المدخل على عمق0.20متر، كان الهيكل العظمي ممدداً على الجانب الأيسر في وضع نصف منثني، واتجه الرأس نحو الشرق وقد وضعت صخرة كبيرة من الحجر الكلسي أعلى الجانب الأيمن لجمجمته.[65] وفي موقع الحولة شمال فلسطين عُثر في المقبرة رقم (2076) على مدفن لسيدة بالغة يتراوح عمرها بين 40-30 سنة، وضعت كتلة حجرية ضخمة قرب جمجمتها، ووضعت كتلة حجرية أخرى على مستوى أعلى من الأولى، تؤرخ المقبرة بفترة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار.[66] وفي تفسير الغرض من وضع مثل هذه الكتل الحجرية على جثمان المتوفى فقد ذكر خليف بأن الغرض من ذلك هو الرغبة في كبح المتوفى وجعله لا يستطيع القيام والعودة إلى الحياة وبالتالي منعه إيذاء الأحياء، وأكد وجهة نظره من خلال اشارته إلى بعض الأبحاث الأنثروبولوجية التي جرت على قبائل بوبواس في غينيا الجديدة، حيث لوحظ أنهم كانوا يضعون الحجارة الكبيرة على رأس المتوفى وصدره وأقدامه.[67] أما أبو غنيمة فقد اعتبر وضع مثل هذه الكتل الحجرية على جثمان المتوفى نوع الممارسات التي عبرت عن الحرص على الحفاظ على المتوفى وتخليد ذكراه، وذلك بوضع الجثة داخل حفرة كان يحفرها الإنسان في المكان الذي يقطن فيه، ويضع بعض الحجارة فوق الجثة كإشارة لمكان الدفن، أو كمحاولة مبكرة لتخليد المتوفى في منزله الأبدي، أو للحفاظ على جثة المتوفى من الحيوانات المفترسة، فاتجه الى محاولة تحقيق الخلود بوضع كتل حجرية فوق مكان الدفن، للحماية من ناحية ولتثبيت الاعتقاد بالأبدية من ناحية أخرى.[68] وقد أشارت الحوراني إلى معرفة بلاد الشام لتلك العادة منذ العصر الحجري القديم، وأوضحت أن الغرض منها كان مواراة الجثة وحمايتها من الحيوانات المفترسة، أو كدليل لوجود مدفن في المكان لمنع الاقتراب من المتوفى أو إيذاءه.[69] - ولكن الدارسة ترى أن الرأي القائل بتفسير وضع الكتل الحجرية على المتوفى كإشارة لمكان الدفن ولحماية المتوفى من الحيوانات المفترسة يتفق في حال كان الدفن بعيداً عن أماكن السكنى، ولكن المعروف أن الإنسان في هذه المرحلة الزمنية كان يقوم بدفن موتاه في مكان سكناه سواء في الكهوف أو المأوي أو في المساكن أو بالقرب منها بعد ذلك، أي أنه لم يكن في حاجة إلى دليل يشير إلى مكان الدفن، والدفنة بالفعل في حمايه بحكم وجودها مع الأحياء في نفس المكان، ولا شك أنهم كانوا سيحتاطون من الحيوانات لحماية أنفسهم والمقيمين معهم بالمكان. أما الرأي القائل بأن وضع الكتل الحجرية على بعض الجثامين دون سواها كان بغرض التمييز فلا يشترط أن يكون التمييز في مجمله تمييزا إيجابيا يشير إلى التقديس أو التبجيل لصاحب المقبرة، فعلى العكس من ذلك، فربما كان التمييز هنا الغرض منه التثبيت والمنع بوضع مثل تلك الكتل الحجرية الضخمة أعلى طرفي جسد المتوفى (على أيدي المتوفى وأقدامه) ربما كمحاولة لمنع روح المتوفى من القيام ومنعها إيذاء الأحياء.[70] ويؤكد حسين هذا الرأي قائلاً أن مهمة الأحجار الكثيرة ربما كان الغرض منها تعجيز المتوفى حتى لا ينهض في الليل ويُقلق الناس وهم نيام؛ فمن ثم كان يتم تقييد يديه وساقيه، ثم يوضع في حفرة ويُهال عليه التراب ويوضع أعلاه الأحجار.[71] ولقد اعتبر العديد من الباحثين أن مثل هذه المدافن هي مدافن لسحره أو شامان، فرغم أهمية الساحر وتقديسه في حياته، إلا أنه كان يُخشى من صاحب تلك المهنة بعد وفاته، فقد تحاول روحه بعد موته إيذاء الأحياء بالسحر، ومن ثم وضحت علامات التمييز على بعض مقابر تلك الفئة من البشر.[72] - وأياً كان الغرض من وضع مثل تلك الكتل الحجرية على جثمان المتوفى، فالمشهد العام يؤكد وجود نوع من التمييز لأصحاب هذه المدافن، وربما كان التفسير المنطقي لإحاطة هذه الجثث بالكتل الحجرية هو الحفاظ عليها وليس خوفاً من المتوفى أو كبحه وتكبيله كما ذكر البعض.

الدفن في حفر النفايات[عدل]

