انتقل إلى المحتوى

مستخدم:أبو العباس/ملعب 1

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أمير المُؤمنين
أبو جعفر المنصور
عبد الله بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلب الهاشِميُّ القُرشي
رسمٌ تخيُّلي للخليفة أبُو جعفر المنصُور

معلومات شخصية
الميلاد صفر 95هـ / نوفمبر 713م
الحميمة، جند الشراة، الخلافة الأمويَّة
الوفاة 6 ذي الحجَّة 158هـ / 6 أكتوبر 775م

(بالهجري:63 سنة و9 أشهر)

(بالميلادي: 61 سنة و 11 شهر)
مكة، الحجاز، الخلافة العبَّاسية
مكان الدفن مقبرة المعلاة، مكَّة المُكرَّمة، السعودية
الكنية أبو جعفر
اللقب المنصور
العرق عربي
الديانة مسلمٌ سُنيٌ
الزوج/الزوجة زوجاته:
أم موسى الحِميَريةحمَّادة بنت عيسىفاطمة بنت محمد التيمي
الأولاد جعفر الأكبرمُحمَّد المهديسليمان جعفر الأصغرصالح المسكينالعالية (للمزيد)
الأب مُحمَّد بن علي العبَّاسي
الأم سلامة بنت بشير البربريَّة
إخوة وأخوات إبراهيم الإمام أبو العبَّاس السَّفَّاح (للمزيد)
منصب
الخليفة العبَّاسي الثاني
الحياة العملية
معلومات عامة
الفترة 13 ذو الحجة 136 - 6 ذو الحجة 158هـ
(10 يونيو 754 - 6 أكتوبر 775م)
أبو العبَّاس السَّفَّاح
مُحمَّد المهدي
السلالة بنو العبَّاس

أميرُ المُؤمِنين وخليفةُ المُسْلمين سُلطان الله في أرضه أبُو جَعْفَر عبد الله المَنْصُور بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلب الهاشميُّ القُرشي (صفر 95 - 6 ذو الحجَّة 158هـ / نوفمبر 713 - 6 أكتوبر 775م) المعرُوف اختصارًا بكنيته ولقبه معًا أبُو جَعْفَر المَنْصُور أو المَنْصُور، هو ثاني خُلفاء بني العبَّاس، والخليفة الواحد والعشرون في ترتيب الخُلفاء بعد النَّبي مُحمَّد. بُويع المنصُور بالخلافة في 13 ذو الحجَّة 136هـ / العاشِر من يونيو 754م، بعد وفاة أخيه أبي العَبَّاس السَّفاح، واستمر خليفةً لما يزيد عن 21 عامًا حتى وفاته.

وُلد عبد الله بن مُحمَّد المعرُوف لاحقًا بكنيته أبو جعفر في قرية صغيرة تدعى الحُمَيمة، في جند الشراة الشَّاميَّة، وتلقى تعليمًا كثيفًا منذ صغره، فعُرف بالفصاحة والبلاغة ومعرفة الشعر، وكان لتعلُّم الفقه والسُّنن نصيبٌ وافر في مسيرته لكونه ينتمي لأسرة مسلمة مُحافظة على صلة بالنبي مُحمَّد، فهو من ذرية الصَّحابي عبد الله بن عبَّاس. بعد أن اشتد عوده، دخل أبو جعفر في سلك الدَّعوة العبَّاسية السِّريَّة التي أسسها والده مُحمَّد بن علي بهدف الإطاحة بحكم بني أميَّة، فنشط بها وتجوَّل داعيًا بين الأمصار إليها فزار البصرة والموصل ومكَّة والقيروان ودمشق وغيرها من المُدُن، فاكتسب الخبرة في معرفة الناس وأحوالهم وعرَّكته الأيام، إلا أن العيون والأرصاد الأمويَّة قد لاحقته، فاضطَّر للتنقُّل كثيرًا وكان يُخفي هويته حفاظًا على حياته.

تعمَّق أبو جعفر في الدَّعوة ومعرفة أسرارها حين تولى أخوه إبراهيم الإمام وراثة الدَّعوة بعد وفاة والدهما سنة 124هـ / 742م، وفي عهده ظهرت الدَّعوة في خُراسان بقيادة أبي مُسلم سنة 129هـ / 747م وبدأ يجند الأجناد ويقود الحملات والخطط للسيطرة على خُراسان وما جاورها، إلا أن الشُّرطة الأمويَّة تمكنت من القبض على إبراهيم لمواجهة الدَّعوة. تولَّى أخوه أبو العبَّاس إمامة الدَّعوة بوصية من أخيهما الأكبر إبراهيم، وفي وقته تمكن من الخروج بأسرته مع أبو جعفر نحو الكوفة سرًا اثر انطلاق الثَّورة العبَّاسية بقيادة أبي مُسلم واستيلائه على خُراسان وبلاد فارس التَّاريخيَّة، ومن ثم، يتمكن القائد قحطبة بن شبيب الطَّائي من فتح العراق والسيطرة على الكوفة تمهيدًا لإعلان تأسيس الخلافة العبَّاسية منها.

بُويع السَّفَّاح في الكوفة كأول خليفة من بني العبَّاس في صفر 132هـ / سبتمبر 749م، ووكَّل أبو جعفر بأخذ البيعة عنه. بعد هزيمة مروان بن محمد آخر خُلفاء بني أميَّة في وقعة الزَّاب وهروبه حتى مقتله في مصر، استولى العبَّاسيُّون على معظم البلاد الإسلاميَّة من ما وراء النَّهر حتى إفريقية. سافر أبو جعفر في مهمات رسميَّة من أخيه الخليفة، فالتقى بأبي مُسلم وعرض عليه مسائل خطيرة مثل خيانة الوزير أبو سلمة الخلاَّل، إلا أنه كره أبي مُسلم لما رأى منه عظمته في خُراسان مُشكلًا دولة داخل دولة، مهددًا بذلك سُلطة الخليفة نفسه. تولَّى أبو جعفر ولاية الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، فقاتل الخوارج وتمكن من دحر خططهم في الخروج عن سلطة الخلافة. قاد أبو جعفر مهمة حصار ابن هبيرة في واسط مدة 11 شهرًا، ومع أنه كان يريد تقديم الأمان له، إلا أن السَّفَّاح وبنصيحة أبي مُسلم أمر بقتله ناكثًا بذلك للعهد. كان السَّفَّاح مُعجبًا بأخيه أبو جعفر، ويرى فيه صفات القائد الحريص والحذر على شؤون البلاد، فعهد إليه بالخلافة من بعده.

تولَّى أبو جعفر الخلافة بعد ..

واجه أبو جعفر العديد من الثورات والتحديات ..

ونتيجةً لاهتمامه بالعِلم والعُلماء ..

بنى المنصُور عاصمته الجديدة بغداد ..

تُوفي المنصُور أثناء سفره للحج ..

يُعتبر المنصُور المُؤسس الحقيقي .. والجد الجامع للخُلفاء العباسيين من بعده ..

نشأته وتعليمه[عدل]

نسبه[عدل]

هو عبد الله المنصور بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالِب بن فهر بن مالك بن النَّضر بن كِنانة بن خُزَيمة بن مُدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

والدهُ هو الإمام مُحمَّد بن علي الحفيد المباشر للصَّحابي عبد الله بن عبَّاس، ويُصنف من التابعين، فقد كان عالمًا زاهدًا وأكبر أولاد أبيه علي بن عبد الله المعرُوف بالسَّجَّاد.[1]

والدتُه هي أمُّ ولد تُدعى سلامة بنت بشير من قبيلة صنهاجة البربريَّة من مدينة نفزة في إفريقية.[2][3][4][5][6] وقيل من مولَّدات البصرة.[7] اشتراها مُحمَّد بن علي بعد جلبها من نفزة، فحظيت لديه، وولدت له عبد الله أبو جعفر، فأعتقها ثم تزوَّجها.[8][9][10]

ولادته[عدل]

ولد عبد الله في شهر صفر سنة 95هـ / نوفمبر 713م على أصح الأقوال.[6][11][12][13][14][15] ويُقال أنه ولد في ذو الحجَّة سنة 95هـ / سبتمبر 714م،[16][17] وقيل بل ولد في سنة 101هـ / 720م،[18] أو في إحدى السنوات التالية 93 و94 و95هـ / 712 و713 و714م.[19]

أجمع معظم المُؤرخين أنه ولد في قرية صغيرة تُدعى الحُمَيْمَة، وهي من بلاد البلقاء الواقعة في جند الشراة الشَّامية.[6][14][20][21] وقيل بأنه ولد في إيذج قرب الأهواز.[22] نقل عن والدته سلامة قولها: «رأيتُ حين حملتُ به، كأنه خرج مني أسد فزأر، وأقعى على يديه، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له».[14]

وهو الولد الثاني بعد أخيه غير الشَّقيق إبراهيم. يُقال أن تسميته بعبد الله هو نتيجة وصيَّة من أبي هاشم إلى مُحمَّد بن علي قائلًا له:«.. وأعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد الله بن الحارثيَّة ثم عبد الله أخوه الذي أكبر منه ..»، ما جعل مُحمَّد بن علي يُطلق اسم عبد الله على كلا ولديه، إيمانًا منه بأن الخلافة ستؤول إلى أحدهما، وخوفًا من أن يموت أحدٌ منهما قبل أن يتم له الأمر، وبذلك يضمن ما تنبأت به الوصيَّة.[23] جاءت ولادة أبو جعفر عبد الله في السنة التي توفي فيها الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي والي العراق،[24] وفي آخر خلافة الوليد بن عبد الملك الأموي (حكم 86-96هـ / 705-715م).[25]

طفولته[عدل]

نشأ عبد الله والذي كنَّاه والده أبُو جعفر، في قرية الحميمة، وهي قرية صغيرة لم يكن لها شأنٌ يُذكر فيما مضى، إلا أن أمرها ظهر للوجود منذ أن نزلها جده، علي بن عبد الله بن عبَّاس بقرار من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، لسببين أساسيين، الأول هو زواج عليًا من لبابة بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهي ابنة عم هاشميَّة له، وكان ذلك مرفوضًا لدى الخليفة الوليد، لكونها كانت إحدى زوجات أبيه الخليفة عبد الملك بن مروان، واتهمه قائلًا: «انما تتزوج أمهات أولاد الخلفاء لتضع منهم»، وأما السبب الآخر فهو لأن عليًا كان يقول أن الخلافة ستكون في ولده، الأمر الذي جعل الخليفة الوليد يبقيه بالقرب منه تحت الإقامة الجبريَّة، إلا إن أراد القيام بالحج.[10][22][26] أصبحت الحميمة مقر عائلة بني العبَّاس، فازداد عيالهم وتكاثرت ذرية عليًا حتى ولد له نيف وعشرون ذكرًا. ومنذ أن انتقلت الإمامة من أبي هاشم عبد الله بن مُحمَّد بن الحنفيَّة إلى والد أبو جعفر، مُحمَّد بن علي، أصبحت الحميمة مركزًا مهمًا من مراكز الدَّعوة العبَّاسيَّة، وأخذ شأنها يزداد أهمية.[27]

رأى أبو جعفر في طفولته أو صباه منامًا ذكره لجلسائه حين أصبح خليفة، فقال: «رأيت كأني في المسجد الحرام وإذا رسُول الله صلَّ الله عليه وسلَّم في الكعبة والناس مجتمعون حولها، فخرج من عنده مناد فنادى: أين عبد الله؟ فقام أخي السَّفَّاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة فأخذ بيده فأدخله إياها، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود. ثم نودي: أين عبد الله؟ فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق، فسبقته إلى باب الكعبة فدخلتها، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر وعمر وبلال، فعقد لي لواء وأوصاني بأمته وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرون كورًا، وقال: خذها إليك أبا الخُلفاء إلى يوم القيامة».[14][28][29] ويُفسر المنام بأنه شبيهًا بالوحي، ويُبين عدد السنوات التي حكمها الأخوين أبو العبَّاس وأبو جعفر، وأن عبد الله بن علي طلب الخلافة فلم يصل إليها.[30] عُرف ببعض الألقاب في صباه وأيام نشأته مثل عبد الله الطَّويل كنايةً عن طوله،[4][31][32] ومُدرك التُّراب،[4][33] ومقلاص، وتعني النَّاقة التي تسمن في الصَّيف، وتهزل في الشتاء، وكذلك كان حال أبو جعفر فيهما.[34][35][36]

تعليمه[عدل]

درس أبو جعفر في أيام نشأته وصباه علومًا مُهمة كثيرة، منها علم النَّحو، واللُّغة العربيَّة، والتَّاريخ، وألم بسير السلف من المُلوك والأمراء، فنمت ذاكرته واتَّسعت مداركه. كان صحيح البنية، نشيط الحركة، حاد الذكاء وسريع الفهم، ميالًا لطلب العلم.[34][37] أولى أبو جعفر اهتمامًا في الأمور الدينيَّة، فقرأ القُرآن الكريم وتفهَّم معانيه، وسمع الأحاديث وتعلَّم السُّنن، وتعمَّق في الفُقه لاستنباط الأحكام والشَّرائع، وكان ذلك اعتياديًا حسب خلفيته العائليَّة، لكونه ينتمي لأهل دينٍ وورع وتقوى.[38][39] قال ابن سعد في طبقاته حول خلفية أبو جعفر الأسريَّة: «لقد أفضت الخلافة إليهم - للعبَّاسيين - وما في الأرض أحد أكثر قارئًا للقُرآن ولا أفضل عابدًا وناسكًا منهم بالحميمة».[40] حفظ أبو جعفر الكثير من الخُطب البليغة، والقصائد المُعبرة، والكثير من شعر العرب وسمع بعضًا من قصصهم، فنشأ فصيحًا، بليغ اللسان.[37][34] كان لأبو جعفر إلمامٌ واهتمام في علم الفلك والنُّجوم، وتنقَّل في سبيل العلم، باتجاه مدن عديدة اشتهرت بالعِلم، مثل البصرة، والكوفة، والموصل، فكان يحضر حلقات الدراسة في الأدب والفُقه، فتعلَّم على يد عدد من كبار العُلماء والفقهاء، مثل عالم اللُّغَة الخليل بن أحمد الفراهيدي، والأديب النَّحوي يونس بن حبيب، والمُحدث أزهر بن حبيب السمان، وغيرهم.[34][41] سمع الحديث ورواه عن جده وجده الأكبر الصَّحابي عبد الله بن العبَّاس، أن النبيِّ مُحمَّد كان يتختَّم في يمينه، وهو حديثٌ أورده الحافظ ابن عساكر.[14]

حياته ونشاطه في الدعوة[عدل]

شهد عبد الله والذي عُرف بكنيته أبو جعفر، أحداث الضَّعف التي دبَّت في أنحاء الخلافة الأمويَّة في آخر عهد خُلفائها الأقوياء وهو هشام بن عبد الملك (حكم 105-125هـ / 724-743م)، فقد بُويع ابن أخيه الوليد بن يزيد (125-126هـ / 743-744م) للخلافة من بعده، إلا أنه أساء السيرة وأفسد الحكم ولم يلبث خليفةً سوى سنة واحدة، فقد خُلع وقُتل بعد انقلاب ابن عمِّه يزيد بن الوليد عليه في 28 جُمادى الآخرة سنة 126هـ / 16 أبريل 744م، فثار أهل حمص، وتمرَّد أهالي فلسطين والأردن في نفس السنة، وبدأت البلاد تواجه ضعفًا متزايدًا وانقسامًا واسعًا في أنحائها.[42][43] لم يدم حكم يزيد للخلافة ولم تطل أيامه، فقد تُوفي بعد ستة شهور، ليخلفه أخوه إبراهيم بن الوليد في الحكم، إلا أن الأخير لم يحظى بالخلافة سوى لبضعة أسابيع، فقد شن قريبه مروان بن محمَّد (127-132 هـ / 744-750م) حملة عسكريَّة كبيرة نحو دمشق تمكن فيها من خلع ابن عمه إبراهيم، ليبايع للخلافة في سنة 127 هـ / 744 م، مواجهًا ثوراتٍ عديدة وأزمات مُتراكمة.[44][43]

عمله في الدَّعوة العبَّاسية[عدل]

بداية الدَّعوة وتطوُّر أحوالها[عدل]

كان علي بن عبد الله بن عبَّاس (40 حتى 118هـ / 660 - 736م) من المشهورين بالزُّهد والتعبُّد مما زاد من حُب الناس له حتى لُقب بالسجَّاد،[45][40] إلا أنه اصطدم بالبلاط الأموي لسببين، فالأول لكونه يجهر بأن الخلافة ستؤول إلى ذُريته لمن حوله، قائلًا: «إي والله لتكونن الخلافة في ولدي، ولا تزال فيهم إلى أن يأتيهم العلج من خُراسان فينزعها منهم»، والسبب الآخر هو زواجه من لبابة بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهي ابنة عم هاشميَّة له، لتكون تلك الأسباب مثيرة لغضب الخليفة الوليد بن عبد الملك الأموي (حكم 86-96هـ / 705-715م)، فجلده للمرة الأولى لأن لُبابة كانت طليقة والده الخليفة عبد الملك بن مروان (حكم 65-86هـ / 685-705م) مُتهمًا إياه بأنه يريد الحط من أولاد خُلفاء بني أميَّة بزواجه منها،[46] ولعلَّ السبب الآخر والأهم، فهو لأن علي كان يُصرح علنًا بأن الخلافة ستؤول إلى أولاده، ويحلف بالله قائلًا: «والله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون، العراض الوجوه، الذين كأن وجوههم المجانُّ المطرقة»، الأمر الذي جعل الوليد يأمر بجلده والطواف به على جمل وجسده مما يلي جسد البعير من الخلف، مُشهرًا به ومُنادى بكذبه، لأن تحقُّق كلامه قد يؤدي للإطاحة بحكم بني أميَّة حتى وإن كانت مجرد أقوال عابرة.[10][22][47] قرر الخليفة هشام بن عبد الملك (حكم 105-125هـ / 724-743م) قطع أرض الحميمة من جند الشَّراة لعلي وأولاده للسكن بها وإبقائهم تحت المُراقبة، بهدف إبعاده عن لقاء الناس وتكوين الأتباع، والحفاظ على علي وذريته قريبًا من العاصمة دمشق إذا بدرت منهم الأخطار، وقد بلغ عدد أولاده نحو عشرين ذكرًا.[48][49] توفي علي بن عبد الله في سنة 118هـ / 736م.[50]

بدأت الدَّعوة العبَّاسيَّة السريَّة من قبل مُحمَّد بن علي بعد أن انتقلت إليه إمامة الكيسانيَّة من قريبه أبُو هاشم عبد الله بن مُحمَّد بن علي بن أبي طالب اثر وفاته بالسُّم بأوامر من الخليفة سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ / 717م.[51][52][53][54][55] تمكن مُحمَّد بن علي من تنظيم أمور الدعوة وتطويرها وإرسال الدُّعاة والنُّقباء إلى مُختلف الأمصار، بهدف الإطاحة بخلافة بني أميَّة، وكان رجلًا بصيرًا ذو علمٍ بالنَّبوءات قائلًا: «لنا ثلاثة أوقات، موت يزيد بن معاوية، ورأس المئة، وفتق بإفريقيا، فعند ذلك يدعو لنا دُعاة، ثم يقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب».[53] وبالفعل، فقد تحققت أول إشارتين قبل إمامة مُحمَّد بن علي، وفي زمنه قُتل الوالي الأموي يزيد بن أبي مسلم الثقفي في إفريقية سنة 102هـ / 720م، ليتمكَّن البربر من السَّيطرة على المغربان الأوسط والأقصى في ثورةٍ عارمة خرجوا فيه عن طاعة بني أميَّة بين عامي 122 و125هـ / 739 و743م. وحين وجد الإمام مُحمَّد أن علامات النَّبوءة تحقَّقت، بعث بالدُّعاة إلى الكوفة، وخُراسان بهدف العمل على استقطاب المُناصرين والتبشير بالخلاص من الحُكم الأموي، لصالح خلافة من آل النَّبي مُحمَّد، وأخذ البيعة باسم الإمام المجهول من آل النبي دون تحديد هويته.[56][57] لم يعرف اسم الإمام إلا كبير الدُّعاة في الكوفة وخُراسان وعدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد.[58] على أن تنظيم الدَّعوة التي تبنَّاه العبَّاسيُّون كان على مبدأ اعتبارها حركة سياسيَّة إصلاحيَّة ترى في تولي آل البيت للخلافة سبيلًا لإنهاء الظُّلم والانحرافات لدى الأمويين، لا على أنها دعوة دينيَّة تُمثل مذهبًا عقديًا يجعل استحقاق آل البيت بالخلافة واجبًا دينيًا كالفرق الإسلاميَّة التي ظهرت بين أتباع العلويُّون عُرفت بالتشيُّع العقائدي لاحقًا، إذ عُرف عن الإمام مُحمَّد وبكير بن ماهان وسليمان بن كثير الخزاعي، وغيرهم من النُّقباء والدُّعاة يتبنون مفهوم أهل السُّنة والجماعة كعقيدة.[59][60]

دخوله في سلك الدَّعوة ونشاطه[عدل]

بعد أن كبر أبو جعفر واشتد ساعده، وكان قد نال حظًا جيدًا من العلم والمعرفة وقوة الشخصيَّة، ورأى والده منه ما يسرُّه، أفضى إليه أبوه ولأخوته وأسرته بأسرار الدَّعوة، فتشرَّب مبادئها، واستوعب أهدافها وأدرك خطورة الدور السياسي المُلقى على عاتق والده خاصة، والعائلة عامة. أصبح أبو جعفر أحد دُعاتها البارزين، واعتمد عليه والده على الرُّغم من صغر سنه، فأصبح بمثابة السفير المُتجول، فشدَّ الرحال، وأخذ يجوب الأمصار والبلدان، ويتصل بالدُّعاة والأعوان. تعرَّف أبو جعفر على أمور الدعوة وما آلت إليه وعلى خطير ما تهدُف إليه، فعرَّكته الأيام وازداد خبرة واطلاعًا بأحوال الناس. وحين أصبح في الثامنة عشرة من عمره، سافر إلى الموصل في رحلة استطلاعيَّة على أحوال الدعوة، واتصل بواليها الأموي الحر بن يوسف، فوصله وشكر له أبو جعفر ذلك، ثم عاد إلى الحميمة، ولم تكن هذه السفرة هي الوحيدة له إلى الموصل.[61]

هروبه من الأمويين ونشاطه في السَّواد[عدل]

بعد أن عاد أبو جعفر إلى الحميمة، وجد نفسه في ضائقة ماليَّة، فهداه تفكيره أن يعمل في بعض الأعمال، وربما لصرف الأنظار عن نشاطه السياسي، فاضطَّر وربما عن قصد، أن يعمل مع بعض ولاة بني أميَّة، فعمل في وظيفة شرطي لدى الوالي خالد بن عبد الله القسري براتب شهري مقداره 68 درهمًا، وكان عمره آنذاك لا يتعدى العشرين عامًا، بحدود سنة 115هـ / 733م. وعلى الرُّغم من قلة المعلومات حول مدة عمله، فإنه من المُؤكد أنه نشط بالدعوة، فجلب بنشاطه وتحرُّكاته الأنظار إليه، فارتاب الأمويُّون من تصرفاته، خاصةً وأنهم كانوا يراقبون نشاط بني العبَّاس ودعاتهم ووضعوهم تحت رقابة مُكثَّفة.[62]

خاف أبو جعفر انكشاف أمره، ظانًا بنفسه من أن يناله المكروه، فسافر متنكرًا إلى بلاد الجزيرة، وتسلَّل بين العيون والأرصاد، حتى وصل الموصل للمرة الثانية، فاستقر فيها واشتغل مع الملاحين في مدادي السُّفن مُتنكرًا وربما لأمرٍ خافه على نفسه. وبعد أن هدأت الأمور حينًا، تزوَّج امرأة كرديَّة،[63] وقيل أزديَّة،[64] إلا أنه لم يخبرها عن حاله خيفةً على أمره، حتى حملت بطفلهما، فقال لها أبو جعفر: «هذه رقعة مختومة عندك لا تفتحيها حتى تضعي ما في بطنك، فإن ولدت ابنًا فسميه جعفرًا وكنيه أبا عبد الله، وإن ولدت بنتًا فسميها فلانه، وأنا عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فاستري أمري، فإنا قومٌ مطلوبون والسُّلطان إلينا سريع»، فودَّعها وخرج. وبعد أن ولدت الطفل، سمته جعفرًا،[64] وعرف لاحقًا بابن الكرديَّة.[63][65]

