هارون الرشيد

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أمِيرُ المُؤمِنين
هارُون الرَّشِيد
هارُون بن مُحَمَّد بن عبدِ الله بن مُحَمَّد بن عَلِيُّ بن عبدِ الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلِب الهاشِمِيُّ القُرَشِيُّ
رسمٌ تخيُّلِيٌّ للخليفةُ العبَّاسِيُّ هارُون الرَّشيد

معلومات شخصية
الميلاد 1 مُحَرَّم 149 هـ
(19 فَبْراير 766 م)
الرَّيّ، الخِلافَة العبَّاسِيَّة
الوفاة 30 جُمادَى الأولى 193 هـ
(24 مارس 809 م)
(بالهِجْريّ:44 سنة و5 شُهُورٍ و29 يومٌ)
(بالمِيلادِيّ: 43 سنة وشهرٌ و5 أيَّام)
طُوس، الخِلافَة العبَّاسِيَّة
مكان الدفن مَشْهَد، إيران
مواطنة الدولة العباسية  تعديل قيمة خاصية (P27) في ويكي بيانات
الكنية أبُو جَعْفَر
اللقب الرَّشيد
الديانة مُسْلِمٌ سُنِيٌّ
الزوجة زبيدة بنت جعفر · مراجل · قصف · ماردة · أمة العزيز · رثم · أم محمد · عزيزة بنت صالح · الجرشية · العثمانية
الأولاد الذكور:

محمد الأمين · عبد الله المأمون · محمد المعتصم · القاسم · أحمد السبتي · العبدان · علي · صالح · محمد أبو يعقوب · محمد أبو عيسى · محمد أبو العباس · محمد أبو علي
الإناث:

سكينة · أم حبيبة · أروى · أم الحسن · حمدونة · فاطمة · أم سلمة · خديجة · أم القاسم رملة · أم علي · أم الغالية وريطة
الأب مُحَمَّد المِهْدِي
الأم الخَيْزُران بنتُ عَطاء
إخوة وأخوات موسى الهادي · إبراهيم · عبد الله · علي · عبيد الله · منصور · إسحاق · يعقوب · العباسة · علية · البانوكة
عائلة بنو العباس  تعديل قيمة خاصية (P53) في ويكي بيانات
منصب
الخَليفةُ العبَّاسِيُّ الخامِس
الحياة العملية
معلومات عامة
الفترة 15 ربيع الأوَّل 170 - 30 جُمادى الأولى 193 هـ
(14 سَبْتَمْبَر 786 - 24 مارس 809 م)
(اِثنين وعُشرُون عامًا وسِتة شُهورٍ وعشرةُ أيَّام)
مُوسى الهادِي
مُحَمَّد الأمين
السلالة بنو العبَّاس
تعلم لدى شعبة بن الحجاج،  ومعمر بن المثنى[1]،  والكسائي،  والمفضل  تعديل قيمة خاصية (P1066) في ويكي بيانات
المهنة سياسي،  وشاعر،  وخليفة المسلمين  تعديل قيمة خاصية (P106) في ويكي بيانات
سير أعلام النبلاء/الرشيد  - ويكي مصدر

أمِيرُ المُؤمِنين وخَليفةُ المُسْلِمِين الحاجُّ العابِد والإمامُ المُجاهِد أجلُّ مُلوك الدُّنيا أبُو جَعْفَر هارُون الرَّشِيد بن مُحَمَّد المِهْديّ بن عَبدِ الله المَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَلِيُّ بن عَبدِ الله بن العَبَّاس الهاشِميُّ القُرَشيُّ (1 مُحَرَّم 149 - 30 جُمادى الأولى 193 هـ / 19 فبراير 763 - 24 مارس 809 م)، المعرُوف اختصارًا بلقبِه الرَّشيد، خامِس خُلفاء بَني العبَّاس، والخَليفةُ الرَّابع والعُشرُون في ترتيب الخُلفاء بعد النَّبِيُّ مُحَمَّد. حَكم دولة الخِلافَة العبَّاسِيَّة مِن عام 170 هـ / 786 م حتى وفاتُه عام 193 هـ / 809 م.

وُلد الرَّشيد في مدينة الرَّي من إقليم الجِبال، وقد تلقَّى تعليمًا جيدًا، حيث كان ذكيًا، ويُحب العِلم والأدب، كما تدرَّب على الفُروسيَّة والفُنون القِتاليَّة. ولَّاهُ أبوه المِهْدِي ولاية العهد بعد أخيه مُوسى الهادي بعد أن نجح في حملته الأُولى ضد الرُوم، ثم أرسلهُ لقيادة حملةً جِهاديَّة ثانية وكانت أكبرُ تأثيرًا، حيث وصل إلى خليجُ القُسْطَنْطِنيَّة ما أجبر الإمْبراطُورة على دفع الجِزية والصُّلح، وبسبب قُدراتِه وانتصاراتِه وإخضاعه لأعداء الخِلافَة، قرر المَهْدِي أن يُقدِّم ولايتُه على الهادِي، إلا أنه تُوفي آنذاك، وأصبح مُوسى الهادِي خلفًا له. حاول الهادِي عزل أخيه عن ولاية العَهْد لصالح ابنِه، وسعى في ذلك وتشدَّد بهدف الضغط عليه، إلا أنه لم يتمكَّن من ذلك، حيث توفي بعد حوالي سنةً من حُكمِه من مرض.

بُويع هارُون الرَّشيد خليفةً بعد الهادِي، وورث بِلادًا مُترامية الأطراف، فقد امتدَّ أرجاء حُكمِه من بِلاد ما وراء النَّهر والسَّند شَرقًا حتى إفريقيَّة غربًا، ومن اليَمَن جُنوبًا، حتى آرَّان وبِلاد الكُرْج شِمالًا، فحكمها في البداية بالتعاون مع وزيرُه يَحيى البَرْمُكِي، وواجه تحديَّات وثوراتٍ عديدة ضده، فاستطاع احتواء بعضِها عبر سياساتٍ دبلُوماسِيَّة، ومُواجهة البقية بحملاتٍ عسكريَّة، ففرض سُلطتُه في كُل مكان من أنحاء الخِلافة، حتى قال مقولتهِ المشهورة حينما رأى الغَيْث فوقُه: «اذهبي حيثُ شئتِ يأتني خَراجَك».

يعتبر هارون الرشيد من أشهر الخلفاء العباسيين، وأكثرهم ذكرا حتى في المصادر الأجنبية كالحوليات الألمانية في عهد الإمبراطور شارلمان التي ذكرته باسم (ارون)، والحوليات اليابانية والصينية التي ذكرته باسم (الون)، أما المصادر العربية فقد أفاضت الكلام عنه لدرجة أن أخباره قد امتزجت فيها حقائق التاريخ بخيال القصص، ولا سيّما كتاب «ألف ليلة وليلة» التي صورته بالخليفة المسرف في الترف والملذات، وأنه لا يعرف إلا اللهو وشرب الخمور ومراقصة الغانيات. والواقع أن هذا الخليفة كان من خيرة الخلفاء فقد كان يحج عامًا ويغزو عامًا، وذكر أنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق بألف، وكان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لا سيما إذا وعظ.[2] وقد تم فتح الكثير من البلدان في زمنه، واتسعت رقعة الإسلام واستتب الأمن وعم الرخاء وكثر الخير بما لا نظير له ثم إن هذا الخليفة كان حسن السيرة والسريرة.[3]

كذلك كان يصور بصورة الخليفة الحذر الذي يبث عيونه وجواسيسه بين الناس ليعرف أمورهم وأحوالهم، بل كان أحيانًا يطوف بنفسه متنكرًا في الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها.[4] والواقع هذه الصورة المتباينة للرشيد ما هي إلا انعكاس للعصر الذي عاش فيه بمحاسنه ومساوئه، وهو العصر العباسي الأول أو العصر الذهبي للإسلام.[4] وقد تميز عصره بالحضارة والعلوم والازدهار الثقافي والديني، وأسس المكتبة الأسطورية بيت الحكمة في بغداد، وبدأت بغداد خلال فترة حكمه بالازدهار كمركز للمعرفة والثقافة والتجارة.[5]

نشأته[عدل]

نسبه[عدل]

هو هارُون الرَّشيد بن مُحَمَّد المِهديّ بن عَبدُ الله اَلمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَلِيّ بن عَبدِ الله بن العَبَّاس بن عَبد المُطَّلِب بن هاشِم بن عَبد مَناف بن قُصي بن كِلاب بن مُرة بن كَعب بن لُؤي بن غالِب بن فَهر بن مالِك بن النَّضر بن كِنانة بن خُزَيمة بن مُدرِكة بن إلياس بن مَضَر بن نِزار بن مَعد بن عدنان.

والدهُ هو ثالث خُلفاء بَني العبَّاس، مُحَمَّد المِهْدِي، والذي تولى ولاية العهد في عهد أبيه أبُو جَعْفَر المَنْصُور وخلفهُ في الحُكم من بعده لاحقًا.

والدتهُ أُمُّ ولدٍ يَمانيَّة جرَشيَّة، تُدعى الخَيْزُران بنتُ عَطاء. اشتراها جُدُّ هارُون، الخليفة أبُو جَعْفَر المَنْصُور في مَكَّة من أجل ابنه المِهْدِي بهدف الإنجاب قائلًا: «خذوها إلى ابني المهديّ، وقولوا لهُ إنها ستكون ولَّادة».[6][7] كانت الخَيْزُران جاريةً هَيْفاء جميلة، مُثقَّفةٍ وذات طُموحٍ كبير، وقد أحبَّها المِهْدِي حُبًا كبيرًا.[8] ولها الكثير من الرِّوايات والقصص التي تتحدث عن نُفوذها في الأحداث اللَّاحِقة.[9]

ولادته[عدل]

اختلف المُؤرِّخُون في تحديد تاريخ سنة وِلادة هارُون بالدقَّة. حيث يروي المُؤرِّخ ابْن الأثِير نقلًا عن البَرامِكة أنهُ وُلد في مُستهلَّ مُحَرَّم سنة 149 هـ / 19 فَبْرايِر 766 م، وذلك لكون الفَضْل بن يِحيى البَرمَكِيُّ ولد قبله بنحو أُسبوع.[6][10] ويُقال أنه ولد في آخر ذو الحجَّة سنة 145 هـ / 17 مارس 763 م[6][11]، وهو ما قالهُ الطَّبَريُّ ولكن حدَّدهُ بيوم 27 ذُو الحجَّة / 14 مارس.[12] وقيل بأنه ولد في سنواتٍ قريبة أخرى.[8]

وعلى أية حال، فإن الخَيْزُران ولدت ابنُها هارُون في مدينة الرَّيّ، حيث كان والدهُ المِهْدِي واليًا على كامِل المَشرق العبَّاسِي، واتَّخذ من الرَّيّ قاعدةٍ لحُكمِه، والتي تتبع إداريًا وِلاية الجِبال، وذلك في زمن خِلافة جدِّه المَنْصُور.[13]

طفولته[عدل]

عاش هارُون، الابنُ الثَّاني للخَيْزُران بعد أخيه مُوسى بعد ولادته في قَصْر والده بالرَّيّ، حيث كان يحميها خُندُق، وسُورٌ سميك، ويسقيها نهران بمياهٍ وفيرة. وبعد أن أصبح هارُون في الثَّالثة أو الرَّابعة من عُمره، عاد المِهْدِي إلى العاصِمة العبَّاسِيَّة بَغْدَاد، وسكن في القصر الذي بناهُ على شاطئ دَجْلة، حيث كُن زوجات رِجال أهلُ الحلِّ والعَقد يتنافسن بعد ولادته على شرف إرضاعه.[10] ولما كان لعائلة يِحيى البَرْمَكِيُّ من روابط وثيقة بأُسرة الخِلافة وعائلة الخليفة المِهْدِي، وطُموحًا عاليًا، فقد دفعت الخَيْزُران بطفلها هارُون إلى زَيْنَب بنت مُنير، زوجة يِحيى البَرْمَكِيّ كي تُرضِعُه، فأرضعتهُ بلبان الفَضْل، وقد أرضعت الخَيْزُران الفَضْل وأخوه جَعْفَر بلبان هارُون، الأمر الذي ارتبط في حياة هارُون مُستقبلًا بهما، لكونهما إخوةٌ بالرِّضاعة ومن الجيل نفسه.[6]

تعليمُه[عدل]

بدأ الأمير هارُون تلقِّيه للعِلم منذ أن كان في الخامِسة من عُمره، كما تجري تربية صِغار الأمُراء في العادة، والتي تنتهي في الخامِسة عشر من عُمره[10]، وقد تعلَّم اللُّغة العربيَّة والنَّحو والأدب من إمامِها أبُو الحَسَن الكِسائيُّ، ومن المُفَضَّلُ الضُّبِي، كما سمِع الحديث من أبيه المِهْدِي وحفظ الكثير من الشِّعْر، والحِكَم، والخُطَب، وأيَّامُ العَرب والإسلام.[14][15] وبعد تولِّي والدهُ للخِلافَة، تدرَّب هارُون على الفُروسيَّة، والرَّمي، والطَّعن، وفنون القِتال.[15]

في خِلافة أبيه المِهْدِي[عدل]

تخطيط باسم الخَليفة أبُو عبدِ الله مُحَمَّد المِهْدِي

حين أصبح الأميرُ هارُون في مراحِل البُلوغ، وكان شابًا يافِعًا ومُتعلِّمًا، تُوفي جدهُ المَنْصُورفي طريقه للحج على أبواب مَكَّة في السَّادِس من ذُو الحجَّة 158 هـ / السَّادِس من أُكْتُوبَر 775 م، وكان عُمر هارُون قُرابة الثَّانية عشر من عُمره. بُويع أبيه المِهْدِي للخِلافة بناءً على وصيَّة المَنْصُور.[16] وبعد سنةٍ من حُكمِه، أعتَق الخَيْزُران أُم ولدِه وتزوَّجها.[17]

بيعة مُوسى الهادي لولاية العهد[عدل]

عاصَر هارُون أحداثًا كثيرة في عهد أبيه، حيث كان الزَّنادِقة قد طفَح أمرُهم، وثار المُقَنَّع في خُراسان، وبرزت أعدادًا من التحديَّات والاضطَّرابات في بعض أنحاء البِلاد.[17] ولكنه كان يُواجه تهديدًا داخليًا بوجود الأمير عِيسى بن مُوسى العبَّاسِي، حيث أنه كان مُبايعًا للعَهْد بعد المِهْدِي، وكان الأخير لأخذ البيعة لابنهِ مُوسى، وبعد ضُغوطٍ كثيرة وصلت إلى الضرب من بعض المُتعصِّبين لخلعه من ولاية العَهد على الرُّغم من استنكار للمِهْدِي، قرر عِيسى التنازل عن وِلاية العهد، وخلعُ نفسِه في السَّادِس والعُشرُون من مُحرَّم 160 هـ / السَّادِس عَشَر من نُوفَمْبَر 776 م، وبايَع المِهْدِي لابنه مُوسى ولقَّبهُ بالهادِي.[18] وفي نفس الفترة الزمنية من الحدث، أمر المِهْدِي بجعل أبان بن صَدَقة كاتِبًا لهارُون، ووزيرًا له، كي يعينه على شؤونه.[18] إلا أن المِهْدِي بعد سنة، أمر ابن صَدَقة بأن يُستوْزر لوليُّ عهدِه مُوسى الهادي، ووكَّل يِحيى البَرمُكِيُّ بأن يكون الكاتِب الخاص لهارُون، والذي كان الأخير يدعُوه «أبَتي» لاحترامِه وكِبر سِنِّه ولكون أولادُه إخوتهُ من الرَّضاعة، الأمر الذي دفع البَرامِكة مزيدًا من النُّفوذ حيث أن يِحيى أولاهُ اهتمامُه، ودربهُ في الكثير من شُؤون الحِنكة السياسية والتنظيمات الإدارية حينها.[19]

الحملةُ الهارُونيَّة على الثُّغور الرُّومِيَّة[عدل]

بعد أن رأى الخليفةُ المِهْدِي أن هارُون قد اشتد عُودُه، ولهُ من الهِمة ما يُمكِّنهُ من اختبارِه في الواقِع، تجهَّز المِهدِي لغزو الرُّوم البِيزَنْطِيين، فجمع الجَيْشُ العَبَّاسِي من أنحاء خُراسان وغيرها، كما استخلف الهادِي على العاصِمة بَغْدَاد نيابةً عنه، واسْتَصحب معهُ هارُون نحو أرض الثُّغور، مُنطلِقًا في جُمادى الآخِرة 162 هـ / مارس 779 م، وسار عبر الفُرات، إلا أن المِهْدِي حينما وقف في حَلَب، وصلت لهُ المعلومات بوجود زَنادِقة، فجمع من بها من تلك النَّاحية منهم، وقتلهُم، وقطَّع كُتبهُم بالسكاكين.[20]

بعد أن تتبُّع الخليفةُ المِهْدِي للزَّنادِقة، انطلق مع جيشِه حتى وصل إلى مدينة جِيحان، ثم شيَّع هارُون وأمَّرهُ على رأس الجيش للتوجُّه نحو الرُّوم، وكان معهُ عددًا من القادة والأُمراء من أمثال عَبدَ الملِك بن صالِح، وعِيسى بن مُوسى، والمُخَضْرَم الحَسَن بن قَحْطَبة، ويِحيى البَرْمَكِيّ وإخوانه مثل خالِد، فساروا حتى نزلوا على حصن سَمالوا، فحاصرها هارُون ونصَّب المجانيق، وبعد 38 يومًا، رفع أهلُ سَمالوا راية الأمان والاستسلام، على شرط أن لا يُقتلوا ولا يُهجَّروا، فوافق هارُون، ففتحها وأمَّنهُم، ووفى لهُم بما شَرطُوا، كما فتح عدد من الحُصون، وغنم أموالًا جزيلة عائدًا بالجيش والأعلام السَّوداء تُرفرِف مع الغنائم إلى العاصِمة بَغْدَاد، فاستقبلهُم الأهالي فرِحين، وكافأهُ الخليفة المِهْدِي بتوليته واليًا على بِلاد المَغْرِب، وأذرُبَيْجان، وأرمِينيَّة، وجعل كاتِبهُ على الخراج ثابِت بن مُوسى، وعلى رسائلهُ يِحيى البَرْمَكِي.[21][22][23]

الحملةُ الهارُونيَّة على أبواب القُسْطَنْطِنِيَّة[عدل]

خريطة تُظهر منطقة آسيا الصُّغرى في زمن الأمير هارُون، سنة 158 هـ / 780 م.