ظهر في بلاد الشام نوع من المدافن التي لم يُراع فيها اتباع أي نوع من عادات الدفن المعتادة، وإنما القي جثمان المتوفى في حفر النفايات وأنقاض البيوت والخرابات وكذلك في أكوام القمامة[73] وكان يدفن بطريقة ُمهملة دون اعتناء، وذلك كما جاء في الجرف الأحمر، نحال حمر، تل الحولة وكفر حواريش وعين غزال بالأردن وأريحا والبيضا وبيسمون أو "بيسان".[74] ففي موقع الأزرق بالأردن عُثر على بعض المدافن التي تؤرخ بنهاية العصر النطوفي كان من بينها تلك المقبرة التي عثر عليها في القطاع رقم 18 بحوض الأزرق، والتي اشتملت على العديد من العظام الآدمية المجمعة في حفرة واحدة بالجانب الغربي امتدت من المربع رقم ،3 وحتى المربعات رقم ،2 ،4 6 بالموقع،[75] كانت البقايا العظمية لثمانية بالغين، وثلاثة متوسطي العمر، وكانت بصفة عامة غير جيدة الحفظ،[76] ربما أشارت هذه المقبرة إلى نوع من الدفن الجماعي كان قد عُرف في هذه المنطقة آنذاك.[77] وفي عين غزال وضحت تلك الظاهرة في بعض المدافن التي تؤرخ بالعصر الحجري الحديث ما قبل الفخار،[78] إذ لوحظ وجود عدد من الهياكل العظمية الآدمية دفنت في حفر القمامة والنفايات، وكانت الهياكل العظمية الملقاة مكتملة وسليمة.[79] وقد عُثر في الجزء الأوسط من قطاع جبانة وادي فينان على المدفن رقم (123O) والتي عرفها كل من ميثن وفينلايسون وماريسيفيتش باسم "الدفنة المتبقية" أو " الدفنة المجمعة"، وعُثر فيها على أجزاء من قدم إنسان، وبعض أجزاء من هياكل عظمية مفككة، وأجزاء مختلطة من بقايا عظمية مختلفة، والاحتمال الأقرب أنها تمثل بقايا عظام مختلطة جمعت في مكان واحد عُرف بـ"حفرة النفايات" والتي ظهرت في عدة مواقع تؤرخ بالعصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، وتكرر الأمر نفسه في المدفن رقم 78O، إذ عُثر فيها أيضا على بقايا هياكل عظمية مفككة لأشخاص عده، فكان هذا القطاع أشبه بأرض النفايات.[80] وفي تفسير الغرض من مثل هذا النمط من الدفن فقد أشار رولفسون اعتماداً على دراسته مدافن عين غزال إلى أن مثل هذه المدافن ربما كانت لمجموعة من الأعداء، وقد تخلص منهم بهذا الأسلوب في الدفن.[81] أما هنتنغتون فقد ذكر أن الموت لم يكن مجرد حدث، وإنما كان له توظيفه في المجتمع طبقا لوجهة نظره، إذ أشار إلى أن الموت كان بمثابة رابط اجتماعي يجعل أفراد المجتمع متحدين في نفس الأمر، فالقيام بالبكاء على سبيل المثال يحافظ على الروابط الاجتماعية بين الأحياء، تماما كغيره من الممارسات الجنائزية المعروفة.[82] وقد فسر سانتانا وفيلاسكو وغيرهم من الباحثين ذلك النمط من الدفن إلى وجود نوع من التمييز بين الأفراد بناء على مستوياتهم وطبقاتهم الاجتماعية، مما أدى إلى عدم تمتع هؤلاء الأشخاص بأي من التبجيل الذي ناله غيرهم عند الدفن.[83] وفسرت الحوراني هذه الوضعية في الدفن بأن هؤلاء الأشخاص المدفونين قد قاموا بانتهاك بعض العادات الاجتماعية، مما دفع القائمين على تطبيق مثل هذه العادات بإجراء العقوبة اللازمة، ومن المحتمل أن دفنهم بهذه الوضعية كان إحدى وسائل العقوبة المستخدمة.[84] ورأى أبو غنيمة أنه ربما كان هؤلاء الأشخاص في معتقدات مجتمعهم أقل أهمية في الحياة، فتم التعامل معهم بهذه الكيفية بعد الموت،[85] أما ميثن وفينلايسون وغيرهم من الباحثين فقد استندوا إلى موقع فينان في تفسيرهم للغرض من هذا النمط من الدفن، وقد أشاروا إلى أن هناك صعوبة في تفسير مثل هذه البقايا العظمية المختلطة، ورفضوا الرأي القائل بأنها كانت مدافن لغرباء، إذ أنه ليس هناك دليل يؤكد ذلك في موقع فينان (WF16)، وأنه من المستبعد أن يُنظر إلى الغرباء بهذه النظرة المتجاهلة وأن يتم اعتبارهم غير مرغوب فيهم، وغير معروف بالضبط ما هي المدة التي حدث فيها تراكم مثل هذا الكم من البقايا العظمية والحطام، ولكن المؤكد أن هناك العديد من الممارسات التي جرت في الموقع، والعديد من عمليات الإبدال والتحليل قد حدثت، فأدت إلى هذا التراكم في حفر الدفن بالموقع، وقد أشاروا أيضاً إلى عدم إمكانية الجزم بفكرة الربط بين هذا النوع من الدفن، وبين الطبقة الاجتماعية لأصحابها، ومن ثم يؤكد كل من ميثن وفينلايسون أن تسمية "دفنات القمامة" غير ُمنصفة وغير صحيحة، فربما كانت مخابئ للدفن سواء بشكل علني أو سري، وأنها تمت في إطار ما حدث من أنشطة وممارسات جنائزية بالمكان.[86]- وترى الدارسة أن هذا الرأي ربما صدق في تفسيره لحفر دفن البقايا العظمية التي ُعثر عليها في جبانة وادي فينان، ولكن يصعب التسليم به في حالة دفنات الهياكل العظمية الكاملة التي ُعثر عليها مدفونه بطريقة مهملة في حفر النفايات في عين غزال. - ومن ناحية أخرى لابد من الأخذ في الاعتبار أن هذه النفايات ربما جاءت بفعل نشاط بشري الحق تراكم عبر السنين فاختلط بعظام الموتى في هذه الحفر التي أطلق عليها "حفر النفايات" وأن هذه النفايات لها ارتباط وثيق بما حدث من تطور ديموغرافي من نمو في عدد السكان وازدياد النشاط البشري.