غادر أبو جعفر إلى الكوفة قادمًا من الموصل، إلا أنه لم يمكث فيها طويلًا بسبب الرَّقابة الأمويَّة الشديدة على المدينة المُضطربة أحوالها، فعاد إلى مقر عائلته الحميمة، وقرر والده مُحمَّد إرساله إلى مدينة البصرة، في الجنوب من أرض السَّواد، بهدف نشر الدَّعوة واستكشاف أحوال الناس، فوصلها واستقرَّ فيها،[66] واتصل بعلمائها ومفكريها البارزين من أمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي، ويونس بن حبيب، والتقى بعمرو بن عبيد المُعتزليُّ الزَّاهد، ووطد صداقة معه،[67] وحضر الكثير من حلقات المُحدِّث أزهر بن سعد السمان، إلا أنه لم يلبث فيها طويلًا، فقد عاد أدراجه إلى الحميمة، فالتقى بوالده وقدم له تقريرًا شاملًا بصفته إمام الدَّعوة، ونقل إليه وضع الأهالي وخصوصًا الموالي وما هم عليه من التذمُّر والسخط تجاه الحكم الأموي، خاصة أنها كانت تمر في فترة حرجة من تاريخها، فاستبشر أبوه بذلك خيرًا.[68]

مهمته إلى إفريقية وزواجه من الحِميَريَّة[عدل]

اعتمد عليه أبوه وأعجب بنشاطه وقدرته على التناغم مع الأحداث، وقرر انتدابه دونًا عن سائر إخوانه للسفر إلى إفريقية (تونس المُعاصرة) لجلب ابنة أحد أقاربه الذين توفوا لرعايتها، وهي فرصة لأبو جعفر للتخفي عن العيون والأرصاد الأمويَّة المُكثَّفة في قلب دولة الخلافة، ودراسة وضع الأهالي في الولايات على طول الطريق، وربما يتمكن من نشر الدعوة وجمع المؤيدين والأنصار فيها.[69] يرى الباحث العراقي حسن فاضل العاني، أن اختيار أبو جعفر كان مقصودًا لخبرته الواسعة في التنقُّل ومخالطته الناس في مدن مُتفرقة، بالإضافة لكون والدته سلامة بنت بشير بربريَّة من إفريقية، مما سيجعل مهمته أقل صعوبةً لوجود أخواله فيها.[70]

وصل أبو جعفر في مهمة خاصة إلى مدينة القيروان في أواخر سنة 123هـ / أواخر 741م، التقى أبو جعفر في أثناء سفرته بامرأة تدعى أُم مُوسى الحِميَريَّة، وكانت أرملة أحد أقاربه من ذرية عبيد الله بن العبَّاس، فتزوَّجها، وكان عمره نحو 28 عامًا وهي أم ابنيه جعفر الأكبر ومُحمَّد المهدي لاحقًا.[71][72] لم تكن مهمة أبو جعفر سهلة، فقد علمت الأرصاد الأمويَّة بتحرُّكاته وحاولت إلقاء القبض عليه في إفريقية، إلا أُفلت من قبضتهم بعد أن استخفى في قصر صهره منصُور بن عبد الله الحِميَري عند قصر بشير بطريق سوسة.[71] ويعتقد الباحث حسن العاني، أن أبو جعفر اتصل بعائلة الفهري السَّاخطة على الحكم الأموي في إفريقية، وخاصةً بعبد الرحمن بن حبيب الفهري الذي كان موجودًا في القيروان بعد أن أتاها مهزومًا بعد مقتل أبيه حبيب بن أبي عبيدة ضد الخوارج في سنة 123هـ / 741م، وهذا ما يُفسر موالاة ابن حبيب لاحقًا لخلافة بني العبَّاس حين تأسَّست وأعلن بيعته لها وانضوى تحت لوائها.[70]

عودته إلى الحميمة وزيارة الخليفة هشام[عدل]

بعد نهاية مهمة أبو جعفر التي جاء من أجلها، قرر الرحيل عن القيروان خوفًا من القبض عليه لطول إقامته فيها أكثر، فعاد أدراجه إلى الحميمة بعد شهور من ارتحاله. وجد أبو جعفر أهله في ضائقة ماليَّة شديدة، وكان أبوه الإمام قد بلغ من الكبر عتيًا، فضلًا عن ابتعاد الكثير من الناس عن زيارة بني العبَّاس خوفًا من اتهامهم بموالاتهم من عيون وأرصاد السُّلطات الأمويَّة، وكان ذلك تضييقًا ماديًا عليهم، ما أجبر الإمام محمَّد على شد الرحال باتجاه دمشق مع ولديه عبد الله أبي العبَّاس، وعبد الله أبي جعفر، في زيارة للخليفة هشام بن عبد الملك في سنة 124هـ / 742م. تضاربت الروايات حول تفاصيل لقاء الإمام محمَّد بالخليفة هشام، فالرواية الأولى تقول أن الإمام محمَّد دخل متكئًا على ولديه وكان قد غشي بصره إلى مجلس الخليفة، فسلَّم ثم سأله الخليفة عن حاجته ولم يأذن له في الجلوس، فذكر قرابتهُ منه وحاجته، فقال له الخليفة: «ما هذا الذي بلغني عنكم يا بني العبَّاس، ثم يأتي أحدكم وهو يرى أنه أحق بما في أيدينا منا، والله لا أعطيتك شيئًا» وحين هم الإمام محمد للخروج، قال الخليفة هشام مُستهزئًا: «إن هذا الشيخ ليرى أن هذا الأمر سيكون لولديه هذين أو لأحدهما»، فالتفت إليه الإمام وقال: «أما والله إني أرى ذلك على رغم من رغم» فضحك هشام وخرجوا من عنده.[54][73]

وتشير الرواية الثانية إلى أن الخليفة هشام قال: «انتظر ابن الحارثيَّة»، ويقصد ولده إذا تمكن من الوصول للخلافة.[74] بينما تتحدث الرواية الثالثة بشكل أكثر يسرًا، فقد جاء إليه الإمام وسلَّم عليه وأوسع له هشام في سريره، ثم سأله عن حاجته، فشكى الإمام ديونًا عليه بثلاثين ألف درهم، فأمر الخليفة بقضائها، وطلب منه أن يستوصى خيرًا بابنيه، ففعل وشكره الإمام ثم حين همَّ بالمُغادرة، قال الخليفة لأصحابه: «إن هذا الشيخ قد اختلَّ وأسنَّ وخلط فصار يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده»، فسمع الإمام ذلك والتفت إليه قائلًا: «والله ليكونن ذاك، وليملكنَّ هذان»، في ختام مُشابه للرواية الأولى.[75] وعلى أية حال، فقد تركت تلك الحادثة أثرًا سيئًا في نفس أبو جعفر خاصةً إن صحَّت الروايات الأولى والثانية، ومع ذلك، فإنها قد هيئت له الفرصة للتعرف على البلاط الأموي أكثر.[76]

تولي أخيه إبراهيم شؤون الدعوة[عدل]

تُوفي الإمام محمَّد بن علي في الحميمة سنة 124هـ / 742م، بعد أن أوصى أتباع الدَّعوة بمُبايعة ابنه إبراهيم خلفًا له،[77][78][79] وكان أبو جعفر في الثلاثين من عمره، ومع أن وفاته قد آلمته، إلا أنه لم يتقاعس عن الاستمرار في خدمة الدَّعوة وأهدافها، لأن مصلحتها تقتضي بالضرورة تجاوزها بكل ما تحويه، فاندفع يعمل تحت أمرة أخيه الأكبر إبراهيم الإمام، فعرف الكثير من أسرار الدعوة وأحوال الدُّعاة،[80] في حين أن أخوه يحيى لم يحظى بمعرفة أمور الدَّعوة لعدم اطمئنان أخيه إبراهيم إليه، ونبَّه أتباعه حول قلة عقله وضعف رأيه.[81] توجَّه أبو جعفر لأداء شعائر الحج في مدينة مكَّة سنة 125هـ / أكتوبر 743م، وروي أنه التقى بشبيب بن شيبة التَّميمي، والذي أعجب به وعرَّفه أبو جعفر عن نفسه بعد أن اطمأن إليه واهتم لخدمته في ساحة الحرم، ودار بينهما حديثٌ طويل حول الدعوة ومآلها، وأن الدولة المنتظرة سيطلع شمسها ويظهر الخير بها، ومما قاله أبي جعفر: «فأما أنصار دولتنا ونقباء شيعتنا وأمراء جيوشنا، فهم ومواليهم معنا، فإذا وضعت الحرب أوزارها صفحنا للمحسن عن المسيء، ووهب للرجل قومه ومن اتصل بأسبابه فتذهب المثابرة وتخمد الفتنة وتطمئن القلوب» فأعجب به شبيب واستحسن كلامه ودعا له بالخير.[82]

ويظهر من هذا الحوار معرفة الناس لدعوة بني العبَّاس، ويُعلق الباحث العراقي فاضل العاني على الحديث قائلًا: «يتضح من هذه المحاورة أن الناس لم تكن غافلة عما يجري في الخفاء من الدعوة لبني العبَّاس، بل كانت هناك مؤشرات ودلائل، تؤكد قرب أفول نجم بني أميَّة، وبزوغ أمر بني العبَّاس، بعد أن عمَّت دعوتهم الأمصار، واستجاب لها الكثير من سكانها».[82][83] ويظهر في هذه الأوقات، أن أبو جعفر قد أصبح حلقة وصل رئيسة بين الدُّعاة وأخيه إبراهيم الإمام، فكان يلتقي بهم ويتعرف منهم على سير أعمالهم وما آلت إليه أمور الدَّعوة، وكان قد التقى ببعضهم في موسم الحج، بعيدًا عن الرَّقابة الأمويَّة.[84] تزامن أداء أبو جعفر للحج، بدء الصراعات في حاضرة الخلافة دمشق وازدياد الثَّورات في طول البلاد وعرضها، بعد وفاة الخليفة هشام بن عبد الملك في 6 ربيع الآخر 125هـ / 6 فبراير 743م، وتولي وليُّ العهد ابن أخيه الوليد بن يزيد الحكم خلفًا له، والذي أساء السيرة وطُعن في أخلاقه.[85]

دعمه لثورة عبد الله بن معاوية الجعفري[عدل]

في خلافة يزيد بن الوليد الأموي، قرَّر عبد الله بن مُعاوية حفيد جعفر بن أبي طالب الهاشمي، الثورة في وجه بني أميَّة من مدينة الكوفة مُطالبًا بالخلافة لنفسه في سنة 127هـ / 744م، فدعا النَّاس لمُبايعته ولبس الصُّوف وأظهر صفات الخير، وكان شاعرًا ظريفًا من بني هاشم، إلا أنه تجادل المُؤرخون في أخلاقه وسيرته، إلى الحد الذي رُمي فيه بالزَّندقة.[86] اختلفت الروايات حول مسار ثورته، إلا أن الرَّاجح أنه اجتمع إلى ابن مُعاوية القليل فقط من أهل الكوفة، بسبب رفض الأغلبيَّة مُبايعته قائلين: «ما فينا بقيَّة، فقد قُتل جمهورنا مع أهل هذا البيت - يقصدون بنو أميَّة -»، فتحرَّك نحو فارس وعرض عليهم أمره، فبايعوه، واجتمع تحته عددًا كبيرًا من الرجال، فسيطر على منطقة كبيرة تشمل الكوفة، وحُلوان، وهمذان، وقُم، والرَّي، واتَّخذ من أصبهان قاعدةً له، وأرسل بالكُتُب إلى الأمصار يدعوهم لمُبايعته على الخلافة.[86][87]

توجَّه بنو هاشم إلى ابن مُعاوية داعمين لثورة ابن مُعاوية، وعلى رأسهم أبي العبَّاس، وأخيه أبي جعفر، وعمهما عيسى بن علي، بالإضافة إلى وجوه بني أميَّة، ومنهم سليمان بن هشام بن عبد الملك، فاستعان بهم ابن مُعاوية في أعماله، وعيَّن أبو جعفر على كورة إيذج في الأهواز، وكان عمره 32 سنة، إلا أن أبو جعفر لم يحمل له شيئًا من المال.[88][31][86] وجد أبو جعفر في انضمامه لهذه الثَّورة مُتنفسًا لما كان يعانيه من تعسُّف الأمويين وملاحقتهم المستمرة، ولا يستبعد أن يكون انضمامه ومن معه من أعمامه من أجل تحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى لصالح الدَّعوة العبَّاسيَّة، خاصةً وأنه في هذه الأثناء كانت خُراسان (أهم وجهة للدَّعوة) تغلي على فوهة بركان، وأنها على وشك الانفجار، وربما أرادت الدَّعوة انتزاع قيادة الثورة من ابن مُعاوية، إلا أن ثورة ابن مُعاوية فشلت وتفرَّق الناس عنه.[89] بقي ابن مُعاوية مُقيمًا في النواحي التي سيطر عليها، حتى وجَّه إليه الخليفة الأموي مروان بن محمَّد جيشًا كثيفًا بقيادة عامر بن ضبارة، فهزم ابن مُعاوية وتمكن الأخير من الهرب مع إخوته إلى خُراسان، بعد أن جهر أبُو مُسلم الخُراساني بالدَّعوة العبَّاسية في رمضان سنة 129هـ / يونيو 747م،[90][91] إلا أن الأخير قرر حبس ابن مُعاوية ودبَّر قتله لِما ظهر منه من إفساد أمر الدَّعوة، بعد أن كتب لأبي مسلم رسالة يذكره فيها بالآخرة وأن يعيد التفكير بأمره وشأنه، فقتله ثم أخلى سبيل إخوته.[92][91]

القبض عليه في الأهواز وسجنه[عدل]

في إحدى الأيام التي كان يتنقَّل بها أبا جعفر في جنوب العراق، تمكَّنت عيون العامل الأموي سُليمان بن حبيب بن المُهلَّب، والمُسلَّطة على أنصار ابن مُعاوية، من إلقاء القبض على أبي جعفر،[31] ليُؤخذ إلى سُليمان، وكان أبو أيُّوب المورياني يكتب له، فقال له سُليمان: «هات المال الذي اختنته»، فرد أبو جعفر: «لا مال عندي»، فدعا له بالسياط لجلده، إلا أن المورياني الكاتب قال له: «أيُّها الأمير، توقف عن ضربه! فإن الخلافة إن بقيت في بنو أميَّة فلن يسوغ لك ضرب رجل من عبد مناف، وإن صار المُلك إلى بني هاشم لم تكن لك بلاد الإسلام بلادًا»، فرفض كلامه، وضُرب أبو جعفر اثنين وأربعين سوطًا حتى قفز إليه أبُو أيُّوب وألقى نفسه مُمانعًا لضربه، ولم يزل يسأله الكف عن ضرب أبو جعفر حتى توقف عن ضربه وأمر بحبسه في سجن الأهواز. وقد رعى أبو جعفر للمورياني ما كان منه، ولم يزل الأخير في الأهواز حتى ظهور أمر بني العبَّاس لاحقًا.[93][94]

حدث في أيَّام سجن أبو جعفر قصَّة عجيبة، فقد التقى برجل فارسي في سجن الأهواز يُدعى نوبَخْت المُنجِّم، وكان يُدين بالمجوسيَّة، فرأى على أبو جعفر علامات الرِّياسة، فسألهُ نوبخت عمَّن يكون، فأجاب أبو جعفر عن نسبه وكنيته، فقال له نوبخت: «أنت الخليفةُ الذي تلي الأرض!»، فرد أبو جعفر:«ويحك! ماذا تقُول؟»، فقال: «هو ما أقول لك! فضع لي خطَّك في هذه الرُّقعة أن تعطيني شيئًا إذا وليت»، فكتب لهُ وهو مستغربًا من شأنه، وبعد مُرور عُقود، وتولَّي أبو جعفر المنصُور للخلافة، جاء نوبخت إليه، فأكرمهُ المنصُور وأعطاه، فأسلم نوبخت، وأصبح من المُقرَّبين إليه.[14][95] قيل أن لقائهما أثناء مرور أبو جعفر في قرية الراوي قرب البصرة، بعد أن قيل له بوجود مُنجم يُدعى نوبخت، ليخبره عما سيؤول إليه حاله لاحقًا وبشره بأنه سيملك العرب.[96]

لم يلبث أبو جعفر في السجن إلا قليلًا، فقد ثارت ثائرة المضريَّة لضرب أبو جعفر وحبسه، فتجمَّعوا وتوجهوا نحو السجن فكسروه وأطلقوا سراح أبو جعفر، ليذهب الأخير إلى البصرة، وكان قد أعجب بأبو أيُّوب ولما كان منه فحفظها له، ولم يزل الأخير في الأهواز.[93][92] وقيل أنه حين أُخذ أبو جعفر إلى سُليمان بن حبيب، قام الأخير بحبسه وشتمه وكان يريد قتله، فنصحه جلساؤه بإخراجه فورًا من الحبس قائلين: «إنما أفُلتنا من بني أميَّة بالأمس، أفتريد أن يكون لبني هاشم عندنا دم؟»، فخلَّى سبيله.[96] ترك جلده بالسياط أثرًا سيئًا في نفس أبو جعفر حين يستذكرها، ويُروى بعد توليه للخلافة، أنه أمر بضرب عُنُق سُليمان بن حبيب في سنة 137هـ / 754م.[97][98]

ذهابه إلى دمشق واستشعاره الأوضاع[عدل]

بعد خروجه من سجن الأهواز، توجَّه أبو جعفر إلى البصرة، فاتصل بالناس ودعاهم إلى مُناصرة الدَّعوة، ثم عاد إلى الحميمة.[93][99] حين زاد اضطِّراب حُكم بني أميَّة، وتحديدًا في عهد الخليفة مَروان بن محمَّد (127-132هـ / 744-750م)، مثل نقض أهل حمص، وانتفاضة أهل الغوطة، وخروج ثابت بن نعيم الجذامي في فلسطين، وغيره من القلاقل والثَّورات التي اضطَّربت حول مدينة دمشق.[100] رأى أبو جعفر بضرورة السَّفر إليها واستكشاف أحوالها، مُستغلًا عدم وجود الخليفة في حاضرة الخلافة سابقًا، بسبب انتقال الأخير إلى حرَّان.[100][101] وصل أبو جعفر إلى دمشق قرابة العام 129هـ / 747م، ودخل بين الناس للتعرُّف على الشُّعور السَّائد تجاه خلافة بني أميَّة، ورأى موكب فيه جند والزينة في المكان حاضرًا، فسأل عن السبب، فقيل له: «عبد الله ابن أمير المؤمنين يركب، وما ركب قبل ذلك»، وبسبب شدة الزحام، خرج أبو جعفر على ظهر دابَّته وكانت صعبة، فسقط عنها، وانكسرت ساقه، وغشاهُ النَّاس، فمكث دهرًا عليلًا، حتى تماثل للشفاء وعاد إلى الحميمة.[101]

تولي أبي العبَّاس الدَّعوة وخروجه للكوفة[عدل]

أقام أبو جعفر في الحميمة بعد عودته من دمشق حتى حلول موسم الحج سنة 131هـ / أغسطس 749م، فقد استعد إبراهيم الإمام للسَّفر إلى مكَّة بهدف الحج، واصطحب معه أخوته وولده ومواليه، وبالطبع، فقد كان أبو جعفر وأبي العبَّاس على رأسهم، وكان لاصطحابه ضرورة مُلحة تفرضها الظُّروف السياسيَّة، لسابقته في الدعوة ومعرفته أحوالها معرفة دقيقة، فضلًا عن زيارته لمكَّة أكثر من مرَّة. جلب تشكيل البعثة وما ارتدوه من الثياب الفاخرة والرحال والأثقال أنظار الحُجَّاج والناس، فاشتهروا في الحرمين وعرف بحضورهم أهل الشَّام والبوادي، واجتمع حولهم الناس، وكان ذلك متزامنًا مع الاضطرابات في خُراسان وسيطرة أجناد أبو مُسلم الخُراساني صاحب الدَّعوة العبَّاسيَّة على أقاليم ومدن كثيرة من خُراسان.[102][103][104]

وصلت الأخبار إلى الخليفة مروان بن محمد، والذي أمر من فوره بالقبض على إبراهيم الإمام. وصلت الشرطة حين كان أبو جعفر يُلاعب ولديه جعفر ومحمد ليُقبض عليه ويُودع في سجن حرَّان.[105] وحين شعر بدنو أجله، عهد إبراهيم إلى أنصاره بتوحيد صفوفهم واتباع أخيه أبو العبَّاس من بعده والرحيل إلى الكوفة، وكان قد أودع وصيته عند مولاه، فحمل الأخير الوصيَّة وتوجه بها إلى الحميمة، فدفعها إلى أبو العبَّاس ونعاه إليه. أظهر أبو العبَّاس لأهل بيته ما جرى، ودعاهم إلى مؤازرته، وكان أخيه أبا جعفر أول من اطَّلعه على الأمر، ثم عيسى بن موسى وبقية أفراد البيت العبَّاسي.[104][106] تُوفي الإمام إبراهيم في سجن حرَّان عن ثمانية وأربعين سنة بعد أن غم بمرفقة وضعت على وجهه حتى مات في صفر سنة 132هـ / أكتوبر 749م.[77][102] اختلف بعض المُؤرخين في أسباب تقديم الإمام إبراهيم لأخيه أبي العبَّاس بدلًا من أبو جعفر على الرُّغم من صغر سن أبي العبَّاس عنه بتسع سنوات، فيقول المُؤرخ المصري محمد إلهامي أنه كان أقدر على امتلاك أعصابه والتحكُّم في غضبه حسب بعض الروايات،[107] في حين، يرى المُؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري، أن أبي العبَّاس كان ذو شخصيَّة قويَّة وكان مُلازمًا لأخيه الإمام إبراهيم بينما كان أبو جعفر يتجوَّل داعيًا في العراق وفارس، فضلًا عن أن أم أبي العبَّاس عربيَّة حُرَّة بخلاف أم أبي جعفر وهي أم ولد بربريَّة.[108]

إعلان الدَّعوة لتأسيس الدَّولة[عدل]

تطوُّر الأحداث في خُراسان[عدل]

أرسل الإمام محمَّد بن علي الدُّعاة والنُّقباء بقيادة بكير بن ماهان إلى خُراسان في المشرق الإسلامي بهدف الدَّعوة للرِّضا من آل مُحمَّد والتبشير بالخلاص من الحكم الأموي وإحلال العدل، وكان لاختيار خُراسان إحدى دلائل عبقرية الإمام محمد، فقد ابتعد عن التركيز على أهل الكوفة بسبب ولائهم للعلويين وتخاذلهم لهم، وابتعد عن أهل الشَّام لما شاع فيهم من حب بني أميَّة وموالاتهم، في حين أن أهل خُراسان مذاهبهم قليلة وقلوبهم سليمة، خصوصًا وأنها بعيدة عن السُّلطة الأمويَّة، ورجالها أقوياء.[109][110] تُوفي الإمام محمَّد في سنة 124هـ / 742م، ليتولَّى ابنه إبراهيم الإمام شؤون الدَّعوة بعد أن أسسَّها ووضع أساسيَّاتها على مدار سنوات طويلة بهدوء كبير.[78][111] في عهد إمامة إبراهيم، رأى شابًا فارسيًا مُؤدبًا وفصيحًا يُدعى أبُو مُسلم الخُراساني فأرسله إلى منطقة خُراسان في المشرق الإسلامي قائدًا للدَّعوة لِما رأى من دهائه وذكائه وأمر الأنصار بإطاعته رجاءً أن يكون الرَّجل المنشود لإقامة ملك بني العبَّاس وإظهار دعوتهم في خُراسان.[112]