بعد نجاح حملتهِ الأولى، وتوليته واليًا، وزواجِهِ من ابنة عمِّه زُبَيْدَة بنتُ جَعْفَر، قرَّر الخليفة المِهْدِي إرسال الأمير هارُون في حملةٍ جِهاديِّةٍ كبيرة نحو الثُّغور الرُّومِيَّة، فانطلق هارُون يوم السَّبت، التَّاسِع عَشَر من جُمادى الآخِرة 165 هـ / السَّابِع من فَبْراير 782 م، وذلك على رأس جيشٍ كبير وصل تعدادُه ما يزيد عن 95 ألفًا، وأرسل معهُ الرَّبيع الحاجِب، ويَزيد بن مَزيد الشَّيْبانِيّ، وأمدَّهُ 193 ألف دينارًا وغيره من الفِضَّة والدراهِم لنفقة الجَيْش.[22][24]

توغَّل الأميرُ هارُون في بِلاد الرُّوم، فبدأ بافتتاح حُصن ماجِدة، حيث تبارز القائد يَزيد الشَّيْبانِي مع قائد الحُصن آنذاك ويُدعى نقيط في المصادِر، فأرجل يزيد، حتى سقط نقيطًا، وبادرهُ بضربة حتى صرعهُ قتيلًا، فانهزم الرُّوم آنذاك.[24] ثم سار يَزيد على رأس كتائب لمُلاقاة الدُّمُسْتُق البيزَنْطِي في نَقْمُودِية، بينما أكمل هارُون وجيشُه الكبير زحفَهُم في أرْض الرُّوم، مُكبِّدًا الرُّوم خسائر باهِظة، حيث وصل عدد قتلى الرُّوم في المعارِك نحوًا من 54 ألفًا، كما سبُوا ما يُقارب 5 آلاف، واستمر الجيشُ العبَّاسِيُّ في مسيره وتوغُّلاتهِ العميقة حتى بلغ خَلِيجُ القِسْطَنْطِنِيَّة.[24]

وصلة أنباء الهُجوم الإسلامي لمسامع الإمْبَراطُورة الأرْمَلة أُغُسْطَه زوجة أليُون الرَّابع، وخشت من عواقب زحف جيش المُسْلِمين نحو عاصِمة المَمْلكة، فأرسلت الرُّسُل والسُّفراء طلبًا للصِّلح ولعلاقاتٍ وديَّة وإعطاء الفِدية إلى الأمير هارُون، فقبل مِنها على شرط أن تُقيم لهُ الأدُلاء والأسواق في طريقه، وأن تُوفي بالعَهد والذِّمَّة، حيث أن الجيش العبَّاسِيُّ الإسلامي، قد دخل مدخلًا صعبًا وخشي الأمير عليهم، فأجابتهُ إلى ما سأل، ودفعت لهُ 70 ألف دينارًا، وقيل بل 90 ألفًا، تُؤديها في الأوَّل من نِيسان وحُزَيْران، فقبِل الأمير هارُون، وأقامت الأسواق في مُنصرفه بناءً على طلبِه، كما وجهت معهُ رسُولًا إلى الخليفةِ المِهْدِي بما بذلت، على أن تُؤدي ما تيسَّر من الذَّهبِ والفِضَّة والعَرض، وأطلقت سِراح الأُسرى من المُسْلِمين، وكانت الهُدنة مدُتها ثلاثةُ سِنين.[24]

بيعتهُ لِولاية العَهْد بعد الهادِي[عدل]

عاد الأميرُ هارُون على رأس الجَيشُ العبَّاسِيُّ المُنْتَصِر، ومعهُ رسولٌ من الإمْبَراطُورة حامِلًا الجِزية من الذَّهَب، إلى العاصِمة بَغْدَاد، في أبَّهةٍ عظيمة واستقبال أهالي بَغداد، في يوم السَّبت، السَّابِع عَشَر من مُحَرَّم 166 هـ / الرَّابِع من سَبْتَمْبَر 782 م، وفي ذلك، يقول الشَّاعِر مُروان بن أبي حَفْصَة الأُمَويُّ:

أطفت بقَسْطَنْطِنِيَّةُ الرُّومِ مسندًا
إليها القِنا حتى اكتسى الذُّل سُورها
وما رَمَتها حتى أتتكَ مُلوكَها
بجِزيَتْها والحربُ تغلي قُدُورها

وفي هذا اليوم رَفع الخليفةُ المَهْدِي من مكانة ابنِه، وقرر أخذ البيعة لهُ من بعد أخيه مُوسَى الهادِي، كما أطلق عليه لقب «الرَّشِيد»، لما رأى منهُ بأسُه، وذكاؤُه، ورُشْدُه، وهو اللَّقب الذي عُرف به ولازَمَه، وكانت أيام شهدت رخصًا في المعيشة نتيجة الغَنائم، حيث بلغ بيع البَرَذُون بدرهم، والدِّرع بأقل من درهم، و20 سيفًا بدرهمٍ واحِد فقط.[25] وقد استمرَّت الهُدنة قُرابة الثلاثة أعوام حتى نقضها الرُّوم في شهر رَمَضان سنة 168 هـ / أبْريل 785 م، فبعث نائبُ الجزيرة حملةً تأديبيَّة فقتلوا وأسروا وغنِموا من الرُّوم، وعادت الحُروب بين الطرفين لسابق عهدها.[26]

مُحاولة المِهْدِي عزل الهادِي لصالح الرَّشيد[عدل]

كان الخليفةُ المِهْدِي قد بايع لابنهِ الأمير هارُون الرَّشِيد بعد أخيه مُوسَى الهادِي ليخلفهُ في الحُكم، إلا أن أُمَّهُما الخَيْزُرَان، كانت تُحب الرَّشِيد، وترغب في تقديمه على أخيه في ولاية العَهد، لِما رأت هي وأباهُ ما فيهِ من البُطولة، والذَّكاءِ، والحِكمة، على الرُّغم أن كُليهما كان ولديهِما، ولأن الخليفةُ المِهْدِي كان يُحب الخَيْزُران حُبًا كبيرًا، فقد عزم على تنفيذ رغبتها ونقل ولاية العهد من ولدهِ مُوسى إلى هارُون، فبعث رسالةً إلى الهادِي يطلُب حضوره، وكان بعيدًا عن بَغْدَاد، حيث أنه قد خَرج سابِقًا لمُحاربة حُكَّام طَبَرسْتان المُتمرَّدين في سنة 167 هـ / 784 م، إلا أن الهادِي لم يفعل، فبعث أباهُ إليه رسولًا، إلا أن الهادي ضربُه، وامتنع عن القُدوم إليه، كونه علِم بنوايا أبيه وأمه في خلعِه، فغضِب الخليفة منه، وسار على رأس جيشٍ في مُحرَّم 169 هـ / أوائل أو مُنتصف يُوليو 785 م، مُتوجِّهًا إلى جُرْجَان لمُحاربة ابنِه المُتَمرِّد عليه، إلا أن موتهُ حال دون ذلك.[27]

وفاةُ الخليفة المِهْدِي[عدل]

اختلفت الرِّوايات بشكلٍ كبير حول أسباب وفاة المِهْدِي، فقيل في رواية للمُؤرِّخ ابْن الأثِير، بعد أن سار المِهْدِيُّ من بَغْدَاد، توقَّف في منطقة تُدعى ماسَبَذان، وهي من العِراق، فأكل طعامًا، ثم توجه للنوم، إلا أنهم استيقظوا ببُكائه، فأتوه مُسرعين، فقال لهُم بأنه رأى رجُلًا واقفًا على الباب، وقال له:

كأنِّي بهذا القَصْرِ قد بادَ أهلُهُ
وأوْحَشَ مِنهُ رَبعُهُ ومَنازلُهْ
وصارَ عميدُ القومِ من بعد بهجةٍ
ومُلكٍ إلى قبرٍ عليهِ جنادِلُهْ
فلم يبقَ إلا ذِكْرُهُ وحَديثُهُ
تُنادي عليهِ مُعوِلاتٍ حلائلُهْ

فبقي بعد ذلك عشرةِ أيَّامٍ، ثم تُوفي.[27] وقيل أنه تُوفي مسمُومًا من أحد جواريه، حيث أنها أرسلت بلبأ فيهِ سُم، وهو جالسٌ في البُستان، بهدف تسميم إحدى الجواري، فدعا به المِهْدِي وأكل منه، حيث أنها خافت أن تقول لهُ بأنه مسموم، فمات من ساعتِه.[28] وكان يوم وفاتُه، في الثَّاني والعُشرُون من مُحرَّم 169 هـ / الرَّابِع والعُشرُون من يُوليو 785 م.[27]

في خِلافة أخيه الهادِي[عدل]

بيعةُ الهادِي للخِلافَة[عدل]

كان مُوسى الهادِي مُقيمًا في جُرجان، ويُحارب الثَّائرُين في طَبَرسْتان، ولم يكُن يعلم ما جرى من وفاة أبيه، فجاء المُوالي والقادة إلى الرَّشيد الذي كان لم يدفُن أباهُ بعد، وقالوا له: «إن علِم الجُند بوفاة المِهْدِي، لم تأمن الشَّغَب، والرأي أن تُنادي فيهم بالرُّجوع، حتى تواريه ببَغْدَاد»، فاحتار الرَّشيد فيما يفعل، فطلب إحضار يِحيَى البَرْمَكِيُّ على وجهِ السُّرعة، وكان يتولَّى ما للرَّشيد من أعمال المَغْرِب، من الأنْبَار حتى إفْريقِيَّة، فاستُدعى يَحيى، وطلب منهُ الرَّشيد إبداء رأيه، فعارض ما قالهُ المُوالي والقادة، ورأى أن يُدفن في ماسَبَذان، ويُوجه بالخاتِم، والتعزية، والتهنئة إلى الهادي.[29] وقد عاد الهادِي إلى بَغْدَاد في العُشرُون من صَفَر 169 هـ / الرَّابِع من سَبْتَمْبَر 785 م لمُتابعة شُؤون الخِلافَة.[30]

نيَّة الهادِي لِخلع الرَّشيد[عدل]

رسمٌ تخيُّلي لِلخليفة العبَّاسي هَارون الرشيد.

لم يُنازع الرَّشيد أخوهُ الهادِي في مسألة الخِلافة، ولم يدخُل معهُ في البداية أيُّ صِراع، لأنه يعلم أنه لا يُملك الحق وهو الخليفةُ الشَّرعي، كما أن الصِّراع على السُلطة مِعولُ هدمٍ في صَميم ما تنبُذهُ فِكرة الخِلافة نفسُها، إلا أن الخليفة مُوسى الهادِي أصبح ينتقد تصرُّفات أخيه الرَّشيد في مجالِسِه، ويُبدي عدم رضائه عنه، بل وطلب منهُ أكثر من مرة أن يتنازل عن ولاية العَهْد، لصالح البيعة لابنهِ جَعْفَر.[31]

أظهر الهادِي نواياه على قادتِه، وعرض عليهم مسألة خلع الرَّشيد من وِلاية العَهْد، فأبدى يَزيد بن مَزيد الشَّيْبانِيُّ، وعَبدُ الله بن مالِك الخُزاعِيُّ، واِبْن ماهَان وغيرهُم تأييدهُم ووقفوهم إلى جانب الخليفة في أمره، فخلعوا هارُون، وبايعوا لجَعْفَر، كما أنهم تنقَّصُوا من الرَّشيد في مجلس الجماعة، حتى اجتنبهُ الناس، وتركوا السَّلام عليه.[32] وقد قال أحدهُم للخليفة الهادِي: «ليس عليكَ من أخيكَ خِلاف، إنما يِحيَى يُفسِدُه»، فبعث الهادِي إليه ليلًا، فخاف يَحيى على نفسِه، فودَّع أهلهُ، وأوصى، وتحنَّط، ثم حضر في مجلس الخليفة، فقال لهُ الهادي: «يا يَحيى! ما لي ولك؟»، فرد البَرمَكِي: «ما يكُون من العَبدِ إلى مولاهُ إلَّا طاعتُه»، فجاوبه قائلًا: «لِمَ تُدخل بيني وبين أخي وتُفْسِدهُ عَلِيّ؟»، فأنكر يَحيى ذلك وقال: «من أنا حتى أدخُل بينكُما؟ إنَّما صَيرني المَهْدِي معهُ، ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره، فانتهيتُ إلى أمرِك»، فسكَن وهدأ الهادي.[32]

وكان الرَّشيد قد طابت نفسُه، ولم يعُد يكترث في أمر وِلاية العَهد مِما رأى من أخيه، وتشدّدُهِ عليه، إلا أن يَحيى كان يشدُ من أمره، ويمنعهُ عن أن يُعلن ذلك أو يفعلها، حيث ناداه بإمرة المُؤمِنين، وقال له: «يا أميرُ المُؤمِنين! إنك إن حملت الناس على نكثِ الأيمان هانت عليهم أيمانهُم، وإن تركتَهُم على بيعة أخيك، ثم بايعت لِجَعْفَر بعدُه، كان ذلك أوكدُ للبيعة». ومع مرور الأيام، لم تطب نفس الخليفة الهادِي، فقد أشار عليه المُقرَّبُون منه بمُعاودة الرَّشيد على خلعِ نفسِه، ولم يجد الهادِي بدًا سوى بحَبس يَحيى، ثم التقى به، ونصحهُ الأخير بأن يُبقي الأمور على حالِها حتى يبلغ ابنهُ جَعْفَرًا، وقد سألهُ إن كان يأمن أن الناس ستُبايع لغُلامٍ لم يبلُغ، فأشار الهادي بتأييد كلامِه، ثم أطلق سراحه.[32]

وكان موقف والدتهُما الخَيْزُران مُعارِضًا تمامًا لما يُريدهُ مُوسى الهادِي، وكانت تُميل إلى ابنِها هارُون الرَّشيد، وكان بارًا بها، حتى منعها الهادِي من التصرُّف في شيء من أمُور البِلاد، بعدما كانت قد استحوذت عليهِ في أوَّلُ ولايتِه، وأصبح الأُمراء والمُحتاجين يستأذنونها في القُدوم إلى بابِها كي تتوسط إليهم، وتجعل الهادِي يقضي حوائجَهُم، وكانت تأخُذه في مسلك أبيه في الأمر والنهي، وتُشير عليه بما يفعل ويبتعد، إلا أن الهادِي قد ضاق ذرعًا من تدخُّلاتها وأوامرها شيئًا فشيئًا، كما رأى ميلها لأخيه الرَّشيد في أثناء مُحاولاته لخلعِه، وزاد من ذلك أنه كان يغارُ عليها من الرِّجال، فحلف الهادِي لئن عاد أميرٌ إلى بابِها ليضرُب عُنُقُه، ولا يقبل لها شفاعةً أبدًا، حيث قال: «لئن بلغني أنه وقف ببابك أحدٌ من قُوَّادِي، أو أحدٌ من خاصَّتي، أو خدمي، لأضرُبنَّ عُنُقُه، ولأقْبَضنَّ مالُه، فمن شاء فليُلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو وتروحُ إلى بابِك في كُل يوم ؟! أما لكِ مغزَل يُشغِلُك ؟ أو مُصْحَف يُذكِرُك ؟ أو بيتٍ يصُونُك ؟ إياكِ ثم إياكِ، ما فتحت بابكِ لمِلي أو لذِمِّيّ» فغضِبت منه، وحلفت أن لا تُكلِّمهُ أبدًا، وخرجت من القَصْر وعاشت في منزلٍ آخر.[33][34]

وفاةُ الهادِي[عدل]

لم يستمر الخليفةُ مُوسى الهادِي طويلًا في الحُكم، فقد ذُكر أنه خرج في رحلةٍ إلى حَدِيثةُ المَوْصِل، فشعر بالتَّعب والمَرض، وقد اشتدت علَّتُه، فبدأ يكتُب إلى جميع عُماله شرقًا وغربًا بالقُدوم إليه، وكانوا مِمن بايع جَعْفَر بن الهادِي، فحضروا، وأجمعوا على قتل يِحيَى البَرْمَكِيُّ.[35] وقيل بل عزم الهادِي على قتل البَرْمَكِي في تلك الليلة وقتل أخيه هارُون الرَّشيد فتدخَّلت أمُهُ الخَيْزَران ووضعت لهُ السُّم في طعامٍ أُرسل إليه.[36][37] وما يُؤكد تورُّط والدتهُ الخَيْزُران، أنها أرسلت في هذه الأثناء كتابًا إلى يَحيى البَرْمَكِيُّ في سجنه تأمرهُ بالاستعداد لوفاة الهادِي، فكتبوا الكُتُب من الرَّشيد إلى العُمَّال بوفاة الهادي، وأنه قد ولَّاهُم ما كان ويكون، وانتظروا حتى لحظة تأكُّدهم من وفاة الهادِي، فأُرسِلت الكُتُب لمُبايعة هارُون الرَّشيد، وكان ذلك في يوم الخامِس عَشَر من ربيع الأوَّل 170 هـ / الرَّابِع عَشَر من سَبْتَمْبَر 785 م، وكانت خلافتهُ سنة واحِدة وثلاثةُ أشهُر، وكان عمرُهُ سِتةً وعُشرُون عامًا.[35][37]

خلافته[عدل]

تخطيط باسم الخليفة هارُون الرَّشيد

بُويِع أبُو جَعْفَر هارُون الرَّشيد بالخِلافَة ليلة وفاة أخيهِ الهادِي، وذلك في ليلةُ الجُمعة، الخامِس عَشَر من رَبيع الأوَّل 170 هـ / الرَّابِع عَشَر من سَبْتَمْبَر 786 م، وكان عُمرُه واحِدًا وعُشرُون عامًا.[38] كان الرَّشيدُ آنذاك نائمًا، فجاء هَرْثَمة بن أعيُن وأقعده من نومِه[38]، وقيل أنه يَحيى البَرْمَكِيُّ[39]، ثم ناداه بإمرة المُؤمِنين، فقال الرَّشيد: «كم تُروِّعني! ولو سَمِع بهذا الكلام هذا الرَّجُل، لكان ذلك أكبر ذُنوبي عنده؟»، إلا أن يَحيى أنبأه بالخبر وقال: «قد مات الرَّجُل»، فجلس هارُون، وطلب منه أن يُشير عليه بالعمل، وبدأ البَرْمُكِي يذكُر لهُ ولايات الأقاليم لعددٍ من أسماء الرِّجال، فبينما هُم كذلك، إذ جاء رجُلٌ آخر يُبشِّر الخليفة هارُون الرَّشيد، بولادة ابنهِ عَبدُ الله، ثم استبشر الرَّشيد، حتى أصبح وصلَّى على أخيه الهادِي ودفنهُ بِعيساباذ، وتبدأ خِلافتهُ آنذاك.[39] وكانت ليلةً عظيمة، حيث مات خليفة، وقام خليفة، ووُلد خليفة.[40]

بدأ أميرُ المُؤمِنين هارُون الرَّشيد خِلافتُه من الغَد، حيث جلس على عَرش الخِلافَة، مُحاطًا برجال الدَّولة، فأخذ البيعة عن الأُمراء والأعيان، ثم أصدر عددًا من القرارات، وكأن أوَّلُها بأن قلَّد يَحيى البَرْمَكِيُّ الوِزارة، كما استوزر أخويه من الرِّضاعة الفَضْل البَرْمَكِي، وجَعْفَر.[41] ويروي المُؤرِّخ ابْن الأثِير مقولة هارُون الرَّشيد الشَّهيرة إلى يَحيى بن خالِد البَرْمَكِي حينما عيَّنه وزيرًا: «قد فَوَّضتُ إليك أمر الرَّعية، وخلعتُ ذلك من عُنُقي وجعلتُه في عُنُقك، فولَّ من رأيت واعزل من رأيت»، ودفع إليهِ خاتِمُه، إلا أن يَحيى البَرْمَكِي كان لا يقطعُ أمرًا، ولا يُمضي حُكمًا حتى يُشاور الرَّشيد ووالدتهُ الخَيْزُران في كُل مسألة.[39][42] ويصف المُؤرِّخ الفَرَنْسِي أنْدريه كلوت، أن الوزير البَرْمَكِي يتولى وظائف تختلف من عصرٍ إلى عصر، فقد كان تارةً مُجرَّد مُستشار، وتارَّةً أُخرى كان أعظم رجُلًا في الدَّولة بعد أميرُ المُؤمِنين.[43]

وقال في ذلك الشَّاعِر إبْراهِيم المُوصَلِّي:[42]

ألم تَرَ الشَّمسَ كانت سَقيمةً
فلما وَلي هارُونُ أشرَقَ نُورُها
بُيمْنِ أمينِ الله هارُونَ ذي النَّدى
فهَارُونُ وَاليها ويَحيَى وَزيرُها