الدفن في حفرة ضيقة[عدل]

كان الدفن في حفرة ضيقة من أكثر عادات الدفن شيوعاً في مختلف مواقع بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ، ويصعب عمل تعداد أو حصر لكل ما عُثر عليه من دفنات في حفر ضيقة، ولكن فقط سيتم الإشارة إلى أنماط من هذه الدفنات لمعرفة الغرض منها، فقد عُثر في مقابر القطاع رقم (WF16) بوادي فينان جنوب الأردن، على العديد من الهياكل العظمية التي دفنت في حفر ضيقة صغيرة، في وضع القرفصاء إحدى اليدين أسفل الجمجمة بما يعطي الانطباع بالنوم، وفي بعض الحالات ربطت الجثث أو لفهت قبل الدفن، ويرى كل من ميثن وفينلايسون أن الغرض من هذا الربط هو الحفاظ علي وضع المتوفى بهذه الكيفية داخل حفرة الدفن.[87]- إلا أن الدراسة لا تتفق مع هذا الرأي، فحفرة الدفن ضيقة بما لا يعطي مجالاً لتحرك الجثة أو تزحزحها، ولذا فالقول بأن الربط لتثبيت المتوفى لا يتفق مع الوضع العام للدفنة بصغر حجمها وضيق مساحتها، فلابد أن هناك سبب آخر للربط، ربما كانت الرغبة في التأكيد على منع المتوفى من الحركة ومنع روحه من الخروج من مقبرته. ولقد عُثر في المقبرة رقم (24O) شمال شرق وادي فينان، على دفنة لرجل في وضع القرفصاء، شديد انحناء الجسم والرأس، الدفنة عبارة عن حفرة ضيقة بشكل مفرط، فكان جثمان المتوفى أشبه بالقوس في انحناءته، جاءت إحدى يدي المتوفى أسفل جمجمته وكأنه في وضع النوم.[88] وقد تنوعت الآراء بشأن تفسير الغرض من هذا النمط من الدفن، وإن كانت جميعها تدور في فلك الخوف من المتوفى، فقد كان الاعتقاد السائد أن الإنسان بعد موته ودفنه تعود إلى جسده الروح بعد رحيلها، وكان هذا الأمر من الأمور التي كان يُخشى عُقباها، وقد ذكر الخواجة أن الروح تكتسب قوة غريبة بسبب اتصالها بالمجال القدسي، وعودتها إلى الجسد مرة أخرى يُكسب صاحب الجثة نوعاً من هذه القوة غير المرغوبة، مما يُفسر الغرض من الدفن في حفرة ضيقة لمنع الجسد من التحرك والخروج إلى عالم الأحياء، وأشار الخواجه أيضاً إلى أن هذه الوضعية تشبه وضعية النائم لاعتقاد الإنسان بأن الموت يُمثل حالة من النوم الأبدي،[89] ولقد بيَن حسين أن الإنسان األول لم يكن ليميز بين الحي والميت من المنظور غير المرئي، ففي اعتقاده أن شخصية المتوفى كانت لا تزال حية حتى بعد موته، وعلة ذلك أنه كان يراه في الأحلام فيحسب أنه يأتيه في نومه ليؤذيه، فإذا كان عدًوا شديد البطش وحدث أنه مات فإن موته قد يتسبب في نوع من المعاكسات أو المضايقات؛ لأن هذا العدو يخطر له في النوم ويفزعه بأحلام مرعبة، وبمرور الوقت بزغ بين الناس الاعتقاد بوجود روح في الجسم، وأن الإنسان يعيش في عالم آخر بعد الموت فنتج عن ذلك فكرة أن الروح تحتاج إلى طعام وشراب ولباس وأدوات دفاع وزينة، فبدأ الاهتمام والعناية بالمتوفى بوضع الطعام والشراب وبعض المتاع معه لينتفع به في عالمه الآخر.[90]- وربما كانت هذه الوضعية تشبه تلك التي يتخذها حديث الوالدة، وهذا الرأي قد تبناه الخواجة موضحاً أن وضع جثة المتوفى في حفرة ضيقة تقوم مقام الرحم، وقد يكون الدفن في حفرة ضيقة بهذا الوضع تعبيرا عن إيمان الإنسان بدورة الحياة والبعث والولادة من جديد،[91] وأكد خليف،[92] وتشايلد هذا الرأي إذ أشار كلا منهما إلى أن الوضع الجنيني الذي كان يُدفن عليه المتوفى ربما كان الغرض منه أن يعود المتوفى إلى الحياة "ولادة جديدة للمتوفى" كون أن الأرض رحم،[93] وذلك كما حدث في الحضارة المصرية القديمة تماما،ً إذ كان توسيد المتوفى على هيئة القرفصاء يعد وضعاً مقصوداً لذاته قلد المصريون به وضع الجنين في بطن أمه، وهو ما ذكره صالح ضمن عدد من الآراء الأخرى التي قربت هذا الوضع أيضاً من وضع النائم العادي حين يستغرق في نومه[94] وقد رأى أبو غنيمة أن دفن المتوفى في حفرة صغيرة قليلة العمق وبوضعية الجنين أنما يعود لصغر مساحة المناطق المسكونة، وصلابة أرضية مناطق السكن، سواء في الكهوف أو في العراء.[95] والرأي نفسه ذكره صالح في تفسيره لمثل هذا النوع من الدفن في مصر القديمة، إذ أشار إلى أن أغلب أهل فجر التاريخ اضطروا إلى إيثار وضع الانثناء لموتاهم نتيجة لضيق مساحة الحفرة التي كانوا يستطيعون حفرها بأدواتهم المتواضعة في طبقات الحصباء أو الرمل أو الصخر نفسه.[96]- وتتفق الدارسة مع هذا الرأي الأخير إذ هو الأقرب إلى الصواب لا سيما في هذه الحقبة الزمنية.. فربما كان السبب في ذلك يرجع لحالة وإمكانيات أهل المتوفى فقد تكون متواضعة بما لا يسمح بالدفن في مقابر أكبر حجماً من ذلك وقد يشير أيضا إلى طبيعة الصخر أو إلى مستوى أدوات الحفر.