يذكر المُؤرخ الطَّبري (839-923م) ونقلها منه بعض المُؤرخين رواية مفادها أن إبراهيم الإمام أمر أبو مُسلم باستمالة اليمانيُّون العرب، فإن الدَّعوة لا تتم إلا بهم، وحذَّره من مضر وأمره بقتل كل من تحوم حوله الشكوك منهم، وإن قتل كل متحدث بالعربيَّة بدعوى الشك فيه أن لا يُقصِّر، وأن لا يتردد بقتل غُلامًا بلغ خمسة أشبار فما فوق إذا كان متهمًا.[113][114][115] أثيرت رواية الطَّبري شكوكًا حول صحتها لكونها ذُكرت دون إسناد، ولعدم وجود ذكرٍ لها لدى المُؤرخ البلاذري (820-892م) أو اليعقوبي (توفي 897م) أو المسعودي (896-957م) على سبيل المثال، بحكم قربهم زمنيًا من الأحداث وارتباكهم في بعض رواياتهم على العبَّاسيين، إضافة إلى أن الإمام إبراهيم في حد ذاته قُرشي ويدعو إلى الرِّضا من آل مُحمَّد وهم عرب، وأوصى باستمالة اليمانيُّون وإلى درجة ما بني ربيعة وجميعهم من العرب، ويرى المُؤرخان عبد العزيز الدوري ومحمد إلهامي بأنها موضوعة.[116][117] وعلى أية حال، فإن أبا مُسلم قد نفَّذ تعاليم الإمام إبراهيم ولم يحد عنها قيد أنملة، وبسبب ثبات رأيه وحسن التنظيم فضلًا عن دهائه وسعة حِيله، تمكن من تحقيق نجاحًا باهرًا في مؤازرة اليمانيَّة حتى انتصروا على المضريَّة بعد حروبٍ مستمرة بينهما امتدت لسنوات طويلة، ليصبح اليمانيُّون أعداء بني أميَّة والعضد الأيمن لأبي مُسلم والدَّعوة.[118][119][113] رأى الإمام إبراهيم بضرورة إعلان شأن الدَّعوة والانتقال من الدعوة إلى الحرب قريبًا، تزامنًا مع خروج العديد من الثَّورات والاضطرابات في أنحاء الخلافة، لتصل خلافة بني أميَّة إلى أسوء حالاتها.[120]

الاستيلاء على خُراسان وفتح العراق[عدل]

في ليلة الخميس 25 رمضان سنة 129هـ / 12 يونيو 747م، نزل كبير الدُّعاة أبي مُسلم الخُراساني في قرية سفيذنج من قرى مرو، وأظهر أمر الدَّعوة أخيرًا بناءً على وصية الإمام إبراهيم بإظهار الدَّعوة، عقد أبي مُسلم اللَّواء الذي أرسله الإمام ويُدعى الظِّل، وإلى جانبها راية تُسمى السَّحاب على الرمح، وارتدى أبُو مُسلم وشيخ الدعوة سُليمان بن كثير وجميع النُّقباء والجنود آنذاك لباس السَّواد، تعبيرًا عن الانتماء للحركة وبداية الثَّورة وإعلان الحرب ضد الخلافة الأمويَّة.[116][121][122][123] أرسل أبي مُسلم كتابًا إلى الوالي الأموي على خُراسان نصر بن سيَّار يعلمه بالخبر، فأرسل الأخير استنجادًا إلى الخليفة مروان بن محمد لإرسال الجيوش إلى خُراسان، إلا أن الخليفة كان مشغولًا بإخماد ثورات قريبة أخرى منه. تمكَّن أبو مسلم من السَّيطرة على كامل خُراسان على مدار أشهر من العمل المستمر، ليرسل القائد قحطبة بن شبيب الطَّائي وولديه الحسن وحميد، ويتمكنوا من انتزاع الرَّي، وفتح همذان والاستيلاء على الموصل ومن ثم السيطرة على الكوفة في الحادي عشر من مُحرَّم سنة 132هـ / 29 أغسطس 749م.[124][125][126] بعد فتح الكوفة، تولَّى داعيها أبُو سلمة الخلَّال وزارة الدَّولة الوليدة بدعم من أبي مُسلم ولُقِّب بوزير آل مُحمَّد.[127][128][129]

دولة بني العبَّاس وخلافة السَّفَّاح[عدل]

بيعة السَّفَّاح ومهمة أبو جعفر[عدل]

رسمة تخيُّليَّة لأول خُلفاء بني العبَّاس، أبو العبَّاس السَّفَّاح، من كتاب تاريخنامه لأبو علي البلعمي.

بعد مقتل إبراهيم الإمام في سجن حرَّان وإظهار أمر الدَّعوة في خُراسان وسيطر أبي مُسلم على أجزاءً واسعة منها، أصبحت الحميمة مقرًا غير آمنًا لبني العبَّاس، فقرروا الرَّحيل منها سريعًا للنجاة بأنفسهم. توجَّه أبو العبَّاس مسرعًا مع أهل بيته إلى الكوفة في شهر صفر سنة 132هـ / أواخر سبتمبر 749م، فنزلوا دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم، بعد نصيحة كبير الدُّعاة في الكوفة أبُو سلمة الخلَّال،[130] إلا أنه كتم أمر وجودهم عمدًا لأربعين ليلة مُحاولًا الانقلاب على دعوة بني العبَّاس من خلال مُبايعة خليفة من العلويين، وأرسل بالكتب إلى أهم رموزهم، إلا أن قادة الدَّعوة من الخُراسانيُّون ارتابوا من تصرُّفات أبي سلمة وبحثوا عن موقع إمامهم المطلوب، ليكشفوا عن مكان أبو العبَّاس وإخوته وأعمامه، فبايعوه ليفشل مُخطط الخلَّال ثم سرعان ما أظهر ولاؤه لأبي العبَّاس في من بايعوا من جند الدعوة.[131][132][133][134]

صعد أبو العبَّاس منبر الجامع الكبير في الكوفة ظهر يوم الجمعة 12 ربيع الأوَّل سنة 132هـ / 28 أكتوبر 749م، وخطب فيهم خُطبةً بليغة طويلة على الرُّغم من مرضه وأعلن خلافته المبنية على ميراث آل النَّبي مُحمَّد وتعهَّد بإحقاق العدل والعمل بكتاب الله وسنة نبيه، ومدح أهل الكوفة وذم بني أميَّة، وأكَّد أن الدولة ستنتهج سياسة العدل والحق بين الرَّعية، وبزيادة الأعطيات وختم قائلًا: «فاستعدوا فأنا السَّفَّاح المُبيح والثَّائر المنيح» ليُعرف بالسَّفَّاح بين المُؤرخين.[135][136][137][138] بعد نهاية خطبته، أسند السَّفَّاح أخيه أبو جعفر أمرًا في غاية الأهمية، وهو أخذ البيعة على الناس، لأن منحه هذه المهمة دون غيره من أفراد البيت العبَّاسي دليلٌ قوي على مقدار الثقة والآمال الكبيرة التي حظي بها أبي جعفر، فقام الأخير بأخذ البيعة حتى حلول الليل، وكان ذلك أول عمل سياسي في زمن أخيه، تلته أعمال أخرى لا تقل أهمية عنه، ولا عجب أن أبا العبَّاس اعتمد على أخيه كثيرًا في تسيير دفة الحكم، ولم يتردد في استشارته في الأمور الحسَّاسة والخطيرة.[139][140][141]

هزيمة الأمويين في الزَّاب وزوال خلافتهم[عدل]

رسمة تُظهر المعركة الفاصلة التي دارت بين العبَّاسيين والأمويين جنوب الموصل، لتسطع لاحقًا شمس بني العبَّاس ويغرب نجم بني أميَّة.

استكمل السَّفَّاح إجراءات إرسال القادة والجند إلى مختلف أرض العراق وديار الإسلام التي خضعت لخلافة بني أميَّة، وانتدب عمِّه عبد الله بن علي لحرب مروان بن محمد والمسير إلى الشَّام لاحقًا.[142] التقى العبَّاسيُّون بقيادة عبد الله بن علي والأمويُّون بقيادة الخليفة الأموي مروان بن محمَّد في معركة الزَّاب يوم السَّبت 11 جُمادى الآخر سنة 132هـ / 25 يناير 750م، ومما يُؤثر قبل بدء المعركة، قول مروان لقريبه عبد العزيز بن عمر: «إن زالت اليوم الشَّمس ولم يُقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى المسيح عليه السَّلام، وإن قاتلونا فأقبل الزَّوال، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون».[143] دارت المعركة التَّاريخيَّة قرب نهر الزَّاب الكبير، فهُزم الأمويُّون البالغ عددهم نحو 120 ألفًا، في حين أن العبَّاسيُّون كانوا عشرين ألف[144] وقيل أربعين ألف،[145] ليلوذ مروان إلى الموصل هاربًا، إلا أن أهلها رفضوه واستبشروا بهزيمته وإزالة دولته.[144][146]

مخطط معركة الزَّاب بين العبَّاسيين والأمويين.[147]

بقي مروان بن محمد يسير مع أهله وعياله إلى حمص ثم غادرها بعد أن طمعوا فيه ورأوه منهزم، ثم سار إلى دمشق التي رآها مُنقسمة في شأن هزيمته بين مؤيد وكاره، والجيش العبَّاسي بقيادة عبد الله بن علي تُلاحقه وتقوم بفتح المدن الجزريَّة والشَّاميَّة تباعًا، فمضى إلى فلسطين التي كانت ثائرة ضد حكمه، فأجاره أحد أقارب الثائر الحكم بن ضبعان الجُذامي، لينتهي أمره مُستترًا في كنيسة بوصير قرب الفسطاط من الديار المصريَّة، فقُتل على يد قوات عبَّاسيَّة بقيادة عم الخليفة السَّفَّاح صالح بن علي في 28 ذي الحجَّة سنة 132هـ / 6 أغسطس 750م وعمره 60 سنة، وأمنت نساؤه وبناته وأرسلن إلى حرَّان، لتكون خاتمة خلافة بني أميَّة على ديار الإسلام التي دامت 89 سنة ميلاديَّة / 91 سنة هجريَّة.[148][144][149] امتدَّت حدود الخلافة العبَّاسية تدريجيًا من أقصى المشرق عند كاشغر (أقصى غرب الصين المُعاصرة) إلى السُّوس الأقصى (شمال المغرب المُعاصرة) لاحقًا.[150]

يُعلق المُؤرخ المصري علي أدهم على نجاح بني العبَّاس دونًا عن بنو علي في إقصاء بني أميَّة وإزاحتهم من الحكم، قائلًا: «وقد أكمل العباسيون ما أخفق فيه العلويون وهم الفرع الآخر من البيت الهاشمي، فقد حاول العلويون القضاء على الدولة الأموية، ولكنهم لم يوفقوا في ذلك وأخفقت الثورات التي قاموا بها» ويُعلل عن أسباب اخفاقهم، قائلًا: «أنهم انقسموا إلى عدة فرق، ودعت كل فرقة منها لأحد أبناء البيت العلوي وشغلوا بالجدل والنقاش في الوقت الذي كانت فيه الدعوة العباسية تمتاز بوحدة الصف، واجتماع الكلمة، واعداد الوسائل في صبر وأناة، وكانوا بوجه عام أكثر دهاء وأبرع سياسة من العلويين، وأعدوا الوسائل القمينة بانجاح مساعيهم في أقصى البلاد دون أن يتعجلوا الحوادث ليقطفوا الثمرة عن نضجها».[151] يرى المُؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري أن الحروب التي دخلها الخليفة الأموي مروان بن محمَّد قد أنهكت قواه وخارت عزيمة جيشه ولم يعد بإمكانه تنظيم الجند وشد همتهم، بالإضافة إلى العصبيَّة القبليَّة العربيَّة التي خذلته أثناء وقعة الزَّاب، فكلما أشار الخليفة لقبيلة أشارت الأخيرة إلى قبيلة أخرى بالتحرُّك محاولين إبعادهم عن التقدُّم في الصُّفوف الأوليَّة ومواجهة العبَّاسيين.[152]

السَّفر إلى خُراسان للتخلُّص من الخلَّال[عدل]

لم ينس الخليفة السَّفَّاح وإخوته خيانة أبي سلمة الخلَّال كبير الدُّعاة في الكوفة، منذ قيام الأخير بالإنكار لإسراعهم في المجيء إلى الكوفة، وبدأ يبرر بالخوف عليهم، ثم سمح لهم بدخولها وجعلهم في دار الوليد، فكان أبو الجهم وهو أحد الدُّعاة يسأل أبي سلمة حول موعد قدوم الإمام، وكان جوابه بأنه لم يأتِ بعد.[153] بقي بني العبَّاس أربعين ليلة في الدار، فقد كان أبي سلمة يرسل الكُتُب إلى أهم الشخصيَّات العلويَّة آنذاك، والمُتمثل بجعفر الصَّادق وعمر الأشرف من ذرية الحُسين، وعبد الله حفيد الحسن بن علي بهدف مُبايعتهم للخلافة، إلا أن الصَّادق أحرق كتابه، ورفضها الأشرف، في حين تردد عبد الله بن الحسن في قبولها وأراد صرفها لابنه محمد بسبب كبر سنه، إلا أن الصَّادق نصحه بألا يفعل قائلًا: «يا أبا محمد، ومتى كان أهل خراسان شيعة لك؟ أأنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟ أأنت أمرته بلبس السواد؟ وهؤلاء الذين قدموا إلى العراق أأنت كنت سبب قدومهم؟ أو وجَّهت فيهم؟ وهل تعرف منهم أحدًا؟» في إشارة بأن أبي سلمة يتصرَّف من تلقاء نفسه.[154][155][156] وبعد تأسيس دولة بني العبَّاس، تولى أبي سلمة الوزارة إلا أنه عيَّن القادة والعُمَّال وكُتَّاب الدواوين دون الرجوع إلى الخليفة السَّفَّاح لتترك هذه الأحداث المُتراكمة ردود فعل عنيفة وغير متسامحة في نفس السَّفَّاح وأبو جعفر على حدٍ سواء.[106][130][157]

لقاؤه الأول بأبي مُسلم في مرو ومقتل الخلَّال[عدل]

درهمٌ فضيٌ عبَّاسي صُك باسم والي خُراسان أبي مُسلم في مدينة مرو سنة 132هـ / 749 أو 750م

جمع السَّفَّاح أهل بيته، واجتمع رأيهم على قتل أبو سلمة الخلَّال، إلا أنهم تجادلوا في الكيفيَّة، فقد يُحرك قتله والي خُراسان، أبُو مُسلم الخُراساني ويثأر لمقتله ظانًا من أن بني العبَّاس قد بدأوا التخلُّص من أنصارهم وأهم قادتهم.[158][159] أجمع الحضور على رأي داوُد بن علي والذي قضى فيه الخليفة بانتداب أخيه أبو جعفر للسَّفر إلى مرو حيث يُقيم فيها أبو مُسلم، لوضعه في الصُّورة ومعرفة نواياه وتصرُّفه في مُحاسبة الخلَّال.[158][160] في خلال الطريق، كان أبو مُسلم قد أمر ولاته في الرَّي ونيسابور بأن لا يسمحوا بإقامة أبو جعفر فيها. يرى المُؤرخ السُّوري محمود شاكر أن أبا مُسلم كان يهدف من ذلك لمنعه من الالتقاء بالناس وإفساد ولايته وإبقاء خُراسان تحت سُلطانه.[161]

وصل أبو جعفر إلى مرو، فلم يحتفل به أبو مُسلم، واستخفَّ به،[162][163][164] وقيل أن أبو مُسلم استقبله بتقبيل يده واحتضانه، وبعد ثلاثة أيام كما تجري عادة العرب في عدم سؤال ضيفهم عن سبب مجيئه، أخبره أبو جعفر خيانة الوزير أبو سلمة الخلَّال وتلاعباته وتراكم مفاسده على الدَّولة الوليدة، فقال أبو مُسلم: «أفعلها أبو سلمة؟ أنا أكفيكموه»، وانتدب مرار بن أنس الضُّبي لتنفيذ مهمة قتل الخلَّال.[165][166] وقبل يومٍ واحد من قتله، نادى مُنادي الخليفة السَّفَّاح في العاصمة هاشميَّة الكوفة بأمر منه بأنه رضي عن أبي سلمة، وخلع عليه، وسامرهُ، ليُقتل بعد خروجه من دار الخليفة فورًا وأُشيع بأن الخوارج قتلوه، فصلَّى عليه يحيى أخو الخليفة السَّفَّاح.[166][167] استبشر بني العبَّاس في مقتله، فقال السَّفَّاح في مقتله شعرًا، في حين قال أبو جعفر: «دَوِي العبد وأصاب أمير المُؤمنين دواه»، وقال عبد الله بن علي: «كلب أصابه قدر فطاح». دامت وزارة أبي سلمة لنحو ثلاثة أو أربعة شهور ليتولى من بعده خالد بن برمك.[168][169] لم تكن الوزارة وسلطاتها معروفة بصورة واضحة، فقد نمت وتدرجت صلاحياته وتسميته حتى اتخذت شكلها الثابت في أواخر العصر العبَّاسي الأول.[168][170]

مقتل سليمان بن كثير خلال الزيارة الثانية[عدل]

يُعد سليمان بن كثير الخزاعي من أهم دُعاة بني العبَّاس العرب في خُراسان، فهو الذي قام بأمر الدعوة وعانى في سبيل نشرها ورعاية نموها، حتى جاء غُلام شاب يُدعى أبو مسلم، فإذا به يصبح الأمير وصاحب الدَّعوة والسُّلطان في خُراسان. رأى الخزاعي بعينيه تأثير قُوَّة أبي مُسلم وتنامي نفوذه، وعظم عليه الأمر حين قتل أبُو مسلم ابنه محمد.[171] بقي الخزاعي في خُراسان بعد تأسيس دولة بني العبَّاس، لتجيء زيارة ثانية لأبي جعفر إلى خُراسان بعد مقتل أبو سلمة الخلَّال، مُصطحبًا معه عبيد الله بن الحسين الأعرج العلوي، ففكر الخزاعي في تكرار تجربه الدعويَّة ولكن هذه المرة مع العلويين قائلًا للأعرج على انفراد: «يا هذا، إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون»، فخاف الأعرج، وظن أنه دسيسة من أبي مُسلم، فذهب للأخير وأخبره بما جرى ظنًا منه أنه يختبره، فلمَّا علم أبي مُسلم بالأمر، قرر قتل الخزاعي وذكَّره بقول إبراهيم الإمام: «من اتهمته فاقتله»، وأنه يتهمه لغشِّه الإمام وخيانة الدَّعوة، فناشده الخزاعي الإبقاء على حياته، إلا أن أبا مُسلم كان حاقدًا عليه لمعرفته عدم رضاه بتوليه شؤون الدعوة في خُراسان، فأمر بضرب عُنُقه. وصل الخبر إلى أبو جعفر وغضب غضبًا شديدًا إلا أنه كظم غيظه، فقد كان سليمان بن كثير أحد نُقباء الدَّعوة وشيخهم.[172][173][171]

توليه الجزيرة ودحر الخوارج[عدل]

حين كان أبو جعفر يُساهم في حصار طويل الأمد لابن هبيرة في واسط سنة 132هـ / 750م، جاءه كتاب من أخوه السَّفَّاح يأمره بالخروج مع جنده لدعم مُوسى بن كعب التَّميمي عامله في حرَّان والمُحاصر من شهرين، فقد خلع أهل الجزيرة طاعتهم للعبَّاسيين ولبسوا البياض، وقاموا بحصار موسى بن كعب مع ثلاثة آلاف فارس حينها. سار أبو جعفر من يومه إلى حرَّان، مارًا بقرقيسيا ، فوجدها قد بيَّضت وأغلقت أبوابها عليه، ثم مر بالرَّقَّة ووجدهم قد بيَّضوا أيضًا يقودهم بكَّار بن مُسلم العقيلي أخو إسحاق الثائر في حرَّان، فتركه أبو جعفر حتى وصل إلى أبواب الأخيرة، فلما رأى إسحاق بن مُسلم قدوم جيش أبو جعفر، هرب إلى الرُّها وترك حصار حرَّان لتجميع أعداد أكبر لمواجهة العبَّاسيين وممن جاءه، بريكة الخارجي الحروري، وأخيه بكَّار من الرَّقَّة مكونين جيشًا واحدًا.[174][175] خرج موسى بن كعب والفرسان من حرَّان فرحين ومستبشرين بقدوم المؤازرة بقيادة أخو الخليفة، ثم انضم مع فرسانه إلى جيش أبي جعفر، وقصدوا الثَّائرين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا في إحدى المواضع حتى انتصروا وقُتل بريكة الحروري، وهرب بكَّار إلى أخيه في الرُّها، وأقبل أبو جعفر مع جيشه مُحاصرًا الرُّها، وجرت له معهم وقعات عدة إلا أن الثَّائرين صمدوا فيها.[176][175] كتب السَّفَّاح إلى عمِّه عبد الله بن علي بالسَّير إلى سميساط دعمًا لأبي جعفر، فسار واجتمع معه على حربهم، وحينئذ قرر إسحاق بن مُسلم طلب الأمان منهم، فأجابوه بعد أن حصلوا على إذن من الخليفة السَّفَّاح.[177]

قاد بكر بن حميد الشيباني ثورة للخوارج من جديد في الجزيرة على الحكم العبَّاسي، فوجَّه أبو جعفر إليه محقن بن غزوان، إلا أن الشيباني تمكن من هزيمته، وتوجه نحو رأس عين، فوجَّه إليه أبا جعفر مُقاتل بن حكيم العكِّي، وتبعه أبو جعفر على رأس جيش من كفرتوثا إلى بعض قرى دارا، فالتقى الجمعان، وانهزم الخوارج، إلا أن الشيباني فرَّ من المعركة واعتصم بجبل دارا، فتوجَّه إليه مُقاتل العكِّي وتمكن من قتله. أمر أبو جعفر بهدم مدائن الجزيرة عقابًا للخوارج باستثناء حرَّان والرُّها ونصيبين ودارا.[178] أما في أرمينية، فقد ثار مسافر القصَّاب الخارجي في وجه بني العبَّاس، مُستلهمًا ثورته وفكره من الضحاك بن قيس الحروري، فوجَّه أبو جعفر إليه جيشًا انتهى بمقتل القصَّاب وأكثر أصحابه. قرر أبو جعفر مواجهة قدد بن أصفر البيلقاني، فأمر جيشه المنتصر على القصَّاب، بإكمال زحفه نحو البيلقان، فحاصروا البيلقاني في قلعة الكلاب، واستمر الوضع على هذا الحال دون حدوث مناوشات عسكريَّة حتى قرروا طلب الأمان وأعطي لهم.[179] تمكن أبو جعفر من تأمين منطقة الجزيرة وما جاورها، فخلت من الثورات التي أشغلت الجيش العبَّاسي ردحًا من الزمن، فالتزم أهل هذه المناطق بالطاعة، وقبلوا الخلافة العبَّاسية، بعد ما رأوا من قدرة أبو جعفر وسيطرته التامة على الأمور.[180] أعجب السَّفَّاح بما أبداه أبو جعفر في مهمته ونجاحه في القضاء على الثَّورة، فكافأه بتعيينه واليًا على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، ولم يزل واليًا عليهم أربع سنوات حتى وفاة السَّفَّاح وتوليه الخلافة سنة 136هـ / 754م.[177]

حصاره لابن هبيرة في واسط[عدل]

لم تكن هزيمة مروان بن محمد في معركة الزَّاب هي آخر متاعب العبَّاسيين مع أنصاره وفلوله، بل ولم تكن آخر مناوشاتهم مع أنصار الأمويين، ففي أثناء قدوم العبَّاسيين إلى العراق بقيادة قحطبة بن شبيب الطَّائي وولديه وتمكنهم من فتح الحصون والمدن فيها سنة 131هـ / 749م، تخبَّط والي العراق الأموي يزيد بن عمر بن هبيرة والمعرُوف بابن هُبَيْرة، في العثور على موقع مناسب لمُحاربة العبَّاسيين، فحاول التحصُّن في جلولاء واحتفر خندقها المحفور أيام السَّاسانيين، إلا أنه قرر الارتحال إلى الكوفة لمُلاقاة جيش قحطبة، إلا أن الأخير قام بإرسال طائفة من الجند إلى الأنبار وأمرهم بإحدار ما فيها من السُّفُن لعبور الفُرات، فحملوا إليه السُّفُن وقطع العبَّاسيين الفُرات لملاقاة ابن هبيرة في الكوفة وكان الخليفة مروان بن محمَّد قد آزره بحوثرة بن سُهيل الباهلي ومعه عشرين ألفًا،[181] فسار الفريقان على جانبي الفُرات، حتى اندلعت معركة بينهما، لينهزم الجيش الأموي بقيادة محمد بن نباتة وحوثرة الباهلي، إلا أن قحطبة أمير الجيش العبَّاسي تُوفي غرقًا، وكان قد أوصى جيشه مُسبقًا لاتباع ابنه الحسن.[182][183] بعد انهزام ابن نُباتة وحوثرة الباهلي، قرروا الخروج نحو ابن هبيرة، فهبطت معنويات الأخير لهزيمتهم، وقرر ترك عسكرهم وما فيه من الأموال والسِّلاح وغيره نحو واسط، ليحصي الحسن بن قحطبة ما في العسكر ويضيفه لغنائم جيشه.[182]