وقد افتتح الرَّشيد أوَّلُ سنةٍ من حُكمِه، بتوزيع سهم ذوي القُربى، فقسم بين بَني هاشِم بالتساوي، وأمَّن الهارِب والمُستخفي إلا أنه استثنى رُؤوس الزَّنادِقة، كما حجَّ في نفس السنة من مدينةُ السَّلام نحو مَكَّة، فوزَّع وأعطى أهلُ الحَرَمين مالًا كثيرًا، وفيها يقُول داوُد بن رَزين:[44]

بهارُونَ لاحَ النُّور في كُل بلدة
وقام بهِ في عدل سيرتهِ النَهْجُ
إمامٌ بذات الله أصبح شُغلَهُ
وأكثر ما يُعنى بهِ الغَزُو والحجُّ

عقد ولاية العهد الأولى لابنه الأمين[عدل]

في البداية لم يُسم الرَّشيد أحدًا وليّ عهدِه، وبعدما وُلد لهُ عَبدُ الله، ثُم مُحمد في السنةِ نفسِها، تردد أو تحرَّج في اختيار وليّ عهده، فقد كان يُحب عبد الله، ويثق في قُدراته التي رآها على الرُّغم من صغر سنِّه، إلا أن زوجتهُ زُبيدة بنتُ جَعْفَر ومعها عُموم الهاشِميين، قد دفعُوا الرَّشيد دفعًا ليُسمي ابنها مُحَمدًا وليًا لعهده خوفًا من اختيار عبدُ الله، حيث أنهم رأو اهتِمام الرَّشيد بعبد الله منذ صغره[45]، وبسبب ذلك قرر الخليفة الرَّشيد عقد ولاية العَهد لابنِه مُحَمَّد في سنة 175 هـ / 791 م، وكان يبلغُ من العُمر حينها خَمْسة أعوام، ولقَّبهُ بالأمين، وأخذ لهُ البيعة من العامّةِ والخاصَّة، وبالرغم من أن عَبد الله يكبُره بستة أشهر، إلا أن الرَّشيد آثر إرضاء وجُوه زوجتهُ زُبَيْدة وعامَّةُ العَرَب وبَني هاشِم، بتعيين مُحَمَّد الأمين صاحب الدَّم العَربي الهاشِمي من كِلا الأبوين.[46]

وكان لعيسى بن جَعْفَر - خالُ الأمين - أثرٌ واضح في ذلك القرار، حيث أرسلتهُ أُختُه زُبيدة إلى الرَّشيد، الذي كان مُحاطًا بنُفوذ البَرامِكة الفُرس، وطلب من الوزير الفَضْل بن يحيى البرمكي إقناع الخليفةُ الرَّشيد في عقد الولاية للأمين، ولم يكُن الفَضْلُ البَرْمَكِي مُعارضًا لتعيين الأمين على الإطلاق، فهو من كان كافِلًا لهُ بأمرٍ من الرَّشيد وذلك ليرعاه ويُوجهه، كما أنه استغلّ ولايتهُ على خُراسان لإعلان بيعته، ففرق الأموال، وأعطى الجُند أعطيات مُتتابعة، فبايعهُ النَّاس، كما أغرى الشُّعراء بمدحه وتأكيد البيعة له.[47]

علاقتهُ مع العلويين[عدل]

كان الطَّالِبيين، وتحديدًا العَلويين مِنهُم، مُتطلِّعين لنيل الخِلافَة، وكانت شِيعتهُم تتحيَّن الفُرصة المُلائمة لإقامة دولتهُم منذ العَصْر الأُمَويُّ، وكان خُلفاء بَنِي العبَّاس لا يأمنُون جانبهم، فكانت الثَّورات العلويَّة تخرجُ بين فترةٍ وأُخرى، وكان الخُلفاء قبل هارُون الرَّشيد يتمكَّنُون من إخمادِها دومًا وكان يترافق ذلك مع تشديد وغِلظة ضد الثَّائرين منهُم، ومع ذلك، فإن الرَّشيد في أول ولايته، أراد أن يستميل قُلوبهم بشيء من الإحسان إليهم، خاصةً بعد قضاء أخيه الهادِي على ثَوْرة الحُسَين بن عَلِيُّ الفَخِّي.[48] وكان أول ما فعلهُ معهم هو رفع الإقامة الجبريَّة عمَّن كان منهم في بَغْداد، وسيَّرهُم إلى المدينة باستثناء العبَّاس بن الحَسَن بن عبدِ الله، حيث كان أبوه الحَسَن في من أشخص.[49] وقد واجه الرَّشيد، ثورة يَحيى بن عبدِ الله المُحض الحَسَني في الدَّيلم، وخُروج المَغْرِب عن جسد الخِلافة لصالح إدريس بن عبدِ الله الحَسَني، وكان الرَّشيد بسبب هذه الحوادِث، يخشى الطالبيين ومُحاولاتهم للخُروج مُطالبين بالخِلافة، وكان ذلك من أسباب نكبة مُوسى الكاظِم، الإمامُ السَّادس للشِّيعة الإمامِيَّة.

ثَوْرَةُ يحيى العلوي في بلاد الدَّيلم[عدل]

وعلى الرُّغم من تسهيلات الرَّشيد لهُم في تحرُّكاتهم، فإن العَلويين لم يتغيروا عما يعتقدون بأولويتهُم في الحُكم على العبَّاسِيين، فكان أوَّلُ الخارجين عليه هو يِحيى بن عبدِ الله المُحَض الحَسَني، وكان ذلك في أرض الدَّيْلَم، وذلك في سنة 176 هـ / 792 م، حيث اشتدت شوكتُه بعد سنةٍ من قُدومه إليها، وكثر جُموعه وأنصارُه، فاغتمَّ الرَّشيد لذلك، وذلك لبُعد بلاد الدَّيلم ومناعتها، إضافة إلى كثرة من التحق بهِ من أهلها، مما زاد في شوكته وقوَّى موقفِه.[48] قرر الرَّشيد على إثره توجيه الفَضْل البَرْمَكِيُّ على رأس خمسين ألف مُقاتل، كما ولَّاه جُرجان، وطَبَرسْتان والرَّي، وغيرها، ودعمهُ بالأموال.[50]

كان أول ما فعلهُ يَحيى البَرْمَكِيُّ أن راسل يَحيى بن عبدِ الله، ولاطفهُ، وحذَّرهُ من الشِّقاق والخُروج عن الطَّاعة، وأشار عليه، كما كاتب صاحب الدَّيلم، وأعطاه مليون درهمًا على أن يُسهِّل لهُ خُروج يَحيى، فأجاب الأخير إلى الصُّلح، على أن يكتُب لهُ الرَّشيد أمانًا خطيًا يشهد عليه القُضاة، والفُقهاء، وجِلة بَني هاشِم، وعلى رأسِهم عبدُ الصَّمد بن عَلِيُّ العبَّاسِي، فأجابهُ الرَّشيد إلى طلبِه، وسُر به، وعظِمت منزلةُ الفَضْل عندُه، كما سيَّر كِتاب الأمان مع هدايا وتُحف، وجاء يَحيى مع الفَضْل إلى بَغْدَاد، فتلقَّاه الرَّشيد في البداية بكُل ما أحب، وأمر له بمالٍ كثير.[50]

إلا أن الرِّوايات قد اختلفت فيما بعد حول أسباب وفاته، حيث تقول الرِّواية الأولى أنهُ بعد أيام من مجيء يَحيى، قام الرَّشيد بحبسه، وذلك بعد أن مزَّق كِتاب الأمان، حيث قال أبُو البَخْتَريُّ القاضِيُّ له بأنه مُنتَقَض من وجُوهٍ مُعينة، وكان قد جاء على رغبة الرَّشيد، فبقي يَحيى في حبسِه شَهرًا، وكان عليلًا ومريضًا، ففارق الحياة في سجنِه.[51] إلا أن روايات أُخرى تشير بأنه عفا عنه، وكان يصلهُ بالمال الكثير، حتى بلغ مقدار ما نالهُ 400 ألف دينار، إلا أنه عاش شهرًا واحِدًا نتيجة اعتلاله ثُم توفي.[48]

ظُهور الأدارسة في المَغْرب[عدل]

بعد أن قضى الخليفةُ السَّابِق مُوسى الهادِي على ثَوْرَة حُسَين الفِخِّي في يَومِ التَّروية من ذُو الحجَّة سنة 169 هـ / الرَّابِع عَشَر من يُونيو 786 م وقُتل آنذاك، تمكَّن أخُوه إدْريس بن عَبدِ الله من الهرب من موقع المَعْركة، واتَّجه نحو بِلاد المَغْرِب، والتي تمكَّن البَرْبَر فيها تشكيل دُولٍ عديدة فيها منذ الثَّورة البربريَّة في عهد الخليفةُ الأُمويّ هِشام بن عبد المَلِك. فنزل إدريس في مدينة وَلِيلي، واستطاع أن يُلف حولُه بَرابِر أُورْبَة وبدأت أمُورهُ تعظم بعد فتحِه تَلمْسان، وبقي على حاله، حيث ابتعد الرَّشيد عن أخباره مُؤقتًا للاهتمام في الخِلافات والصِّراعات قُرب دار الخِلافة. إلا أنه بعد سنوات، بلغ الخليفة الرَّشيد أنباء عن عزم إدريس غزو إفْريقيَّة، وأن جُيوشهُ قد كَثُرت، فهمَّ الرَّشيد أن يُرسل لهُ جيشًا لمُحاربته، إلا أنه عدِل عن الفِكرة لبُعد المسافة، ومشقة الحملة في بِلادٍ بعيدة عن مركز الخِلافَة، كما لوجود سابقة في فشل الحملة أيَّام الخليفةُ الأمويّ هِشام بن عبد الملِك، فاختار الرَّشيد رجُلًا يُدعى سُليمان بن جرير، ويُعرف بالشمَّاخ، وطلب منه أن يحتال لقتل إدريس، وزودهُ ملًا وطرفًا يستعين بها على أمره، فسافر الشمَّاخ، ووصل إلى إدريس مُظهرًا التبرُّؤ من الدعوة العبَّاسِيَّة، فقبلهُ إدريس، واختص به، كما أعجب بحديثه، وحينما انتهز الفرصة، سمَّه إما في طِيب، وإما في سنون، وفرَّ هاربًأ من المكان، وتُوفي إدريس سنة 177 هـ / 793 م، وكان من المُتفرض أنه تُوفي دون ولدٍ يخلِفُه.[52]

إلا أن فرحة قَتْل إدريس وفناء دولتُه المغربيَّة، لم تُدم للخليفة الرَّشيد في بَغْدَاد العِراقيَّة، حيث علِم أن أَمَة إدريس، وتُدعى كَنْزة كانت حامِلة بطفلٍ، فوضعت حملها في الثَّالِث من رَجَب 177 هـ / 14 أكتوبر 793 م، وكان مولودًا ذكرًا، وسُمي إدْريس على اسم أبيه، وبايعُوه بالخِلافة وهو رضيعًا، لكنه كان تحت الوصاية، لِتستَمِر دولةُ الأدارِسة في المَغْرِب.[52] وكان ذلك من أسباب رأي الرَّشيد في تأسيس إمارة الأغالِبة لتكون إمارة حاجزة ضد أطماع الأدارسة.

حبس مُوسى الكاظِم ووفاتُه[عدل]

ذهب الخليفة هارُون الرَّشيد لإقامة شعائر العُمْرَة في مكَّة المُكرَّمَة، في شهر رَمَضان سنة 179 هـ / نُوفَمْبَر أو دِيسَمْبَر 795 م، ثم توجَّه نحو المَدِينة المُنَورَّة للصلاة والسَّلام على قبر النَّبِيُّ مُحَمَّد، وكان حولهُ الكثير من الناس، فلما وصل إلى المقام، قال الرَّشيد: «السَّلامُ عليكَ يا رسُول الله يا ابن عم» لقرابتهِ منه في جدِّهما عبدَ المُطَّلب، فاقترب مُوسى بن جَعْفَر الصَّادِق، والمُلقَّب بالكاظِم لأنه كان يكظم الغيظ، وهو سابعُ الأئمَّة حسب الشِّيعة وقال: «السَّلامُ عليك يا أبَه»، وهو سَبْطُ النَّبِيُّ من الحُسَين ابن بنته، فتغيَّر وجه الرَّشيد والتفت إليه وقال: «هذا الفخرُ يا أبا الحَسَن حقًا».[53][54] ثُم أخذهُ معه إلى بَغْدَاد، وأوكل أمرهُ إلى صاحِب شُرطتِه السَّنديُّ بن شاهِك، فتولَّت حبسُه أخت السَّندي، وكانت حزينة لحبسِه وتروي أنهُ كان عبدًا صالِحًا لا يبدو عليه ما قيل فيه فقالت: «خاب قومٌ تعرَّضُوا لهذا الرَّجُلُ الصَّالح!».[54] تُوفي الإمام الكاظِم في السِّجن يوم الخامِس والعُشْرُون من رَجَب سنة 183 هـ / الثَّانِي عَشَر من أُغُسْطُس 799 م عن عُمرٍ ناهز 54 عامًا. وتروي بعض المصادر الغربيَّة أن يَحيى البَرْمَكِيُّ قتل الكاظِم بالسُّم، وأن الرَّشيد ظنَّ أن الكاظِم يُريد إحداث ثورةً علويَّة أُخرى، وهو ما لم يكُن ليتسامح معه.[55]

ثَوْراتُ الخَوارِج[عدل]

ثَوْرة الصَّحْصَح في الجزيرة[عدل]

تُعتبر ثورة الصَّحْصَح الخارِجيُّ من أُوائل الثورات التي بدأت في عهد الرَّشيد، وذلك بعد ثورة الفَضْل بن سَعيد الحُروري والتي كانت قصيرة. انطلقت ثَوْرةُ الصَّحْصَح في سنة 170 هـ / 786 م، حيث خرج عليه في الجَزيرة الفُراتِيَّة، فوجَّه واليُها أبُو هُريرة عسكرًا لمُحاربته، إلا أن الصَّحْصَح تمكَّن من الإيقاع بهم وهزيمتهم، فسار الأخير نحو المَوْصِل، والتقى بعسكرها في باجَرْمِي، فقتل منهم الكثير، ثم توجه إلى دِيار رُبَيعْة وتغلَّب عليها، وحين وصلت الأنباء إلى الخليفة الرَّشيد، أمر بتسيير الجَيْشُ العَبَّاسِيّ لمُحاربتهم، فالتقى الطرفان في دُورين، واقتتلوا حتى انتصر العبَّاسِيين وقُتل الصَّحْصَح، وبعد ذلك، أمر الرَّشيد بعزل أبا هُريرة مُحَمد بن فرُّوخ عن ولاية الجَزيرة لخُروجِه أو تمرُّده لاحقًا وجلبِه إليه، فقُتل في قَصْرُ الخُلْد.[56][57]

ثَوْرة حُصَيْن في خُراسان[عدل]

ومن ضُمن التهديدات التي خرجت من المَشرِق العبَّاسِي، ثار حُصَين الخارِجيّ في خُراسَان، وهو من موالي قَيس بن ثَعلبة، في سنة 175 هـ / 791 م. وكان على وِلاية سِجسْتان، عُثمان بن عمارة، فأرسل جيشًا لمُحاربته، فالتقى بهم حُصَين مع أنصارِه وتمكَّن من هزيمتهم، ثم زحف نحو باذْغِيس، وبُوشَنْج، وهَراة، وحين علِم الرَّشيد بذلك، أمر على الفور خالُه الغَطْرِيف بن عَطاء بمُحاربته، فسيَّر الأخير القائد داُود بن يَزيد المهَلَّبِيُّ، على رأس 12 ألف مُقاتل، فتواجه معهُم حُصَين ومعه سُتمائة فقط حسب المُؤرِّخ ابْن الأثِير، وتمكَّن الأخير من هزيمتهم أيضًا، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، إلا أنه قُتل لاحقًا.[50]

ثَوْرةُ الوليد الشَّاري في الجزيرة[عدل]

في منطقة الجَزيرة الفُراتيَّة، خرجت ثورةً خطيرةً تُعتبر من أخطر ثورات الخَوارج في عهد الخليفةُ الرَّشيد سنة 178 هـ / 794 م، حيث تزعَّمها الوَليد بن طَريفٍ الشَّاريّ الشَّيبانيُّ، ففتك بإبراهيم بن خازِم بن خُزَيْمة التَّمِيميُّ في نُصَيْبين، فقُويت شوكتُه، ثم توجَّه نحو أرْمِينيَّة، وحاصر مدينة خِلاط مُدة عشرين يومًا، وبعد تعب أهاليها من الحِصار، دفعوا لهُ ثلاثين ألفًا. ثم سار إلى أذْرَبَيْجان، ومنها حتى توجه إلى غربيُّ دَجْلة، حيث افتدى أهلُ مدينة بَلَد من شرِّه، بأن دفعوا له مائة ألف، وحينما وصلت الأنباء إلى الخليفة بازدياد خطر الشَّاري، عيَّن الرَّشيد، القائد يَزيد بن مَزيد الشَّيْبانِيُّ لقِتاله، وحينما علِم الشَّاري بذلك، أنشد قائلًا:[58]

سَتعلمُ يا يَزيدُ إذا التقينا
بَشطّ الزَّاب أيٌ فَتى يَكُونُ

وكان يَزيد الشَّيباني يُماكره ويُراوغه حتى يعلم كيف يُقاتله، وكان البَرامِكة آنذاك تكره يَزيد، ولعلهم أرادوا التخلُّص منه، فأشاروا إلى الخليفة بأنه يتجافى ويتباطئ عن قِتال الوَليد بسبب قرابتهم في النَّسب، فكلاهُما من نفس القبيلة، كما هوَّنوا من أمر الوَليد وخطره، فغضِب الرَّشيد وكتب لهُ بحزمه: «لو وجَّهتُ أحد الخدم، لقام بأكثر مما تقوم به، ولكنَّك مُداهن، مُتعصِّب، وأقسمُ بالله إن أخَّرت مُناجزتُه، لأوجَّهن إليك مَن يحملُ رأسك»، وعند ذلك، قرر يزيد مُلاقاة الوَليد، في عشيَّة خميسٍ في شَهر رَمَضان سنة 179 هـ / دِيسَمْبَر 795 م، ودارت معركة دامية بينهُما، حتى انتصر فيها يَزيد، ولاحق الوليد في النِّهاية، فقتلهُ واحتزَّ رأسُه، وحينها قال فيها شاعرٌ، بيتُ شعرٍ شهير:

واتلُ بعضهُم يُقتَلُ بعضًا
لا يُفلُّ الحَديدَ إلا الحَديدُ

وبعد أن قُتل الوليد، خرجت أختهُ لَيْلَى بنت طَريف، حيث أنها لبست درعها واستعدَّت وبيدها السَّيف على فرسٍ لها، وجعلت تُحرِّض الناس لمُحاربة يَزيد الشَّيْبانِيُّ، فعُرفت بين الجُند، وأمر يَزيد جُندُه بتركِها، ثم خرج إليها على رأس فرسه واقترب منها سريعًا، ثُم سلَّط ضربة رُمحه على فرسِها، وقال لها غاضِبًا: «اعزبي! عَزب الله عليك! فقد فضحتِ العَشيرة!»، فاستحت وانصرفت، وانتهت أخطر ثورةٍ خارِجيَّة آنذاك في عهد الرَّشيد.[58]

ثورات خَوارِجيَّة أُخرى[عدل]