حرق جثث الموتى[عدل]

ُعثر على العديد من الدفنات الآدمية المحترقة في العديد مواقع بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ ، ففي منطقة بيسان في وادي الأردن الأعلى في شمال فلسطين، اكتشف أقدم آدمي تم حرقه عن عمد في الشرق الأدنى القديم، لم يتم إلقاء الجثة في النار، وإنما رتب لحرقها بطريقة مقصودة، فكانت المقبرة أشبه بمحرقة جنائزية،[97] وقد ذكرت بوكوينتين في دراستها للمقبرة أن المتوفى دُفن في وضع جلوس، مع ثني ركبتيه إلى صدره في حفرة تشبه الفرن، ثم اشعلت النيران بجوار الجثمان أو تحته، كان الشخص المحترق شابًا بالغًا وكانت العظام المتبقية متضررة للغاية، ومع ذلك كشف تحليل العظام أن هذا الشخص قد نجا من إصابة مروعة، إذ وجد الباحثون شظية حجرية بطول 0.5 بوصة (1.2 سم) مغروسة في عظم الكتف الأيسر، وهي إصابة من المحتمل أن تمزق العضلات وتسبب على الأرجح "ألما شديدًا ولكن ليس بالضرورة ضعفًا في الوظيفة" وبعدها بدأت العظام في الالتئام، ولكن بعد ذلك "مات حرقا بهذه الكيفية،[98] ويلاحظ أن القبر كان صغير الحجم على شكل حرف U يشبه الفرن، قطره 32 بوصة فقط وعمقه 24 بوصة (80 × 60 سم) تم تبطينه بالطين الذي استخدمه هؤلاء الناس من العصر الحجري الحديث لصنع الطوب لمنازلهم، ويبدو أن حفرة الدفن مصممة لتعمل كفرن، وبمجرد اكتمال "الفرن"، وضعت جثة المتوفى في وضع الجلوس، مع وضع الجزء العلوي من الجسم على الجدار الجنوبي،[99] ومن المحتمل أن يكون الجسد قد وضع على منصة نقالة فوق المحرقة لأن قاع الحفرة لا تظهر عليه علامات الاحتراق، ربما لأن النار لم تكن شديدة السخونة في قاعدتها بينما جدران القبر احترقت، وهو أمر منطقي لأن النار كانت ستكون أكثر سخونة في الأعلى، حيث كان هناك المزيد من الأكسجين لتزويدها بالوقود، وبعد اندلاع الحريق يبدو أن الجزء العلوي من الجسم سقط للأمام واستدار. [100]

ولقد تبين وجود نسبة عالية من النباتات المعروفة باسم نباتات السردج، وهي "نباتات نباتية محبة للماء ولها سيقان إسفنجية وتستخدم بشكل شائع في صناعة السالل والحصير"، وربما كان الشخص المحترق ملفوفًا في كفن من نباتات السرد، وقد ذكر جيجل أن هذه الممارسة كانت قد عرفت منذ العصر النطوفي وأنها ظلت موجودة أيضا في مدافن أخرى من العصر الحجري الحديث في بلاد الشام[101] ولقد كشف تأريخ الكربون المشع أن صاحب الدفنة كان قد عاش في وقت ما بين 6700 قبل الميالد و7031 قبل الميالد، خلال ثقافة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار أ، هذا يعني أن المتوفى عاش بين المزارعين الأوائل الذين دجنوا بعض الحبوب والحيوانات، لكنهم لم يتوصلوا بعد إلى كيفية صنع الفخار.[102] ولقد كشف في بيسان عن 33 مقبرة أخرى يعود تاريخها إلى ما قبل وأثناء ثقافة ما قبل العصر الحجري الحديث للفخار، خمسة منها تحتوي على عمليات حرق "ثانوية" لأفراد جففت رفاتهم أولاً ثم أحرقت فيما بعد، أما حفرة المحرقة المذكورة أعلاه هي المقبرة الوحيدة المعروفة من الموقع التي تحتوي على جثة تم حرقها بمجرد دفنها، وذلك وفقاً للتحليالت الكيميائية التي تم اجراؤها،[103] وفي تل الكرخ عثر في المربع رقم 271E على عدد من حفر الحرق والمدافن الرئيسية والثانوية، وعلى مقربة من هذا المربع كشف عن المقبرة رقم 919Str وتبين بالدراسة أنها أربعة حفر كان بمثابة محارق للجثث،[104] اكتشفت الحفرة الرابعة في الجزء الشمالي الغربي من المربع b271E، كشف النقاب عنها في حفرة داخل مقبرة الكرخ النيوليتية، وهي حفرة مستطيلة الشكل مليئة بالتربة المحروقة والرماد الأبيض والأسود، عثر في أسفلها على مواد عضوية سوداء، كما اكتشف فيها رفات ما لا يقل عن خمسة أشخاص وكان هناك الكثير من العظام التي تحولت إلى اللون الأبيض نظرا لارتفاع درجات الحرارة الناجمة عن الحريق، ومع ذلك لا تزال بعض العظام سوداء وبنية رغم أن معظم العظام كانت مفتتة، إلا أنه لا تزال بعض أجزاء الهيكل العظمي واضحة، تجدر الإشارة إلى أن هذه الجثث أحرقت في هذه الحفرة بعد وقت قصير من تحلل هذه الجثث في أماكن أخرى، ولم يعثر على متاع جنائزي في هذه الحفرة.[105] وقد عثر في الدفنة رقم.(746Str) على جمجمة وعظم عضد محروقين مع بعضهما في المدفن، بما يؤكد على إحراق جثث الموتى.[106] وفي وادي الحمة (27) بغور الأردن ظهرت عادة حرق الجثث إذ عثر في بعض الدفنات على بعض الجماجم الآدمية لأشخاص بالغين بدى عليها آثار حرق، وهي تؤرخ بالعصر الحجري الحديث قبل الفخار أ.[107] وفي منطقة تل السعيدية بالأردن أيضا عثر على بعض مظاهر حرق جثث الموتى، والتي تُشير إلى نوع من تقديم الأضاحي البشرية في المنطقة، وهي تؤرخ بالعصر البرونزي الأوسط والمتأخر بما يشير إلى استمرار تلك العادة بعد عصور ما قبل التاريخ أيضا، جاءت الدفنات وقد اشتملت على العديد من العظام البشرية المحترقة الناتجة عن حرق الجثث، ولا تظهر مدافن العصر البرونزي المتأخر التمييز لا في الجنس ولا في العمر[108] ولقد تعددت التفسيرات بشأن تلك الدفنات المحترقة، فربط البعض في تفسيره بين النار والعقيدة، إذ كان اكتشاف النار واستعمالها أمر ينطوي على الكثير من الأبعاد العملية والروحية للإنسان البدائي، فلقد كانت النار تحمي كهوف الإنسان من الحيوانات المفترسة من ناحية ومن البرد القارس من ناحية أخرى، فأصبح الإنسان باستخدام النار أكثر قوة من ذي قبل، وبدء يحيطها بهالة من القدسية، وبعد أن حركت النار النوازع الدينية الأولى، ظهرت إلى الوجود ملامح تقديس الإنسان للنار[109] ولقد أشار الماجدي إلى ارتباط النار في عقيدة الإنسان البدائي ببعض الرموز الطوطمية التي جمعت شمل القبيلة في صلة واحدة قوية عرفت باسم الطوطم. [110] وبين بلاكمان أهمية النار في حياة الإنسان البدائي بصفه عامة، موضحاً أنها كانت بالنسبة له مصدر للحماية، وأنه كان حريص على بقاءها مشتعلة ليلاً لتحميه من الحيوانات المفترسة ومن الأرواح الشريرة، وحرص كذلك على إشعال النار بالقرب من الطفل الوليد بعد ولادته، وذلك ظنا أن الأرواح الشريرة تكون في انتظار الظلام لتهجم عليه، ومن ثم كان بقاء النار مشتعلة يوفر نوعاً من الحماية للرضيع ووالدته من شرور الأرواح المؤذية.[111] وأشار خليف إلى حرص الإنسان الأول في المشرق العربي على دفن موتاه داخل الكهوف بالقرب من المواقد كما كان يفعل النياندرتال، ربما لأن برودة الجثة دفعتهم لتدفئتها عسى أن تعود اليها الحياة.[112] وترى الحايك أن حرق المباني كان من أدلة وجود صراع أو حرب في بعض مواقع بلاد الشام خلال هذا العصر، وأنه قد عثر في منطقة بقرص بسوريا على بقايا بناء محترق، وأنه قد عثر داخل هذا البناء على بقايا هياكل محروقة، ضمت على الأقل خمسة هياكل عظمية لأطفال وأشخاص بالغين بينهم سيدة حامل، بلغت من العمر تقريبا 25 سنة.[113] - وهكذا تنوعت الآراء في تفسير الغرض من تلك الدفنات المحترقة بين وجهة النظر الفلسفية ذات المنظور الديني التي اتخذت من النار شيئا مقدسا واعتبرت أن حرق المتوفى أو دفنه قرب موقد للنار ربما قد يمنحه دفئ وحماية النار، أو ربما يتحد مع النار المقدسة، وبين وجهة النظر الواقعية التي ربطت الحرق بوجود حروب أو صراعات، وهناك من هذه التفسيرات ما ينطبق على حالة ولا ينطبق على أخرى.