تحصَّن ابن هُبيرة في واسط مع جنده من أهل الشَّام، وحين أراد الجند قتال جيش الحسن بن قحطبة في إحدى المواضع قرب دجلة، تعرَّضوا لهزيمة قاسية وأكمل عليهم الحسن حتى اضطَّرهم إلى دجلة فغرق الكثير من الجند والناس، ثم دخل المدينة وتقهقر ابن هُبيرة إلى الحصن الموجود فيها. وفي أثناء تلك الأحداث، طلب غيلان الخُزاعي من الخليفة السَّفَّاح أن يمن عليه برجل من أهل بيته للمسير إلى واسط، فاستغرب السَّفَّاح لطلبه وقال بأن الحسن بن قحطبة من أهل بيته، وكان الخزاعي يكره الحسن وواجدًا عليه، فأصر على طلبه، فبعث السَّفَّاح أخوه أبو جعفر بعد عودته من خُراسان اثر زيارته لأبي مُسلم إلى واسط وكتب إلى الحسن قائلًا: «إن العسكر عسكرك، والقُوَّاد قُوَّادك، ولكن أحببتُ أن يكون أخي حاضرًا، فاسمع له وأطع وأحسن موازرته».[184] أنزل الحسن أبو جعفر في خيمته توقيرًا له، وجعل عثمان بن نهيك حارسًا له. طال الحصار على ابن هُبيرة، والذي تفاءل بالثورات التي اندلعت في الشَّام والجزيرة، وحاول مراسلة محمد بن عبد الله الحسني ليمنيه بالخلافة قاصدًا بذلك إغاظة العبَّاسيين، وكان يريد جلب اليمانيَّة من أهل واسط في صفه، إلا أن العبَّاسيين كانوا يقظين لهذه المحاولات، فقام أبو جعفر بالتواصل مع اليمانيَّة وصرَّح لهم: «السُّلطان سلطانكم والدولة دولتكم»، وطمأنهم وأغراهم حتى نجح في شق الصف داخل جند ابن هُبيرة، فتخلَّوا عن الأخير وانفضَّت القيسيَّة عنه، حتى لم يبق مع ابن هُبيرة سوى الفتيان والصَّعاليك آخر أيام الحصار، حتى كان الخبر القاصم بمقتل مروان بن محمد وانتهاء الثورات في الشام والجزيرة واستتباب الأمور لبني العبَّاس.[185]

أرسل ابن هُبيرة بالكُتُب إلى أبو جعفر طلبًا للصلح بعد مقتل مروان بن محمد وبعد أن بلغ الحصار مدة 11 شهرًا، ودارت بينهما مراسلات كثيرة. طلب أبو جعفر من السَّفَّاح إعطاء الأمان لابن هبيرة، فوافق في البداية ومكث ابن هُبيرة أربعين يومًا يُدقق في كتاب الأمان مع العُلماء، إلا أن أبو مُسلم الخُراساني نهى السَّفَّاح عن مصالحة ابن هُبيرة، قائلًا في رسالته: «إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة»، وكان الخليفة لا يقطع أمرًا دون مراجعة أبي مُسلم ومعرفة رأيه، فكتب إلى أبو جعفر بقتل ابن هُبيرة، فراجعه أبو جعفر وناشده الوفاء بالصُّلح مرارًا، حتى اضطَّر السَّفَّاح أن يكتب لأخيه قائلًا: «والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم يتولى قتله». لم يجد أبو جعفر مناصًا من النزول على رأي الخليفة الحاكم، على الرُّغم من أن الغدر له وقعٌ أليم في النُّفوس فضلًا لما رأى من نُبل ابن هُبيرة، فترك أبو جعفر أمر قتله للحسن بن قحطبة، إلا أن الأخير أشار بأن ينفذ له رجل من مضر حتى لا تخرج فتنة عصبيَّة، فوجَّه إليه خازم بن خزيمة التَّميمي، فقتلوه وتتبَّعوا قُوَّاده وأصحابه قتلًا.[177][186][187][188] كان أبو جعفر يرى أن استرضاء القادة الذين كانوا دعامة بني أميَّة قُوة للعبَّاسيين، أما أبو مُسلم فقد كان يرى وجود قادة بارزين في صفوف العبَّاسيين إضعافًا لمركزه، وكان يرى وجوب التخلُّص منهم، ما زاد من ضغينة أبو جعفر له.[189]

تعاظم نفوذ أبي مُسلم في خُراسان[عدل]

رسمٌ لأبي مُسلم الخُراساني يُعاقب أحد الأشخاص بعد ثبوت تهمة عليه.

لم يلق أبو جعفر في زيارة أبي مسلم الثانية ما كان يرجوه ويأمله، فلم يرجع إليه حول مسألة من المسائل العارضة أو الطارئة ولم يستشره في شيء، فضلًا عن قتله الدَّاعي سليمان بن كثير الخزاعي فاغتاظ أبو جعفر من أبي مُسلم وحنق عليه ورأى أن نُفوذه في خُراسان أكبر من أن يتم احتوائه، فلمَّا عاد إلى أخيه السَّفَّاح أخبره بما جرى معه وقال له: «لست خليفة ولا آمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله»، فاستغرب السَّفَّاح وسأله عن سبب كلامه، فقال أبو جعفر: «إنه والله ما يصنع إلا ما أراد» فاستكثر السَّفَّاح الإقدام على الخطوة لما رأى من محبة الخُراسانيين له وتعظيمه، وقال: «فما الحيلة فيه، وقد عرفت موضعه من الإمام ومن إبراهيم وهو صاحب الدولة والقائم بأمرها؟»، ثم أمره بكتمان الأمر، إلا أن أبو جعفر بقي يُحذر السَّفَّاح من حينٍ لآخر لتعاظم نفوذ أبي مُسلم.[163][164][190][191]

يُعد أبي مُسلم المُلقَّب بأمين آل مُحمَّد، ذو سلطة منفردة بلا منافس، فقد كان يقتل بالظن وسيطر على خُراسان بقوة السَّيف وحكمها بالرُّعب، إلا أنه كان محبوبًا ومهابًا عند أهالي خُراسان لِما له من طاقات ومواهب الزَّعامة، وكان عارفًا بأن نسبته إلى الموالي وأصله الفارسي، يجعل الكثير من الخُراسانيين يطمئنون إليه بعد دولة تميَّزت عليهم بصبغتها العربيَّة.[192] أدرك الخليفة السَّفَّاح بحب أهل خُراسان لأبي مُسلم وخشى من سلطانه، فلم يكن أبي مُسلم مجرد واليًا، بل كان زعيمًا دينيًا ومنقذًا في نظر بعض الخُراسانيين، وكان فوق ذلك يتدخل في شؤون الدولة، إذ كان له مُمثل عنه في البلاط اسمه أبو الجهم بن عطية الباهلي. وبحلول السنوات الأخيرة من حكم السَّفَّاح، حاول اتباع الحيلة للتخلُّص من أبي مُسلم من خلال دعم ثورة زياد بن صالح الحارثي في بلاد ما وراء النَّهر ضد أبي مُسلم سنة 135هـ / 752 أو 753م، إلا أن أبي مُسلم تمكن من القضاء على ثورته سريعًا.[193]

أشار الكاتب خالد بن برمك لأبي العبَّاس بأن يظهر تقوية جيش أبي مُسلم بهدف تحطيم مركزه، ورأى أن يأمر أبي مُسلم بعرض جيشه وإسقاط من لم يكن من أهل خُراسان منهم، ففعل ذلك ويبدو أن أبي مُسلم كان يتَّوق لها، فأسقط أسماءً كثيرة في يومين متتالين، حتى قام إليه رجل في اليوم الثالث ويبدو عليه قربه من أبي مُسلم، قائلًا: «علام تسقط الناس أيها الرجل منذ ثلاث» فأخبره بالأمر وإسقاط كل من لم يكن خُراسانيًا من جيشه، فرد عليه: «فابدأ بنفسك! فإنك من أهل أصبهان وقد دخلت في أهل خُراسان»، فوثب أبي مُسلم عن مجلسه وقال: «هذا أمر أحكم بليل» وفطن لما أريد به، وحين جاء الخبر للسَّفَّاح أبدى سروره.[194]

استأذن أبي مُسلم الخليفة في القدوم عليه من خُراسان والذي لم يفارقها منذ أيام إظهار الدَّعوة، فقلق السَّفَّاح من خطبه ونواياه، فأمره بالقدوم عليه في خمسمئة من الجند، إلا أن أبي مُسلم قال: «إني قد وترت الناس ولست آمن على نفسي»، فرد عليه الخليفة بالقدوم مع ألف من الجند وأنه لا حاجة لاستكثارهم، قائلًا: «فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك وطريق مكة لا يحتمل العسكر»، ففرَّق أبي مُسلم نحوًا من ثمانية آلاف بين نيسابور والرَّي. وصل أبي مُسلم إلى مقر الخليفة في الأنبار وتلقاه القادة وسائر الناس، ثم استأذنه في أداء الحج سنة 136هـ / يونيو 754م وكان غايته أن يكون أميرها، فأذن له السَّفَّاح إلا أنه قال: «لولا أن أبا جعفر حاج لوليتك الموسم» فاغتاظ أبي مُسلم لذلك في إحدى المناسبات: «أما وجد أبو جعفر غير هذا العام!».[195][196] وفي أثناء بقائه في مقر الخليفة، نصح أبو جعفر أخيه السَّفَّاح بضرورة التخلُّص من أبي مُسلم، وأنه سيتولى أمر قتله بنفسه حين يكون جالسًا معه، وبعد تردد كبير وافق السَّفَّاح، وبعد أن تهيء أبو جعفر لذلك، استهول السَّفَّاح تلك الخطوة وأرسل يطلب منه التوقف فورًا، فكف أبو جعفر طاعةً لأخيه.[197][195][196] وضَّح السَّفَّاح لأبو جعفر سبب تردده لصعوبة إنجازها وحذَّره من ثورة الجند الخُراسانيين في دولة ناشئة جديدة وتحيطها المخاطر والتحديات لبقائها.[170] توجه أبو جعفر وأبي مسلم إلى الحج، وكان الأخير يعطي الأعطيات ويمنح الهبات ويحفر الآبار ويتقرَّب إلى الناس، ولم يكن أبو جعفر كذلك، فزاد من نقمه على أبي مُسلم وتحبُّبه للناس.[197]

عقد ولاية العهد لأبو جعفر وعيسى بن موسى[عدل]

بعد إعلان خلافة السَّفَّاح وفي فترة قبل وقوع معركة الزَّاب، دعا السَّفَّاح أهل بيته وعرض عليهم قيادة الجيش الذي سيخوض المعارك ضد آخر خُلفاء بني أميَّة مروان بن محمد، ورُغبةً منه في تشجيعهم على احتمال هذه التبعة الهامة، قطع على نفسه عهدًا بأن يجعل ولاية العهد لمن يهزم مروان ويتتبعه، فتقدَّم عمَّهُ عبد الله بن علي بما عُرف عنه من إقدام واستهانة بالأخطار، وكان شجاعًا وطموحًا، فانتدب نفسه لقتال مروان، وانتصر عليه في الزَّاب، ثم فتح الشَّام وأخمد الثَّورات التي قامت آنذاك وارتكب المذابح الدمويَّة في بني أميَّة وأفنى معظمهم فلم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس. تردَّد السَّفَّاح في العهد بالولاية من بعده لعمِّه عبد الله بعد أن غضب كثيرًا من قتله للعالم الزَّاهد عبد الواحد بن سليمان الأموي وكتب إلى عمِّه: «ألا يقتل أحدًا من بني أميَّة حتى يعلم به أمير المُؤمنين».[198][199]

وفي خطوة لاحتواء عمِّه والتحلُّل من العهد الذي قطعه على نفسه بأن يجعل المُتغلب على مروان ولي عهده، أصدر السَّفَّاح بتعيين عبد الله بن علي واليًا على الشَّام، حتى لا تخرج الخلافة من ولد أبيه إلى أبناء عمه.[200] في سنة 136هـ / 754م والأخيرة من حكم السَّفَّاح، عقد ولاية العهد لأخيه أبو جعفر من بعده ليخلفه في الحُكم لما رأى منه حسن تدبير وفطنة وقدرة على مشاغل الحكم، ثم عقد ولاية العهد الثانية لابن أخيهما عيسى بن موسى بن محمد وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى وأمرهم بإبقاء وصيته في حيز الكتمان فلا يُعرف ما بها إلا بعد وفاته تجنبًا للمشاكل مع عمه عبد الله بن علي، فقد كان كارهًا للدماء ولم يكن ميالًا لسفكها على غرار عمه عبد الله.[199][197][200]

اشتدَّت علة الخليفة السَّفَّاح في قصره بالأنبار، فدعا عمه عيسى بن علي وأوصاه بكتم موته حتى يعلم هذا الكتاب على الناس، وأن يأخذ ببيعة المُسمى فيه، وأوصاه بأن يدفنه ويصلي عليه. تُوفي السَّفَّاح يوم 13 ذي الحجَّة سنة 136هـ / 8 يونيو 754م عن عمر 33 سنة لإصابته بالجُدَري وصلَّى عليه عمه عيسى بن علي، وخلَّف وراؤه تسعة جباب، وأربعة أقمصة وبضعة أشياء، بعد أن حكم أربع سنوات.[201][202][203] وكانت وفاته إيذانًا باشتداد الصِّراع بين الرجال الثلاثة الذين كانوا دعامة ملكه وقادة دولته، وهم عبد الله بن علي والي الشَّام، وأبو جعفر والي الجزيرة، وأبو مُسلم الخُراساني والي خُراسان.[204] امتد سُلطان بني العبَّاس في عهده من بلاد ما وراء النَّهر حتى إفريقية باستثناء المغرب الأقصى والسَّند والأندلس لخروج الثَّورات والاضطرابات فيها.[205][206]

خلافة المنصُور[عدل]

اختلفت الروايات في معرفة أبو جعفر لوفاة أخيه السَّفَّاح وبيعته للخلافة، فقيل أنه كان في منزل من منازل طريق مكَّة يدعى زكيَّة، فلما جاءه الكتاب بايعه جُل الناس ومنهم أبو مسلم الخراساني، وقال أبو جعفر: «أمر يَزكى لنا إن شاء الله تعالى».[207] وقيل كان أبو جعفر في طريق عودته من الحج في موضع يُقال له ذات عرق، وكان معه أبو مُسلم الخُراساني، فإذا برسولٍ من عيسى بن موسى يُعلمه بوفاة أمير المُؤمنين أبي العبَّاس، وأعلمه بالبيعة باسمه في الأنبار، ليُبايعه أبو مُسلم ومن معه في الطريق وعزَّاه بوفاة السَّفَّاح، فجزع أبو جعفر من عمِّه عبد الله بن علي وشغبه عليه، فهدأه أبو مسلم ووعده بأن يكفيه شرُّه.[208] وقيل أن أبا مُسلم كان بعيدًا عنه وسبقه في العودة من الحج، فأرسل له يُعزيه في أمير المُؤمنين، ومكث يومين حتى أعلن بيعته له ترهيبًا لأبي جعفر.[203] والرَّاجح أنه كان حاجًا وأدرك الخبر في موضع قريب من مكة، فعجَّل بالسير نحو الكوفة، فصلَّى بأهلها الجُمعة وخطب أمامهم وأعلمهم أنه راحلٌ عنهم، ثم توجه إلى الأنبار وأقام فيها ليبدأ تسيير شؤون الخلافة في ذي الحجَّة سنة 136هـ / يونيو 754م، وبايعه عيسى بن موسى ورجال الدَّولة ومنهم أبو مُسلم الخُراساني. كان عمر أبو جعفر 41 عامًا حين تولَّى الخلافة، ولم يكن له لقب.[209][210]

تولَّى أبو جعفر الخلافة ولم تكن قد توطَّدت دعائمها، ومع أنه لم يعد يخشى منافسة بني أميَّة بعد مقتل معظمهم في خلافة السَّفَّاح، إلا أنه كان يواجه ثلاثة مخاطر كلها أخطر من غيرها، فأول المخاطر تمثَّلت في منافسة عمِّه عبد الله بن علي لما كان له من نباهة الذَّكر بين الأسرة، ولتدبيره أمر جيوش الدَّولة من أهل خُراسان وأهل الشَّام والجزيرة والموصل الذي أمَّره عليهم السَّفَّاح قبل وفاته لغزو الرُّوم، وثاني المخاطر كانت الهالة التي أُحيطت بأبي مُسلم الخُراساني مؤسس الدَّولة وله من التمكين في تدبير الدَّولة ما لا يرضي أبو جعفر أن يكون له في الأمر شريك ذو سطوة وسُلطان مثله، فهو من قُوَّة شأنه وُنفوذه، قادر على خلعه واختيار رجلًا آخر للخلافة يكون تحت تصرُّفه وسلطانه، وآخر المخاطر تمثَّلت ببنو علي بن أبي طالب الذين لا يزال لهم في قلوب الناس مكان وأهمية، خصوصًا الرجل الطَّموح مُحمد بن عبد الله الحسني والذي عُرف لاحقًا بالنَّفس الزكيَّة. ومما زاد من هواجس الخليفة الجديد أبو جعفر، أن النَّفس الزكيَّة لم يحضر للسلام عليه حين حج في حياة أخيه السَّفَّاح مع من شهده من سائر بني هاشم.[211][212]

تمرُّد عبد الله بن علي طلبًا للخلافة[عدل]

كان عبد الله بن علي متوجهًا على رأس الجيش العبَّاسي من أهل الشَّام وخُراسان لغزو بلاد الرُّوم بتوجيه من السَّفَّاح، وبقي يسير حتى بلغ أرضًا تدعى دُلُوك، حين أتاه نعي ابن أخيه السَّفَّاح من عيسى بن موسى، ونقل إليه أمر السَّفَّاح لمُبايعة أبو جعفر، فرفض وأمر المُنادي قائلًا: «الصلاة جامعة!»، فاجتمع الجُند والقادة حوله، قرأ عبد الله بن علي كتاب وفاة السَّفَّاح ودعاهم إلى بيعته بالخلافة، وأعلمهم بأن السَّفَّاح حين أراد توجيه الجنود لقتال آخر خُلفاء بني أميَّة مروان بن محمد، دعا ببني أبيه وأرادهم على المسير لقتاله قائلًا: «من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي»، فلم ينتدب له غيره، وعلى هذا خرج وقتل من قتل، فشهد له بعض القادة مثل أخيه عبد الصَّمد بن علي، وأبو غانم الطَّائي، وخُفاف المروروذي وحميد بن قحطبة، إلا أن الأخير فارقه ولحق بأبي جعفر لأن عبد الله كان يريد ضرب عُنُقه.[213][214][215] كان عبد الله بن علي يرى نفسه الأحق بالخلافة، فهو الذي دك صرح الدَّولة الأمويَّة، وثبَّت دعائم البيت العبَّاسي، وجميع إخوته دونه في المُؤهلات ولم يقم أحد منهم بمثل ما قام به. سار عبد الله بجيشه إلى حرَّان وبها مُقاتل العكِّي عامل أبو جعفر الذي استخلفه فيها، فتحصَّن العكِّي ورفض بيعة عبد الله ليُحاصره أربعين يومًا حتى تمكَّن من اقتحامها وقتل العكِّي، مُتخذًا من حرَّان مركزًا له.[216][217]

وصلت الأنباء إلى الخليفة أبو جعفر، ورآها فرصة ليضرب عمِّه بأبي مُسلم، وأيُّهما زال فقد زال من طريقه. بعث أبو جعفر بكتاب إلى أبو مسلم المُستقر في خُراسان، وطلب منه قتال عمِّه عبد الله بن علي، علم أبي مُسلم أن الخليفة يريد وضعه كبش فداء، فناشده كاتبه أن لا ينقض عهده وإلا طعنوا فيه أهل خُراسان، وأنه إن سمع كلمة الخليفة أرضى الناس وكانت حسنة له.[218] سار أبُو مسلم بجيشٍ من الخُراسانيين إلى حرَّان، وأرسل الخليفة إلى والي أرمينية الحسن بن قحطبة وأخوه حميدًا بمُؤازرة أبي مُسلم فوافوه في الموصل وانضموا إليه في حملته. وقد أخذ الخوف مبلغًا في نفس عبد الله بن علي، فقرَّر قتل ممن معه من أهل خُراسان، فأعدم الآلاف منهم، الأمر الذي أفقده ثقة جنده، وحين وصل خبر مقتلهم إلى أبي مُسلم، دبَّ الحماس في جنده من الخُراسانيَّة، واقتنعوا بأنهم إن استسلموا كان القتل مصيرهم.[219][220][221] خرج عبد الله بن علي إلى نصيبين وخندق فيها، وقدِم جيش أبو مُسلم إلا أن الأخير قام بحيلة للاستيلاء على موقع عبد الله لحصانته، وكتب إلى عبد الله قائلًا: «إني لم أومر بقتالك ولكن أمير المؤمنين ولَّاني الشام فأنا أريدها»، فخشى أهل الشَّام ضمن جيش عبد الله على رجالهم وذراريهم، فطلبوا منه الخروج إليها لحماية أهلهم وذويهم، فقال لهم عبد الله: «إنه والله ما يريد الشام وما توجه لقتالكم، وإن أقمتم ليأتينَّكم»، أصرُّوا عليه في الخروج إلى الشَّام، حتى قبل على مضض، وحين خرجوا من نصيبين، دخل أبو مسلم في معسكر عبد الله بن علي وعوَّر ما حوله من المياه.[222][223]

أنَّب عبد الله أصحابه وذكَّرهم بما قاله لهم، فأجمعوا على النزول إلى معسكر أبي مُسلم الذي كان فيه، والتقى الطرفان في وقعات عديدة لمدة خمسة أشهر، وكان جيش عبد الله أكثر فرسانًا وأكمل عدة، واستمرت المعارك بينهم، حتى التقوا في 7 جُمادى الآخرة سنة 136هـ / 27 نوفمبر 754م، وتمكن أبو مُسلم من القيام بخدعة جعلت جيش الشَّام ينحازون إلى الميمنة بإزاء الميسرة، ليتمكن من توجيه ضربة قاضية إلى قلب جيش عبد الله، فجال أهل القلب والميمنة من جيش عبد الله، وانهزم الأخير فارًا إلى البصرة، فأمَّنه أخوه سليمان بن علي. بعث الخليفة أبو جعفر مولاه أبو الخصيب لإحصاء ما أصابه أبو مُسلم من معسكر عبد الله بن علي، فغضب أبو مسلم وعظِم الأمر عنده حتى أراد قتله، إلا أنه قيل له بأنه رسول فخلَّى سبيله وقال: «أنا أمينٌ على الدماء، خائنٌ في الأموال؟!» وشتم أبو جعفر، فرجع أبو الخصيب إلى الخليفة وأخبره بما جرى.[222][224][225] يُعلق المُؤرخ المصري محمد الخضري بك على هروب عبد الله بن علي قائلًا: «وهنا فعل عبد الله بن علي فعلًا لا يُليق بشرف بني هاشم وعلو اسمهم في ميادين القتال، فإنهم كانوا يرون الفرار عارًا لا تحتمله أنفسهم الأبية، فإما ظفر أو قتل»، ويستذكر رواية كيف عاب عبد الله على مروان بن محمد هروبه من وقعة الزَّاب.[226] لم يكن أبو جعفر ينوي إصدار عفو عن عمِّه عبد الله بن علي الذي بقي مُتخفيًا منذ تلك الواقعة حتى حُبس سنة 139هـ / 756 أو 757م. لم يرد الخليفة التخلُّص من عمِّه فورًا حتى لا يثير ضجَّة سياسيَّة أو عائليَّة كبيرة، فبقي سجينًا لثمانية أعوام حتى دبَّر له مؤامرة للتخلُّص منه، وأمر وليُّ العهد عيسى بن موسى بالتخلُّص من عبد الله بن علي، حتى يصفو له الجو ويعهد بولاية العهد لابنه محمَّد المهدي بدلًا منه، ضاربًا بذلك حجرين في آنٍ واحد. تُوفي عبد الله بن علي في سجنه سنة 147هـ / 764م.[227][228]