واجه الخليفةُ الرَّشيد عددًا من ثورات الخَوارِج في مُختلف الفترات، وكانت سُرعان ما تنطفأ، فقد خرج بعد الحُصَيْن، الفَضْلُ الخارِجيّ في منطقة نُصَيْبين، في سنة 176 هـ / 792 م، فأخذ من أهلها مالًا بالقُوة ليدعم ثورتُه، ثم توجَّه نحو دَارا، وآمِد، وأَرْزَن فأجبر أهاليها على تقديم مالهُم، وحينما ذهب نحو المَوْصِل، خرجت إليه كتائب عبَّاسِيَّة، إلا أنه تمكَّن من هزيمتِهم في البداية على نهر الزَّاب، إلا أنهم استجمعوا قِواهُم، وعادوا لقتاله وتمكَّنوا من قتله وأصحابِه.[59]

وفي فترةٍ قصيرة بعد القضاء على ثورة الوَليد بن طَريف، خرج حَمْزة بن أترُك الخارِجيُّ في خُراسان، خلال سنة 180 هـ / 796 م، أثناء ولاية ابْن ماهَان عليها، فجاء حَمْزة إلى بُوشَنْج، وهزم عَمْرُويه بن يزيد الأزديُّ، العامل على هُراة، ثم وجَّه إليه ابن ماهَان، ابنهُ عِيسى على رأس 10 آلاف مُقاتل، إلا أن حَمْزة تمكَّن من هزيمته، وبعد فترةٍ أعاد ابن ماهان إرسال ابنهِ عِيسى، فقاتله في باخَرْز، فانهزم حَمْزة، وقُتل مُعظم جيشه، حتى كان معهُ أربعين مُقاتِلًا، وفي خُطوةٍ عِقابيَّة، قام عِيسى بن ابْن ماهَان بإحراق جميع القُرى التي دعمت وأعانت حَمْزة، حتى وصل إلى زَرَنْج، وقدَّر المُؤرِّخ ابْن الأثير بأن عدد قتلاها وصل إلى ثلاثين ألفًا، وكان بين حَمْزة وعُمال بَني العبَّاس عدة وقعات بسيطة فيما بعد.[60] وفي نفس السنة، خرَج حُراشة الشَّيْبانِيُّ في الجَزيرة الفُراتِيَّة، إلا أنه سُرعان ما تم القضاء عليه.[60]

وفي سنة 191 هـ / 807 م، خرجت آخر ثَوْرة خوارِجيَّة في عهد الرَّشيد، حيث ظهر ثرْوانُ بن يُوسف في ناحية تُدعى حولايا، وهي من سَواد العِراق، وتنقَّل بها لفترةٍ قصيرة، فوُجَّه إليه طَوْقُ بن مالِك، فانهزم ثَرْوان وجُرح، وقُتل أصحابِه، ولم يعد لهُ أثر يُذكر.[61][62]

الفِتنةُ العربيَّةُ في الشَّام[عدل]

وفي مدينة دِمَشْق، وتحديدًا في سنة 176 هـ / 792 م، وقيل سنة 180 هـ / 796 م، هاجت فتنةٌ بين المَضَريَّة، واليَمانِيَّة في الشَّام، وكان سببُها أن عامِلًا للخليفةُ الرَّشيد في سِجستان قتل أخًا لزعيم المضريَّة أبُو الهَيْذام المُرِّي، والذي كان الأخير مُقيمًا في الشَّام، فجمع من حوله جمعًا عظيمًا.[63] وقيل أن سببها هو تنازُع بين رجُلٍ يمانيّ ومِضَري.[63] وعلى أية حال، فقد بلغ الرَّشيد أمر الفِتنة التي قُتل بها الآلاف وتفاقُم الوضع، فانزعج واغتمّ لذلك، وقرر توكيل أمر القضاء على الفِتنة لجَعْفَر البَرْمَكِيُّ، وقال له غاضِبًا: «إما أن تخرُج أنت، أو أخرُج أنا»، فردَّ جَعْفَر: «بل أُقيك بنفسي»، فخرج الأخير على رأس جيشٍ مُتوجهًا نحو دِمَشْق، إلا أنه لم يُقاتلهم، وفضَّل إصلاح الأمور بين القبيلتين العربيِّتين، وبالفعل، فقد تمكَّن من الإصلاح بين الناس، وقتل رُؤوس الفِتْنة بينهُم، فعادوا إلى الأمن والأمان.[64][65]

وفي ذلك يقول الشَّاعِر العربيُّ الشَّامِي مَنْصُور النِّمري في قصيدةٍ طويلة مادِحًا آل بَرمُك في التَّعامل مع الأحداث، جاء منها:[66]

لقد أوقدت بالشَّامِ نيرانُ فِتنةٍ
فهذا أوانُ الشَّامِ تخمُد نارها
إذا جاش موجُ البَحرِ من آل بَرمُكٍ
عليها خُبث شهبانِها وشَرارها
رماها أميرُ المُؤمِنين بجَعْفَرٍ
وفيهِ تلافى صدعُها وانجبارها
رماها بميمون النَّقيبةِ ماجِدٍ
تراضى بهِ قحطانُها ونِزارُها

وحينما جاء جَعْفَر البَرْمَكِيُّ إلى بَغْدَاد، أكرمهُ الرَّشيد وزاد في إحسانه، كما خطب جَعْفَر خُطبةً جميلة، استشفع فيها لأهل الشَّام، واستعطف قلب الرَّشيد عليهم[67]، وقيل بل أنهُ ذكر لهُ كُثرة اشتياقِه للخليفة، ويحمدُ الله الذي منَّ عليه برجُوعه لرؤيته.[68] وقد أكرمهُ الرَّشيد بتعيينه واليًا على خُراسان، ثم عزله منها بعد عشرين ليلة وولاهُ قيادة الحَرَس الشَّخصيُّ للخليفة، وكان ذلك طبيعيًا، فإن الرَّشيد كان كثير التعيين والعزل للوُلاة في عهدِه.[67]

الاضطِّرابات في مِصر[عدل]

لم تكُن الأحوال مُستقرِّة في بعض الأنحاء من مِصْر، وتحديدًا في أرض الصَّعيد، حيث أنه وفي عهد الخليفة مُحَمَّد المِهْدِي والد الرَّشيد، ثار دحيَّة بن المُصْعَب المُرواني الأُمَويُّ، ودعا لنفسهِ بالخِلافة، وقد تُوفي المِهْدِي ودحيَّة كان قد تمكَّن تمكَّن من السَّيطرة على كامل الصَّعيد، إلا أن الخليفة مُوسى الهادِي، أرسل الفَضْل بن صالِح العبَّاسي على رأس الجيش العبَّاسي، والذي تمكَّن من سحق الثَّورة، وأسر دحيَّة الأُمَويُّ وأعدمهُ في العاصِمة المِصْريَّة الفُسْطاط سنة 169 هـ / 785 م.[69] بعد وفاة الهادِي، واستلام الرَّشيد للخِلافة، قرر تعيين الأمير إسحاق بن سُليمان العبَّاسي واليًا على مِصْر سنة 177 هـ / 793 أو 794 م، فكشف أمر الخراج، وزاد على المُزارعين زيادة شعروا فيها بالإجحاف الشديد، فخرج عليهِ أهل الحوف من قبائل قَيْس وقُضاعة ثائرين، ولم يتمكن إسحاق من إخمادها، وقد قُتل العديد من رجاله، فكتب إلى الخليفة الرَّشيد لإرسال جيشٍ للقضاء على الثورة، فاختار الرَّشيد لذلك أحد أهم قاداته، وهو هَرْثَمة بن أعْيَن، وكان آنذاك واليًا على فِلَسْطين، وسيَّرهُ على رأس جيشٍ عظيم وفي عددٍ من الأُمراء العبَّاسيين، يقول المُؤرِّخ حُسَين نصَّار عن وصفِه «تتحدَّثُ الرُّكبان بشدَّةِ بأسِه، وتخشعُ لكبير هَيبتِه»، فلما نزل أرض الحوف، تلقاهُ أهله بالطَّاعة وأذعنوا له.[70][71]

وفي سنة 186 هـ / 802 أو 803 م، عاد أهل الحوف للثَّورة من جديد، فخرجوا على الوالي آنذاك اللَّيثُ بن فَضْل الأبيُوردي، وساروا نحو الفُسْطاط لقتاله، فأرسل إليهم جيشًا من أربعة آلاف مُقاتل، وتمكن من إيقاع الهزيمة بهم.[72] وفي آخر سنوات الخليفة الرَّشيد، وتحديدًا في سنة 191 هـ / 806 أو 807 م، ثار أهل الحوف من جديد،، فسار الجيش العبَّاسي بقيادة يحيى بن مُعاذ بن مُسلِم نحو بلبيس لاخضاع أهل الحوف، فاضطَّرهُم إلى الاذعان لتقديم الخَرَاج، وقام بحيلة لمعرفة رُؤوس الثَّائرين، فقيَّد العديد من رُؤساء القيسيَّة واليمانيَّة، وجلبهم معهُ إلى الخليفة الرَّشيد، فعاقبهُم وسجنهم.[72] وقد استمرَّ أهل الحُوف في ثوراتهم بين الحين والآخر، ولم تنتهي إلا في عهد الخليفة عبدَ الله المأمُون، والذي أنهى فِتنةً طويلة أدمت مصر واستنزفتها مُدة سبعة عشر عامًا.[73]

ثورة طائفة المُحمَّرة[عدل]

في سنة 180 هـ / 796 م، ظهرت طائفة اتُّهمت بالزَّندقة في مدينة جرجان من بلاد خُراسان، ويُدعون بالمُحمَّرة، حيث كانوا يلبسون ثيابًا حمراء، يقودهم رجُل يدعى عمرُو بن محمد العمركي، فأعلنوا عصيانهم وتمرُّدهم على الخِلافة، فسيطروا على مناطق واسعة من خُراسان بعد سنةٍ من تمرُّدهم[74]، فكتب والي خُراسان آنذاك ابن ماهان كِتابًا إلى الرَّشيد، وأوضح لهُم أمرهُم ووضَّح لهُ من يتزعمهم، فأمر الرَّشيد بقتله، فقُتل عمرُو العمركي في مَرو.[75]

ثورة أبُو الخصيب في خُراسان[عدل]

لم تكُد تنطفئ بعض الشَّرارات التي خرجت في خُراسان، حتى ظهر أبُو الخصيب وهيب بن عبد الله النِّسائيُّ، حيث ثار بدايةً في موطنه نِسا سنة 183 هـ / 799 م، ثم زحف نحو أبيوَرد، وطُوس، حتى سيطر على نيسابُور، فوجَّه الرَّشيدُ إليه ابن ماهان، والتقيا في مَرو سنة 185 هـ / 801 م، فانهزم أبُو الخصيب وعاد إلى سَرْخَس، وقُوي شأنهُ بها.[76][77] وبعد سنتين من الواقعة، سار عليُّ بن عيسى بن ماهان من مَرو إلى نَسَا لحرب أبي الخصيب، واستطاع أن يهزمهُ ويقتله، فسبى نساؤه وذُرِّيتُه، واستقامت شُؤون خُراسان.[78]

عقد ولاية العهد الثَّانية لابنه المأمُون[عدل]

حينما شعر الرَّشيد بسيطرة الفَضْل البَرمكي -كافِل الأمين- على خُراسان بدرجاتٍ عالية وتشكيله جيشٍ كبير[79]، قرر عزلهُ عن الولاية واستقدامه بالقُرب منه، وكان مع ذلك مهمُومًا لتقديمه ابنِهِ مُحمد الأمين دون أخيه عبد الله وهو من أرادهُ منذ البداية، وشعر أن ذلك القرار كان ضد إرادته بسبب إرادة وتأثير من وجُوه العَرب وبني هاشِم وزوجته زُبيدة، ولهذا بقي الرَّشيد فترةً طويلةً مُعذب الضَّمير، لا يدري ما يصنع حتى يُصحح هذا الخطأ الذي وقع فيه، فاستطاع وبرأي يحيى البرمكي أن يُقر بولايتين للعهد، رُغم أنه كان مُؤمنًا بفشل هذه التجربة من قبل مثل ما جرى بينهُ وبين مُوسى الهادي سابقًا.[80]

وبعد مُرور أربعة أعوام من تعيين مُحَمَّد الأمين وليًا للعَهد، قرر الخليفة الرَّشيد عقد ولاية العهد الثَّانية لابنِه عبد الله في سنة 182 هـ / 799 م، وكان يبلغ من العُمر ثلاثةَ عَشر عامًا، كما لقَّبهُ بالمأمُون، وكان الهدفُ من ذلك أن يتولَّى الخِلافة بعد أخيه الأمين، وأما سبب تقديم الأمين عليه في الوِلاية، فذلك راجع لكون والدته زُبَيْدة كانت امرأة حُرَّة، وهاشميَّة عربيَّة، ويُفضله وجوه بني هاشم والعرب، وأما الهدف من تعيين المأمُون في الوِلاية، فهو لأن الرَّشيد رأى مِنهُ صِفات القائد، والطُّموح، والبُعد عن اللهو بعكس أخيه الأمين والذي لم يكترث لحياة العِلم، ولم يعرف المسؤولية، وقد سلم الرَّشيد ابنه عبد الله المأمُون، إلى الوزير جعفر بن يحيى البرمكي، كي يُساعده ويُعلمه أصول الحُكم، ثم ولَّاهُ الرَّشيد كامل إقليم خُراسان، وما يتصل بها إلى هَمَذان، ومنحه بمقتضى ذلك صلاحيَّات شبه كاملة، مُشكلًا بذلك استقلالًا كبيرًا عن أخيه مُحَمَّد الأمين حين يتولَّى منصب الخِلافَة، والذي سلَّمهُ بالتالي إلى الفَضْل بن الرَّبيع.[53]

كتاب ولاية العهد للأمين والمأمُون والمُؤتمن[عدل]

وفي سبيل تعزيز أواصر العلاقة بين الأمين والمأمُون، والتأكيد على احترامهما للبيعة والسير في خُطة والدهما، ولقلقه من صراع وجُوه العَرَب والفُرس، قرَّر الرَّشيد في سنة 186 هـ / 803 م أن يحجَّ ومعه اِبنِيهِ، وكان كُلٌّ منهما في حوالي السابِعَةَ عَشْرَ عامًاً، وفي البيت الحرام أخذ عليهما المواثيق المؤكدة بأن يُخلِصَ كل منهما لأخيه، وأن يترك الأمين للمأمون كل ما عهد إليه من بلاد المشرق، ثغورها، وكورها، وجندها، وخراجها، وبيوت أموالها، وصدقاتها، وعشورها، وبريدها، وفي المُقابل يتولَّى الأمين العراق والشام حتى آخر المغرب.[81] كما عقد البيعة لأخيهما القاسِم ولقَّبهُ المُؤتمن من بعد خِلافة المأمُون، إلا أن أمر وِلاية المؤتمن للعهد موكلة إلى أخيه المأمُون بما يراه مُناسبًا، فإن شاء أبقاه وإن شاء خلعه، وسجَّل الرَّشيد هذه المواثيق على شكل مراسيمَ وعلقها في مبنى الكعبة لتزيد من قُدسيتها، ويُصبح تنفيذها واجبًا، كما كتب منشورًا عامًا بهذا المعنى للآفاق. وقد شعر النَّاس بالتشاؤُم من هذه المسألة، وقالوا بأن الرَّشيد قد أوقع بين أبنائه الشرّ والحرب[81]، وعلى أيَّة حال كان الرَّشيد فيما يبدو مُتخوفًا من سُلوك الأمين بعد تولِّيه الخِلافة، وفعل ذلك كي يُهدئ ضميرَه، ويُريح نفسَه من حصر تولية العهد إلى الأمين دون المأمُون والذي كان يميلُ إليه في الأصل.[82] وبذلك يكون العرب قد ضمنوا الخِلافَة لعربيّ النسب من جهة الأم، أما العجم بزعامة البرامكة، فقد ضمنوا الشرق -أيّ خُراسان- لرجل أخوالُه عجم.[83]

نكْبَة البَرامِكة[عدل]

من الحوادث الأبرز والأكثر شُهرةً في التَّاريخ العبَّاسي، وتحديدًا في فترة خِلافة الرَّشيد، هو ما يُطلق عليه نَكْبَة البَرامِكة، وذلك بسبب غُموض الحادِثة، وصُعوبة الوصُول لرأي واضح يُزيل الالتباس منها، فضلًا عن أن البَرامِكة كان لهم من الشأن والسُّلطان ما لم يكُن لغيرهم في بلاط العصر الذَّهبي للخِلافة العبَّاسيَّة، وهو ما زاد من ضخامة الحدث وغرابته لدى المُؤرِّخين والعامََة.[84]

الخلفية[عدل]

أصل البَرامِكة[عدل]

يعُود أصل البَرامِكة إلى مدينة بَلَخ (الواقعة في أفْغانسْتان المُعاصرة) وأن التَّسمية جاءت من لقبٍ يُطلق على جُد العائلة الكبير، بَرْمَك، وهو لقبٌ لكبير سدنة معبد النُّوبهار البُوذِي[85]، وقيل أنهُ مَجُوسِي.[84] إلا أن الرِّوايات تذكر أن بَرْمَك اعتنق الإسلام الشِّيعي في زمن الخليفةُ الأُمَويّ عبد المَلِك بن مُروان وعالج ابنهُ مُسلِمة من مرضٍ أصابُه.[86] بيد أن أوَّل اتصال بين البَرامِكة والعبَّاسيين، جاء بعد أن انضم ابنهُ، المعرُوف باسم خالِد بن بَرمُك إلى الدَّعوة العبَّاسيَّة حينما كانت في وضعها السرِّي وتحشد أنصارُها في بلاد خُراسان، فأصبح خالد أحد دُعاتها، وتدرج به الحال حتى عُهد إليه تقسيم الغنائم، وجبي الخَراج، مما أهَّلهُ لتولي عدة مسؤوليات أخرى لاحقًا مع ابنهِ يَحيى، فأعجب بهِم الخُلفاء العبَّاسيُّون وبعملهم الدَّؤوب بدءًا من السفَّاح حتى المِهْدِي، مما أعطاهُم سُمعةً نبيلة، لكنها لم ترقَ على أية حال إلى النُّفوذ المُهدد لسُلطة الخُلفاء أو العمل بما لا يتوافق مع إرادتهم.[84][86]

البَرامِكَة والرَّشيد[عدل]

ازدادت علاقات البَرامِكة مع بَني العبَّاس متنًا وتقاربًا في عهد المِهْدِي، وذلك بعد أن عهد إلى يَحيى البَرْمَكِي تربية ابنهِ هارُون وتنشئته نشأةً مُثقفة وصالِحة ومُؤهلة لهُ مُستقبلًا لتولي المسؤوليات، كما أوكلت والدة الرَّشيد إلى زوجة يحيى البَرمكِي إرضاعه، مما جعلهُ حسب العقيدة الإسلاميَّة أخًا لأبنائها، مثل الفَضْل، وجَعْفَر.[6] وبعد تولِّي الخليفة هارُون للحُكم، قرر استوزار يَحيى البَرمكي للوزارة منذ اليوم الأول لخِلافته، وكان يُوقره ويحترمه لدرجة أنه يُناديه «أبتي»، ومنحهُ بذلك التفويض سُلطةً شبه مُطلقة مع إبقائه على الإطِّلاع للأمُور. وقد عملت أُسرة البَرامِكة باجتهادٍ في تنظيم شُؤون السِّياسة والاقتصاد وإدارة بيت المال وإظهار الفُنون ودعم تطوير العُلوم منذ ذلك الحين، إلا أن العديد من المُؤرِّخين يرون أن يحيى البَرمَكي كان يُسخر قدراته هذه في خدمة الرَّشيد ظاهريًا في سبيل تحقيق خُطَطهِ الهدَّأمة باطنيًا، وأخذت الأسرة تستبد في شُؤون الحُكم، وتحصُر الوِزارة والكِتابة والحِجابة والسَّيف وغيرها إليهم، وبسبب ذلك، بات لهُم حُضور في قُلوب عامَّةُ النَّاس بسبب كرمهم وحُسن تعامُلهم.[79][87]