العنف والقتل العمد[عدل]

ملف:الكسور الناتجة عن العنف في الهيكل العظمي رقم 1054 لرجل بالغ - موقع تل الكرخ – سوريا.jpg
الكسور الناتجة عن العنف في الهيكل

عثر في بعض مواقع بلاد الشام على بعض الدفنات الآدمية التي فسرها بعض الباحثين بأنها دفنات تعرض أصحابها للعنف الذي أدى إلى الموت، وقد بينت الحايك أدلة وجود العنف الجسدي في بعض دفنات العصر الحجري الحديث

في بلاد الشام لا سيما سوريا،[114] ففي موقع أبي هريرة شمال غرب سوريا[115] عثر على هيكل عظمي لشاب بالغ كان قد غرس رأس سهم في تجويف صدره أسفل الأضالع، ووجود السهم في الصدر دليل واضح على أن الموت كان نتيجة العنف والقتل المتعمد،[116] وفي تل القرامل بينت الحايك أيضاً أنه قد جاءت أدلة وجود عنف في بعض دفنات الموقع، ففي القبر رقم 2 ظهرت آثار تقطيع واضحة على الفقرات الأولى والثانية من عنق صاحب الدفنة، وفي مقبرة أخرى بنفس الموقع عثر على دفنة أخرى يظهر على الفك السفلي آثار خطو متوالية طولية متجهة من الأعلى الى الأسفل مما يدل على عملية قطع متعمد للرأس، والهيكل العظمي لشاب بالغ.[117]

ملف:الكسور الناتجة عن العنف في الهيكل العظمي رقم 803 المرأة - موقع تل الكرخ.jpg
الكسور الناتجة عن العنف في الهيكل