نهاية أبي مُسلم الخُراساني[عدل]

المراسلات بين أبو جعفر وأبي مُسلم[عدل]

رسمٌ لأبي مُسلم الخُراساني، من كتاب السَّلسَلنامَه (1598م)

لم يكد أبي جعفر يستريح من مسألة عمِّه عبد الله بن علي، حتى وجَّه أنظاره نحو العدو الحقيقي الذي لن يستقيم مُلكُه بوجوده، مُستذكرًا ما حقق من هيمنة وعظمة في خلافة السَّفَّاح، إضافةً إلى أنه لم ينس ما قام به مع رسول الخليفة وما لذلك من أثر سيء في صورة أبو جعفر، إلا أنه لم يرد أن تدخل أبو مُسلم أقل ريبة منه لخوفه من المضي إلى خُراسان، فكتب إليه مسرعًا: «إني قد وليتك مصر والشام فهي خيرٌ لك من خُراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب». وصل كتاب الخليفة إلى أبو مُسلم، والذي غضب وقال: «يوليني الشام ومصر، وخُراسان لي!»، فكتب الرسول إلى الخليفة بما جرى. خرج أبو مُسلم من الجزيرة متوجهًا إلى خُراسان ومُجمعًا على الخلاف والعداوة، فسار أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مُسلم بالمسير إليه لأنه أراد مذاكرته بأشياء لا يحتملها حجم الكتاب، فشعر أبو مُسلم بوجود خطر عليه، وكان في الزَّاب، فكتب إلى أبي جعفر بما يشوبه التحذير قائلًا: «إنه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون عن قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فإنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضتُ ما أبرمتُ من عهدك ضنًا بنفسي».[229][230]

وصل كتاب أبي مُسلم إلى أبو جعفر، فرد عليه مهدئًا: «قد فهمتُ كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثر جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلِم سوَّيت نفسك بهم؟ فأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به ... وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابًا يُفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من الباب الذي فتحه عليك». أمر أبو جعفر عمه عيسى بن علي ووجوه بني هاشم الحاضرين بكتابة رسالة لأبي مُسلم يظهرون فيه تعظيم أمره وشكره ويحذرونه عاقبة البغي والخلاف على أمير المُؤمنين ويأمرونه بالرجوع إليه، فوجَّه أبو جعفر الكتاب إلى أبي حُميد المروروذي وطلب منه أن يُكلم أبا مُسلم بألين ما يُكلم به أحد، وأنه سيرفعه ويصنعه ما يُحب إن صلح وراجع، فإن رفض واستمر على عناده طلب منه وأيس من رجوعه تمامًا أن يقول: «يقول لك أمير المؤمنين لست من العبَّاس وإني بريء من مُحمَّد إن مضيت مُشاقًا ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم ألِ طلبك وقتالك بنفسي، ولو خُضت البحر لخُضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك».[229] تمكن أبو حُمَيد من إقناع أبي مُسلم بعد أن أيس منه في طلب الصُّلح وعرض عليه تهديد أبو جعفر الخطير، وما زاد عليه خوفه أن أبو جعفر كتب إلى أبي داود خليفة أبي مُسلم في خُراسان بأن له ولايتها ما بقي، فكتب أبو داود إلى أبو مُسلم بأن لا يُعصي خُلفاء الله وأهل بيت نبيِّه ويُخالف إمامه وأن لا يرجع خُراسان إلا بإذنه، فزاده رعبًا وهمًا وشعر بأن الأمور تسلب منه، فلم يبق له باب إلا الذهاب إلى المدائن ولقاء الخليفة بعد أن كتب إليه بالقدوم، فقال أبو جعفر: «والله لئن ملأتُ عيني منه لأقتلنه».[231][232]

مجيء أبي مسلم إلى المدائن ومقتله[عدل]

أمر أبو جعفر بالاستعدادات لمُلاقاة أبي مُسلم، ووجَّه زُعماء بنو هاشم والناس باستقباله بما يُحب، فجاء في ثلاثة آلاف جندي إلى المدائن، ثم قدم فدخل متوترًا على الخليفة بعد أن أرخى الليل سدوله، وكان الخليفة ينتظره في صمتٍ عميق ووقار رهيب على ضوء الشُّموع، ولم يغب عن عين أبو جعفر ما يُعانيه أبي مُسلم من الاضطراب الخفي، فتلطَّف معه وترفَّق به، وأمره الخليفة أن ينصرف ويُروِّح عن نفسه لملاقاته غدًا. أمر أبو جعفر عثمان بن نهيك صاحب الشُّرطة، وطلب منه أربعة من الحرس، وأمرهم أن يكونوا خلف الرواق حين يجتمع بأبي مُسلم، وأنه حالما يُصفق بيديه، أن يهبُّوا لقتل أبي مُسلم. بعد أن أقبل الصباح وحان وقت مُلاقاة الخليفة، جرَّده البوَّاب من سلاحه، فدهش لذلك، وحين مثل بين يدي الخليفة، شكا إليه ما صنع به، فطيب أبو جعفر خاطره، وسأله: «أخبرني عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن علي»، فأراه أحدهما، فأخذه أبو جعفر ووضعه تحت فراشه وأقبل عليه يُعاتبه ويحصي ذنوبه، فسأله: «أخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة»، فأجابه أبي مُسلم: «كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك للرفق»، وسأله: «فجارية عبد الله أردت أن تتخذها؟» فنفى ذلك وأنه أمر بحملها في قُبَّة ووكَّل بمن يحفظها، ثم سأله عن مراغمته وخروجه إلى خُراسان، فقال أبي مُسلم:«خفت أن يكون قد دخلك مني شيء فقلتُ آتي خُراسان فأكتب إليك بعذري فأُذهب ما في نفسك»، وسأله عن المال الذي جمعه فيها، فأجابه بأنه أنفقه لتقوية الجند وإصلاح شأنهم.[233][234][235]

رسمٌ تخيُّلي لأبي مُسلم الخُراساني.

كان أبو جعفر يطرح عليه الكثير من الأسئلة ومن الواضح أنه كان يحتملها منذ زمنٍ ليس بالبعيد، فسأله: «ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب عمتي آمنة ابنة علي وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عبَّاس؟! لقد ارتقيتَ، لا أُمَّ لك، مُرتقى صعبًا!»، فلم يتمكن من مجاوبته، ثم سأله عن سبب قتله سليمان بن كثير الخزاعي، فأجابه أنه أراد الخلاف وعصاه فقتله، فلما طال عليه عتاب أبو جعفر وأسئلته، قال أبي مُسلم: «لا يُقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني»، فغضب أبو جعفر وقال: «يا ابن الخبيثة! والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت في دولتنا وبريحنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلًا»، فشعر أبي مُسلم بأنه مُقدمٌ على حدث يضرُّه، فقام إليه وقبَّل يده واعتذر منه، فرفض اعتذاره المُتأخر وأنه ما زاده إلا غضبًا منه، فقال أبو مُسلم في لهجة غير مكترثة: «دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا الله تعالى»، فغضب أبو جعفر وشتمه ثم صفَّق بيديه، ليخرج عليه الحرس، فطعنوه بسيوفهم وهو يطلب العفو، فسبَّه أبو جعفر وقال: «العفو والسيوف قد اعتورتك!».[236][237] تمثَّل أبو جعفر قائلًا:

زعمت أن الدَّين لا يُقتضى
فاستوفِ بالكيل أبا مِحزَمِ
سُقيت كأسًا كنت تسقي بها
أمرٌ في الحلق من العَلْقَمِ

قُتل أبي مُسلم الخُراساني في 25 شعبان سنة 137هـ / 12 فبراير 755م. وفرَّق أبو جعفر بالجوائز لجند أبو مُسلم،[238][236] كما هدَّد أبا إسحاق (قائد الحراسة الخاصَّة لأبي مُسلم) تهديدًا شديدًا قائلًا: «لئن قطعوا طنبًا من أطنابي - الطنب هو ما تشد به الخيمة إلى الأرض - لأضربن عنقك ثم لأجاهدنهم».[239] حين دخل وليُّ العهد عيسى بن موسى وعلم بمقتله، حزن لما جرى له فقال له أبو جعفر مُوبخًا: «خلع الله قلبك! وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم؟»، ودخل إليه جعفر بن حنظلة مُهنئًا وقائلًا: «يا أمير المُؤمنين عُدَّ من هذا اليوم لخلافتك»، وبذلك انتهى أبو جعفر من أخطر أعدائه وطابت خلافته.[238][236] أرجف الناس بعد مقتل أبو مُسلم وتكلموا في الأمر، فقام أبو جعفر وخطب على الملأ، قائلًا: «أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، إن أبا مُسلم أحسن مبتدأ وأساء معقبًا، وأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيحُ باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خُبث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله وعنَّفنا في إمهالنا، وما زال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا في غيره، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه»، وولَّى أبو جعفر، أبو داوُد خالد بن إبراهيم الذهلي على خُراسان.[240]

ثورة سنباد في بلاد خُراسان[عدل]

وصلت أنباء مقتل أبو مسلم الخُراساني إلى أهالي خُراسان وعموم الفُرس، فحزن الكثير منهم لما جرى له، وشعروا بأنهم فقدوا مُنقذهم وأهم شخصيَّة ظهرت من بيئتهم منذ الفتح الإسلامي لفارس، فانتهز المزدكيَّة والخُرَّميَّة والمجوسيَّة حالة السَّخط العامَّة ضد دولة الخلافة، وظهر سنباد أو سنباذ ثائرًا في وجه الخلافة في سنة 137هـ / 755م، ليكون أوَّل الثَّائرين بدم أبي مُسلم لأنه كان من صنائعه، فكثر أتباعه من المجوس، وتجمعت الحشود حوله من أهل الجبال، فتقدم في عسكر عظيم من خُراسان وسيطر على مساحة واسعة شملت نيسابور، وقومس، حتى وصل الرَّي، وأخذ خزائن أبي مُسلم بعد أن خلَّفها الأخير اثر شخوصه لأبي العبَّاس، فسبى سنباذ الحُرَم ونهب الأموال وأظهر نيَّتهُ في الزحف نحو الكعبة وهدمها.[241][242]

وجَّه الخليفة أبي جعفر قائده جمهور بن مرَّار العِجْلي على رأس عشرة آلاف فارس لمُحاربة سنباد، فالتقى الطَّرفان بين همذان والرَّي، وعزم جمهور على مطاولته، فلما تصافى الجمعان، قدَّم سنباد السَّبايا من النساء المُسلمات على الإبل في الصف الأمامي، فلما رأين عسكر المُسلمين قمن في المحامل ونادين: «وا مُحمَّداه! ذهب الإسلام!»، فنفرت الإبل وعادت نحو عسكر سنباد وهاجت عليهم فتفرَّق جند سنباد ليهجم الفُرسان المُسلمون نحوهم ويتتبعونهم قتلًا، حتى بلغت أعدادهم نحوًا من ستين ألفًا، وسُبيت ذراريهم ونسائهم. هرب سنباد من الواقعة نحو طبرستان مُلتجئًا لصاحبها الأصبهبذ، فأرسل الأخير ابن عمِّه طوز، إلا أن سنباد استخفَّ به وتكبَّر عليه، فهاج طوز وضرب عُنُق سنباذ بين طبرستان وقومس، ثم كتب إلى أبي جعفر بقتله وأخذ ما معه من الأموال، فلم يرق ذلك لأبي جعفر وكتب إلى صاحب طبرستان يطلب منه الأموال، فأنكرها الأخير ودخل في مشكلة كبيرة لاحقًا مع الخليفة. كان بين خروج سنباد ومقتله سبعين يومًا، أي انتهت بحلول ذو القعدة سنة 137هـ / مايو 755م وتأجَّلت حملة الصَّائفة بسبب ثورة سنباد.[242][243][244]

تمرُّد جمهور بن مرار العجلي[عدل]

وجَّه الخليفة أبو جعفر قائده جمهور بن مرَار العِجْلي لمُحاربة سنباد المجوسي، فتمكَّن من إيقاع أنصاره خسارة ثقيلة بين همذان والرَّي ليهرب سنباد نحو طبرستان إلا أنه قُتل في ذو القعدة سنة 137هـ / مايو 755م.[244] بعد نهاية المعركة، قام بإحصاء ما لدى عسكره وكان بينهم خزائن أبي مُسلم الثَّمينة، فطمع فيها ولم يُوجَّهها إلى أبو جعفر، ثم قرر خلعه، وحين علم ذلك الخليفة، غضب وأرسل القائد محمَّد بن الأشعث الخُزاعِي على رأس جيشٍ عظيم نحو الرَّي، فهرب منها العجلي نحو أصبهان وتحصَّن فيها، فأرسل إليه الخُزاعي عسكرًا من جيشه من الرَّي، فأشار بعض أصحاب العِجلي عليه أن يسير مع نُخبة جنده من العجم نحو الرَّي بعد أن قالوا له بقلة جنده، فإنه إن ظفر به لم يكن لمن بعده بقيَّة.[245] أبلغت العُيون والجواسيس الخُزاعي بما ينوي العجلي فعله في التوجه إليه وهو في قِلَّة، فحذر واحتاط، واستدعى بعسكر من خُراسان ليُقوي جبهته، فالتقوا بقصر الفيروزان بين الرَّي وأصبهان، واقتتلوا اقتتالًا عظيمًا حتى انهزم جمهور العِجْلي وفرَّ من الواقعة نحو أذربيجان، إلا أن بعضًا من أصحابه قاموا بقتله في إسباذروا وحملوا رأسه إلى الخليفة أبو جعفر، وجرت الواقعة في سنة 138هـ / 755 أو 756م.[245]

ثورة ملبد بن حرملة في الجزيرة[عدل]

الرَّاية العبَّاسية في عهد أبو جعفر المنصور.[246]

يعد ملبّد بن حرملة الشيباني من أوائل الخارجين على حكم أبو جعفر سنة 137هـ / 755م، فقد عاث في الأرض مع ألف فارس في الجزيرة، فوجَّه الخليفة إليه يزيد بن حاتم المهلبي إلا أنه انهزم ولاذ بالفرار، فوجَّه أبو جعفر مولاه مُهلهل بن صفوان على رأس ألفين من نخبة الجند، إلا أن ملبد هزمهم واستباح عسكرهم ويتفاقم أمره، فتوجَّه إليه نزار الخُراساني ثم زياد بن مشكان في جمعٍ كثير ثم صالح بن صبيح على رأس جيشٍ كثيف وخيل كثيرة، ثم سار إليه حميد بن قحطبة بحملاتٍ منفردة إلا أنهم تعرضوا جميعًا للهزيمة، واضطَّر حميدًا لإعطاء ملبَّد 100 ألف درهم على أن يكف عنه. وفشلت حملة عبد العزيز بن عبد الرَّحمن الأزدي (أخو عبد الجبَّار الأزدي) وضم إليه زياد بن مشكان، إلا أن ملبد كمن لهم وتمكن من هزيمتهم وقتل الكثير من الجند في سنة 138هـ / أواخر 755 أو أوائل 756م.[244]

قرر أبو جعفر استدعاء خازم بن خُزَيمة التَّميمي وانتدابه على رأس ثمانية آلاف من الجند لقتال ملبد وإنهاء شره، فسار الأخير حتى نزل الموصل والتقى بملبد قربها. حاول ملبد عمل الحيلة للإيقاع بخازم وجيشه بادعاء هزيمته في أول المعركة، فسار من صباح الغد يريد الهرب، فخرج خازم في أثره وترك الخندق الذي عمله، وحينها، شن ملبد وأصحابه هجومًا عنيفًا على ميمنة وميسرة جيش خازم وتمكنوا من الإطباق عليهم، وكان خازم في القلب، فنادى بين جنده: «الأرض الأرض!»، فنزلوا ونزل ملبد وأصحابه وعقروا دوابهم، ثم أمر خازم فرقة فضلة بن نعيم برشق ملبد وأتباعه بالنبال في حال لم يراه وحال دونهم الغُبار، ففعل فضلة بن نعيم ذلك، وتراجع جند خازم ليُقتل ملبد ومعه 800 مُقاتل من أتباعه وتفرَّق عنه البقيَّة لتنتهي ثورته سنة 138هـ / 755 أو 756م.[245] تمثَّل أحد الشُّعراء واصفًا الحدث:[247]

لم يغنِ عن ملبّد تلبيدهُ
إذ خازم في بأسه يكيده

تمرُّد عبد الجبَّار الأزدي في الرَّي[عدل]

بعد مقتل أبي مُسلم ونهاية سنباذ، هدأت خُراسان لعامين، إلا أنها شهدت احتجاجًا من الجند الخُراسانيَّة على الوالي أبو داوُد خالد بن إبراهيم الذهلي، وكان من مناوئين الخليفة أبو جعفر، إلا أنه تُوفي بعد سقوطه من رأس القلعة التي حوصر بها لخطأ. وجَّه أبو جعفر قائده العسكري عبد الجبَّار بن عبد الرَّحمن الأزدي في سنة 140هـ / 757 أو 758م، ليُنهي حركة الاحتجاج ويتولَّى أمر الولاية وأخذ جماعة من القُوَّاد البارزين في دعوة بني العبَّاس اتَّهمهم بموالاة العلويين، فقتلهم وحبس جماعة منهم.[248][249] احتج أبو جعفر على ما قام به الأزدي، وقال لكاتبه أبو أيُّوب المورياني: «إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا - أي أنصارنا -، وما فعل ذلك إلا وهو يريد أن يخلع»، فكتب إليه بالمسير لمُحاربة الرُّوم فتعلَّل الأزدي بأن التُّرك قد جاشت وأنه إن فرَّق الجنود ستخرج خُراسان من يد الخلافة.[250] أشار أبو أيُّوب لعمل الحيلة من خلال إرسال كتاب آخر للأزدي يوضح فيه بنيَّة الخليفة إرسال عدد كبير من الجند يكفي لحفظ خُراسان، فلمَّا ورد الكتاب على الأزدي تعلَّل مرة أخرى قائلًا: «إن خراسان لم تكن قط أسوأ حالًا منها في هذا العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من الغلاء»، فلما وصل الكتاب إلى الخليفة ألقاه على أبو أيُّوب وأشار الأخير بنوايا الأزدي لخلع الطَّاعة.[250]

وجه الخليفة أبو جعفر ابنه أبي عبد الله محمَّد (المهدي مستقبلًا) على رأس جيشٍ كبير ومعه القائد خازم بن خُزَيمة التَّميمي وأمره بنزول الرَّي في سنة 141هـ / 759م، فوجَّه محمد بن أبو جعفر القائد خازم لحرب الأزدي، في حين توجه محمد بن أبي جعفر نحو نيسابور للاستعداد لقتال أصبهبذ طبرستان كما أمره الخليفة، فلما علم أهل مرو الرُّوذ وكانوا من أنصار بني العبَّاس بقدوم المدد العبَّاسي بقيادة خازم بن خُزَيمة، توجهوا بقيادة المُجشّر بن مُزاحم وساروا إلى الأزدي، والتقى الطرفان في معركة دامية، انهزم فيها الأزدي وأُخذ أسيرًا في 6 ربيع الأوَّل سنة 142هـ / 6 يوليو 759م، ثم سلَّموه للقائد العبَّاسي خازم بن خُزَيمة، فقام الأخير بإلباس الأزدي جبة صوف وحمله على بعير جاعلًا وجهه مما يلي عجز البعير نحو الخليفة أبو جعفر، جنبًا إلى جنب مع ولده وأصحابه. وصل الأزدي إلى الخليفة، فأمر بقطع يديه وقدميه عقابًا له ثم ضرب عُنقه، وأمر بنفي عياله إلى دهلك وهي جزيرة قرب اليمن.[251][250][252]

فتح طبرستان وضمِّها لدولة الخلافة[عدل]

كانت منطقة طبرستان مُستقلة جنبًا إلى جنب مع بلاد الدَّيلم ولم يتمكَّن المُسلمون من فتحها خلال الفتح الإسلامي لفارس (12-33هـ / 633-654م) أو في عهد بني أميَّة لكثرة جبالها ومناعة حُصونها ووعورة مسالكها، ففضَّل صاحب طبرستان ويُعرف بالأصبهبذ (فارسيَّة القُرون الوسطى: 𐭮𐭯𐭠𐭧𐭯𐭲)، أن يُصالح دولة الخلافة حتى لا تتكرر الحملات الإسلاميَّة عليها، فكان يدفع على الشيء اليسير، فيقبل منه الخُلفاء لصعوبة المسالك إليها وخشونتها، ولم يزل أهل طبرستان يؤدون الصلح مرة ويمتنعون أخرى، حتى آخر خُلفاء بني أميَّة مروان بن محمد، فغدروا ونقضوا عهدهم، إلا أن استخلاف أبو العبَّاس السَّفَّاح جعلهم يقبلون الصُّلح بعد أن وجَّه عامله إليهم.[253][254] بعد استخلاف أبو جعفر، أقر الوضع القائم مع طبرستان، وكان الأصبهبذ خورشيد إذا أحس أن والي خُراسان في وقته ضعيفًا لم يعطه الطَّاعة، إلا أن أخبار مقتل أبي مُسلم الخُراساني، جعلته يهاب أبو جعفر، فكتب إليه ووجَّه له مبلغ 700 ألف درهم، وزعفران ليس له في الدنيا نظير عشرة أحمال، وحب الرمان وسمك مُملح وغيرهم من الهدايا والألطاف على أربعين بغلًا مُقدمًا له الطَّاعة.[255] تغيرت الأحوال بعد إخماد ثورة سنباذ، فقد لاذ الأخير نحو الأصبهبذ خورشيد لاجئًا إليه، إلا أن سنباذ استهزأ بابن عم الأصبهبذ ويدعى طوز أو طوس، فقام طوز بضرب عُنُق سنباذ وحمل ما معه من الأموال والخزائن للأصبهبذ. كتب الخليفة أبو جعفر يطلب منه الأموال لكونها له بعد أن قهر ثورته، فلم يجب الأصبهبذ وخلع الطَّاعة، خاصةً بعد أن رأى تمرُّد جمهور بن مرار العجلي ولاحقًا عبد الجبَّار بن عبد الرَّحمن الأزدي على الخليفة.[256]

بقيت العلاقات على هذا النحو حتى سنة 141هـ / 758م، إذ تطوَّرت الأمور ودخلت مرحلة جديدة، فقد تمكن أنصار بني العبَّاس من القضاء على ثورة عبد الجبَّار بن عبد الرَّحمن الأزدي، من غير أن تتكبَّد القُوَّات العبَّاسية خسائر في العدة والعدد لعدم اشتراكها في القتال، ورفض الأصبهبذ أن يؤدي الأموال التي حصلها عامله من سنباذ المجوسي بعد أن قتله، فأسرَّها الخليفة في نفسه وتوعد بالقصاص منه، ووجد الفرصة الثمينة بعد أن أطلق النفقات على الجيش بقيادة ابنه محمد المهدي ولم يتكبَّد الأخير أية خسائر في إنهاء شر الأزدي، وكره أن يعود له بعد ما أطلقه من النفقات، فكتب إلى المهدي بنزول الرَّي ليتخذها قاعدة لغزو طبرستان في سنة 141هـ / 758م. أسند المهدي الحملة أبُو الخصيب مرزوق بن روقاء، وخازم بن خُزَيمة التَّميمي بتوجيه من الخليفة، فسار أبو الخصيب وتوغَّل في البلاد حتى وصل إلى سارية. كان الأصبهبذ خورشيد في ورطة حقيقية، فقد كان على وشك الدُّخول في حرب مع ملك دنباوند ويُلقَّب بالمصمغان، وشعر الأخير بأن عليه التعاون مع الأصبهبذ قائلًا له: «متى صاروا إليك صاروا إلي»، فعقدا الصُّلح بينهما، واجتمعوا على مُحاربة المُسلمين، فانصرف الأصبهبذ بقُواته إلى بلاده واشتبك مع الجيش العبَّاسي الإسلامي، وطالت أيام الحرب بينهما، فوجَّه الخليفة بالمدد بقيادة عمر بن العلاء، وكان أعلم الناس بمواضع طبرستان، فاستولى على الرُّويان مُطلًا بذلك على بحر الخزر، ثم فتح قلعة طاق قرب سمنان وغنم ما فيها، ثم ألحَّ خازم بن خُزَيمة على القتال، فتمكن من فتح كامل طبرستان بعد أن أنزل خسائر فادحة من الطبريين، وتقهقر الأصبهبذ إلى قلعته مُعتصمًا بها. وتحت وطأة حصارها من قبل المُسلمين، طلب الأصبهبذ الأمان وبتسليمه القلعة وما فيها، فأحصى مندوب أبو جعفر ما في القلعة وأُخذت ابنته سبيَّة واستُوهبت للعبَّاس بن محمَّد.[257][258] خرج الأصبهبذ إلى جيلان من بلاد الديلم على العهد الذي أبرمه مع الخلافة وتوفي فيها، لتُوضع طبرستان تحت تحكم الخلافة سنة 141هـ / 758م.[259][260]