وقد أولى البَرامِكة، بدعمٍ من الرَّشيد وختمِه، عددًا من المهام في الدَّولة، فحينما تولَّى يَحيى الوِزارة، وقام في شُؤونها خير قيام، ساعدهُ في ذلك ابنهُ الفَضْل بن يَحيى، فكان إداريًا ماهِرًا، وأخمد ثورة يَحيى بن عبد الله العلويّ دون إراقة دمٍ، وكان جديًا في تصرُّفاته، وكريمًا سخيًا ولا سيَّما مع الأُدباء والشُّعَراء، فولَّاه الرَّشيد بلاد المَشْرِق (مثل خُراسان، وطبرستان، وما وراء النَّهر، وأرمِينية)، فأنشأ المساجد، وحفر الترع والقنوات المائيَّة، وحسنت سيرته في تلك البِلاد.[88] بينما تولَّى جَعْفَر بن يَحيى، ولاية المَغرِب من البِلاد (مثل بِلاد الشَّام، والجَزيرة الفُراتيَّة، ومِصْر، وإفريقيَّة) وكان أصغر من الفَضْل، ويختلف عنه، فهو شابٌ مرِح وفصيح وعلى درجة عالية من البلاغة واللباقة، وهذه الصفات جعلتهُ محبوبًا لدى الخليفة الرَّشيد، فجعلهُ قريبًا منه، واستبقاه في بَغْدَاد ليبقى لهُ نديمًا في مجالسه، وكان يُناديه: «يا أخي».[87]

الاصطدام مع البرامِكة[عدل]

مع أن الرَّشيد قد أولى أُسرة البرامِكة تفويضًا ملحوظًا في دولتِه الكبيرة، وحازوا بها على ثقته العالية في بداية حُكمِه، إلا أن ذلك لم يمنع من حُدوث الكثير من القِصص التي باتت تُؤرِّق الرَّشيد والعديد من مُعارضيهم في نفس الوقت، حيث كان الرَّشيد يشعر بعدم الثقة نحوهم مع مُرور الوقت، وتُشير سياق الأحداث في كُتُب المُؤرِّخين، إلى أنهُ كان يتربَّص الإيقاع بالبرامِكة ويشعر بضرورة إقصائهم عن ساحة الحُكم منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، وقد اتخذ في سبيل ذلك العديد من التدابير لتقليص سُلطتهم، وتحجيم نُفوذهم. فبعد وفاة والدته الخَيْزُران سنة 173 هـ / 789 م، التي كانت حامية لمصالح البَرامِكة وكان يَحيى يُشاورها، حيث قال هارُون الرَّشيد لأحد أهم مُستشاريه الفَضْل بن الرَّبيع: «إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية، غير ما تمنعُني أُمي فأطيع أمرها، فخُذ الخاتِم من جَعْفَر»، فنزع ذلك أولى سُلطات البَرامِكة من مناصب تُعتبر حسَّاسة، وهي الحِجابة وحرس الخليفة الشَّخصي، كما ظهرت للعلن أولى الخِلافات بين الرَّشيد والبَرامِكة في مسألة تعيينات الوُلاة على الأقاليم، وتحديدًا في إقليم خُراسان، حيث غضِب الرَّشيد منهُ وعزلهُ عنها سنة 183 هـ / 799 م لخوفِهِ من نُفوذه الكبير عليها، إلا أنهُ رضي عنهُ بعد شفاعة أُمِّه له، لكنه لم يُعيد إليه شيئًا من أعماله.[80][89] ومما زاد من انزعاج الرَّشيد منهم، أن مُوسى بن يَحيى البَرمكي، قبل نكبة البَرامِكة بعامٍ واحِد، اتُّهم بأنه يعمل على مُكاتبة أهالي خُراسان للثَّورة على الخِلافة، وذلك في ما يبدو أنه ردًا على الإجراءات التي تُضعف من سُلطة البرامِكة وأقصت الفَضْل عن ولايته الهامَّة، فسُجن مُوسى، حتى أُطلق سراحهُ بعد ضمان والدهِ يَحيى وشفاعة أُمِّه.[90]

وتروي إحدى الرِّوايات، أن الرَّشيد لم يكُن مُستعجلًا للتخلُّص من البَرامِكة، ويتحرَّى الفرصة المُناسبة لذلك، حيث قال في إحدى جلساته للمُقرَّبين منه يومًا: «إني أريد أن أُوقع بآل بَرمَك إيقاعًا ما أوقعهُ بأحد، وأجعلهُم أحدوثة ونِكالًا إلى آخر الأبد»، ويروي والي الرَّشيد على المَدينة المُنوِّرة قول أحد الخدمة إليه أنه قال: «أشهدُ بالله، لكُنتُ مع الرَّشيد، وهو مُتعلِّق بأستار الكعبة، بحيث يمس ثوبي ثوبُه ويدي يدُه، وهو يقول في مُناجاته ربَّهُ: اللهم إني أستخيرُك في قتل جَعْفَر بن يَحيى»[91]، وعلى أية حال، فإن الأمر لم يتوقف عند الخليفة الرَّشيد، حتى أن العامَّة بدأت تخوض في ذلك وتتحدث عن حدُوث نهاية لآل بَرْمَك يومًا. فقد دخل عليه إسحاق المُوصَلِّي يومًا، وسألهُ الرَّشيد عم يتحدثُ بهِ النَّاس، فقال: «يتحدثون بأنك ستقبُض على البرامِكة، وتُولي الفَضْل بن الرَّبيع الوزارة».[91] كما يُروى مِما وصل إليه البَرامِكة في تصرُّفاتهم، أن زوجة هارُون الرَّشيد، زُبَيدة بنت جَعْفَر، قد اشتكت إلى الرَّشيد أن يحيى البَرمَكِي يتدخَّل في أمر الحرم، فيأمر في قفل أبوابهن في الليل، ويمضي بالمفاتيح إلى منزله، وحين واجهُه الرَّشيد بأسلوبٍ لبق في ذلك، أنكر قولها، وطلب منهُ أن لا يقبل كلامها، مما زاد من الضغينة تجاه البَرامِكة.[92]

ويُشيع فريق من المُؤرِّخين ومنهم الطَّبَري، أن أُخت الخليفة، العبَّاسة بنت المِهْدِي، والتي عُرفت بأدبها وثقافتها ومحبَّة الرَّشيد لمُجالستها، أراد منها أن يُزوِّجها إلى جَعْفَر زواجًا صُوريًا، وذلك لحُبِّهِ لها وكي يتمكن من الجمع بين أدب العبَّاسة وبلاغة جَعْفَر في مجلسه، وحتى يستطيع جَعْفَر النظر إليها والحديث معها في مجلسه فقط، على أن يفترقا في حُضوره، إلا أنه أُشيع بأنها حملت منهُ غُلامًا، حيث أرسلتهُ بعيدًا إلى مكة خوفًا من الرَّشيد، وبقيت الأمور سريَّة حتى أنهت إحدى الجواري العالِمة بأمرها إلى الخليفة، ويُتابع المُؤرِّخ أحمد مُختار العبَّادي في ذكر القصَّة قائلًا: «هذا هو مُلخص قصة العبَّاسية التي يظهر فيها الخيال والاختراع، وواضع أن القصد منها هو الحط (من) مكانة الرَّشيد وطعنه في كرامته وعرضِه، ولا شك أنها من وضع الشُّعُوبيَّة الفارسيَّة التي أرادت الانتقام من الخليفة الهاشِميُّ العربيّ الذي أوقع بالبرامِكة العجم»، كما رفضها المُؤرِّخ ابن خَلْدُون في مُقدِّمته ورفض التصديق بالقصَّة، ولم يُذكر شيء في كتاب الأغاني للمُؤرِّخ الأصْفهاني، والذي عُرف عنهُ اهتمامهُ بهذا النُّوعِ من القِصص.[93] نُقل عن مَسْرُور الخادِم، كبير حجبة الرَّشيد، إجابته لأحد الأدباء الذين سألوه عن سبب قتلهِ جَعْفَر البَرمكي: «كأنك تُريد ما تقولهُ العامة فيما ادَّعُوه من أمر المرأة ؟ لا والله ما لشيء من هذا أصل».[94] ولا شك بطبيعة الحال، ومع كثرة وُجود الأسباب واختلاف المُؤرِّخين على تحديدها، بوجود تنافُس عربي وفارسي آنذاك، على غرار النظريَّة القائلة بدعم العرب للأمين، في مُقابل دعم الفُرس للمأمُون، فقد أفزعت الرَّشيد يومًا وراء يوم، وأرَّقت لياليه من كثرة الدسائس والسعايات التي يقوم بها آل بَرْمَك والتي أشعرتهُ بأنه أصبح مغلوبًا على أمره، وأن البرامِكة في الحقيقة، قد شاركوه سُلطانه بشكل أخلَّ بتوازُن الدَّولة وسلامتها، مما اضطَّرهُ إلى التخلُّص منهم. ولم يكُن هذا بالأمر الغريب في شُؤون الحُكم والسِّياسة، فقد عُرف العبَّاسيُّون عُمومًا بأنهم كانوا حساسين في مسائل الصِّراع على الحُكم، وقتلوا كُل من شكُّوا في إخلاصه ووفائه، فهذا ما دفع المَنْصُور إلى قتل الخُراساني، ولاحقًا ما دفع قيام المأمُون بقتل الفَضْل بن سَهْل.[95]

التخلُّص من البرامِكة[عدل]

في شهر مُحرَّم، من سنة 187 هـ / أُغُسْطُس 803 م، عاد الخليفة هارُون الرَّشيد إلى العُمْر، قُرب الأنْبار قادِمًا من حجِّهِ في مَكَّة، فدخل إلى فراشهِ مُبكرًا على غير العادة، وبعد أن انصرف جَعْفَر البَرْمَكِي من عنده، أرسل الرَّشيد وراؤهُ مَسْرُور السيَّاف، كبير الحجبة والحرس، وأمرهُ بضرب عُنق جَعْفَر، وقبل أن تنقضي تلك الليلة، أمر الخليفة بإلقاء القبض على يَحيى البَرمَكِي وابنيه الفَضْل ومُوسى وجميع أفراد أسرتُه واستثنى منهم مُحَمد بن خالد البَرْمَكِي وأولادُه لبراءتهم، فحبسهُم، وصادر أموالهم، وضياعهُم وكُل ما لديهم، كما فرَّق الكُتُب على الوُلاة في أنحاء البلاد بالقبض على أنصارهم ومُصادرة مُمتلكاتهم، وحذَّر الناس من إيواء أحدٍ منهُم، ما يُدل على أن الخطة كانت مدروسة منذ مدة ليست بالقصيرة، ولم تكُن بالمُفاجئة عند الناس آنذاك، وقد يكون اختلافِهم على توقيت حُدوثها لا أكثر.[87] فقُتل جَعْفَر وأُرسل جسدُه إلى بَغْداد، وأمر الرَّشيد بتنصيب رأسه على جسر وتقطيع جسده، وقد انتقد عدد من المُؤرِّخين طريقة تعامُل الرَّشيد في إنهاء البَرامِكة، إلا أن أُسطورة البرامِكة قد انتهت بعد 17 عامًا من الحُكم والنُّفوذ. وحين قيل ليَحيى البَرمَكِي: «قتل الرَّشيدُ ابنك!»، أجاب قائلًا: «كذلك يُقتل ابنهُ»، وقيل لهُ «قد أخرب ديارك»، فردَّ يحيى: «كذلك تخرب دياره»، فلما بلغ ذلك الرَّشيد، قال:«قد خفتُ أن يكون ما قالهُ لأنه ما قال شيئًا إلا ورأيتُ تأويله». وقال يَحيى لما نُكِّب: «الدُنيا دُول، والمال عارية، ولنا بمن قَبلنا أُسوة، وفينا لمن بعدَنا عِبرة».[96]

وقد امتدح الشَّاعر أبُو نوَّاس ما قام بهِ الرَّشيد، حيث قال:[96]

الآن استَرَحنا واستراحت رِكابُنا
وأمسَك من يحدو ومن كان يحتدي
فقُل للمطايا قد أمِنتِ من السُّرَى
وطيّ الفيافي فدْفدًا بعدُ فَدْفدِ
وقُل للمنايا قد ظفرتِ بجعفرٍ
ولن تظفري من بعدهِ بمُسوَّدِ
وقُل للعطايا بعدَ فَضْلِ تعطَّلي
وقُل للرَّزايا كُل يومٍ تجدَّدِي
ودونَك سيفًا برمكيًا مُهنَّدًا
أُصيبَ بسيفٍ هاِشميُّ مُهَنَّدِ

المسير إلى الرَّي وتعزيز نُفوذ المأمُون[عدل]

في فترةٍ قصيرة بعد نَكْبَة البَرامِكة، توجَّه الخليفة الرَّشيد على رأس جيشٍ نحو الرَّي (الجزء الجُنوبي من طَهْران المُعاصِرة) في جُمادى الأولى سنة 189 هـ / أبريل 804 م، وكان السَّببُ في ذلك أن عَلِيُّ بن عِيسى بن ماهان الوالي على خُراسان قد ظلم أهلها، وأساء السيرة فيهم، فكتب وجهاء أهلها، وأشرافها إلى الرَّشيد يشكون سوء سيرته، وظلمه، واستخفافه بوُجوه النَّاس، وأخذ أموالهم، حتى قيل للرشيد إن ابن ماهان قد أجمع على الخلاف عليه وخلع طاعتِه، فسار إلى الرَّي في جُمادى الأولى / أبْرِيل ومعه ابنيه عبد الله المأمُون والقاسم المؤتمن. ويبدو أن الرَّشيد أراد تعزيز نُفوذ ابنهِ المأمُون وتحضيره للخِلافة مُستقبلًا وأن لا يتركهُ دون شيء يستند عليه في حال نوى الأمين مُخالفة العهد، فأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع ما في هذا الجيش من الأموال، والخزائن، والسِّلاح، والكراع، وغير ذلك للمأمون وأنه ليس لأحدٍ منها بشيء.[97] وكان هذا الإقرار من الرَّشيد للمأمون مُزعجًا بشدَّة لوليُّ عهده الأوَّل مُحمَّد الأمين وذلك لأنها ستُضعف نُفوذه حينما يصبح الخليفة، ويكون للمأمُون القدرة على حشد جيش، وجبي الضَّرائب مُشكلًا بذلك أشبه بدولة داخل دولة في المَشْرِق.[98] أقام الرَّشيد في الرَّي مدة أربعةَ أشهُر حتى أتاهُ ابن ماهان من خُراسان، فلما قدِم عليه، أهدى لهُ الهدايا الكثيرة والأموال العظيمة، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته، وولده، وكُتَّابِه، وقُوَّاده من الطرف والجواهر، وغير ذلك، مُبينًا بذلك أنه على طاعته للرَّشيد وليس الأمر كما يظُن، ليُقرر الرَّشيد إعادة اعتباره واليًا مرةً أُخرى على وِلاية خُراسان.[99][100]

الحَملةُ الرَّشيديَّة الكُبرى ضد الرُّوم[عدل]

الخلفية[عدل]

كانت الإمْبَراطُوريَّة البيزنطيَّة تُعاني ردحًا من الزَّمن من الضَّعف والتردِّي والصِّراعات على السُّلطة، فقد تولَّت إيرين الأثِينيَّة عرش الحُكم على اثر وفاة زوجُها المُفاجئة ليُو الرَّابع سنة 780 م، بعد أن لم يترك مُرشحًا من بعده، فحكمت كوصيَّة للعرش منذ ذلك الحين، حيث كانت إيرين أو رينيه (في المصادر العربيَّة) هي الوصيَّة على عرش ابنها قُسْطَنطين السَّادس، وبدأت تحكُم البلاد وتستحوذ عليها، إلا أنها واجهت حملةً إسلاميَّة قادها الأمير هارُون بن الخليفة المِهْدِي حتى وصل إلى بحر القُسْطَنطينيَّة، فاضطَّرت لدفع 70 ألف أو 90 ألف دينارًا على مدار حُكمها إلى الخِلافة العبَّاسيَّة مع كثرة الحملات والغارَّات في زمن الرَّشيد على آسيا الصُّغرى.[101][102] وقد قررت إيرين تحسين العلاقة مع البابويَّة الكاثُوليكيَّة، ودعت من خلال انعقاد المُجمَّعات المسكونيَّة إلى إلغاء فكرة تحطيم الأيقونات التي أثارت جدلًا في أنحاء الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة رُدهًا من الزمن. وبعد أن بلغ قُسْطَنطين السَّادس سنّ البُلوغ، بدأ الأخير حُكمه دون تأثير، حيث كانت والدته المُسيطرة على البِلاد ولم تتخلى عن العرش، واستبدَّت ضد الرُّومان، مما أشعل ثورات وتحرُّكات لإيصال قُسْطَنطين إلى الحُكم، وقد نجح جُنود بيزنطيُّون من الأرمن في إيصالهِ إلى عرش المُلك مُؤقتًا، إلا أن ابنها قرر أن يُثبِّتها كشريكة لهُ في الحُكم، على الرُّغم من بقاء التنافُس بينهُما. لم تصمُت إيرين إزاء المسرحيَّة التي انتقصت من سُلطتها وجعلتها تتشارك الحُكم مع ابنها المُراهق في وقتٍ حكمت فيه بنفسها للبِلاد ردحًا من الزمن، فتآمرت مع وزيرها الخصيّ ستوراكيُوس ضد ابنها الإمبراطور قُسْطَنطين السَّادس سنة 797 م، وعادت إلى السُّلطة بانقلاب، وقامت بسل عيني ابنها، وسجنتهُ لتستولي على العرش وحدها. وفي سنة 802 م، تآمرت النُّخبة الأرستراقطيَّة ضد الإمبراطورة إيرين، فأطاحوا بها ونصَّبوا وزير الماليَّة آنذاك إمبراطورًا عليهم، وهو نيقفوروس الأوَّل (بالإغريقيَّة)، والذي عُرف في المصادر العربيَّة باسم نَقْفُور الأوَّل، وهو بيزنطيّ من أصولٍ عربيَّة يعُود نسبهُ إلى الغساسِنة.[103][104]

المطالب البيزنطيَّة للرَّشيد[عدل]

بِسم الله الرَّحمن الرَّحيم: من هارُون أمِيرُ المُؤمِنين، إلى نَقْفُور كَلِبَ الرُّوم قد قرأتُ كِتابك يا ابْن الكافِرة، والجواب ما تراهُ دون ما تسمعُه، والسَّلام.
—هارُون الرَّشيد