- يخالف كنجو رأي الحايك في هذا الشأن، فقد أشار كنجو إلى أن فصل الجمجمة باستخدام أداة صوانية حادة كما في دفنات تل القرامل كان يتم بصورة متعمدة بعد الدفن مباشرة، وأنه لم يكن الغرض منه العنف وإنما هو تطبيق لعادة عزل الجماجم التي ربما ترجع بجذورها إلى الفترة النطوفية وأن الغرض منها تقديس وعبادة الأجداد.[118] وفي تل الكرخ أشارت الحايك إلى أنه قد عثر على عدد كبير من الهياكل العظمية الآدمية التي ظهر عليها آثار العنف الذي كان سببا مباشراً للوفاة،[119] منها الهيكل العظمي رقم (1054)، وهو لشاب بالغ دُفن في وضعية غريبة، كانت ساقه اليمنى مطوية وقد تم وضع أصبع القدم الكبرى اليسرى بالقرب من الكتف، كما كسر عظم الفخذ اليسرى نصفين وانحنى على العكس، وقد فسر تسونيكي هذه الكسور بأنها ربما حدثت نتيجة السقوط من مكان مرتفع أدى للوفاة،[120] وقد عثر على هيكل عظمي آخر لشخص يتراوح عمره ما بين 40-35 سنة عند الوفاة[121] حيث وجدت فجوة في العظم الصدري الأيسر، وأخرى في الفك السفلي، ولا بد أن كسر الجمجمة كان السبب المباشر للوفاة، كما عثر في تل الصبي أبيض على هيكل عظمي تظهر عليه كسور في الجمجمة، وأشارت الحايك إلى أن سبب الكسر كان العنف وليس نتيجة ممارسات طقسية، وعلى الأرجح أن الدفنة تمثل عملية قتل.[122] وقد أشار تسونيكي إلى العثور على العديد من الهياكل العظمية المصابة لإناث أيضا وقد وضح عليهم وجود آثار لـكسور عده بالعظام، وذلك كما في حالة الهيكل العظمي رقم 803 وهو لأنثى بالغة دفنت في وضع شديد الإنحناء على جانبها الأيمن وبدى عليها آثار كسور متعددة بالعظام، وكذلك الهيكل العظمي رقم 909 لأنثى بالغة أخرى لديها غزارة في آثار كسور العظام، دفنت في وضع ضيق على جانبها الأيسر ويبدو أن هاتين المرأتين عانت من بعض العنف،[123] ولقد ذكر تسونيكي ذلك مشيراً إلى أن هذه الهياكل العظمية المصابة ربما كانت قد تعرضت إلى مستوى معين من العنف بين الأفراد في المستوطنة، خاصة في حالة الذكور البالغين؛ فقد يكون البعض منهم قتل بالعنف، وربما كانت الإصابة والأمرض المرتبطة بسوء التغذية أيضاً من أسباب الوفاة للبعض الآخر.[124]

يمكن القول بناء على ما سبق أن عادات الدفن الآدمية التي عرفت في بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ لم تكن بمنأى عن المجتمع وثقافته وأحداثه ومعتقداته، وأن هناك من هذه الدفنات ما اتخذ طابع شعائري طقسي، وهناك ما اتخذ طابع يغلب عليه العنف الناتج عن أوضاع قد تكون دينية أو اقتصادية أو سياسية تتعلق باستقرار وأمن المنطقة، ولسنا بصدد سرد وتتبع جميع ما تم العثور عليه من دفنات آدمية ببلاد الشام إذ أن ذلك لا يسعه دراسة واحدة، ولكن القي الضوء قدر المستطاع على أهم ما عرف من أنماط لعادات الدفن الآدمية في بلاد الشام خلال تلك الحقبة الزمنية، لتكوين صورة عامة قدر المستطاع عن حياة أهل بلاد الشام وعقائدهم من خلال دراسة عاداتهم الجنائزية التي ظهرت في مختلف مقابرهم خلال عصور ما قبل التاريخ.

الخلاصة[عدل]