خلف الأصبهبذ قارن سلفه خورشيد في حكم طبرستان، وآلمه ما جرى لخورشيد، فأعلن الثَّورة ونقض العهد المُبرم بعد أن جمع الأجناد، وانتقم بقتل من كان في بلاده من المُسلمين في سنة 142هـ / 759م. وصلت تلك الأخبار إلى الخليفة، فأمر بتوجيه خازم بن خُزَيمة التَّميمي، وروح بن حاتم المهلبي وأبو الخصيب لاستئصال شر الأصبهبذ نهائيًا، ولما علم الأخير بذلك، اعتصم في الحصن وحاصره العبَّاسيين ولم يتيسر لهم اقتحام الحُصن، واستمرت الاشتباكات بين الطرفين دون جدوى.[261] طال أمد الحصار على الأصبهبذ، فتشاور القادة في خطة محكمة لفتح الحصن، فاقترح أبو الخصيب أن يحلقوا رأسه ولحيته، ففعلوا ولحق بالأصبهبذ قائلًا له: «إن هذين الرجلين استغشاني وفعلا بي ما ترى وقد هربت إليك، فإن قبلت انقطاعي وأنزلتني المنزلة التي أستحقها منك، دللتك على عورات العرب، وكنت يداً معك عليهم»، فقبل الأصبهبذ، وكساه وأعطاه وأظهر الثقة به، فلما اطَّلع أبو الخصيب على أموره وما يحتاجه من الأسرار الحربيَّة، كتب إلى التميمي والمهلبي بما يحتاجوا لمعرفته، فدخل المُسلمون إلى الحصن وقتلوا المُقاتلة وسبوا الذريَّة، وحين علم الأصبهبذ باقتحام قلعته، تناول السُّم في خاتمه ومات.[262][257][258] تمكنت الخلافة العبَّاسية من فتح كامل طبرستان، وعُين عمر بن العلاء واليًا عليها، فتمكن من ضبط المنطقة وإعادة الهدوء إليها، بعد أن كان مدة ملك الطبريين لها 119 عامًا منذ عهد الأصبهبذ جيل بن جيلان شاه.[258] وقيل أن أبو الخصيب هو أول والٍ على طبرستان، فهو باني المسجد الجامع في مدينة ساري ليكون أول مساجد طبرستان منذ بداية الإسلام.[263]

ظهور الرَّاونديَّة وتأليههم الخليفة[عدل]

ظهرت طائفة دينيَّة غريبة مُتأثرة بأبي مُسلم في الهاشميَّة عام 141هـ / 758 أو 759م، وكان جُل مُنتسبيها من الخُراسانيُّون، فقالوا بتناسخ الأرواح وادَّعوا أن روح آدم حُلَّت في صاحب الشُّرطة عثمان بن نهيك، وأن جبرائيل هو الهيثم بن معاوية، وأن ربهم الذي يُطعمهم ويسقيهم هو الخليفة أبو جعفر. فلما ظهر أمرهم، توجهوا إلى قصر الخليفة وقالوا: «هذا قصر ربنا»، فلما علم أبو جعفر بما يجري، أمر بأخذ زعمائهم فحبس 200 منهم، فغضب أتباع الحركة وأخذوا نعشًا فارغًا ومروا به على باب السجن ورموا به في حيلة لدخول السجن، فدخلوا وأخرجوا زعمائهم، ثم توجهوا نحو قصر أبو جعفر من جديد وكان عددهم نحو 600 رجل، فاضطَّرب سكان الهاشميَّة من الأحداث وغُلقت أبوابها منعًا لدخول أحد بدعم من بعض أهاليها، فخرج أبو جعفر من القصر ماشيًا لعدم وجود دابة. بعد خرج أبو جعفر من قصره، جيء له بدابَّة ليركبها، فتوجَّه نحو الرَّاونديَّة بسرعة شاهرًا سيفه ليُقاتلهم بنفسه، فتكاثر عليه الرَّاونديَّة حتى كادوا يقتلونه، إلا أن رجلًا ملثمًا أسرع نحو الخليفة وترجَّل من دابته مُدافعًا عنه، فقاتل الرَّاونديَّة قتالًا شديدًا، ولم يزل يقاتلهم حتى قُتل الرَّاونديَّة.[264][265]

أعجب أبو جعفر كثيرًا بأداء الرجل الملثم فسأله عن من يكون، فكشف عن نفسه وقال: «طلبتُك يا أمير المُؤمنين، معن بن زائدة»، فاندهش الخليفة وقال: «آمنك الله على نفسك ومالك وأهلك، مثلك يُصطنع». كان معن بن زائدة الشَّيباني مُستترًا من الخليفة بسبب وقوفه مع ابن هُبيرة في حصار واسط قبل نحو ثمانية سنوات، وكان أبو جعفر قد بذل في البحث عنه مالًا كثيرًا، إلا أنه عفا عنه بعد ما ظهر من شجاعته في يوم الرَّاونديَّة ودفاعه عنه. بقيت بقيَّة من الرَّاونديَّة، فحاول عُثمان بن نهيك أن يُكلمهم إلا أنهم رموه بسهم بين كتفيه فمرض أيامًا بعدها حتى مات وصلَّى عليه الخليفة، ثم اصطدموا بالقائد خازم بن خُزَيمة التَّميمي حتى قُتلوا جميعًا.[264][265] كره أبو جعفر الإقامة في الهاشميَّة بعد ما جرى فيها، فكانت من الأسباب الرئيسيَّة لقراره في العثور على موضع مناسب لعاصمته، فشيَّد بغداد وانتقل إليها لاحقًا في صفر سنة 146هـ / مايو 763م.[266][267][268]

ثورة العلويين طلبًا للخلافة[عدل]

خلفية الأحداث[عدل]

بعد زوال حكم بني أميَّة وتولي بني العبَّاس خلافة الأمة الإسلاميَّة منذ خطبة أبي العبَّاس السَّفَّاح في ربيع الأول سنة 132هـ / أكتوبر 749م،[136] هدأ العلويين طيلة فترة السَّفَّاح ظنًا منهم بأنها ستكون خلافة هاشميَّة أي تشمل أبناء العم من العبَّاسيين والعلويين على الرُّغم من اعتقادهم بأحقيتهم في الخلافة، إلا أنه بعد وفاة السَّفَّاح بدأ اليأس ينتشر بينهم، فها هو أخوه أبو جعفر تولَّى الخلافة وكان السَّفَّاح قد عهد بولاية العهد لابن عمِّه عيسى بن موسى، ثم نشب الصراع بين الخليفة أبو جعفر وعمِّه عبد الله بن علي، أي أن القوم لا يقبلون بأحد خارج بني العبَّاس للخلافة، وبدا الأمر واضحًا وجليًا لهم أن أبناء عمومتهم قد استحوذوا على الخلافة بينهم. كان الخليفة أبو جعفر مُتنبهًا وقلقًا من الرجل العلوي الطَّموح محمد بن عبد الله والمُلقَّب بالنَّفس الزكيَّة، ورصد تحرُّكات ودعوات تطالب وتدعو للنَّفس الزكيَّة، ومما زاد من قلق الخليفة، أن النَّفس الزكيَّة كانت له تجربة ثوريَّة قبل زوال الخلافة الأمويَّة في عهد مروان بن محمد. انشغل أبو جعفر في التخلُّص من ثورة عمِّه عبد الله بن علي وقتل أبي مُسلم، وهما من كانوا يشكلون الخطر الأكبر له، وبعد استقرار أمور الدَّولة إلى حدٍ كبير، وجَّه همته لمراقبة هذه الدعوة وإبقائه مُطلعًا على أحوالها، فدس جاسوسًا له، وأثبت الأخير للخليفة أن الحركة تعمل بنشاط وكتمان في خُراسان أيضًا، وأنه يقف خلفها قائدين، هما محمد بن عبد الله النَّفس الزكيَّة، وأخوه إبراهيم بن عبد الله.[269][270]

سجن بني الحسن[عدل]

زادت شكوك أبو جعفر حين توجَّه لأداء الحج في سنة 140هـ / منتصف 758م، فلم يقدُم عليه محمد ولا إبراهيم، وحين سأل والدهما عبد الله بن الحسن، قال له: «والله لا أعلم أين مكانهما من الأرض»، غير أن إلحاح أبو جعفر في تكرار السُّؤال، قد استفز عبد الله، فجاوبه بحزم: «والله لو كانا تحت قدمي ما أخبرتك»، فعلم أنه يخبئ مكانهما، فقبض عليه ووضعه في السجن وصادر أمواله. اعترف رجل يدعى خالد بن حسان وهو أحد أتباع النَّفس الزكيَّة، أنه حاول اغتيال أبو جعفر أثناء السعي بين الصفي والمروة إلا أن عبد الله بن الحسن نهى عياله عن ذلك لحرمة المكان. أمر أبو جعفر ولاته على الحجاز بأن يكون البحث عن الأخوين من ضمن أولى اهتماماتهم، حتى أنه عزل من رآه مُتهاونًا أو متسامحًا معهم.[271] لم يصل أبو جعفر لما يريد طوال أربعة أعوام للعثور على الأخوين المُتخفيين، فقرر سجن معظم أبناء عمومتهم من الحسنيين في المدينة المُنوَّرة سنة 144هـ / 761 أو 762م، ومنهم من مات في سجنه، ويُعلق المُؤرخ المصري محمد إلهامي قائلًا: «لقد وردت الكثير من الروايات في أن المنصور ارتكب الفظائع مع بني الحسن الذي سجنهم، وأفاضت الروايات في أساليب من التعذيب والإذلال، إلا أن كل هذه الروايات مكذوبة لا تصح، ولا هي حتى من نطاق الحسن ولا خفيف الضعف، بل أقل ما يقال عن أسانيدها أنها منقطعة أو مسلسلة بالمجاهيل»، إلا أنه لا يبرر سجنهم وما فعله الخليفة أبو جعفر قائلًا: «على أننا لا ننكر بالمطلق أن ظلمًا قد وقع بهم، فكفى بالسجن دون جريمة ظلمًا، كذلك لا ندعي أنهم كانوا في إكرام وتعظيم بل لا بُدَّ وقع من الإساءة ما وقع».[272]

ثورة النفس الزكيَّة في المدينة[عدل]

قام أبو جعفر بعمل الحيلة من خلال دسه لبعضًا من مواليه في صُفوف الأخوين، وقاموا بدور التحريض على الخروج والإعلان، وأوهموا بأن صفوف الدعوة في ازدياد وقوة، فانغر محمد النَّفس الزكيَّة واستعد للثَّورة في المدينة المُنوَّرة قبل الموعد المتفق فيه مع أخوه إبراهيم بن عبد الله في البصرة، فقد كانوا متفقين على الثَّورة في نفس الوقت إلا أن إبراهيم كان مريَصا ولم يتحقق المُتفق عليه. ثار النَّفس الزكيَّة في 1 رجب سنة 145هـ / 24 سبتمبر 762م، وكانت بمثابة المفاجأة الصَّاعقة لأبو جعفر، فقد كان يبحث عنه في مشارق الأرض ومغربها، وإذ يظهر في المدينة نفسها.[273][274] التف حول النَّفس الزكيَّة، العديد من مُحبيه ومُؤيديه ومن يُفضل البيت العلوي على العبَّاسي، حتى أن أبرز من حرَّضه للثَّورة هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وأفتى له ولغيره إن كانوا بايعوا أبو جعفر بالخروج بحجة أن أيمان البيعة تقع تحت حكم المكره، فكان لفتواه أثر واضح في إباحة الخروج على الدولة لكل من بايع مُكرهًا، إلا أنه لزم بيته ولم يشارك، ونقم العبَّاسيُّون عليه لاحقًا. استحوذ النَّفس الزكيَّة على بيت المال في المدينة وحبس الوالي، فاستولى على المدينة وخطب في الناس وأعلمهم بأنه الأحق في الخلافة، وأخبرهم أنه ما من أرض في ديار الإسلام إلا وقد أُخذ له فيه بالبيعة، وكانت العبارة الأخيرة دليلٌ على نجاح خطة أبو جعفر في الإسراع من ظهوره ومنحه الشُّعور بأن أمره ذاع وانتشر في بلاد الإسلام.[275]

وصل نبأ خروج النَّفس الزكيَّة إلى الخليفة، فسارع الأخير بالذهاب إلى الكوفة (المدينة الأكثر حبًا وميلًا إلى العلويين)، بهدف منع وصول الثورة إليها، فجلب الشُّرطة وبث الجواسيس وأتى بالأجناد على دفعات ليُرهب الكُوفيين، وبالفعل، فلم يُسمع لهم صوتًا خلال أحداث الثَّورة. بدأت حرب مراسلات بين أبو جعفر والنَّفس الزكيَّة، وكان كل طرف يثبت أحقيته في الخلافة دون الآخر. حاول أبو جعفر كسب النَّفس الزكيَّة وعرض عليه الأمان والعفو عنه وعن جميع أهله ومن تبعه وتقديم العطايا عرفانًا له إن تراجع وأعلن بيعته لأبو جعفر، إلا أن الرفض كان جواب النَّفس الزكيَّة.[276] بعد استيلاء محمد النَّفس الزكيَّة على المدينة، أرسل سرية إلى مكَّة بقيادة الحسن بن معاوية وتمكن من الاستيلاء عليها، ثم أرسل محمد بكتاب إلى أهل الشَّام يدعوهم فيها لنصرته ومُبايعته إلا أنهم لم يلقوا له بالًا، خاصةً وأن أهل المدينة لم يجتمعوا عليه، ومنهم من رفض مبايعته، وبعضهم لزم داره. في رمضان سنة 145هـ / أواخر نوفمبر 762م، ثار إبراهيم بن عبد الله في البصرة، فزاد الأمر سوءًا على الخليفة أبو جعفر، وقُوةً نحو النَّفس الزكيَّة وأنصاره في المدينة. انتدب أبو جعفر جيشًا بقيادة وليُّ عهده عيسى بن موسى ومعه نخبة من الأمراء والقادة مثل محمد بن أبي العبَّاس، وحميد بن قحطبة، وكانت مهمتهم تقتضي منع أي إمداد من الشَّام ومصر إلى المدينة. فضَّل النَّفس الزكيَّة أن يبقى في المدينة ويُقاتل فيها باعتبار أن المُسلمين في العصر النَّبوي قد هُزموا حين غادروا المدينة في غزوة أحد، وزاد الأمر استغرابًا حين حفر حول المدينة خندقًا مُتأثرًا من غزوة الخندق، فكانت أفعاله سببًا في إنجاح الحصار المفروض عليه، وتسبب بانسحاب الكثير من أنصاره خارج المدينة مبتعدين عن القتال. فشلت جميع محاولات عيسى بن موسى لدعوة النَّفس الزكيَّة للطاعة وإعطائه الأمان خلال ثلاثة أيام من المُراسلات، وفي النهاية تمكن الجيش العبَّاسي من اجتياز الخندق بصناعة أحبال وجسور من الخشب عبروا عليها، وانتهى بالنَّفس الزكيَّة مقتولًا على يد حميد بن قحطبة في 14 رمضان سنة 145هـ / 5 ديسمبر 762م، وحُمل رأسه لأبو جعفر لتنتهي ثورته.[277]

اتَّخذ الخليفة أبو جعفر لقب المنصُور بعد أن قضى على ثورة النَّفس الزَّكيَّة، تعبيرًا عن أنه الشخص الذي أعانه الله على إحراز النَّصر على أعدائه، وأن ادعاء النَّفس الزَّكيَّة بمهديته، باطل من أساسه وإلا لما استطاع من القضاء عليه، ومنذ ذلك الحدث بات يُعرف بالمنصُور.[278]

ثورة إبراهيم في البصرة[عدل]

بمجرد وصول أخبار انطلاق ثورة أخيه محمَّد النَّفس الزكيَّة في المدينة المُنوَّرة، ثار إبراهيم بن عبد الله في البصرة جنوب أرض السَّواد من رمضان سنة 145هـ / أواخر نوفمبر 762م، فقد رأى أنها من أنسب الأماكن لثورة علويَّة. أشار الكُتَّاب وأهل الشُّورى على المنصُور بتعبئة ما أمكن من جنده، فقد جاء توقيتها سيئًا على المنصُور لعدم وجود جيش لديه، فجيوشه موزعة في خُراسان المُضطَّربة، وبعضها في إفريقية لمواجهة اضطرابات الخوارج، والأخيرة تُحارب النَّفس الزكيَّة في المدينة، فتعهَّد المنصُور أن لا يُخلي العاصمة من 30 ألف مُقاتل إذا عاد أي جيش إليه. استعمل المنصُور الشدة والحزم في مواجهة ثورة إبراهيم، فما كان يسمع عن رجل يدعو له في الكوفة حتى يرسل من يغتاله في بيته، بالإضافة لوضعه الكمائن على طريق البصرة، فيقتل من يُبايع إبراهيم ويُنصب رأسه في الكوفة ليتعظ بها الناس وتخف معنوياتهم أو أي محاولة لدعمه.[279] كان المنصُور مهمومًا ومنشغلًا من ثورة إبراهيم، فكان أول إجراءاته أن استدعى سرية في الجزيرة كانت ترابط لمواجهة الخوارج، ثم تبعها خبر انتصار عيسى بن موسى ومقتل النَّفس الزكيَّة، وهو الخبر الأهم والأكبر، فقد ساهم في انقلاب الأحوال، وكان نزوله على إبراهيم كالصَّاعقة، وقال بعض من رآه حينها: «نظرت إلى الموت في وجه إبراهيم».[280]

أضاع إبراهيم فرصة ذهبيَّة سابقة في التوجه نحو الكوفة حين كانت تخلو من جيوش بني العبَّاس، ثم تحرَّك حين وجد أن جيش عيسى بن موسى قادمًا من المدينة لمواجهته، ثم بعث خازم بن خُزَيمة التَّميمي لاسترداد الأهواز، فأعادها لسُلطة الخلافة. ارتكب إبراهيم بن عبد الله خطئًا عسكريًا كبيرًا حين أراد مواجهة جيش عيسى بن موسى، ورفض أن يجعل الجيش كتائب تلي بعضها بعضًا. التقى الجيشان ودار قتال شديد بين الطرفين، فانهزم الجيش العبَّاسي في البداية، إلا أن صمود عيسى بن موسى وثباته في المعركة مع 100 رجل من أهل بيته، قد كسر اندفاعة جيش إبراهيم، ثم تتابعت الهزائم على الأخير حتى قُتل مع خمسمئة من أنصاره في ذي القعدة أو ذي الحجَّة سنة 145هـ / فبراير أو مارس 763م. جيء برأس إبراهيم إلى المنصُور، فانفرجت أساريره غير أنه حزن لمقتل إبراهيم وبكى وسالت دموعه قائلًا: «والله لقد كنت لهذا كارهًا، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك»، وكان الناس يدخلون عليه مُهنئين فلم يرد عليهم أو يلتفت حتى دخل عليه جعفر بن حنظلة البهراني وقال: «أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرَّط فيه من حقك»، فاستحسن المنصُور وقع كلامه ورحَّب به، فعلم الناس أنه لا يريد من يذكره سوءًا، إلا أن أحد الأشخاص شتم إبراهيم في حضرة المنصُور، فرد الأخير الإساءة إليه وشتمه.[281]

خلع عيسى من العهد والبيعة للمهدي[عدل]

اختلفت الروايات حول سبب قيام الخليفة السَّفَّاح بتولية عيسى بن موسى وليًا للعهد بعد أبو جعفر المنصُور، إلا أن المنصُور أراد خلعه من ولاية العهد لدوافع عديدة، منها ما رآه تجاه ابنه مُحمَّد المهدي ومدى أهليته لها، فضلًا عن رؤيته لأهوال ومصائب الخلافة وتغلُّبه عليها، فأراد أن يُحافظ وريثه من صلبه على الخلافة.[282] كان المنصُور يُكرم عيسى بن موسى ويجلسه عن يمينه بينما يجلس المهدي في يساره، فلما كلمه بخلع نفسه وتقديم المهدي عليه، رفض عيسى وتعلَّل بالأيمان والعهود، فتغير المنصُور عليه وبدأ يبعده، فكان يأذن لابنه المهدي قبله، ثم بدأ يجلسه يمينه وأمر عيسى بالجلوس قرب المهدي، وبدأ المنصُور بإرسال أقاربه مثل عمه عيسى بن علي وغيره لإقناع عيسى بن موسى بالتنازل عن ولاية العهد اختياريًا.[283] حين وجد المنصُور بأن عيسى بن موسى ما زال مُعاندًا في ولاية عهده، اختلفت الرِّوايات في ما قام به لمواجهة عيسى بن موسى، فالرواية الأولى تذكر أنه وجَّه بحيلة فأمر الرَّبيع الحاجب بخنق موسى ابن عيسى بعد أن تورَّط بالكلام في شيء، فصاح موسى مستنجدًا بالخليفة قائلًا له بأن أبوه لن يبالي بوفاته وله بضعة عشرة من الذكور، فأشار المنصور على الرَّبيع بإكمال خنقه وكان أبوه حاضرًا، فقال: «والله يا أمير المؤمنين ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله! فاكفف عنه، فها أنا ذا أشهدك أن نسائي طوالق، ومماليكي أحرار وما أملك في سبيل الله تصف ذلك في من رأيت يا أمير المؤمنين!»، ثم مد يده للمهدي قائلًا: «وهذه يدي بالبيعة للمهدي». في حين تشير الرواية الثانية أن عيسى بن موسى أخر نفسه في ولاية العهد بمال قدره 11 مليون درهم. وعلى أية حال، فإن عيسى بن موسى أصبح وليُّ العهد الثاني بعد المهدي في سنة 147هـ / 764م.[284][285]

ثورة أستاذ سيس في خُراسان[عدل]

استقر أمر خُراسان ثمانية أعوام منذ هزيمة الأزدي في سنة 142هـ / 759م، ولم تحدث أزمة كبيرة إلا في عام 150هـ / 767م، فقد خرج أحد زُعماء الفُرس المجوس، والمعروف بالأستاذ سيس، والأستاذ بالفارسيَّة تعني المُعلِّم، وقاد ثورة كبيرة تعد من أبرز حركات الشُّعوبيَّة الفارسيَّة ضد الحكم العربي والإسلامي على حدٍ سواء، فاجتمع حوله نحو 300 ألف من أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من مناطق خُراسان، فتوجَّهوا نحو أهل مرو الرُّوذ ودارت معركة دمويَّة بين الطرفين انهزم فيها الأجشم المروروذي وقُتل، وانهزم معه عدد من القادة، منهم مُعاذ بن مُسلم والذي نجا من الواقعة، ثم قاموا بقتل الكثير من المُسلمين واستولوا على مناطق واسعة. وصلت الأنباء للخليفة المنصُور حين كان في الراذان، فأمر ابنه محمَّد المهدي بتولي المسألة، فجهَّز المهدي القائد المُخضرم خازم بن خُزَيمة التَّميمي مع نخبة من القادة وعيَّنه على رأس أربعين ألف مُقاتل، فسار خازم إلى أستاذ سيس وما زال يراوغ ويماكر ويعمل الخديعة في جيشه حتى فاجأهم بالحرب، وتمكن من هزيمتهم وقتل نحوًا من 70 ألفًا، وأسر 14 ألف آخرين، ومنهم الأستاذ سيس والذي أعدم إطفاءً لشرِّه. أصبحت ابنة أستاذ سيس وتُدعى مراجل جارية لدى حفيد المنصُور، هارُون الرَّشيد (حكم 786-809م)، وأنجبت له عبد الله المأمون (حكم 813-833م).[286][287]

وفاته في مكة[عدل]

النَّهضة المنصُوريَّة[عدل]

بناء بغداد عاصمة الخلافة[عدل]