بعد أن تولَّى نَقْفُور الأوَّل عرش الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، بدأ يُضبط شُؤون البِلاد حسب رُؤيته، ففرض الضَّرائب، وحاول السيطرة على الكنيسة مما أحدث شقاقًا بينهُ وبين القساوسة، كما أبرم مُعاهدة مع الإمبراطوريَّة الكارُولنجيَّة سنة 187 هـ / 803 م، وبدأ يوجه أنظارُه نحو الخِلافة العبَّاسيَّة، ورُبما استهان نَقْفُور بوضع الدولة الإسلاميَّة وكثرة حُدوث الثَّورات فيها، ما جعلهُ يكتب رسالةً يبدو من سُطورها الاستخفاف بالرَّشيد وإشعاره بأن ما حقَّق ضرباتهِ على الرُّوم سابقًا إلا بسبب حُكم النساء فقال: «من نَقْفُور ملِك الرُّوم إلى هارُون ملِكَ العَرَب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتكَ مقام الرّخّ، وأقامت نفسها مقام البَيْذق، فحملت إليك من أموالِها ما كُنت حقيقًا بحملِ أمثالها إليها، لكن ذلك ضِعف النِّساءِ وحُمْقَهُن، فإذا قرأت كِتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالِها، وافتدِ نفسك بما يقع به المُبادرة لك، وإلا فالسَّيفُ بيننا وبينك». وحينما وصلت الرسالة إلى الرَّشيد، وقرأ الكِتاب، انتفض وتملَّكهُ غضبٌ عارم، حتى لم يتمكن جلساؤُه من مُحادثته وفضلوا المُغادرة سريعًا، فدعا بدُواة وكتب بنفسِهِ على ظهر الكِتاب المُرسل، رسالةٍ مُختصرة ومُعبِّرة وتوعَّدهُ بما سيراه لا ما يسمعه.[103][104] ويُعلِّق المُستشرق الفرنسي أنْدري كلُوت على رسالة نَقْفُور قائلًا: «أخطأ نقفور العنوان في توجيه المكتوب! فمُخاطبة أميرُ المُؤمِنين وخليفةُ الله على الأرض قاطِبة بهذه العبارات يُمثل أكثر من إشهار للحرب، فهو إقذاع في السَّباب قد لا يُجيزه لنفسِه إلا عاهل يتوفَّر على قُوةٍ عسكريَّة هائلة».[105]

انطلاق الحملة الرَّشيديَّة[عدل]

توجَّه الخليفة هارُون الرَّشيد على رأس جيشهِ بنفسِه، والذي بلغ تعدادهُ نحوًا من 135 ألف مُقاتل عدا أعدادًا أخرى من المُتطوِّعين للجِهاد، فسار من يومهِ وبدأ التوغُّل في منطقة آسيا الصُّغرى، حتى بلغ مدينة هِرَقلة، عاصمة كُورة بيثينيا البيزنطيَّة، فحاصرها واستولى عليها عُنوةً سنة 190 هـ / 806 م، ثم أتبعها بتوجيه حملاتٍ عسكريَّة بقيادة كِبار قُوَّادِه من أمثال داوُد بن عِيسى العبَّاسي، وشراحيل بن معن بن زائدة الشِّيباني، ويَزيد بن مُخلِد الهُبَيري، فهزموا جُيوش الرُّوم القادِمة ودمَّرُوا حُصونهم في منطقة الثُّغُور، ما جعل نَقْفُور يتناسى خطابه الاستعلائي، ويعترف بهزيمته، ويتعهَّد بدفع الجزية من جديد. وقد بعث بالخَراج والضَّريبة عنهُ وعن وليُّ عهدِه وعائلته وسائر أهل بِلاده خمسين ألف دينار، منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ابنه استبراق بدينارين، وتعهد بألا يُعيد ترميم الحُصُون التي دمرها الرَّشيد. ويُعلِّق المُؤرِّخ المِصْري أحمد مُختار العبَّادي على الحادثة قائلًا: «ويبدو أن الضَّربات التي وجهها الرَّشيد إلى الدولة البيزنطيَّة كانت عنيفة وحاسِمة، بدليل أنها لم تُحاول الاستفادة بعد ذلك من الفِتنة التي دبَّت بين الأمين والمأمُون في استعادة ما فقدتهُ في عهد الرَّشيد».[106] وقد استمرت الغارَّات والغزوات الصَّيفيَّة ضد الرُّوم بعد ذلك.[61]

ثورة رافع بن اللَّيث في ما وراء النَّهر[عدل]

ظهرت أزمةُ وُلاةٍ في ولاية ما وراء النَّهر، فقد خلع واليُها رافِعُ بن اللَّيث بن نصر بن سيَّار في مقر حُكمه سَمَرْقَنْد، طاعة الخليفة هارُون الرَّشيد، وكان السببُ في ذلك أنه طمع في الزواج من إمرأة يَحيى بن الأشْعَث الطَّائي، حيث أنها اشتكت تركهِ لها بسبب جواريه، فدسَّ إليها من يقول إليها بأنها أشركت بالله، ثم تتُوب فينفسخُ زواجُها وتُحل للزواج، ففعلت ذلك وتزوَّجها رافِع. بلغ الخبر يَحيى بن الأشعث زوجُها السَّابق واشتكى إلى الخليفة ما قام بهِ الطرفان، فكتب إلى عَلِيُّ بن عِيسى بن ماهان بأن يُفرِّق بينهُما، ويُحد رافِعًا عقابًا لصُنعه ويطوف به مُقيَّدًا في شوارع سَمَرْقَنْد على حِمار ليكون عظةً لغيره. إلا أن ابن ماهان لم يحدُّه، واكتفى بحبسِه، ثم تمكن من الهرب من السجن وتمكن من قتل نائب ابن ماهان في المدينة، واستولى عليها، وبعد أن أرسل ابن ماهان ابنهُ عِيسى لمُحاربة رافِع.[99] لم يتمكن عِيسى من الانتصار على رافِع، فقد انهزم وقُتل في المعركة في ذُو القعدة سنة 192 هـ / سَبْتَمْبَر 808 م، وحزن عليه والدهُ ابن ماهان بشدَّة، وقرر الخُروج من مدينة بَلْخ نحو مَرُو، خوفًا من زحف ابن اللَّيث نحوها، وترك بذلك ثروةً عظيمة تُقدر بثلاثة مليون دينار، وقد نهبها عوامُ النَّاس، حتى بلغ ذلك الرَّشيد الذي غضب من هرب ابن ماهان، وترك ثروةً كبيرة بهذا القدر، فضلًا عن ما كره من سوء سيرته وشكاوي أعيان النَّاس عليه، فعزلهُ عن ولاية خُراسان، وعيَّن بدلًا منه القائد المُخضْرَم هَرْثمة بن أعْيَن والذي احترمهُ وعظَّمه حتى دخل البلد، وقام بالقبض على ابن ماهان وصادر أمواله وخزائنه ودوابه حتى بلغت قيمة ما أخذ في حُكمِه ثمانية مليون، و1500 بعير، وأرسلها جميعها إلى الرَّشيد.[107]

المسير الأخير لمُحاربة رافع بن اللَّيث[عدل]

قرَّر الرَّشيد المُشاركة في مُحاربة رافِع بن اللَّيث بنفسِه حيث كان مُقيمًا في الرَّقَّة، فاستخلف عليها ابنهُ ووليُّ عهدِه الثالث المُؤتمن، واستخلف على بَغْدَاد ابنهُ ووليُّ عهدِه الأول الأمين، بينما أمر وليُّ عهده الثاني المأمُون بالبقاء في بَغْدَاد، إلا أن الفَضْل بن سَهْل السَّرخَسِي صديق المأمُون المُقرَّب، نبَّهُه بضرورة الذهاب مع أبيه، حيث أنه يخافُ عليه من جُور أخيه الأمين ويخلعهُ من ولاية العهد إن بقي بها، فقد كان الأمين حاكِمًا على بَغْدَاد في غياب أبيه، ووجُوهها تقف معه، ما جعل المأمُون يقنع أباهُ الرَّشيد المُمتنِع، بالسير معه حتى سمح لهُ بذلك. وقد وصلت إليه الأخبار أن واليه هَرْثَمة بن أعْيَن تمكن من افتتاح بُخارى وهزيمة قُوات رافِع، كما أسر أخاه وبعث به إلى الخليفة. وصل الرَّشيد على رأس جيشِه إلى خُراسان مُحملًا بالتَّعب، حتى وصل جَرْجَان فاشتدَّت عِلَّتُه ومرضُه، وحين وصل إلى مدينة طُوس لفظ أنفاسُه الأخيرة ووافتهُ المنيَّة.[108]

وفاته[عدل]

مرضه[عدل]

يروي الطَّبيب الشَّخصيّ للخليفة هارُون الرَّشيد، جَبْريل بن بَخْتِيشُوع، سبب عِلَّتِه ومرضِه، حيث كان يعودُهُ في كُل يومٍ ويطمأن لحالِه، وكان الرَّشيد يُحدِّثهُ ويُسر للحديث معه، ويسألهُ عن أخبار العامَّة، إلا أنه في إحدى الأيام، دخل عليه ورآهُ عابسًا ومهمومًا في التفكير، فلم يتحدث معهُ بشيء لمدةٍ ليست بالقصيرة، وما زال الرَّشيد صامِتًا طوال هذه المُدة، فسألهُ الطبيب عن حاله، فذكر الرَّشيد أنهُ شعر بالهَمّ لرُؤيا رآها في ليلته هذه، فأفزعتهُ، فأظهر الطَّبيب سُروره وقام إلى الخليفة وقبَّل يداهُ وقدمِه وأكَّد لهُ أنها رُؤيا لخاطر وأنها لا تعدُو عن كونها أضغاثُ أحلام.[109] فأخبرهُ الرَّشيد بالمنام قائلًا: «رأيتُ كأني جالس على سريري هذا إذ بدت من تحت ذِراعٌ أعرِفُها، وكفٍ أعرِفُها، لا أفهمُ اسم صاحِبِها، وفي الكفِّ تُربةً حمراءُ فقال لي قائل أسمعهُ ولا أرى شخصهُ: هذه التُّربة التي تُدفَن فيها، فقلتُ: وأين هذه التُّربة؟ قال: طُوس، وغابت اليد، وانقطع الكلام».[110] ثم انشغل الرَّشيد، وتناسى الطَّبيب والخليفة الرُّؤيا، ثم سار إلى خُراسان لحرب رافع بن اللَّيث، وبدأت عِلَّتُه تظهر، وما زالت تزيد حتى دخل طُوس، فاتجه إلى بُستان قصرٍ كان يتواجد فيه، فتذكَّر الرُّؤيا وقام مُتحامِلًا يقوم ويسقط، ثم اجتمع إليه القادة والطَّبيب، وأخبرهُ الرَّشيد قائلًا: «أتذكُر رُؤياي بالرَّقَّة في طُوس؟»، ثم التفت إلى مَسْرُور الخادِم، وأمرهُ بجلب تُربةً من هذا البُستان، فأتاهُ بها في كفِّه حاسرًا عن ذراعِه، فلما نظر إليه الرَّشيد، قال: «هذهِ والله الذِّراع التي رأيتُها في منامي، وهذه الكفُّ بعينها، وهذه التُّربةُ الحَمْراءُ ما خَرَمَت شيئًا»، فبكى الرَّشيد، وتُوفي بعد ثلاثة أيام منها.[110]

وفاته[عدل]

لما حَضَرت الرَّشيد لحظات الاحتضار، غُشي عليه، ثم فتح عينيه فرأى وزيرهُ الفَضْلُ بن الرَّبيع، فتمثَّل لهُ الرَّشيد شِعرًا قائلًا:[110]

أحينَ دَنا ما كنتُ أرجو دنوَهُ
رَمَتني عُيونُ الناس من كُلِّ جانبِ
فأصبَحتُ مَرحومًا وكُنت مَحسَّدًا
فصبرًا على مَكرُوهِ تِلكَ العواقبِ
سأبكي على الوَصْلِ الذي كان بيننا
وأندُبُ أيَّام السُّرورِ الذَّواهِبِ

تُوفي الخليفة هارُون الرَّشيد في الثَّالث من جُمادى الآخرة سنة 193 هـ / الرَّابع والعُشرُون من مارس 809 م، وذلك عن عُمرٍ 46 عامًا وشهرًا وخمسة أيَّام حسب تأريخ البَرامِكة، وقيل بل 47 عامًا وخمسةُ شُهورٍ. وكانت مدة خِلافتهُ ثلاثةٌ وعُشرُون عامًا وشهرين وثمانية عشر يومًا. ودُفن في مدينة طُوس (الواقعة شمال شرقي إيران المُعاصِرة).[110] وقد صلَّى عليهِ ابنهُ صالِح، وحضر وفاتُه الفَضْل بن الرَّبيع، ومَسْرُور الخادِم، وغيرهم.[111]

بعد وفاته[عدل]

العَتَبة الرَّضَويَّة حيث مدفونٌ بها الإمام عليُّ الرِّضا والخليفة العَبَّاسِيّ هارُون الرَّشيد، تقع في مدينة مَشْهَد، شمال شرق إيران، الصورة تعود لعام 2020 م.

في صبيحة اليوم التَّالي مِن وفاة الخليفة هارون الرَّشيد، أيّ الرَّابع مِن جُمادى الآخِرة 193 هـ / الخامِس والعُشْرُون مِن مارس 809 م، بوُيَع ابنهُ مُحَمَّد الأمين بالخِلافَة في عسكر الرَّشيد، وعُمرهُ اِثنان وعُشْرُون عامًا، وكان عَبدُ الله المأمُون يُماثله في العُمر، ومُقيمًا آنذاك بِمَرُو حينما جاءتهُ أخبار وفاة أبيه.[112] ورُغم أن المأمُون لم يُنازع أخاهُ الأمين وبقي على العهد الذي أقرُّهُ الرَّشيد في مَكَّة، إلا أن الأمين كان مُنزعجًا لوجُود المَشْرِق العبَّاسي تحت سُلطة المأمُون كما قرَّرهُ أباهُما الرَّشيد، وحاول إقناع المأمُون بالتخلي عن بعض الكُور من المَشْرِق وحاول أن يبث دعايته في تلك البلاد. وقد تنبَّه المأمُون لخطوات أخيه، فمنع رجالهُ من القُدوم إلى مناطق نُفُوذه، واستمرت العلاقة بين الطرفين تسوء حتى قرر الأمين خلع المأمُون والمُؤتمن وتعيين ابنهِ ذو الخامسة من عُمره مُوسى وليًا للعهد من بعده، وبدأت الحرب بين الطرفين لثلاثة أعوام، وبدأ الأمين يفقد نُفوذه جراء استهتاره في الحُكم، حتى وصل زحف جيش المأمُون إلى بَغْدَاد وحاصرها ما يزيد عن عام، ثم دخل الجيش المأمُوني بقيادة طاهِر بن الحُسَيْن، وهَرْثَمة بن أعْيَن ليُقتل الأمين على يد جُنود طاهِر في ليلة الأحد يوم الخامِس والعِشرون من مُحَرَّم 198 هـ / السَّابِع والعُشرُون مِن سَبْتَمْبَر 813 م ليُبايع المأمُون للخِلافة ويستأنف العَصْرُ الذَّهبِيُّ الذي بدأ المَنْصُور والرَّشيد أولى خطواتِه وأساسيَّاته.[113]

بعد أن تُوفي وليُّ عهد المأمُون، الإمام عليُّ الرِّضا بن مُوسى الكاظِم، حزن المأمُون كثيرًا، فصلَّى عليه وقبل أن يتم دفنِه، أمر المأمُون أن يُحفر قبره إلى جانب أبيه الرَّشيد وذلك في الثَّلاثُون مِن صَفَر 202 هـ / السَّادِس مِن يُونيو 818 م، لتُبنى على أنقاض طُوس مدينةً جديدة تُدعى مَشْهَد وتُصبح من أهم مُدُن إقليم خُراسان الكُبرى المُعاصِرة. إلا أن قبر الرَّشيد قد اندثر وعفا رسمُه.[114][111]

ضريحه[عدل]

ذكر سالم الالوسي أن أحمد حسن البكر في بداية حكمه، طالب إيران باسترجاع رفات هارون الرشيد، كونه رمزًا لبغداد في عصرها الذهبي، وذلك بدعوة وحث من عبد الجبار الجومرد وزير الخارجية العراقي السابق في عهد عبد الكريم قاسم، ولكن إيران امتنعت، وبالمقابل طلبت استرجاع رفات الشيخ عبد القادر الجيلاني، كونه من مواليد كيلان في إيران، وعندها طلب الرئيس من مصطفى جواد بيان الأمر، فأجاب مصطفى جواد: إن المصادر التي تذكر بأن الشيخ عبد القادر من مواليد كيلان في إيران، مصادر تعتمد رواية واحدة وتناقلتها بدون دراسة وتحقيق، أما الأصوب فهو من مواليد قرية تسمى (الجيل) قرب المدائن، ولا صحة لكونه من إيران أو أن جده اسمه جيلان، وهو ما أكده حسين علي محفوظ في مهرجان جلولاء الذي أقامه اتحاد المؤرخين العرب وكان الألوسي حاضرًا أيضًا سنة 1996، وفعلًا أبلغت مملكة إيران بذلك ولكن بتدخل من دولة عربية أغلق الموضوع.[115][116] ويروى [117] عن علي الرضا: «وكان موته بمدينة طوس، فصلى المأمون عليه ودفنه عند قبر أبيه الرشيد». إنَّ المكان الذي فيه الضريح والذي كان سابقًا دارًا لحميد بن قحطبة الطائي أحد قواد أبي مسلم الخراساني، وعندما توفي هارون الرشيد عام 193هـ دفن في هذا المكان وأقام ولده المأمون على قبره قبة سميّت فيما بعد (القبة الهارونية). ولما توفي الرضا ، جيء بجثمانه ودفن بالقرب من قبر هارون الرشيد، والثابت أن ضريح هارون الرشيد في طوس (مشهد) مشترك مع ضريح علي الرضا.[118][119]

النَّهضة الحضاريَّة[عدل]

بَغْدَاد الرَّشيد[عدل]

أصبحت العاصِمة العبَّاسيَّة بَغْدَاد قِبلةً لطُلاب العِلم في جميع أنحاء البِلاد، حيث يتوجَّه إليها كِبار الفُقهاء والعُلماء والشُّعراء والأُدباء وطالبي العُلوم من شتى أنواعها. وبلغت بَغْدَاد في عهد الرَّشيد أعلى درجاتها من الحَضارةِ والرَّقي والعِمران، فبُنيت بها القُصور الشَّاهقة، وزادت موارد ثرواتها، وكان التُّجار يأتون إليها من أقصى البلدان، فمن الصِّين، والهِند، إلى بلاد الأنْدَلُس والشُّعوب الجرمانيَّة.[120] فلم تكُن بَغْدَاد لتُقاس حتى في القُسْطَنْطِنيَّة عاصِمة البيزنطيِّين، ولا عاصِمة شارلمان في ذلك الوقت، فقد احتوت على كافة أسباب النَّعيم والتَرَف بعد مدة قصيرة من بنائها إلى جانب كونها مدينةُ العُلوم والفُنون. كما انطلقت من بَغْدَاد الرَّحلات الدعويَّة للإسلام، فوصلت إلى البَلْقان، والصِّين، وسيبيريا.[121]

المناطق القديمة للعاصِمة العَبَّاسِيَّة بَغْدَاد

صناعة الورق في بَغْدَاد[عدل]