تشير الدفنات الآدمية المتنوعة التي عثر عليها في مواقع بلاد الشام إلى مدى الثراء الفكري الذي تميزت به مجتمعات بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ، والذي وضح من خلال تنوع العادات الجنائزية. - عاش الإنسان الأول خلال عصور ما قبل التاريخ في خوف من المجهول، ولأن المتوفى بعد تركه الحياة الدنيا ينتقل إلى عالم الغيب، فكان الاعتقاد أنه يكتسب قوة غير مرئية من هذا العالم، ولذا كان من الطبيعي أن يخشى الأحياء من الموتى، فدفعهم هذا الخوف إلى تقديسهم وإلى القيام ببعض الممارسات الدينية والشعائرية والجنائزية للمتوفى. - ارتبط الكهف في فكر انسان عصور ما قبل التاريخ بالحياة والموت معا، ففيه كان يحيا وفيه كان يُدفن بعد موته، ولقد فُسرت بعض دفنات الكهوف بأنها كانت دفنات شعائرية ذات مغزى طقسي، وأنها ارتبطت في كثير من الأحيان بشخصيات بعينها كانت لها مكانتها بين قومها، كأن يكون ساحر القبيلة أو زعيمها الديني، فكان يتم دفنه في الكهف بعد موته محاطا بمتاعه الشخصي وأدواته، واصطبغت تلك الدفنات بالهيبة والتوقير لأصحابها وإن كان هذا لا ينفي العثور على دفنات آدمية أخرى بالكهوف لغير السحرة والشامان، إذ اتخذ الكهف مأوى ومكان للدفن منذ العصر الحجري القديم الأوسط. - كان دفن الموتى داخل حدود السكن أو بالقرب منها أمر طبيعي، لا سيما وأن الإنسان كان قد اعتاد قبل ذلك على دفن موتاه في الكهف الذي كان يحيا فيه، وبتطور الفكر الديني للإنسان تحول مكان الدفن من الكهف إلى المسكن، وكان الدفن يكون أسفل أرضيات المساكن أو بالقرب منها كنوع من الإعزاز للمتوفى. عثر في العديد من موقع بلاد الشام على دفنات آدمية وثق المتوفي فيها بالحبال، وقد اختلفت الآراء بشأن تفسير الغرض من تقييد المتوفى عند الدفن بين الخوف عليه والخوف منه، إلا أن الأرجح أن التوثيق بالحبال كان لحماية الجثة، حيث أن بعض أماكن الدفن كانت مناطق مستنقعات وكانت ظروف التربة لا تسمح بحمايتها، ومن ثم فتوثيق المتوفى كان فيه نوع من الحفاظ على جثمان المتوفى بتثبيته في موضعه، وهناك من اعتبر أن ذلك التوثيق بمثابة أحد الطقوس الجنائزية غير المنتشرة. - ُعرفت عادة فصل جماجم الموتى منذ العصر النطوفي تقريبا، وكان يتم الاحتفاظ بهذه الجماجم المنزوعة في المسكن أو في مكان خاص كنوع من التبجيل والتوقير للمتوفى، وكان ذلك من العادات المعروفة في بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ، والتي أُطلق عليها مصطلح "عبادة الأسلاف". - يختلف مفهوم التقديس من مكان إلى آخر ومن بلد إلى سواه، ففصل جمجمة المتوفى على سبيل المثال كان يعد نوعاً من التقديس لدى أهل بلاد الشام إلا أن بعض الحضارات الأخرى اعتبرت ذلك بمثابة نوع من اللعن والهلاك للمتوفى إذ يمثل خسارة لجزء من جسده، وذلك كما كان الحال في مصر القديمة، فعادات الدفن ما هي إلا أعمال وممارسات يختلف إدراكها ومدى الوعي والاعتراف بها من مجتمع إلى آخر لا سيما خلال عصور ما قبل التاريخ. - كان الاعتقاد السائد لدى الإنسان البدائي أن روح الساحر بعد موته ستحاول عن طريق السحر الخروج من المقبرة لإيذاء الأحياء، ومن ثم و ضحت مظاهر الكبح والتعجيز في بعض دفنات تلك الفئة من البشر، واستوى في ذلك الرجال والنساء. - كان الدفن في حفر النفايات أحد أنماط عادات الدفن التي وجدت في بعض مواقع بلاد الشام، وقد ربطه البعض بمستوى الطبقة الاجتماعية، وربط البعض الآخر بما حدث من تطور ديموغرافي من نمو في عدد السكان، وتراكم النشاط البشري عبر السنين. - كانت عملية إعادة فتح المقبرة بعد فترة من دفن المتوفى، ثم تقطيع وإعادة توزيع أجزاء الهياكل العظمية بعد فصلها من العادات الجنائزية التي عرفت في بعض مواقع بلاد الشام، ولم تكن تلك العادة تُطبق على جميع الموتى، و إنما كان هناك انتقاء للبعض دون الآخر كنوع من التمييز. - ربط بعض الباحثين بين دفن المتوفى في حفرة ضيقة بوضع القرفصاء وبين وضع الجنين في رحم الأم، والرغبة في البعث والميلاد من جديد وذلك كما حدث في مصر القديمة تماماً إذ قرب المصريون القدماء أيضا بين وضع القرفصاء للمتوفى ووضع الجنين في بطن الأم، أو وضع النائم المستغرق في نومه، وربط البعض الآخر بين تلك الوضعية وبين بداءة الفترة الزمنية وقلة الإمكانيات، والوضع الاجتماعي البسيط لصاحب الدفنة وهو تفسير تشابهت فيه أيضا الآراء المذكورة سواء في بلاد الشام أو مصر القديمة آنذاك. ظهرت في بعض مواقع بلاد الشام عادة حرق جثث الموتى، وذلك من خلال وضع المتوفى في حفرة أشبه بحفر النار كمحارق للجثث، وكان يتم تقييد المتوفى في الغالب عند حرقه وذلك كما جاء في دفنة بيسان المحترقة بالأردن، وقد ربطها البعض بين عادة حرق جثث الموتى وعبادة أو تقديس الأسلاف وقد ظهرت تلك العادة بدءا من الفترة النطوفية المبكرة في كهف كبارا واستمرت فيما بعده من عصور حتى وصلت إلى العصر البرونزي والحديدي. - عثر في بعض مواقع بلاد الشام على بعض الدفنات الآدمية التي فسرها بعض الباحثين بأنها دفنات تعرض أصحابها للعنف الذي أدى إلى الموت، وكان الموت في هذه الحالة يتم من خلال القتل العمد لصاحب الدفنة ربما كنوع من العقاب، كما ظهرت دفنات أخرى في بعض مواقع بلاد الشام فُسرت من قبل بعض الباحثين بأنها دفنات لأضاحي بشرية. - عبرت عادات الدفن بما زودتنا به من معلومات ولقى أثرية عن حضارة أهل بلاد الشام خلال عصور ما قبل التاريخ بنوع من الوضوح والتفصيل.

طالع أيضًا[عدل]

الملاحظات والاستشهادات والمصادر[عدل]

ملاحظات[عدل]

مراجع[عدل]