أسباب البناء واختيار الموضع[عدل]

يحتار المُؤرخ أن يبحث عن الكلمات كثيرًا قبل أن يسطر كلامه عن بغداد، تلك المدينة التي خلَّدت أبا جعفر المنصور كواحد من أعظم ملوك الدنيا في كل التاريخ الإنساني، ذلك أن بغداد لم تكن فقط عاصمة العباسيين، ولا حتى عاصمة الإسلام، بل كانت بغداد ولفترة طويلة من الزمن عاصمة الدنيا كلها..
—محمد إلهامي[288]

في بداية الأمر، تنقَّل الخليفة أبُو العبَّاس السَّفَّاح بين ثلاث مواضع، فتُوفي ولم يضع حلًا مرضيًا لمشكلة اتخاذ عاصمة دائمة للدَّولة الوليدة، فلما خلفه المنصُور، اهتم باختيار عاصمة لدولته، فأكمل استقراره في الهاشميَّة من نواحي الكوفة التي استقرَّ بها السَّفَّاح قبله، إلا أن ظهور الرَّاونديَّة وحدوث الاضطرابات قرب قصره ومحاولتهم قتله، أعطت المنصُور شعورًا بأنه لم يعد من الآمن البقاء فيها، فكره سُكَّانها وكره مُجاورة أهل الكوفة لكونهم على استعداد لدعم أي ثورة وإفساد الجند عليه، وشعر بأن اللحظة قد حانت للبحث عن موضع يبني فيه مدينة جديدة له وكان خالد بن برمك أحد ممن وافقه الرأي،[266][268][289][290] فأرسل مجموعة لاستكشاف المواضع المناسبة ليبني فوقها، وذهب بنفسه للاستكشاف أحيانًا، فانطلقوا إلى جرجرايا، ثم ساروا إلى موضع بغداد وكانت عبارة عن قرى ودير ثم مضوا إلى الموصل لإيجاد أفضل موقع لتشييد حاضرة الخلافة، ثم عادوا أخيرًا إلى موضع بغداد واستحسنوه، وأخبروا المنصُور عنها، فذهب الأخير وألقى نظرة عليها وقال: «هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء يأتينا فيها كل ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كل شيء من الشَّام والرَّقَّة وما حول ذلك»، وكان ذلك في سنة 144هـ / 761م، أي قبل ثورة مُحمد النَّفس الزكيَّة بفترة.[291]

لم يكن اختيار الموقع كافيًا بالنسبة للمنصُور فحسب، بل أراد معرفة أحوالها وأجوائها في الصيف والشتاء والعواصف ونقاء هوائها وما إلى ذلك، فوجدها المُرشَّحة الأولى لذلك.[292][293] ومما زاد من أهمية موضع بغداد وإنشائها، أن لها ميزة إداريَّة وحربيَّة، خاصةً أن الهدف الرئيسي من بناء بغداد كان عسكريًا بالدرجة الأولى، ففي نصيحة دهقان وصاحب موضع بغداد للمنصُور قال: «وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدوك وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله وأنت قريب من البر والبحر والجبل».[294][293][295] اعتنى المنصُور باتخاذ عاصمته في العراق لتوسطها الأقاليم الشَّرقيَّة كفارس وخُراسان، والغربيَّة كالشَّام ومصر، والجنوبيَّة كالحجاز وعُمان، فضلًا لكون العراق مصدر قُوة العبَّاسيين وأنصارهم، في حين كانت دمشق عاصمة الأمويين ومركز العرب ذوي الأهواء الأمويَّة، بينما تفتقر الحجاز للموارد اللَّازمة، ولبعد أهلها عن أمور الخلافة ومشاكلها منذ ثورة عبد الله بن الزبير سببًا إضافيًا.[296][297] يروي الطَّبري عن حمَّاد التُّركي أن المنصُور نزل دير سوق البقر (الذي بُني فوقه قصر الخُلد)، وأخبر راهب الدير بأنه يريد بناء مدينة في محله، فأجابه الرَّاهب قائلًا: «لا يكون، إنما يبني ها هنا ملك يقال له أبو الدوانيق» فضحك المنصُور في نفسه، وقال: «أنا أبو الدوانيق» وأمر بتخطيط المدينة.[298] وقيل أنه سأل راهبًا إن كان يجد في كتبه شيئًا حول بناء مدينة، فأجابه الرَّاهب بأن رجلًا يدعى مقلاص سيبنيها، فأجاب المنصُور: «أنا كنت أدعى مقلاصًا في حداثتي»، فرد الرَّاهب: «فأنت إذًا صاحبها».[294]

أصل التسمية[عدل]

أطلق المنصُور اسم مدينة السَّلام على عاصمته الجديدة، لأن دجلة كان يُقال لها وادي السَّلام، وهو الاسم الرَّسمي الذي استخدم في الوثائق وصك النُّقود.[299] عُرفت مدينة السَّلام بأكثر أسمائها شُهرةً وهو بغداد، وهي تسمية أعجميَّة، ويعود أصلها لما ذكره بعض المُؤرخين أنه أُهدي لكُسرى خصي من المشرق فأقطعه بغداد، وكان لهم صنم يعبدونه يقال له بغ، فقال الخصي: بغ داد، أي أعطاني الصنم، فجرت العادة على ما قاله، وكان الاسم محل كراهية بين الفُقهاء.[300][301][302]

بناء بغداد[عدل]

كان موضع بغداد عبارة عن مزرعة لستين شخصًا يُقال لها المُباركة، فاشتراها منهم المنصُور وأرضاهم بقيمته، ثم استدعى المُهندسين والبنائين والحفَّارين والحدَّادين وغيرهم ممن يجيد ويفهم أمور البناء من الشَّام والموصل والجبال والكوفة وواسط والبصرة، حتى اجتمع له ألفين من الصُّناع والمهرة، واختار معهم قومًا من ذوي الشَّرف والفضل ليقوموا على أمر البناء مثل الإمام أبُو حُنيفة النعمان، والحجَّاج بن أرطأة.[303][304] أمر المنصُور قبل بدء البناء أن يرى نموذجًا لشكل المدينة المُستقبلي، لتُرسم الأرض بالرماد، فسار في طرقاتها ودخل أبوابها ورحابها وتخيَّلها على حالها القادم، ولأنه اهتم بإيضاح معالمها بصورة أدق، وضع على الخطوط حبَّ القطن ثم وضع عليه النَّفط ليُشعل فيها النار، فرُسمت حدود المدينة ومعالمها واتضحت له تمامًا، فأمر ببدء البناء على أساس التخطيط الذي أراده، فباشر الصُّناع والمهرة بحفر الأساسيات، وضرب اللبن وطبخ الآجر ابتداءً من سنة 145هـ / 762م. وضع المنصُور بنفسه أول أحجارها قائلًا: «بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ابنوا على بركة الله».[305][304] يعد تخطيط وبناء بغداد تعبيرًا واضحًا على عِلم المنصُور ورجاحة عقله، فقد تدخَّل بنفسه في اختيار وتخطيط وتصميم بغداد.[306]

خريطة تظهر حدود المدينة المُدوَّرة التي بناها المنصُور واتَّخذها حاضرة للخلافة الإسلاميَّة حين استقر فيها في شهر صفر سنة 146هـ / مايو 763م.[307]

قُسِّم بناء بغداد بين أربعة مُشرفين، يتولى كل واحدٍ منهم متابعة البناء في قسمه.[305] بُني للمدينة أربعة أبواب، فوق كُل باب قُبَّة فسيحة قطرها خمسون ذراعًا (نحو 57 متر)، يجلس فيها المنصُور إذا أراد النظر أو الاستمتاع أو المراقبة. عُرفت الأبواب الأربعة: باب خُراسان (ويُسمى باب الدَّولة) تقديرًا لكون خُراسان مهد دولة بني العبَّاس، وكانت القبة تكشف الأنهار والجداول وطريق خُراسان، وباب الشَّام وتكشف قبتها الأرباض وامتداد الأنحاء خارج بغداد، وباب البصرة وتكشف قبتها منطقة الكرخ والأسواق الجنوبيَّة، وختامًا باب الكوفة وقبتها تكشف البساتين والضياع.[308] حفر عند الأبواب الخنادق وعُمل لها سورين وفصيلين (وهو حائط قصير أقل من السُّور)، بين كل بابين فصيلان والسُّور الداخل أطول من الخارج، ومنع البناء تحت السُّور الطويل الداخل أو السكن فيه، ثم بني من بعده القصر والمسجد الجامع.[309]

كان الهدف من إنشاء بغداد هو جعله سكنًا للخليفة وحاشيته وحرسه وجنده، أي أن سكانها الأوليين كانوا أناس مُختارون من ذوي الطابع العسكري بالدرجة الأولى، ثم الإداري، إلا أن بناء بغداد ونموُّها واحتياجها للمزيد من السُّكان، جعلت المنصُور يأمر بإنشاء أسواق الشراء والبيع في مختلف أرجاء بغداد وإنشاء الأحياء السكنيَّة مثل الرصافة والكرخ.[310] كانت الأسواق في البداية قريبة من قصر الخلافة، فكانت أصوات الباعة وصوت الأسواق تُسمع منه، فعاب ذلك بعض البطارقة الرُّوم ونبَّه المنصُور بثلاثة عيوب لم تخطر في باله، فأخبره بعدم وجود المياه، وأن المدينة ليس فيها بساتين تحسن في عين المرء، وأن الأسواق والرعيَّة قريبة من دار المُلك وهذا الأمر خطير وقد يسهل من وجود الجواسيس بقصد التجارة، فأمر الخليفة بنقل الأسواق إلى الكرخ في سنة 157هـ / 774م، وأُعيد تصميم الطُّرُقات بحيث تكون متسعة أربعين ذراعًا في أربعين ذراعًا (نحو 45 متر في 45 متر) ومُنع الناس من البناء في هذه المساحة حتى لا تكون عشوائيَّة، وأمر بمد قناتين من دجلة.[311][312][313][314] كانت الأبنية الفخمة في زمن المنصُور مقصورة على القصر والمسجد الجامع.[315]

انتقال المنصُور واستقراره فيها[عدل]

أُنجز بناء معظم بغداد في سنة 146هـ / 763م أي بعد ثلاث سنوات من العمل عليها، ليُقبل المنصُور قادمًا إليها من الهاشميَّة في صفر سنة 146هـ / مايو 763م،[267][316][307] وانتقلت معه الخزائن وبيوت الأموال والدواوين إليها في نفس السنة،[317] مُستقرًا في قصره الذي عُرف بعدد من الأسماء مثل قصر باب الذهب أو قصر الذهب أو قصر أبو جعفر، مُحاطًا بأبنية بيوت أولاده والدواوين والحرس الخاص.[318] كُلِّف بناء بغداد بصورتها البسيطة في زمن المنصُور 4 ملايين و833 ألف درهم،[319][307] وقيل 18 مليون دينار.[320][321] وعلى الرُّغم من التفاوت الكبير في رقم التكلفة بين المُؤرخين، فإنه كان يتم بالتشديد التام في الإنفاق، فقد حُبس أحد المُشرفين على البناء لعجز في الميزانيَّة بلغ خمسة عشر درهمًا، وهو مبلغ لا قيمة له بالنسبة لهذا العمل، إلا أنه يدل على مدى الاهتمام التي تميز بها المنصُور في مراقبة الفساد المالي أثناء إعمار المدينة.[308][321][319]

يعد تخطيط مدينة السَّلام مُبهرًا وجديدًا من نوعه على مستوى المُدُن الإسلاميَّة، إذ كان تصميم السُّور دائريًا بمناطق مُنظمة الطُّرق ويتوسطهُ قصر الخليفة حتى لُقِّبت بالمدينة المُدوَّرة،[309] فقيل أن النمط الدائري هو تراث آشوري منذ ما قبل الميلاد،[308] وقيل بأنه تأثر بهندسة مدينة أكبتان - همدان حاليًا - عاصمة الميديين، فقد كانت محاطة بسبعة أسوار، وكان محل قصر الملك وبيت ماله في وسط السور الداخلي، بينما تقع بيوت الرعية بين الأسوار.[322] ظهر الأثر الفارسي في تخطيط المدينة، إذ فصل الخليفة موقعه عن الرَّعية وجعل له مقامًا ساميًا يصعب الوصول إليه، كما أن ضخامة القصر والإيوان تظهر أبَّهة المُلك، ويشير الباحث العراقي عبد العزيز الدوري، إلى أن حصر بيوت السُّكان في أحياء منفصلة يمكن إغلاقها ليلًا وحراستها بصورة دقيقة، تدل على السُّلطة المُطلقة المُقتبسة من الفُرس، مُعارضة مع أرستقراطية الأمويين العرب والديمقراطيَّة الإسلاميَّة على حد سواء حسب تعبيره.[322] اكتملت أعمال بناء بغداد من إكمال بناء السُّور الخارجي، وحفر الخندق حوله، ونقل الماء إلى المدينة في سنة 148هـ / 766م، ليبلغ محيط بغداد 4 أميال (أي نحو 5 كيلومتر مربع).[267]

نهضة بغداد اللَّاحقة[عدل]

بسبب التخطيط الدائري للمدينة، فإن ذلك لم يعطها قدرًا من النمو والاتساع، فاتجه الناس بعد ذلك إلى البناء خارج الأسوار، فأنشئت الكرخ وأصبحت مدينة خاصَّة للتجَّار، وبنيت الرصافة في الجانب الشرقي من بغداد، واتسعت المدينة على جانبي دجلة اتساعًا منقطع النظير. بقيت المدينة المُدوَّرة التي بناها المنصُور على حالها حتى وفاة حفيده هارُون الرَّشيد سنة 193هـ / 809م، فقد شبَّت الحرب بين الأمين والمأمُون وتعرَّضت للدمار في بعض أنحائها وأصيب قسمًا من سورها وبيوتها حين حاصرها القائد المأموني طاهر بن الحسين وضربها بالمجانيق.[323] اختفت مدينة المنصُور عن الأنظار بنهاية القرن الرَّابع الهجري / أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، فقد تداخلت الأقسام الباقية من المدينة مع الأبنية التي قامت خلف أسوار بغداد القديمة وحولها.[324]

يعد بناء حاضرة الخلافة الجديدة بمثابة تحوُّل مركز الثقل السياسي من دمشق إليها، وأصبحت الولايات على امتداد الخلافة الإسلاميَّة تتلقى أوامرها منها، وقد نهضت بغداد خير نهوض على مدى قرن ونصف وخلَّدت العُلماء والأعمال العِلميَّة والأدبيَّة والفنيَّة، وطغت شهرتها على القسطنطينية وغيرها من المُدُن الإسلاميَّة المُعاصرة لها، واستمرت مكانتها السياسيَّة في زمن ابنه المهدي وأحفاده من الهادي حتى المُعتصم (833-842م) حين فقدت مكانتها السياسيَّة كمركز للخلافة في عهده لصالح سُرَّ من رأى التي بناها، ثم عادت أهميتها في عهد المُعتضد (892-902م) حين عاد إليها، وبقيت حاضرة للخلافة الإسلاميَّة وحكم بني العبَّاس حتى سقوطها على يد المغول سنة 656هـ / 1258م.[325]

سياسته الخارجيَّة[عدل]

العلاقة مع الإمبراطورية البيزنطيَّة[عدل]

ورث المنصُور علاقة سيئة شبه مُستدامة مع الرُّوم نتيجة الخلافات الإسلاميَّة الرُّوميَّة والمُمتدة منذ أواخر العصر النَّبوي، وكانت الحدود بين الخلافة العبَّاسية والرُّوم كما كانت في أيَّام خلافة بني أميَّة، فعلى الرُّغم من مضي أول سنتين من حُكم المنصُور في هدوء معهم لانشغاله في ثورة عمِّه عبد الله بن علي ومن ثم حرب سنباذ المجوسي في خُراسان، وجد الملك قُسْطنطين الخامس فرصته في النَّيل من الخلافة مُستغلًا أوضاعها، فخرج على رأس حملة مُتوجهًا نحو ملطية، فدخلها وغلب أهلها وهدم سُورها إلا أنه عفا عمَّن فيها ولم يتعرَّض بالقتل للمُسلمين فيها، إذ كان هدفه تحطيم الدفاعات الإسلاميَّة المنتشرة على طول الثُّغور في أوائل سنة 138هـ / منتصف 755م،[326][327] وقيل في سنة 139هـ / 755 أو 756م.[328] أمر المنصُور أخوه العبَّاس بن محمَّد للخروج مع نُخبة من الأمراء مثل صالح بن علي وعيسى بن علي على رأس حملة تتكوَّن من 40 ألف مُقاتل كرد فعل على هجوم قسطنطين، فوُكِّل صالح بن علي بدايةً ببناء ما أخربه ملك الرُّوم من سور ملطية، ثم توغَّلوا في أرض الرُّوم من جبهتي الحدث وملطية في صيف سنة 139هـ / منتصف 756م، ثم حدث الفداء بين الطرفين، فاستفدى المنصُور أسرى قاليقلا (قرب أرض الرُّوم) وغيرهم ثم أمر ببنائها وعمرانها ورد أهلها إليها، وندب جندًا من أهل الجزيرة لحمايتها.[329][327]

بعد تبادل الفداء بين العبَّاسيين والرُّوم، وجَّه المنصُور ابن أخيه عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام في حملة صيفيَّة سنة 140هـ / منتصف 757م على رأس 70 ألف مُقاتل، وحين علم قسطنطين بمسير عبد الوهاب ومن معه إلى ملطية، توجَّه على رأس 100 ألف مُقاتل ونزل جيحان واتخذها قاعدة عسكريَّة له، إلا أنه خشي العاقبة وانسحب بقُوَّاته بعد أن بلغه كثرة جموع جيش الخلافة، ومع أنه انسحب، إلا أن الجيش العبَّاسي بقي مرابطًا فيها لئلا يطمع فيهم قسطنطين، فرجع إليها بقية أهلها بعد شعورهم بالأمان.[330][328] توقفت الحملات الصَّيفيَّة السَّنويَّة على الرُّوم لستة سنوات نتيجة انشغال المنصُور لإخماد الثورات والاضطرابات في البلاد، واستأنفت على يد القائد جعفر بن حنظلة البهراني في أوائل سنة 146هـ / منتصف 763م.[328] استمرت الحملات الصَّيفيَّة من بعده بشكلٍ مُتقطع، وقد توفي القائد المُخضرم محمَّد بن الأشعث الخُزاعي في الطَّريق خلال حملة الصَّائفة سنة 149هـ / منتصف 766م بعد أن قادها العبَّاس بن محمَّد العبَّاسي ومعه الحسن بن قحطبة. تمكن معيوف بن يحيى الحجوري من اغتنام الكثير من الرُّوم وأسر ستة آلاف منهم سنة 153هـ / منتصف 770م مُحققًا مع حملة زفر بن عاصم الهلالي سنة 154هـ / منتصف 771م، وحملة يزيد بن أسيد السلمي في سنة 155هـ / منتصف 772م، خسائر فادحة في جانب الرُّوم، ليُرسل ملك الرُّوم طلبًا للصَّلح على أن يدفع للخلافة جزية سنويَّة، إلا أنه قُوبل برفض المنصُور، ليشن حملات صيفيَّة سنويَّة بقيادة يزيد بن أسيد وزفر بن عاصم ومعيوف بن يحيى خلال الأعوام 156 و157 و158هـ / 773 و774 وسنة 775م التي توفي فيها المنصُور وتوفى فيها أيضًا قسطنطين الخامس.[331]

حياته الشخصية[عدل]

صفاته[عدل]

صفته الخلقيَّة[عدل]

وُصف المنصُور بأنه رجلًا طويلًا مَهيبًا، نحيف الجسم، أسمر اللَّون، موفر اللِّمَّة أي أن شعره جاوز أذنيه ولم يصل إلى كتفيه، خفيفُ شعر العارضين، رحِب الجبهة، أقنى الأنف، يخضب بالسَّواد.[4][14][33][332][333] ينقل الخطيب البغدادي رواية عن علي بن ميسرة الرَّازي حينما رأى المنصُور قائلًا: «رأيت سنة خمس وعشرين أبا جعفر المنصُور بمكة، فتى أسمر رقيق السَّمرة، موفر اللِّمة، خفيف اللَّحية، رحب الجبهة، أقنى الأنف بين القنى، أعْيَن كأن عينيه لسانان ناطقان تخالطه أبهة الملوك بزي النُّساك، تقبله القلوب وتتبعه العيون، يُعرف الشرف في تواضعه والعتق في صورته، والليث في مشيته»،[11][14] بينما نقلها ابن قُتيبة الدَّينوري عن شبيب بن شيبة حين حج ورأى المنصُور في سنة 125هـ / 743م برواية مُطوَّلة.[334]

أخلاقه ودينه[عدل]

وصف الخليفة المنصُور بأنه كان شديد التمسُّك بالدين، بعيدًا عن الشُّبهات، فخلى قصرُهُ وحاشيته من مظاهر الأبَّهة والغناء وما إلى ذلك. كان كريمًا في موضع العطاء، وشُحًا في موضع المنع، حتى سار المثل بشحِّه وسُمي «أبا الدَّوانيق» لشدته في مُحاسبة العُمَّال والصُّنَّاع على الحبَّة والدَّانق. حرص المنصُور على الأموال العامَّة والخاصَّة، وقد يُؤثر التَّضحية بالدماء في سبيل التضحية بالأموال. كان مقدامًا حازمًا لا يتورَّع في التنفيذ، ولا يتهيَّب الوسائل، وكانت الغاية لديه تبرر الوسيلة، حتى لو اضطَّر لنقض الوعود ونكث العهود.[335]

ألقابه[عدل]

اتَّخذ الخليفة أبو جعفر لقب المنصُور بعد أن قضى على ثورة العلويين (762-763م) بقيادة محمَّد بن عبد الله المُلقَّب حينها بالنَّفس الزَّكيَّة مُدعيًا المهديَّة، تعبيرًا عن أنه الشخص الذي أعانه الله على إحراز النَّصر على أعدائه، وأن النَّفس الزَّكيَّة قد ادَّعى المهديَّة باطل من أساسه وإلا لما استطاع من القضاء عليه. يعد لقب المنصور على نفس نمط الألقاب المهدويَّة مثل السَّفَّاح والإمام والمهدي والهادي، ليكون أول الخُلفاء الذين اتخذوا الألقاب رسميًا، ولعلَّه استلهم من أحد شعارات ثورة بني العبَّاس في شهر رمضان حين هتف الجند: «يا محمد يا منصور»، قاصدين بذلك مُحمَّد بن علي مؤسس الدَّعوة والذي له علاقة كبيرة بالقبائل اليمانيَّة.[278] عرَّف المنصُور عن نفسه بأنه سُلطان الله في أرضه في خطبةٍ له جاء فيها: «أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه، فارغبوا إلى الله وسلوه أن يوفقني للرشاد والصواب وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم».[336] عُرف عن المنصُور سياسة الاقتصاد والحرص المالي التي اتَّبعها في خلافته، مما جعل بعض الناس يطلقون عليه الدَّوانيقي، وصرَّح المنصُور عن نفسه ذات مرة قائلًا: «أنا أبو الدوانيق» كنايةً عن حرصه على المال.[298][337]

أقواله[عدل]

لبلاغة وعِلم المنصُور وأدبه عُرف عنه العديد من الأقوال التي تداولتها الكُتُب التَّاريخيَّة، ومنها:

  • اهتم المنصُور باستذكار سيرة الخُلفاء والملوك السَّابقين، فقال مرَّة: «الخُلفاء أربعة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والملوك أربعة، معاوية، وعبد الملك، وهشام، وأنا».[14][338] وقال في مناسبة أخرى «الملوك أربعة: معاوية وكفاه زيادُه، وعبد الملك وكفاه حجَّاجُه، وهشام وكفاه مواليه، وأنا ولا كافيَ لي».[339] أبدى إعجابه وإنصافه في بعض خُلفاء بني أميَّة قائلًا: «معاوية للحلم والأناة، وعبد الملك للإقدام والإحجام، وهشام لتقسيط الأمور ووضعها مواضعها»،[340] وقال عن عمر بن عبد العزيز ومروان بن محمد: «ولنعم الرجل كان عمر بن عبد العزيز، كان أعور بين عميان .. نعم صاحب الحرب حمار الجزيرة (لقب مروان) من رجل لم يكن عليه طابع الخلافة».[341]
  • وقال في نصيحته لشبيب بن شيبة التميمي خلال حجِّه في سنة 125هـ / أكتوبر 743م: «لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاثة .. قدحٌ في الدين، وهتك للملوك، وتهمة في حرمة».[342][343] وقال له «احفظ عني ما أقول لك، أصدق وإن ضرَّك الصدق، وانصح وإن باعدك النُّصح، ولا تُخالطن لنا عدوًا وان أحظيناه، فإنه مخذول، ولا تخذلن وليًا وإن أقصبناه، وأصحبنا بترك المُماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تستخف فيمقتوك، ولا تنقبض فيحتشموك، ولا تخطب الأعمال ولا تتعرض للأموال».[342][343]
  • «من أحب أن يحمد بغير مرزئة فليحسِّن خلقه ولينبسط بِشره».[344]
  • «أخطأت في ثلاث: قتلت أبا مسلم وأنا في جماعة قليلة، وحين خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبت الخلافة، ويوم الرَّاوندية لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعًا».[345]