أُنشئ في عهد الخليفة الرَّشيد أول مصنعٍ للورق في بَغْدَاد سنة 178 هـ / 795 م، وتوسَّع لاحقًا ليُصبح سُوق الورَّاقين، والذي يضم مئات الحوانيت التي تبيع السِّلع الورقيَّة الفاخرة، وكان ورقُ بَغْدَاد يُقدر تقديرًا عاليًا في الشَّرق الأوسط، حتى إن بعض المصادر البيزنطيَّة كانت تُسمي الورق صُحف بَغْداد، بَقْداتيكسن (Bagdatixon)، وذلك في ربطٍ مُباشر بينهُ وبين المدينة الواقعة على نهر دَجْلَة. في حين كانت أُورُوبا المَسِيحيَّة لا تزال تعتمد في طِباعة كُتُبها وخرائطها على جُلُود الحيوانات، وكانت مُهمة تمطيطُها وتنظيفُها وتجفيفها تتطلب دِقَّة وجُهدًا كبيرين فضلًا عن تكلفة صناعتها. أما الورق فلم يكن يُعاني من هذه العُيوب، حيث كانت سرعة توفيره وسُهولة استخدامه قد سرَّعت من إنتاج ونشر المخطُوطات في مُختلف أنحاء الخِلافة العبَّاسيَّة وما ورائها انطلاقًا من العاصِمة بَغْدَاد.[122]

بيمارسْتان الرَّشيد[عدل]

أنشأ الخليفة هارُون الرَّشيد بيمارْستان بَغْدَاد (وهي كلمة فارسيَّة الأصل تعني مُسْتَشْفى)، وذلك بعد أن نصحهُ في ذلك الطَّبيب جَبْريل بن بَخْتِيشُوع الثَّاني، والذي تولى فيها منصب رئيس الأطُبَّاء حينًا من الدهر، حتى تولَّى منصبهُ الطَّبيب يُوحنا بن ماسْويه، وكان كِلا الطبيبين ينتميان إلى مدرسة جندِسابُور، وكان بيمارسْتان الرَّشيد يُمثل غلبة الطُّب الإغريقي، حيث أشرف ابن ماسْويه على ترجمة العديد من الكُتُب والمخطوطات الإغريقيَّة التي تُعنى في علم الطُّب. ورُغم قلة المعلومات المُتوافرة حول بيمارسْتان الرَّشيد، إلا أن قيامه أفضى إلى إنشاء مدارس للطُّب العِلمي ومُتخصصة في مُداواة المَرضى.[123]

خزائن الأموال[عدل]

كانت خزائن الرَّشيد تفيضُ بالأموال التي كانت تُجبى من الخَرَاج والضَّرائب، حتى وُثِّق وُصولها إلى نحو 72 مليون دينارًَا عبَّاسيًا، عدا الضريبة العينيَّة التي كانت تُؤخذ مما تنتِجُه الأرض من الحُبوب، وغنائم الغارَّات وإطفاء لهيب الثَّورات. وقد ذكر بعض المُؤرِّخون أن الرَّشيد أراد أن يشق الطريق من بحر الشَّام إلى بحر القلْزم مما يلي الفرما فيُوصل البحرين ببعض، إلا أن وزيرهُ يَحيى البَرْمَكِيُّ نصحهُ بالعُدول عن الفكرة قائلًا: «يختطف الرُّوم الناس من المسجد الحرام، وتدخل مراكبهم إلى الحجاز». وقد ذُكر أن الخليفة الرَّشيد كان يستلقي على ظهرِه وينظُر إلى السَّحابة المارَّة فيقول: «اذهبي حيثُ شئتِ يأتني خَراجَك».[120] وكانت أيَّام الرَّشيد مُليئة بالخيرات والأرزاق على النَّاس، فكانت من حُسنها كالأعراس، حسب وصف الإمام السُّيوطِي.[124] وقد اعتنى الرَّشيد بالكثير من الأمُور الإصلاحيَّة جراء فائض الأموال، فاهتم بالزراعة وبنى الكثير من الجُسور والقناطر، وحفر القَنوات المائيَّة لتذهب إلى الحُقول والجداول المُوصلة بين الأنهار، كما وضع ديوانًا خاصًا يُعنى بمُتابعة الأعمال الإصلاحيَّة. كما اعتنى بتشجيع الصِّناعات في الأقاليم العبَّاسيَّة، وأمر بحراسة طُرُق التِّجارة بين المُدُن.[125]

تأسيس بيتُ الحِكمة[عدل]

منمنمة من القرن العاشر ميلادي بواسطة نظامي الكنجوي تصور الخليفة العباسي هارون الرشيد وهو يغتسل

اهتمَّ العبَّاسيُّون في العُلوم وحثُّوا على طلب العِلم في مُختلف أنواعه، وقد قام جدُّ الرَّشيد، الخليفة أبُو جَعْفَر المَنْصُور بإنشاء دارًا في قصره لحفظ الكُتُب العلميَّة والأدبيَّة والفلكيَّة، إلا أنهُ بعد أن تولَّى الخليفة هارُون الرَّشيد، قام بإخراج الكُتُب والمخطوطات التي كانت تُحفظ في جدران قصر الخِلافة بسبب تضخُّم رصيدها من التُّراث المُدوَّن، والمخطُوطات المُؤلفة والمُترجمة إلى دارًا واسِعة وفخِمة، لتكون مكتبةً عامَّة مفتوحة الأبواب للدارسين وطُلَّاب العِلم، وسمَّاها بيتُ الحِكمة، تقديرًا لجلال رسالتها وتأكيدًا لأهمية العِلم والمعارف. وقد أصبح بيتُ الحِكمة رمزًا للمناحي العلميَّة المُختلفة، ويُنسب إليه ابتداع فكرة هذه الدار الحضاريَّة، وكان لابنهِ المأمُون اليدُ الطُّولى في توسعة المكتبة، وجعلها أكاديميَّة بالمعنى العلميّ الدقيق للكلمة، حيث خصص أماكن للدراسة، وأماكن لخزن الكُتُب وغيرها من الأماكن للتأليف والنَّقل.[126] وقد بلغ من اهتمام الرَّشيد بالعِلم والعُلماء بأن وافق على أن تُدفع إليه الكُتُب كجزية من الرُّوم، حيث كانت بيتُ الحِكمة مُكوَّنة من قِسمين، الأُولى هي بيتُ الحِكمة والتي كانت بمثابة جامعة عِلميَّة كبيرة، والثانية مكتبةُ الحِكمة والتي تُمثل جُزءًا منه.[127]

وقد وكَّل الرَّشيد أمر العناية بالكُتُب الفارسيَّة وترجمتها إلى الفَضْل بن نُوبَخْت، بينما تولَّى الطَّبيب وشيخُ النَّقلة في عصره، يُوحنَّا بن ماسْويه، ترجمة الكُتُب القديمة مما يجدهُ في أنْقَرة، وعَمُورية، وسائر بلاد الرُّوم حين يغزُوها المُسلمون ويستولون عليها، حيث كانت خزائن هذه المُدُن مُليئة بالمخطُوطات النَّادِرة والكُتُب النفيسة التي جهل قيمتُها سُكانها وانشغلوا عن العناية بها. كما تم الانتهاء من ترجمة جميع الكُتُب الهِنديَّة في الطُّب والفلك والرِّياضيَّات، والتي وفدت في أيام جدِّه المَنْصُور. وبلغ من اهتمام الرَّشيد في ذلك، أن منح العُلماء الكثير من الحُريَّة والتقدير، فقد منح مرةً أحد العُلماء مائة ألف درهم.[128]

في حكم هارون الرشيد ازدهرت مدينة بغداد وأصبحت مركز المعرفة، والثقافة والتجارة

اهتمامه بالرَّقَّة وبناء الرَّافقة[عدل]

كان الرَّشيد يهوي مدينة الرَّقَّة، والواقعة في الجَزيرة الفُراتيَّة، وكان أول اتصاله بها في صدر شبابه، وفي زمن أبيه الخليفة المِهْدِي حيث كان يُوليه بعض مهام الأمور في فترةٍ كان قد عقد لهُ فيها بالعهد من بعد أخيه الهادِي، فحينما كان يُشنّ الغارَّات والحملات الجِهاديَّة الصَّيفيَّة ضد الإمْبَراطُوريَّة البيزنطيَّة، كان ينطلق من طريق الرَّقَّة، وكان مُتعلقًا في ما يُعرف باسم الهَنِي والمَري، وهُما نهران بإزاء الرَّقَّة والرَّافِقة. حتى أنهُ حين تعرَّض الرَّشيد للتضييق من قبل أخيه الخليفة الهادِي، كان يقول ليَحيى البَرْمَكي في محاولة لخلع نفسه من ولاية العهد تحت ضُغوط أخيه: «إذا حصلتُ على الهَنِي والمَري، وخلوتُ بابنة عمِّي فلا أُريد شيئًا»، فجاوبهُ يَحيى: «وأين هذا من الخِلافة ؟ ولعلَّ ما تقدر أنه يبقى لك لا يبقى»، فما زال يُقنع الرَّشيد ويُمنيه حتى آلت إليه الخِلافة والهَنِي والمَري.[125]

لم تشتهر مدينة في التراث الإنساني الأممي، كما اشتهرت "بغداد" وأرتبط اسمها للأبد باسمي "ألف ليلة وليلة" و"هارون الرشيد" وباتا علامة حضارية كبرى في كل أرجاء المعمورة.
محسن مهدي[129]

اهتمَّ الرَّشيد ببناء الرَّافقة التي بناها أبُوه المِهْدِي، فعمَّر فيها قصرًا عظيمًا سماهُ قَصْرُ السَّلام، ثم بنى قصرًا خارج أسوار مدينة الرَّقَّة، وأسماهُ القَصْرُ الأبيض، وقد أنشد الشُّعراء بين قاعاتهِ وجمال جُدرانهِ الكثير من المدائح.[125] وقد أوعز لبعض المسؤولين المُقرَّبين منهُ إلى أن يبنوا قُصورهم بجانب قصرِه، فبنى بعضًا منهم، وجهزوها بكُل ما يلزم من وسائل الرَّاحة والتَّرف، كملاعب الصَّولجان، وحُقول الصَّيد، وسِباق الخيل، وموانئ السُّفُن والحرَّاقات، فازدهرت الرَّقَّة لبنائه الحدائق المُزدهرة على ضفتي الفُرات، وأصبحت من المُدُن التي يُشهد بجمالها.[130] وقد أقام الرَّشيد بها في أوائل سنين حُكمه، وتحديدًا في سنة 173 هـ / 790 م، حيث ارتحل من العاصِمة التقليديَّة بَغْدَاد نحو الرَّقَّة، كما شقَّ لها نهرًا من الفُرات، واشترى مياه قُرى سُروج من أصحابها، ولا تزال آثار مجرى النهر باقية شمال غربيَّ الرَّقَّة المُعاصِرة. كان مُعجبًا لعُذوبة هوائها في الصَّيف، فهي ألطفُ مناخًا من بَغْدَاد وأقلُّها حرًا، وكانت الرَّقَّة بمثابة موقع استراحته سواءً في طريقه إلى غزوةٍ أو حجَّةٍ.[131]

جابر بن حيان نال دعم الرشيد وأسس وطلابه منهج التجربة في العلوم

اهتمامه بالعلماء والأدباء[عدل]

كان الرشيد مثقفا ثقافة عربية واسعة وكان يملك أدبًا رفيعًا وتذوقًا للشعر، لذلك قيل: كان فهم الرشيد فهم العلماء. وكانت مجالسه تملأ الشعراء والعلماء والفقهاء والأطباء والموسيقيين، [132] وكان كثيرًا ما يناقش العلماء والأدباء، كذلك كان ينقد الشعر والشعراء. كان يقول: «البلاغة، التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل على المعنى»، [133] قال عنه الذهبي: «وكان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لا سيما إذا وعظ» ويقول الخطيب البغدادي: «وكان يحب الفقه والفقهاء، ويميل إلى العلماء»، [134] ومن أشهر الأدباء الذين عاصروا الرشيد وحضروا مجالسه الشاعر أبو العتاهية وأبو سعيد الأصمعي. ومن علماء الدين الذين عاشوا في عصره الإمام الشافعي صاحب المذهب الشافعي والإمام مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي في الفقه الذي التقى بالرشيد حين قصد الخليفة منزله بالمدينة المنورة وقرأ عليه الإمام كتاب الموطأ[135] وعلى الصعيد العلمي، دعم الرشيد عالم الكيمياء المشهور جابر بن حيان وأسس وتلامذته منهج التجربة في العلوم.[136]

كان العلماء يبادلونه التقدير، روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: (ما من نفس تموت أشد علي موتًا من أمير المؤمنين هارون، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره)، فقال في ذلك أحد أصحاب الفضيل: (فكبر ذلك علينا فلما مات هارون الرشيد وظهرت الفتن، وكان من ذلك في عهد المأمون عندما حمل الناس على القول بخلق القرآن قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم).

سياسته الخارجية[عدل]

الإمبراطورية البيزنطية[عدل]

الممالك الأربعة الكبرى في عام 800م: الدولة العباسية وعاصمتها بغداد (لون أخضر)، والدولة الأموية (أخضر فاتح) في الأندلس إمارة قرطبة، والكاروليجية (بنفسجي)، والدولة البيزنطية (بني).

كانت علاقة الرشيد بالإمبراطورية البيزنطية علاقة حرب وعداء كما كانت على عهد أبيه وجده، ولقد واصل هارون الرشيد استكمال تحصينات ثغوره المتاخمة للدولة البيزنطية، وأقام منطقة جديدة بين شمال الجزيرة وشمال بلاد الشام، أطلق عليها اسم منطقة العواصم، وجعل قاعدتها مدينة منبج في شمال شرق حلب، ورتب فيها جيشًا دائمًا، كذلك اهتم بمنطقة الثغور الشامية التي على الحدود بين آسيا الصغرى وسوريا؛ فعمّر فيها طرسوس وأضنة وعين زربه (ناورزا)، كما أقام فيها حصونًا جديدة، مثل حصن الهارونية بين مرعش وعين زربه، اهتم الرشيد بمناطق الثغور وولى عليها ابنه الثالث أبا القاسم الملقب بالمؤتمن، كذلك اهتم الرشيد بتقوية الجيش العباسي حتى صار من أقوى جيوش العالم في ذلك الوقت، ثم وجه الحملات المتكررة على المواقع البيزنطية في آسيا الصغرى.[137]

كانت شهرة هارون الرشيد قبل الخلافة تعود إلى حروبهِ ضد الروم، فلما ولي الخلافة استمرت الحروب بينهما، وأصبحت تقوم كل عام تقريبًا. واضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت إيريني ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة 181 هـ، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم نقفور الأول، الذي خلف إيريني في سنة 186 هـ [138]، وكتب إلى هارون: «من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ (القلعة في الشطرنج)، وأقامت نفسها مقام البَيْدق (الجندي في الشطرنج)، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أمثالها إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وأفتدِ نفسك بما يقع به المبادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك».

فلما قرأ هارون هذه الرسالة غضب غضبًا شديدًا ورد عليها برسالة مماثلة قال فيها: «من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام». خرج هارون الرشيد على رأس جيش كبير بلغ تعداده 135 ألفًا، سوى الأتباع والمطوعة وتوغل في آسيا الصغرى حتى وصل هرقلة عاصمة كورة بيثينيا فحاصرها واستولى عليها عنوة سنة 806 م، وأعقب ذلك توجيه حملات متلاحقة بقيادة كبار قواده، أمثال داود بن عيسى وشراحيل بن معن بن زائدة ويزيد بن مخلد، هزمت جيوش البيزنطيين ودمرت حصونهم، واضطر الإمبراطور نقفور أن يتناسى خطابه ويعترف بهزيمته ويتعهد بدفع الجزية من جديد وفي ذلك يقول الطبري: «وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية عن رأسه وولي عهده وبطانته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ابنه استبراق (هوستوراكيوس) بدينارين كما تعهد بأن لا يعيد ترميم الحصون التي دمرها الرشيد».

ويبدو أن الضربات التي وجهها الرشيد إلى الدولة البيزنطية كانت عنيفة وحاسمة، بدليل أنها لم تحاول الاستفادة بعد ذلك من الفتنة التي دبت بين الأمين والمأمون في استعادة ما فقدته في عهد الرشيد.[139]

الإمبراطورية الرومانية المقدسة[عدل]

Plan of the Kuyunjik mound in Nineveh
(يَمين) هارون الرَشيد يَستقبِلُ وَفد شارلمان، بريشة يوليوس كوكرت، 1864، قصر ماكسيمليانوم. (يَسار) شارلمان يَستقبِلُ وَفد هارون الرشيد، بريشة ياكوب يوردانس، 1665، متحف اللوفر.

اشتهرت شخصية الرشيد في أوروبا نتيجة لعلاقته الودية مع إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة شارلمان (768 - 814 م)، بودلت بينهما السفارات، والبعثات الدبلوماسية المتنوعة كما وردت في الحوليات الملكية الكارولنجية "Carolingian Royal Annales" في المدة التي بين 797 - 806 م، أرسل شارلمان ثلاث سفارات مختلفة إلى البلاط العباسي في بغداد وفي المقابل أرسل الرشيد بعثتان تجاريتان على الأقل إلى أوروبا، [140] ففي عام 801 م وصلت أولى البعثات العباسية إلى بيزا بشمال إيطاليا[141] تبعتها سفارة ثانية إلى آخن بألمانيا[141] ولا شك أن المصالح السياسية كانت وراء هذا التفاهم الودي بين الملكين، فقد أراد شارلمان من وراء هذا الحلف أن يضعف من نفوذ إمبراطور الدولة البيزنطية، واستغل الرشيد هذا الحلف ضد أعدائه البيزنطيين والأمويين في الأندلس على السواء.[142]

كانت تلك البعثات المتبادلة بين الملكين مرفقة عادة بالهدايا الوافرة وقد اختار شارلمان المنتجات القيمة من أقمشة ملكية فاخرة وأرسلها مع سفرائه إلى الرشيد، أراد شارلمان توسيع صادرات الأقمشة من فرنسا إلى أراضي الدولة العباسية، وبالتالي تعزيز التجارة في مملكته، ورد عليها الرشيد بأن أرسل إلى شارلمان عطورًا وأقمشة وفيلًا ولوحة شطرنج وساعة مائية، كما عرض عليه الخليفة أن يكون حاميًا للأماكن المسيحية المقدسة في بيت المقدس.[140]

ساعة الرشيد وشارلمان[عدل]

الساعة المائية التي أرسلها الرشيد إلى شارلمان عام 807

يذكر أن الساعة المائية التي أرسلها الرشيد إلى شارلمان، مصنوعة من النحاس الأصفر بارتفاع نحو أربعة أمتار وتتحرك بواسطة قوة مائية، وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد من الكرات المعدنية يتبع بعضها البعض الآخر بحسب عدد الساعات فوق قاعدة نحاسية؛ فتحدث رنينًا جميلًا في أنحاء القصر الإمبراطوري، كانت الساعة مصممة بحيث يفتح باب من الأبواب الإثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة، ويخرج منه فارس يدور حول الساعة ثم يعود إلى المكان الذي خرج منه، وعندما تحين الساعة الثانية عشر يخرج اثنا عشر فارسًا مرة واحدة، يدورون دورة كاملة ثم يعودون من حيث أتوا، وتغلق الأبواب خلفهم، أثارت الساعة دهشة الملك وحاشيته، واعتقد الرهبان أن في داخل الساعة شيطان يسكنها ويحركها، وجاؤوا إلى الساعة أثناء الليل، وأحضروا معهم فؤوسا وحطموها إلا أنهم لم يجدوا بداخلها شيئا سوى آلاتها، وقد حزن الملك شارلمان حزنًا بالغًا، واستدعى حشدًا من العلماء والصناع المهرة لمحاولة إصلاح الساعة وإعادة تشغيلها، لكن المحاولة فشلت، فعرض عليه بعض مستشاريه أن يخاطب الخليفة هارون الرشيد ليبعث فريقًا عربيًا لإصلاحها، فقال شارلمان «إنني أشعر بخجل شديد أن يعرف ملك بغداد أننا ارتكبنا عارًا باسم فرنسا كلها»[143]