  1. ^ خميس (2022)، صفحة 77 - 110.
  2. ^ Tayoun 2020-10-30، صفحة 259-260.
  3. ^ الماجدي 1997، صفحة 36-42-64-65.
  4. ^ Weinstein-Evron 2003-03، صفحة 96–101.
  5. ^ الحايك 2005، صفحة 0.
  6. ^ Weinstein-Evron 2003-03، صفحة 2.
  7. ^ Weinstein-Evron 2003-03، صفحة 3.
  8. ^ مصطفى مراد الدباغ 1974، صفحة 51.
  9. ^ Grosman 2008-11-18، صفحة ٦٦.
  10. ^ Bar-Yosef 1998، صفحة 159-177.
  11. ^ Verhoeven 2002، صفحة 5–13.
  12. ^ محيسن 2008، صفحة 0.
  13. ^ الدليمي 2019، صفحة 927–940.
  14. ^ الحايك 2005، صفحة 0، 2.
  15. ^ الحوراني 1998، صفحة 0.
  16. ^ أبو غنيمة 2001-12-01، صفحة 0.
  17. ^ كنجو 2014، صفحة 7-18.
  18. ^ Kanjou 2010-10-01، صفحة 0.
  19. ^ رجوب 2016، صفحة 40.
  20. ^ كنجو 2014، صفحة 18.
  21. ^ كنجو 2014، صفحة 17.
  22. ^ Santana et al. 2012-07-11، صفحة 205–216.
  23. ^ كفافي 1986، صفحة 80.
  24. ^ الحوراني 1998، صفحة 00.
  25. ^ عبد الرحمن 2009، صفحة 40-71.
  26. ^ Jonathan 11 يوليو 2012، صفحة 00.
  27. ^ محيسن 2008، صفحة 29-28.
  28. ^ Maier 2017، صفحة 9-53.
  29. ^ أبو غنيمة 1 ديسمبر 2001، صفحة 0.
  30. ^ Santana 1966، صفحة 00.
  31. ^ Santana 11 يوليو 2012، صفحة 0.
  32. ^ Santana 2015-03، صفحة 112-127.
  33. ^ الحايك 2019-12-31، صفحة 11-30.
  34. ^ تسونكي 2009، صفحة 181-183-186.
  35. ^ الحايك 2019، صفحة 0.
  36. ^ تسونكي 2009، صفحة 180.
  37. ^ تسونكي 2009، صفحة 181.
  38. ^ Tsuneki 2011-12-31، صفحة 83-98.
  39. ^ كوفان 1988، صفحة 74.
  40. ^ محيسن 2008، صفحة 00.
  41. ^ Maier 2017، صفحة 9-53، 2.
  42. ^ كنجو 2014، صفحة 9.
  43. ^ Verhoeven 2002، صفحة 13.
  44. ^ Rollefson 1992، صفحة 443.
  45. ^ Lucero 2007، صفحة 45–73.
  46. ^ Devlin 2007-10-10، صفحة 38–46.
  47. ^ Richter 2010-06-01، صفحة 321–334.
  48. ^ Richter 2010، صفحة 334-321.
  49. ^ Maher 1-يونيو-2010، صفحة 321-334.
  50. ^ Santana 2015-03، صفحة 112-137.
  51. ^ Belfer-Cohen 1992-08، صفحة 463-471.
  52. ^ Maher 2011-01-26.
  53. ^ سليم 2000، صفحة 292.
  54. ^ خليف 2009-06-01، صفحة 101–111.
  55. ^ الحوراني 1998، صفحة 22.
  56. ^ Maher 26 يناير 2011، صفحة 158.
  57. ^ Maher 26 يناير 2011، صفحة 179.
  58. ^ Belfer-Cohen 1992-08، صفحة 471.
  59. ^ عبد الرحمن 2009، صفحة 50.
  60. ^ Al-Shorman 2011، صفحة 88.
  61. ^ Braidwood 1966-09، صفحة 238–240.
  62. ^ الحايك 2005، صفحة ٦٦.
  63. ^ Leroi-Gourhan 1984، صفحة 103–105.
  64. ^ J.G.D.C. 1937، صفحة 486-488.
  65. ^ Boyd 2001، صفحة 190.
  66. ^ Eshed 2015، صفحة 115–131.
  67. ^ خليف 1 يونيو 2009، صفحة 101-111.
  68. ^ أبو غنيمة 1998، صفحة 97-100.
  69. ^ الحوراني 1998، صفحة ٦٦.
  70. ^ أبو غنيمة 1998، صفحة 105.
  71. ^ حسين 2014، صفحة 162.
  72. ^ Grosman 2008.
  73. ^ Mithen التاريخ، صفحة 82–110.
  74. ^ الاسم 2015-10-30، صفحة ٦٦.
  75. ^ Bocquentin 2016-12، صفحة 693–702.
  76. ^ Bar-Yosef 1991، صفحة 241.
  77. ^ Garrard (2016-12).
  78. ^ Al-Shorman (2011).
  79. ^ Santana (2015-03)، صفحة 112.
  80. ^ Mithen (2015)، صفحة 110.
  81. ^ Rollefson 1998، صفحة 99–104.
  82. ^ Metcalf 1991-10-25.
  83. ^ Santana (2015-03)، صفحة 120.
  84. ^ الحوراني (1998).
  85. ^ أبو غنيمة (1 ديسمبر 2001).
  86. ^ Mithen، Steven (2015)، صفحة 108.
  87. ^ Mithen (30 أكتوبر 2015)، صفحة 83–110.
  88. ^ Mithen (30 أكتوبر 2015)، صفحة 84–110.
  89. ^ الخواجة (2007)، صفحة 43.
  90. ^ عبدالله (2014)، صفحة 162.
  91. ^ الخواجة (2007)، صفحة 43، 2.
  92. ^ خليف (1 يونيو 2009)، صفحة 101–111.
  93. ^ Diamond (2003-04-25)، صفحة 603-597.
  94. ^ صالح (2006)، صفحة 130.
  95. ^ أبو غنيمة (1998)، صفحة 97-100.
  96. ^ صالح (2006)، صفحة 130، 2.
  97. ^ published (2020-08-12).
  98. ^ PLOS ONE & (2021-01-28) p.
  99. ^ PLOS ONE (1-28-2021).
  100. ^ published (2020-08-12)، صفحة 1.
  101. ^ published (2020-08-12)، صفحة 2.
  102. ^ Garrard (2016-12)، صفحة 693–702.
  103. ^ Ancient (2020-08-13).
  104. ^ Tsuneki، Akira (31 ديسمبر 2011).
  105. ^ تسونكي اكيرا (2009)، صفحة 181-186-189.
  106. ^ العيادة 2019، صفحة 376.
  107. ^ أبو غنيمة (1 ديسمبر 2001)، صفحة 6.
  108. ^ Al-Shorman (2011)، صفحة 88.
  109. ^ Kulmar (2005)، صفحة 15-30.
  110. ^ Weinstein-Evron (2003-03)، صفحة 4.
  111. ^ Blackman (1916-12-31)، صفحة 377-352.
  112. ^ خليف (1 يونيو 2009)، صفحة 101–111، 2.
  113. ^ الحايك (31 ديسمبر 2019)، صفحة 11-30.
  114. ^ الحايك (31 ديسمبر 2019)، صفحة 13-30.
  115. ^ Russell (2017-07-17)، صفحة 580-576.
  116. ^ الحايك (31 ديسمبر 2019)، صفحة 12-30.
  117. ^ الحايك (31 ديسمبر 2019)، صفحة 14-30.
  118. ^ كانجو (2014)، صفحة 7–18.
  119. ^ الحايك (31 ديسمبر 2019)، صفحة 20-30.
  120. ^ Tsuneki، Akira (31 ديسمبر 2011)، صفحة 83-98، 1.
  121. ^ Tsuneki، Akira (31 ديسمبر 2011)، صفحة 83-98، 2.
  122. ^ الحايك (31 ديسمبر 2019)، صفحة 22-30.
  123. ^ Tsuneki، Akira (31 ديسمبر 2011)، صفحة 83-98، 3.
  124. ^ Tsuneki، Akira (31 ديسمبر 2011)، صفحة 83-98، 4.

مصادر عربية[عدل]

مصادر انجليزية[عدل]