ميراثه[عدل]

المُؤيدون[عدل]

  • سلام الأبرش مولى المنصُور: «كنت أخدم المنصور داخلًا (في منزله)، وكان من أحسن الناس خُلقًا، ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالًا لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثوبه اربد لونُه، واحمرَّت عيناه فيخرج منه ما يكون».[346]

المُتوازنون[عدل]

  • والي العراق الأموي ابن هُبَيْرة: شهد له بالدَّهاء وكان مُعجبًا بالمنصُور، فقال في أحد المُناسبات: «ما رأيت رجلًا قط في حرب، ولا سمعت به في سلم أنكر ولا أمكر ولا أشد تيقظًا من أبي جعفر، لقد حصرني تسعة أشهر ومعي فرسان العرب فجهدنا بكل الجهد أن ننال من عسكره شيئًا فما تهيأ لنا، وقد حصرني وما في رأسي شعرة بيضاء فخرجت إليه وما في رأسي شعرة سوداء».[347][348]
  • الإمام الحافظ شمس الدين الذَّهبي: «وكان فحلَ بني العبَّاس هيبة وشجاعة، ورأياً وحزماً، ودهاءً وجبروتاً، وكان جمَّاعاً للمال، حريصاً، تاركاً للَّهو واللعِب، كامل العقل، بعيد الغَور، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعِلم» وينتقد بعض أعماله، قائلًا: «أباد جماعةً كباراً حتى توطَّد له الملك، ودانت له الأمم على ظُلم فيه وقوة نفس»، ومع ذلك، فإنه يؤكد على حُسن مذهبه وتديُّنه قائلًا: «ولكنه يرجع إلى صحة إسلامٍ وتديُّن في الجُملة، وتصوُّنٍ وصلاة وخير، مع فصاحة وبلاغة وجلالة».[33]
  • الأديب والمُؤرخ الأندلسي ابن دحية الكلبي: «وكان المنصور أحزم الناس، قد عركته الأيام أيَّما عرك، وحكَّته بتقلبه فيها قبل إفضاء الأمر إليه بكل محك، فكان يجود بالأموال حتى يقال هو أسمح الناس، ويمنع في بعض الأوقات حتى يقال هو أبخل الناس، ويسوس سياسة الملوك، ويثب وثبة الأسد العادي على الناس، ويتذكر ما فعل بنو أمية ببني علي وبني العباس».[349]

المُنتقدون[عدل]

  • المُؤرخ المطهر المقدسي: «وذكروا أنه كان رجلًا أسمر نحيفًا طويل القامة قبيح الوجه دميم الصورة ذميم الخُلق أشحَّ خلقِ الله وأشده حُبًا للدينار والدراهم سفاكًا للدماء ختارًا بالعهود غدارًا بالمواثيق كفورًا بالنعم قليل الرحمة»، وذكر في جملة أحكامه قائلًا: «في الجملة والتفصيل كان رجلًا دنيئًا خسيسًا كريهًا شريرًا».[350] يُعلق الدكتور حسن فاضل العاني على وصف المقدسي، قائلًا: «وتعتبر هذه الرواية شاذة في موضعها ويبدو التحامل فيها واضحًا وربما لميول المقدسي الشيعية أثر كبير في هذا الوصف، الذي وصل إلى حد التعريض والطعن والتجريح، من غير سند تاريخي يعضده فضلًا عن مخالفته لما أجمع عليه سائر المؤرخين في وصفه».[351]

انظر أيضًا[عدل]

مراجع[عدل]

فهرس المنشورات[عدل]

  1. ^ أدهم (1969)، ص. 13.
  2. ^ أدهم (1969)، ص. 57-58.
  3. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 157.
  4. ^ ا ب ج د الدياربكري (1884)، ج. 2، ص. 362.
  5. ^ ابن عبد ربه (1983)، ج. 5، ص. 370.
  6. ^ ا ب ج السيوطي (2004)، ص. 206.
  7. ^ المسعودي (1893)، ص. 340.
  8. ^ الروحي (2001)، ص. 106.
  9. ^ أدهم (1969)، ص. 57 - 58.
  10. ^ ا ب ج العاني (1981)، ص. 46.
  11. ^ ا ب البغدادي (2004)، ج. 10، ص. 55.
  12. ^ الطبري (2004)، ص. 1259.
  13. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 663.
  14. ^ ا ب ج د ه و ز ح ط ابن كثير (2004)، ص. 1520.
  15. ^ ابن الجوزي (1995)، ج. 6، ص. 335.
  16. ^ ابن عبد ربه (1983)، ج. 5، ص. 370.
  17. ^ العاني (1981)، ص. 45.
  18. ^ الخضري (2003)، ص. 56.
  19. ^ العاني (1981)، ص. 44-45.
  20. ^ ابن عبد ربه (1983)، ج. 5، ص. 370.
  21. ^ العاني (1981)، ص. 46.
  22. ^ ا ب ج ابن العمراني (1999)، ص. 62.
  23. ^ العاني (1981)، ص. 40-41.
  24. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 661.
  25. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 665.
  26. ^ أدهم (1969)، ص. 28-29.
  27. ^ أدهم (1969)، ص. 58.
  28. ^ السيوطي (2003)، ص. 207.
  29. ^ ابن العمراني (1999)، ص. 62-63.
  30. ^ ابن العمراني (1999)، ص. 63.
  31. ^ ا ب ج البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 243.
  32. ^ ابن العمراني (1999)، ص. 62.
  33. ^ ا ب ج الذهبي (1996)، ج. 7، ص. 83.
  34. ^ ا ب ج د أدهم (1969)، ص. 58.
  35. ^ العاني (1981)، ص. 48-49.
  36. ^ ابن الأبار (1985)، ج. 1، ص. 33.
  37. ^ ا ب العاني (1981)، ص. 47.
  38. ^ ابن دحية (1946)، ص. 30.
  39. ^ العاني (1981)، ص. 46-47.
  40. ^ ا ب ابن سعد (1968)، ج. 5، ص. 314.
  41. ^ العاني (1981)، ص. 54.
  42. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 742-743.
  43. ^ ا ب خليفة (1931)، ص. 22-23.
  44. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 750-751.
  45. ^ إلهامي (2013)، ص. 80.
  46. ^ المبرد (1997)، ج. 2، ص. 161.
  47. ^ المبرد (1997)، ج. 2، ص. 161-162.
  48. ^ إلهامي (2013)، ص. 80.
  49. ^ الخضري (2003)، ص. 9.
  50. ^ شاكر (2000)، ج. 5، ص. 92.
  51. ^ خليفة (1931)، ص. 19-20.
  52. ^ المقدسي (1899)، ص. 58-59.
  53. ^ ا ب الذهبي (1996)، ج. 6، ص. 58.
  54. ^ ا ب الدينوري (1912)، ج. 2، ص. 108.
  55. ^ إلهامي (2013)، ص. 82-83.
  56. ^ أدهم (1969)، ص. 35.
  57. ^ العاني (1981)، ص. 51-52.
  58. ^ إلهامي (2013)، ص. 106-107.
  59. ^ إلهامي (2013)، ص. 83.
  60. ^ مجهول (1971)، ص. 213-215.
  61. ^ العاني (1981)، ص. 52.
  62. ^ العاني (1981)، ص. 52-53.
  63. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 837-838.
  64. ^ ا ب ابن خلكان (1978)، ج. 2، ص. 411.
  65. ^ العاني (1981)، ص. 53-54.
  66. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 243.
  67. ^ ابن خلكان (1978)، ج. 3، ص. 461.
  68. ^ العاني (1981)، ص. 54-55.
  69. ^ العاني (1981)، ص. 55.
  70. ^ ا ب العاني (1981)، ص. 56.
  71. ^ ا ب ابن الأبار (1985)، ج. 2، ص. 339.
  72. ^ العاني (1981)، ص. 54-56.
  73. ^ العاني (1981)، ص. 57.
  74. ^ اليعقوبي (2010)، ج. 2، ص. 251.
  75. ^ المبرد (1997)، ج. 2، ص. 162.
  76. ^ العاني (1981)، ص. 57.
  77. ^ ا ب الصفدي (2000)، ج. 6، ص. 70.
  78. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 733.
  79. ^ ابن خياط (1985)، ص. 356.
  80. ^ العاني (1981)، ص. 58.
  81. ^ الدينوري (1912)، ج. 2، ص. 112.
  82. ^ ا ب الدينوري (1912)، ص. 138-139.
  83. ^ العاني (1981)، ص. 59-60.
  84. ^ العاني (1981)، ص. 57-58.
  85. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 733-734.
  86. ^ ا ب ج أدهم (1969)، ص. 59.
  87. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 751-752.
  88. ^ الجهشياري (1988)، ص. 64.
  89. ^ العاني (1981)، ص. 61.
  90. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 760-761.
  91. ^ ا ب ابن خياط (1985)، ص. 387.
  92. ^ ا ب أدهم (1969)، ص. 60.
  93. ^ ا ب ج الجهشياري (1988)، ص. 65.
  94. ^ أدهم (1969)، ص. 59-60.
  95. ^ البغدادي (2004)، ج. 10، ص. 56.
  96. ^ ا ب البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 244.
  97. ^ ابن الجوزي (1995)، ج. 8، ص. 15.
  98. ^ العاني (1981)، ص. 62.
  99. ^ العاني (1981)، ص. 63.
  100. ^ ا ب ابن كثير (2004)، ص. 1475.
  101. ^ ا ب العاني (1981)، ص. 63.
  102. ^ ا ب ابن كثير (2004)، ص. 1483.
  103. ^ المقدسي (1899)، ج. 6، ص. 64-65.
  104. ^ ا ب العاني (1981)، ص. 64.
  105. ^ اليعقوبي (2010)، ج. 2، ص. 273-274.
  106. ^ ا ب الأزدي (1967)، ص. 120.
  107. ^ إلهامي (2013)، ص. 217.
  108. ^ الدوري (1988)، ص. 54.
  109. ^ إلهامي (2013)، ص. 100-101.
  110. ^ خليفة (1931)، ص. 21-22.
  111. ^ إلهامي (2013)، ص. 105.
  112. ^ خليفة (1931)، ص. 25-26.
  113. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1416-1419.
  114. ^ ابن عبد ربه (1983)، ج. 5، ص. 222.
  115. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 758.
  116. ^ ا ب الدوري (1997)، ص. 27.
  117. ^ إلهامي (2013)، ص. 132-133.
  118. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 174-178.
  119. ^ خليفة (1931)، ص. 25.
  120. ^ إلهامي (2013)، ص. 134.
  121. ^ الطبري (2004)، ص. 1445-1446.
  122. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 760-761.
  123. ^ خليفة (1931)، ص. 27.
  124. ^ الطبري (2004)، ص. 1458-1471.
  125. ^ الدوري (1997)، ص. 31.
  126. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 766-775.
  127. ^ الدوري (1997)، ص. 42-43.
  128. ^ الأزدي (1967)، ص. 119.
  129. ^ خليفة (1931)، ص. 27-28.
  130. ^ ا ب البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 165.
  131. ^ الدوري (1997)، ص. 44.
  132. ^ الطبري (2004)، ص. 1472.
  133. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 173.
  134. ^ خليفة (1931)، ص. 29.
  135. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 187-188.
  136. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1471.
  137. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 776-777.
  138. ^ اليعقوبي (2010)، ج. 2، ص. 284.
  139. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 777.
  140. ^ الخضري (2003)، ص. 30.
  141. ^ العاني (1981)، ص. 67-68.
  142. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 190.
  143. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 778.
  144. ^ ا ب ج ابن الأثير (2005)، ص. 778-781.
  145. ^ الدوري (1997)، ص. 47.
  146. ^ الدوري (1997)، ص. 46-47.
  147. ^ إلهامي (2013)، ص. 224.
  148. ^ إلهامي (2013)، ص. 223-237.
  149. ^ خليفة (1931)، ص. 30-31.
  150. ^ الخضري (2003)، ص. 33-42.
  151. ^ أدهم (1969)، ص. 37-38.
  152. ^ الدوري (1997)، ص. 47.
  153. ^ الطبري (2004)، ص. 1472.
  154. ^ إلهامي (2013)، ص. 204-205.
  155. ^ اليعقوبي (2010)، ج. 2، ص. 282-283.
  156. ^ الطبري (2004)، ص. 1473.
  157. ^ الجهشياري (1988)، ص. 57.
  158. ^ ا ب العاني (1981)، ص. 71-73.
  159. ^ إلهامي (2013)، ص. 247.
  160. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 203-204.
  161. ^ شاكر (2000)، ج. 5، ص. 93-94.
  162. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 789-790.
  163. ^ ا ب أدهم (1969)، ص. 64.
  164. ^ ا ب اليعقوبي (2010)، ج. 2، ص. 284-285.
  165. ^ شاكر (2000)، ج. 5، ص. 93.
  166. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1482.
  167. ^ العاني (1981)، ص. 74-75.
  168. ^ ا ب المسعودي (1893)، ص. 340.
  169. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 205.
  170. ^ ا ب الدوري (1988)، ص. 51.
  171. ^ ا ب إلهامي (2013)، ص. 253-254.
  172. ^ شاكر (2000)، ج. 5، ص. 94.
  173. ^ أدهم (1969)، ص. 63-64.
  174. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1488.
  175. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1481.
  176. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1488-1489.
  177. ^ ا ب ج ابن كثير (2004)، ص. 1489.
  178. ^ العاني (1981)، ص. 91-92.
  179. ^ العاني (1981)، ص. 92.
  180. ^ العاني (1981)، ص. 93.
  181. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 773.
  182. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 774.
  183. ^ الطبري (2004)، ص. 1483.
  184. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 784.
  185. ^ إلهامي (2013)، ص. 244.
  186. ^ الطبري (2004)، ص. 1484.
  187. ^ إلهامي (2013)، ص. 246.
  188. ^ أدهم (1969)، ص. 68.
  189. ^ شاكر (2000)، ص. 95.
  190. ^ الطبري (2004)، ص. 1482-1483.
  191. ^ شاكر (2000)، ج. 5، ص. 94-95.
  192. ^ إلهامي (2013)، ص. 250-251.
  193. ^ الدوري (1988)، ص. 50.
  194. ^ الجهشياري (1988)، ص. 62.
  195. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 789-790.
  196. ^ ا ب أدهم (1969)، ص. 68-70.
  197. ^ ا ب ج شاكر (2000)، ج. 5، ص. 96.
  198. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 781-782.
  199. ^ ا ب الدوري (1997)، ص. 54.
  200. ^ ا ب أدهم (1969)، ص. 70.
  201. ^ الخضري (2003)، ص. 56.
  202. ^ أدهم (1969)، ص. 71-72.
  203. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 790.
  204. ^ أدهم (1969)، ص. 71.
  205. ^ إلهامي (2013)، ص. 262-263.
  206. ^ إلهامي (2013)، ص. 79-85.
  207. ^ الطبري (2004)، ص. 1492.
  208. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1492.
  209. ^ الطبري (2004)، ص. 1494.
  210. ^ أدهم (1969)، ص. 72-73.
  211. ^ الخضري (2003)، ص. 56-57.
  212. ^ الدوري (1997)، ص. 55-57.
  213. ^ الطبري (2004)، ص. 1493.
  214. ^ شاكر (2000)، ج. 5، ص. 98-99.
  215. ^ الخضري (2003)، ص. 57.
  216. ^ أدهم (1969)، ص. 73.
  217. ^ إلهامي (2013)، ص. 265-266.
  218. ^ أدهم (1969)، ص. 73-74.
  219. ^ شاكر (2000)، ج. 5، ص. 99-100.
  220. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 791.
  221. ^ الخضري (2003)، ص. 57-58.
  222. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 792.
  223. ^ الخضري (2003)، ص. 58.
  224. ^ شاكر (2000)، ج. 5، ص. 100.
  225. ^ الخضري (2003)، ص. 58-59.
  226. ^ الخضري (2003)، ص. 58.
  227. ^ إلهامي (2013)، ص. 268.
  228. ^ العاني (1981)، ص. 152-155.
  229. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 793.
  230. ^ أدهم (1969)، ص. 77-78.
  231. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 793-794.
  232. ^ أدهم (1969)، ص. 81-82.
  233. ^ أدهم (1969)، ص. 84-83.
  234. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 794-795.
  235. ^ إلهامي (2013)، ص. 275-267.
  236. ^ ا ب ج ابن الأثير (2005)، ص. 795.
  237. ^ إلهامي (2013)، ص. 276-277.
  238. ^ ا ب أدهم (1969)، ص. 85-87.
  239. ^ إلهامي (2013)، ص. 281.
  240. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 795-796.
  241. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 796.
  242. ^ ا ب إلهامي (2013)، ص. 282.
  243. ^ الطبري (2004)، ص. 1501-1502.
  244. ^ ا ب ج ابن الأثير (2005)، ص. 796-797.
  245. ^ ا ب ج ابن الأثير (2005)، ص. 797.
  246. ^ رزق (2006)، ص. 461.
  247. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 337.
  248. ^ إلهامي (2013)، ص. 283.
  249. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 801-802.
  250. ^ ا ب ج ابن الأثير (2005)، ص. 803.
  251. ^ الطبري (2004)، ص. 1508-1509.
  252. ^ إلهامي (2013)، ص. 283-284.
  253. ^ ابن إسفنديار (2002)، ص. 89.
  254. ^ العاني (1981)، ص. 423.
  255. ^ ابن إسفنديار (2002)، ص. 183.
  256. ^ ابن إسفنديار (2002)، ص. 181-182.
  257. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1509.
  258. ^ ا ب ج ابن إسفنديار (2002)، ص. 185.
  259. ^ الطبري (2004)، ص. 1508-1509.
  260. ^ ابن إسفنديار (2002)، ص. 184-185.
  261. ^ العاني (1981)، ص. 427.
  262. ^ العاني (1981)، ص. 427-428.
  263. ^ ابن إسفنديار (2002)، ص. 185-186.
  264. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 802.
  265. ^ ا ب إلهامي (2013)، ص. 286-287.
  266. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 817 و822.
  267. ^ ا ب ج العاني (1981)، ص. 362-365.
  268. ^ ا ب الحموي (1977)، ج. 1، ص. 457.
  269. ^ الخضري (2003)، ص. 62.
  270. ^ إلهامي (2013)، ص. 293-294.
  271. ^ إلهامي (2013)، ص. 294-295.
  272. ^ إلهامي (2013)، ص. 295.
  273. ^ إلهامي (2013)، ص. 296.
  274. ^ الطبري (2004)، ص. 1526.
  275. ^ إلهامي (2013)، ص. 296-297.
  276. ^ إلهامي (2013)، ص. 298-304.
  277. ^ إلهامي (2013)، ص. 305-306.
  278. ^ ا ب فوزي (1970)، ص. 384-386.
  279. ^ إلهامي (2013)، ص. 307-309.
  280. ^ إلهامي (2013)، ص. 309-311.
  281. ^ إلهامي (2013)، ص. 311-312.
  282. ^ إلهامي (2013)، ص. 314-315.
  283. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 823.
  284. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 823-824.
  285. ^ إلهامي (2013)، ص. 315.
  286. ^ إلهامي (2013)، ص. 286.
  287. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 827-828.
  288. ^ إلهامي (2013)، ص. 287.
  289. ^ الدوري (1988)، ص. 75.
  290. ^ العاني (1981)، ص. 348-349.
  291. ^ الطبري (2004)، ص. 1547-1549.
  292. ^ الدوري (1988)، ص. 76.
  293. ^ ا ب العاني (1981)، ص. 352-353.
  294. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1548.
  295. ^ إلهامي (2013)، ص. 287-288.
  296. ^ العاني (1981)، ص. 350-351.
  297. ^ إلهامي (2013)، ص. 289.
  298. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1549.
  299. ^ العاني (1981)، ص. 366.
  300. ^ الحموي (1977)، ج. 1، ص. 456-457.
  301. ^ البغدادي (2004)، ج. 1، ص. 80-81.
  302. ^ إلهامي (2013)، ص. 290.
  303. ^ مشايرية (2021)، ص. 1287.
  304. ^ ا ب إلهامي (2013)، ص. 289.
  305. ^ ا ب الطبري (2004)، ص. 1549.
  306. ^ العلي (1988)، ص. 23.
  307. ^ ا ب ج ابن الأثير (2005)، ص. 822.
  308. ^ ا ب ج إلهامي (2013)، ص. 290.
  309. ^ ا ب البغدادي (2004)، ج. 1، ص. 93-94.
  310. ^ العلي (1988)، ص. 278-279.
  311. ^ البغدادي (2004)، ص. 97-98.
  312. ^ العاني (1981)، ص. 363-364.
  313. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1508.
  314. ^ مشايرية (2021)، ص. 1289-1290.
  315. ^ العلي (1988)، ص. 20-21.
  316. ^ الحموي (1977)، ج. 4، ص. 365.
  317. ^ البغدادي (2004)، ج. 1، ص. 88.
  318. ^ العلي (1988)، ص. 32-33.
  319. ^ ا ب العلي (1988)، ص. 20.
  320. ^ الحموي (1977)، ج. 1، ص. 459.
  321. ^ ا ب البغدادي (2004)، ج. 1، ص. 90.
  322. ^ ا ب الدوري (1988)، ص. 77.
  323. ^ العاني (1981)، ص. 368.
  324. ^ العاني (1981)، ص. 368-369.
  325. ^ العاني (1981)، ص. 366-367.
  326. ^ العاني (1981)، ص. 405-406.
  327. ^ ا ب ابن الأثير (2005)، ص. 797-798.
  328. ^ ا ب ج إلهامي (2013)، ص. 328.
  329. ^ العاني (1981)، ص. 407.
  330. ^ العاني (1981)، ص. 409.
  331. ^ إلهامي (2013)، ص. 329.
  332. ^ الطبري (2004)، ص. 1589.
  333. ^ العاني (1981)، ص. 47 و49.
  334. ^ الدينوري (1912)، ج. 2، ص. 137-140.
  335. ^ خليفة (1931)، ص. 52.
  336. ^ الدوري (1997)، ص. 38-39.
  337. ^ العاني (1981)، ص. 354.
  338. ^ البغدادي (2004)، ج. 10، ص. 56.
  339. ^ ابن الأبار (1985)، ج. 1، ص. 34.
  340. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 255.
  341. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 254.
  342. ^ ا ب الدينوري (1912)، ج. 2، ص. 139.
  343. ^ ا ب أدهم (1969)، ص. 56.
  344. ^ البلاذري (1996)، ج. 4، ص. 262.
  345. ^ ابن كثير (2004)، ص. 1499.
  346. ^ ابن الأثير (2005)، ص. 838.
  347. ^ أدهم (1969)، ص. 67.
  348. ^ إلهامي (2013)، ص. 246.
  349. ^ ابن دحية (1946)، ص. 25.
  350. ^ المقدسي (1899)، ج. 6، ص. 90-91.
  351. ^ العاني (1981)، ص. 48.

معلومات المنشورات كاملة[عدل]

الكُتُب العربيَّة مُرتَّبة حسب تاريخ النَّشر

مقالات محكمة

أبُو جعفر المنصُور
ولد: صفر 95هـ / نوفمبر 713م توفي: 6 ذو الحجَّة 158هـ / 6 أكتوبر 775م
ألقاب سُنيَّة
سبقه
أبُو العبَّاس السَّفَّاح
أمير المُؤمنين

13 ذو الحجَّة 136 – 6 ذو الحجَّة 158هـ
10 يونيو 754 – 6 أكتوبر 775م

تبعه
مُحمَّد المهدي