غير أن السفارات المتبادلة بين الرشيد وشارلمان قد ذكرت في المصادر الأوروبية فقط، ويرجع بعض المؤرخين الأوروبيين أمثال بارتولد وبروكلمان أن بعض التجار العرب الذين ذهبوا إلى مدينة إكس لاشابيل (آخن) قاعدة شارلمان، انتحلوا صفة السفراء الناطقين باسم الرشيد لدى شارلمان من غير تفويض، ولهذا لم يرد ذكرهم في المراجع العربية، وكان اعتماد الجانبين في أداء هذه المهام الدبلوماسية على العلماء والفقهاء في أغلب الأحيان.[142]

المغرب والأندلس[عدل]

أما عن سياسة الرشيد نحو المغرب والأندلس، فكانت تقوم على سياسة الاعتراف بالأمر الواقع في تلك البلاد وعدم الخوض في مغامرات غير مأمونة العواقب كما فعل أبوه المهدي وجده المنصور، ولهذا، اكتفى بمحالفة جارهم القوي شارلمان، كما أقام في أفريقية دولة مستقلة في نطاق التبعية للخلافة العباسية وهي دولة الأغالبة، التي كانت بمثابة ثغر عباسي أو دولة حاجزة لحماية أطرافه الغربية من أخطار الخوارج، والأدارسة، والأمويين، فضلًا عن البيزنطيين، ولم يلبث إبراهيم بن الأغلب مؤسس هذه الدولة أن شرع في بناء مدينة جديدة على بعد ثلاثة أميال جنوبي القيروان سماها العباسية، وجعلها قاعدة لإمارته سنة 800 م - 183 هـ.[139]

أسرته[عدل]

صورة لتمثال هارون الرشيد في سوريا

تزوج الرشيد زبيدة بنت جعفر وهي ابنة عمه. ورغم أن الرشيد قد تزوج أكثر من امرأة إلا أن زبيدة كانت أهم الزوجات لديه. ومن زوجاته أيضا أمة العزيز وأم محمد ابنة صالح المسكين بنت عمه سليمان بن أبي جعفر، وتزوج أيضا ابنة عبد الله التي تعود بالنسب إلى عثمان بن عفان وتلقب الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، ومن زوجاته أيضا عزيزة بنت صالح وهي بنت خاله أخو أمه الخيزران. هذا بخلاف الجواري ملك اليمين، حيث كان وجود الجواري والحظايا أمرًا معروفًا في ذلك الوقت، وخاصة عند الملوك والأمراء وكبار القوم.[144]

ولد لهارون الرشيد عشرة أبناء واثنتا عشر بنتًا. أما الأبناء فهم: محمد الأمين من زوجته زبيدة، وعبد الله المأمون من جارية فارسية اسمها مراجل، والقاسم بن الرشيد وأمه قصف، وأبو إسحاق محمد المعتصم بالله ووالدته تركية اسمها ماردة خاتون، وأحمد السبتي وعلي من زوجته أمة العزيز، وصالح من جارية اسمها رثم، ومحمد أبو يعقوب ومحمد أبو عيسى ومحمد أبو العباس ومحمد أبو علي وهؤلاء من أمهات أولاد.

أما بنات الرشيد فهن: سكينة أخت القاسم، وأم حبيبة أخت المعتصم من ماردة خاتون، وأروى وأم الحسن وحمدونة وفاطمة وأمها عفص، وأم سلمة وخديجة وأم القاسم رملة وأم علي وأم الغالية وريطة وكلهن من أمهات أولاد.[145]

صفاته[عدل]

محراب من جامع الخاصكي في بغداد. بُنِي المحراب من قبل الخليفة العباسي هارون الرشيد في عام 192 هـ بعد أن أُعِيدَ بناء المسجد. معروض في المتحف العراقي ببغداد

كان من أنبل الخُلفاء، وأحشم الملوك، ذا حجًّ وجهاد، وغزوٍ وشجاعةٍ ورأي. وكان أبيض طويلاً، جميلاً، وسيماً، إلى السَّمن، ذا فصاحة وعلمٍ وبصرٍ بأعباء الخلافة، وله نظر جيد في الأدب والفقة، قد وَخَطَه الشَّيب. قيل: إنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق بألف، وكان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لا سيما إذا وُعِظ. وكان يحب المديح، ويجيز الشعراء، ويقول الشعر. وقد دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ، فبالغ في إجلاله، فقال: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك، ثم وعَظَهُ، فأبكاه. ووعظه الفُضَيل مرةً حتى شهق في بكائه.[146]

الإرث الثقافي[عدل]

ألف ليلة وليلة[عدل]

هارون الرشيد كما رسم في كتاب ألف ليلة وليلة

في معظم حكايات ألف ليلة وليلة“ يقدم الخليفة العباسي هارون الرشيد في صورة الأمير الضجر الذي يطلب السلوى فيأتيه وزيره جعفر البرمكي ببعض رواة العصر وسمّاره، مثل الأصمعي وأبي نواس وإسحاق الموصلي، يروون له أغرب ما سمعوا أو شهدوا من القصص والأخبار، أو يدفعه الأرق إلى التماس السلوى بالطواف ليلاً في أنحاء العاصمة العباسية، وتفقد أحوال الرعية.

وعندئذ يقدم إلينا الرشيد وقد تنكر في زي التجار، وتنكر معه بعض رفاق سمره وضجره الذين يلازمونه، مثل وزيره جعفر وسيافه مسرور، ومغنيه إسحاق وغيرهم، وعندئذ يطوف الجميع معًا أحياء بغداد، فتسوقهم المقادير إلى بقعة أو منزل يقعون فيه على أغرب المشاهد، ويسمعون أغرب القصص والروايات.

ومن القصص التي نسبت إلى عصر الرشيد قصة السندباد البحري الشهيرة وسفراته السبع. أما القصص التي اتخذ لها الرشيد بطلًا فهي عديدة منها قصة “قوت القلوب” الجارية الحسناء التي شغف بها الرشيد، ومنها قصة الرشيد مع خليفة الصياد، وقصته مع البنت العربية التي أنشدت أبياتًا أعجب بها، ثم طلب منها تغيير القافية واستبقاء المعنى، فغيرتها مرارًا في مقطوعات عجيبة فأعجب بها وتزوجها.

وثمة طائفة أخرى من القصص لا يبدو فيها الرشيد بطل القصة الأصلي، ولكنه يكتشف هذا البطل أثناء طوافه في أحياء بغداد، ومن هذه القصص قصة الشاب العماني الذي أضاع ثروته على الغواني وقصة محمد بن علي الجوهري. وفي مناسبات أخرى يستمع الرشيد إلى سمّاره وندمائه مثل الأصمعي وإسحاق حتى يصيبه الأرق.. وهكذا نجد الرشيد في “ألف ليلة وليلة” بطلًا من أبطال القصة، أسبغت عليه الصفات المبهرة والتي أسبغت على أبطال «ألف ليلة وليلة» الخياليين.

الخليفة العبَّاسِي هارُون الرَّشيد، بريشة جُبران خَلِيل جُبران.

في معظم هذه القصص نرى شخصية الرشيد تحتفظ بكثير من صفاتها التاريخية المعروفة من الجود والتواضع والنبل والفروسية وشغف البذخ والتقى والورع وحب العلماء والعلم وغيره مما تؤيده المصادر التاريخية الحقة، بيد أن طائفة أخرى من الوقائع والصفات المبتكرة نسبت إلى الرشيد لكي تستكمل صورة بطل القصة الحقيقي.

والحق أن كتاب «ألف ليلة وليلة» قد أسبغ على هارون الرشيد وعصره روعة وشهرة وبهاءًا لم تزده القرون إلا تخليدًا ورسوخًا، وقد أثرت هذه الصورة في الآداب الغربية التي ترجم إلى لغاتها الكتاب، حيث بات هارون الرشيد أشهر الخلفاء المسلمين على الإطلاق في الغرب الذي تعرّف إليه من خلال قصص «ألف ليلة وليلة».[147][148]

هارون الرشيد في السينما والتلفاز[عدل]

جسدت شخصية هارون الرشيد في عدة أعمال تلفازية منها:

من أقواله[عدل]

  • يا أيتها الغمامة أمطري حيث شئتِ، فإن خراجكِ لي.
  • من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.. إن الجواب ما ترى، لا ما تسمع.
  • من شاور كثر صوابه.
  • كل ذهب وفضة الأرض لا يبلغ ثمن نخلة في البصرة.
  • يقول أبو عبد الله محمد بن العباس المصري سمعت هارون الرشيد يقول: طلبت أربعة فوجدتها في أربعة. طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث.[149]
  • انقل المعركة إليهم، ولا تدعهم يحضرونها إليك.[150]

انظر أيضًا[عدل]

مراجع[عدل]

فهرس المنشورات[عدل]

  1. ^ غير معروف (1835). "Абу-Обеида". Энциклопедический лексикон. Том 1, 1835 (بالروسية). 1: 55. QID:Q28070966.
  2. ^ سير أعلام النبلاء ط الرسالة ج9 ص287 نسخة محفوظة 05 سبتمبر 2017 على موقع واي باك مشين.[وصلة مكسورة]
  3. ^ فتاوى إسلامية ج4 ص487 نسخة محفوظة 12 أغسطس 2016 على موقع واي باك مشين.[وصلة مكسورة]
  4. ^ أ ب في التاريخ العباسي والأندلسي: أحمد مختار العبادي نسخة محفوظة 22 يناير 2020 على موقع واي باك مشين.
  5. ^ Audun Holme, Geometry: Our Cultural Heritage p. 150.
  6. ^ أ ب ت ث ج ابن الأثير (2004)، ص. 860.
  7. ^ كلوت (1997)، ص. 37.
  8. ^ أ ب عبد الحكيم (2011)، ص. 103.
  9. ^ كلوت (1997)، ص. 37 - 38.
  10. ^ أ ب ت كلوت (1997)، ص. 51.
  11. ^ عبد الحكيم (2011)، ص. 58.
  12. ^ الطبري (2004)، ص. 1654 - 1655.
  13. ^ الطبري (2004)، ص. 1654.
  14. ^ السيوطي (2003)، ص. 232.
  15. ^ أ ب عبد الحكيم (2011)، ص. 104.
  16. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 840 - 841.
  17. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 842.
  18. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 844.
  19. ^ كلوت (1997)، ص. 53.
  20. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 847.
  21. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 847 - 848.
  22. ^ أ ب ابن كثير (2004)، ص. 1531.
  23. ^ الطبري (2004)، ص. 1622.
  24. ^ أ ب ت ث الطبري (2004)، ص. 1625.
  25. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1532.
  26. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1533.
  27. ^ أ ب ت ابن الأثير (2005)، ص. 853.
  28. ^ الطبري (2004)، ص. 1632.
  29. ^ الطبري (2004)، ص. 1638.
  30. ^ الطبري (2004)، ص. 1639.
  31. ^ عبد الحكيم (2011)، ص. 107.
  32. ^ أ ب ت ابن الأثير (2005)، ص. 857.
  33. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1537.
  34. ^ الطبري (2004)، ص. 1646.
  35. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 857 - 858.
  36. ^ خليفة (1931)، ص. 62.
  37. ^ أ ب الخضري (2004)، ص. 100.
  38. ^ أ ب الطبري (2004)، ص. 1655.
  39. ^ أ ب ت ابن كثير (2004)، ص. 1538.
  40. ^ السيوطي (2003)، ص. 225.
  41. ^ كلوت (1997)، ص. 54.
  42. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 860.
  43. ^ كلوت (1997)، ص. 55.
  44. ^ الطبري (2004)، ص. 1656.
  45. ^ هدارة (1966)، ص. 33.
  46. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 863.
  47. ^ هدارة (1966)، ص. 33 - 34.
  48. ^ أ ب ت الدوسري (2016)، ص. 67.
  49. ^ الخضري (2003)، ص. 102.
  50. ^ أ ب ت ابن الأثير (2005)، ص. 864.
  51. ^ الطبري (2004)، ص. 1663 - 1664.
  52. ^ أ ب الخضري (2003)، ص. 103.
  53. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 874.
  54. ^ أ ب الذهبي (1996)، ج. 6، ص. 273.
  55. ^ كلوت (1997)، ص. 140.
  56. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1539.
  57. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 861.
  58. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 869.
  59. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 867.
  60. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 871.
  61. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 885.
  62. ^ عبد الحكيم (2011)، ص. 317.
  63. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 865.
  64. ^ الخضري (2003)، ص. 113 - 114.
  65. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1544 - 1545.
  66. ^ الخضري (2003)، ص. 114.
  67. ^ أ ب الخضري (2003)، ص. 115.
  68. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1545.
  69. ^ نصار (2002)، ص. 122 - 123.
  70. ^ ابن كثير (1990)، ج. 10، ص. 171.
  71. ^ نصار (2002)، ص. 123 - 124.
  72. ^ أ ب نصار (2002)، ص. 124.
  73. ^ نصار (2002)، ص. 127.
  74. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 872 - 873.
  75. ^ الطبري (2004)، ص. 1672.
  76. ^ عبد الحكيم (2011)، ص. 318 - 319.
  77. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 875.
  78. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 877.
  79. ^ أ ب الدوسري (2016)، ص. 73.
  80. ^ أ ب هدارة (1966)، ص. 36.
  81. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 876.
  82. ^ هدارة (1966)، ص. 41.
  83. ^ العبادي (1988)، ص. 88.
  84. ^ أ ب ت الدوسري (2016)، ص. 69.
  85. ^ العبادي (1988)، ص. 81 - 82.
  86. ^ أ ب العبادي (1988)، ص. 82.
  87. ^ أ ب ت العبادي (1988)، ص. 84.
  88. ^ العبادي (1988)، ص. 83.
  89. ^ الدوسري (2016)، ص. 70.
  90. ^ الدوسري (2016)، ص. 70 - 71.
  91. ^ أ ب الدوسري (2016)، ص. 71.
  92. ^ الدوسري (2016)، ص. 74 - 75.
  93. ^ العبادي (1988)، ص. 86 - 87.
  94. ^ العبادي (1988)، ص. 87.
  95. ^ العبادي (1988)، ص. 89.
  96. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 878.
  97. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 881.
  98. ^ الطبري (2004)، ص. 1713.
  99. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 882.
  100. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 884 - 885.
  101. ^ العبادي (1988)، ص. 91.
  102. ^ حسن (1996)، ج. 2، ص. 46.
  103. ^ أ ب ابن الأثير (2005)، ص. 880.
  104. ^ أ ب الخضري (2004)، ص. 126.
  105. ^ كلوت (1997)، ص. 186.
  106. ^ العبادي (1988)، ص. 91 - 92.
  107. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 884.
  108. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 886.
  109. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 886 - 887.
  110. ^ أ ب ت ث ابن الأثير (2005)، ص. 887.
  111. ^ أ ب كلوت (1997)، ص. 203.
  112. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 889.
  113. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 907.
  114. ^ الدوسري (2016)، ص. 108.
  115. ^ (جِيل، جِيلان) قرية على شاطئ دِجلة تحت المَدائن، على بُعد (حوالي 40 كم) جنوبي بغداد، انظر : كتاب "جغرافية الباز الأشهب"، للدكتور جمال الدين فالح الكيلاني، الذي حقق فيه، مكان ولادة الشيخ عبد القادر الجيلاني وُقرر أنه في قرية (الجِيل) هذه، وهو تحقيق علمي قدمه الباحث في أطروحه أكاديمية، ص14.
  116. ^ كتاب الشيخ عبد القادرالكيلاني رؤية تاريخية معاصرة، د/جمال الدين فالح الكيلاني، ص24
  117. ^ ابن الأثير في الكامل ج9، ص43
  118. ^ محمد عبد الحي محمد شعبان، مقابر العباسيين، مجلة التراث، بغداد، 1966.
  119. ^ أحمد عطية الله، القاموس الإسلامي، القاهرة، 1966، مادة هارون الرشيد.
  120. ^ أ ب حسن (1996)، ج. 2، ص. 55.
  121. ^ أمين (2014)، ص. 44.
  122. ^ ليونز (2010)، ص. 86.
  123. ^ نوشيراوي (1985)، ج. 6، ص. 203.
  124. ^ السيوطي (2003)، ص. 227.
  125. ^ أ ب ت عياش (1989)، ص. 275.
  126. ^ عطا الله (1989)، ص. 29 - 30.
  127. ^ عطا الله (1989)، ص. 30.
  128. ^ بيت الحكمة (1989)، ص. 34.
  129. ^ كتاب ألف ليلة وليلة - ترجمة محسن مهدي، جامعة هارفارد، 2001، ص 455
  130. ^ عياش (1989)، ص. 276.
  131. ^ عياش (1989)، ص. 276 - 277.
  132. ^ هارون الرشيد، الخليفة الذي شوه تاريخه عمدا، منصور عبد الحكيم - دار الكتاب العربي ص113
  133. ^ الدولة العباسية تكامل البناء الحضاري - عيسى الحسن ص108 ISBN 978-6589-07-995-1
  134. ^ هارون الرشيد، الخليفة الذي شوه تاريخه عمدا، منصور عبد الحكيم - دار الكتاب العربي ص276
  135. ^ هارون الرشيد، الخليفة الذي شوه تاريخه عمدا، منصور عبد الحكيم - دار الكتاب العربي ص114 - ص128 - ص169 - ص192
  136. ^ جابر بن حيان.. مؤسس علم الكيمياء، مجلة الشندغة، 3 نيسان 2011. نسخة محفوظة 14 فبراير 2017 على موقع واي باك مشين.
  137. ^ في التاريخ العباسي والأندلسي: أحمد مختار العبادي ص91
  138. ^ إسلام أون لاين: هارون الرشيد.. والعصر الذهبي للدولة العباسية
  139. ^ أ ب في التاريخ العباسي والأندلسي: أحمد مختار العبادي ص92
  140. ^ أ ب Charlemagne, Muhammad, and the Arab roots of capitalism by Gene W. Heck p.179-181 نسخة محفوظة 27 فبراير 2017 على موقع واي باك مشين.
  141. ^ أ ب Gil, p.286
  142. ^ أ ب في التاريخ العباسي والأندلسي: أحمد مختار العبادي ص90
  143. ^ هارون الرشيد الخليفة الذي شوه تاريخه عمدا، منصور عبد الحكيم ص292
  144. ^ هارون الرشيد، الخليفة الذي شوه تاريخه عمدا، منصور عبد الحكيم - دار الكتاب العربي ص51
  145. ^ هارون الرشيد، الخليفة الذي شوه تاريخه عمدا، منصور عبد الحكيم - دار الكتاب العربي ص52
  146. ^ الرشيد، سير أعلام النبلاء، الحافظ الذهبي
  147. ^ الشحاذ، احمد محمد -- الملامح السياسية في حكايات ألف ليلة وليلة -- 1986 -- ص 431
  148. ^ ألف ليلة وليلة، بتحقيق محسن مهدي، ص 234
  149. ^ شرف أصحاب الحديث ج1: 55. {{استشهاد بكتاب}}: |عمل= تُجوهل (مساعدة) وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
  150. ^ العباسيون الأوائل، د.فاروق عمر، دار الارشاد، بيروت 1977 ج1 ص 54

فهرس الوب[عدل]

معلومات المنشورات كاملة[عدل]

الكُتُب العربيَّة مرتبة حسب تاريخ النشر
هارون الرشيد
فرع من بنو هاشم
ولد: 763 توفي: 809
ألقاب سُنيَّة
سبقه
الهادي
خليفة المسلمين
الخلافة العباسية

14 سبتمبر 786 - 24 مارس 809

تبعه
الأمين